إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الخيار [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخيار تارة يكون من الشرع كخيار المجلس، فقد جعل الشرع للمتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما داما في مجلس العقد، فإذا افترقا أو قطع أحدهما الخيار انتهى خيار المجلس. وتارةً يكون من المتعاقدين، وإن كان الشرع أذن به في الأصل؛ كخيار الشرط، فإنه يحق للمتبايعين أو أحدهما اشتراط مدة معلومة، فإذا انتهت ولم يفسخ لزمه العقد. وقد ذكر الشيخ أحكاماً كثيرة نافعة تتعلق بخيار المجلس وخيار الشرط، وما يتعلق بهما من فروع وتفصيلات.

    1.   

    الخيار وأهميته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخيار: وهو أقسام: الأول: خيار المجلس]:

    تقدم معنا أن الخيار هو طلب خير الأمرين: والمراد بالأمرين عند أهل العلم رحمهم الله إمضاء البيع أو فسخه، ولذلك يقولون: الخيار أن يكون لأحد المتعاقدين أو لهما حق إمضاء العقد أو فسخه، فالمشتري يكون له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها.

    والبائع له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها، وقد قدمنا أن الخيار يختلف بحسب اختلاف العقود، وأن الشرع إذا ترك العقد جائزاً للطرفين فإن من حقك أن تفسخ في أي لحظة، مثل الشركة والوكالة، فإن من حقك في أي لحظة أن تقول: أريد فسخ الشركة، أو أريد فسخ الوكالة، سواءً كان الموكل أو الوكيل أو كان الشريك أو شريكه المقابل له.

    فالعقود التي تكون غير لازمة يكون الخيار فيها للطرفين، وقد يكون الخيار لأحد الطرفين دون الآخر، كما في الجعالة، وذكرنا أن من حق أحد الطرفين أن يفسخ دون الآخر، وهذا مبني على أنها في الابتداء يكون الخيار فيها للطرفين، حتى إذا شرع ووجد الشيء الضائع أو المفقود، وجاء به إلى صاحبه، فإنه يصير العقد حينئذ لازماً، ويجب على مالك الشيء الضائع أن يدفع الجعل لمن جاء به.

    وقوله رحمه الله: (باب الخيار) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتخيير المتبايعين، أو أحدهما في صفقة البيع، والسبب في هذا: أن الخيار تارة يكون من الشارع، وتارةً يكون من المتعاقدين أو من أحدهما.

    فما كان من الشارع مثل خيار المجلس، فقد جعل الله عز وجل لكلا المتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما دام في المجلس.

    وما كان من المتعاقدين مثل خيار الشرط، كأن تقول: أشتري منك هذه العمارة بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: بشرط أن لي الخيار أربعة أيام، فأنت أدخلت الشرط على العقد، وأدخل البائع الشرط على العقد، فليس الخيار ناشئاً من حكم الشرع، ولكنه ناشئ من المتعاقدين وإن كان في الأصل أن الشرع أذن به وأجازه، كما سيأتي بيانه في دليل خيار الشرط.

    وقد يثبت الخيار بسبب أمر يخل بالعقد، مثل التدليس والكذب والغش، فلو باعك عمارةً أو أرضاً أو سيارةً مغشوشةً، فإنه يكون لك خيار العيب، وهذا راجع إلى حقك في الصفقة، فإنك إذا اشتريت العمارة كاملة وتبين أنها ناقصة، فإنك قد دفعت المال الكامل للشيء الكامل، أو دفعت المال على أن السلعة بصفة معينة، فلما تبين أنها معيبة، فحينئذٍ يكون لك الخيار في أن تفسخ البيع، وأن تأخذ مالك وتنشئ العقد من جديد، أو ترضى بإمضاء الصفقة وتأخذ الأرش، كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب.

    1.   

    خيار المجلس.. تعريفه ومشروعيته وأحكامه

    قال رحمه الله: [وهو أقسام]

    أي: يختلف بحسب اختلاف الموجبات، وهذه الأقسام منها ما اتفق العلماء على اعتباره من الخيارات، ومنها ما اختلف العلماء رحمهم الله فيه، ودلت السنة على رجحان اعتباره، ومنها ما يكون فيه الحكم بالتفصيل، فتارة يعتبر وتارة لا يعتبر.

    فقوله رحمه الله: [وهو أقسام] إجمال قبل البيان والتفصيل.

    وقوله: [الأول: خيار المجلس]

    المجلس اسم مكان من الجلوس، وهو المكان الذي يجلس فيه المتعاقدان، وسمي خيار مجلس؛ لأن لكلا المتعاقدين الحق في إمضاء صفقة البيع أو إلغائها ما داما جالسين في المكان الذي تعاقدا فيه، وإذا تفرقا فخرج أحدهما من الغرفة مثلاً وبقي الآخر، لزم البيع.

    وهذا النوع من الخيار، دلت عليه الأدلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر ، وحديث حكيم بن حزام ، وحديث أبي برزة ، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام: : (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)

    ومعنى الحديث: أن البيعين لكل واحد منهما الخيار ما داما لم يفترقا، فلو جلست مع رجل، وقال لك : عندي سيارة نوعها كذا، وصفاتها كذا وكذا، فعرفت السيارة، أو تكون على علم بها مثلاً فقال لك : أبيعك السيارة الفلانية التي تعرفها، أو العمارة الفلانية أو الأرض الفلانية في المخطط الفلاني، فقلت: قبلت، أو قال: أبيعك هذا الشيء بعشرة آلاف، فقلت: رضيت، فتمت الصفقة فدفعت له العشرة آلاف وقبضها، وبعد ساعة أو بعد ساعتين قلت: لا أريد هذا البيع، أو أقلني من البيع، فإن من حقك أن ترجع عن صفقة البيع ما دمتما في مجلس واحد.

    وهذا يسمى خيار المجلس ولو جلستما عشر ساعات متواصلة فإنكما بالخيار ما لم يفارق أحدكما الآخر، فإذا خرج أحدكما ولو بعد إيجاب البيع بلحظة واحدة، فقد أوجب الصفقة، وليس من حقك أن ترجع إلا إذا أذن الشرع لك بالرجوع بأسباب معينة سنبينها.

    إذاً: خيار المجلس يكون لك فيه الحق ما دام أنكما في مكان واحد، ومن هنا ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن رجلين من التابعين تبايعا فرساً، فقال أحدهما لصاحبه: بعني فرسك، فقال له: بكذا، فتبايعا وتمت الصفقة بينهما، وتم العقد، فناما في مكان واحد، فلما استيقظا قام صاحب الفرس وندم على البيع، ورجع عن بيعه، فقال له المشتري : لا يحل لك إني قد ابتعت وقد وجب بيعي، فاختصما إلى أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، فقال : والله لأقضين بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ورد الصفقة ورأى أنهما في مجلس واحد؛ لأنهما ناما في مكان واحد ولم يفارق أحدهما الآخر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) أي: يفارق أحدهما الآخر، فمضى قضاء هذا الصحابي رضي الله عنه بظاهر السنة.

    ولذلك قال فقهاء الشافعية، والحنابلة، والظاهرية وأهل الحديث بمشروعية خيار المجلس، وأنه إذا تعاقد الرجلان في صفقة وهما في مجلس واحد فمن حق أحدهما أن يرجع وليس للآخر أن يلزمه، سواءً رجع بعذر أو بدون عذر، فهذا حق من حقوقه، فمن حقه أن يرجع ويقول: لا أريد البيع، وكنت أرغب فيه فأصبحت لا أرغب.

    وهذا القول قضى به عبد الله بن عمر، وكذلك أبو برزة وحكيم بن حزام، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفقهاء التابعين رحمة الله على الجميع.

    وخالف في هذا الخيار فقهاء الحنفية والمالكية، فعندهم أنه إذا قال: بعتك بكذا، وقال: اشتريت، وتمت الصفقة فليس من حقه أن يرجع، وأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول، وهو ما يسمى في الشرع: بالعقد.

    واستدلوا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا معشر المؤمنين أن نفي بالعقد، والعقد: بعتك واشتريت، فإن قال له: بعتك سيارتي.. عمارتي.. أرضي.. داري، فقال: قبلت، وتم البيع، وجب على البائع أن يفي فيعطي السلعة، ويجب على المشتري أن يفي ويعطي الثمن الذي وعد في مقابل الصفقة.

    واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى، وأوّلوا حديث حكيم بن حزام ، وقالوا : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) المراد به: تفرق الأقوال، فأنت إذا قلت: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف سيقول لك: بتسعة آلاف.. بتسعة آلاف وخمسمائة.. بتسعة آلاف وسبعمائة، فقالوا: هذا الخلاف هو معنى قوله: (ما لم يتفرقا) أي: حتى يثبتا على قيمة معينة، والمراد بالتفرق هنا تفرق الأقوال، وليس بتفرق الأبدان.

    وهذا ضعيف، والصحيح المذهب الأول : أن خيار المجلس مشروع؛ وذلك أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك.

    ثانياً: أن دليل الآية عام مخصص بالحديث، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص).

    ثالثا:ً أن الأصل في التفرق أنه يشمل الأقوال والأفعال، لكنه المراد به هنا الأفعال، بدليل أن ابن عمر أحد رواة الحديث والراوي أدرى -بما روى- كان إذا اشترى صفقة فأعجبته مشى عن البائع، حتى يتم البيع. فدل هذا على أنه تفرق الأبدان، وليس بتفرق الأقوال.

    رابعاً : أننا لو حملنا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال لم يصح لأنهما لا يسميان بيعين؛ لأنه لا يقع البيع إلا بعد أن يفصل القول، أما قبل أن يفصل القول فليس هناك بيع؛ لأن البيع إيجاب وقبول، فقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان) أي: اللذان باعا وأوجبا وتمت الصفقة بينهما. وعلى هذا فالصحيح مذهب من سمينا أن خيار المجلس مشروع.

    وهذا النوع من الخيار شرعه الله عز وجل لطفاً بالعباد، وتيسيراً على الخلق، ورحمة بهذه الأمة.

    وقد وصف الله هذه الشريعة بأنها شريعة رحمة، ووجه ذلك: أنك ربما تستعجل وتقول: أبيعك بيتي بعشرة آلاف، ثم تراجع نفسك وتتبين أنه ليس من مصلحتك أن تبيع، وقد تشتري فيقول لك: بعتك السيارة بعشرة آلاف فتستعجل وتقول: قبلت، ثم تفكر قليلاً، وإذا به ليس من مصلحتك أن تتم هذه الصفقة، فالله عز وجل خفف على العباد، ولذلك يقولون : خيار المجلس شرع من أجل التروي ومن أجل دفع الضرر بالعجلة في الإيجاب والقبول.

    وعلى هذا: فإنه خيار مشروع، وفيه خير كثير للأمة؛ لأنه يدفع آفة الاستعجال، والآثار السيئة والنتائج السلبية، المترتبة على استعجال الإنسان.

    العقود التي يثبت فيها خيار المجلس

    قال رحمه الله: [يثبت في البيع]

    أي: يثبت خيار المجلس في البيع، كما قلت له: بعتك سيارتي.. داري.. مزرعتي.. كتابي.. قلمي.. ساعتي.. ثوبي.. إلى آخره، فيثبت في جميع أنواع البيوع، سواء كان بيعاً مطلقاً أو كان بيع الصرف أو بيع المقايضة، فكله يثبت فيه الخيار.

    وقوله: [والصلح بمعناه]: المراد به الصلح بعوض؛ لأن الصلح يكون أحياناً بعوض، وأحياناً يكون بدون عوض، والصلح بعوض يكون في حكم البيع.

    مثال ذلك: لو أن رجلين اختصما إلى قاضٍ فقال أحدهما لصاحبه: تنازل عن حقك أعطك كذا، أو يقول: أرضيك عن الحق الذي لك بكذا، أو هذه ألف ريال وتنازل عن دعواك، أو عن حقك الذي ثبت لك، فلما اصطلحا على هذا المبلغ فالألف في مقابل الحق، فيقول حينئذ: قبلت، فهذا صلح بعوض وهو في كم البيع؛ لأن البيع تكون فيه الألف في مقابل سيارة أو مقابل أرض، والألف في الصلح وقعت في مقابل حق شخصي، فكما أن المال يكون في مقابل الحق العيني، يكون أيضاً في مقابل الحق الشخصي، فلو أنه قال له: تنازل عنه، فقال: رضيت، وطابت نفسه مقابل هذه المراضاة التي أعطاه إياها، ثم إنه قبل أن يفترق معه قال: رجعت، لا أريد أن أتنازل، بل أريد حقي الذي أقررت به، ولن أتنازل لقاء ألفين أو ثلاثة... إلى آخره، فمن حقه أن يرجع ما لم يتفرقا، مثل البيع، فتبين أن الصلح بعوض كالبيع؛ لأن البيع معاوضة، والصلح معاوضة.

    قال رحمه الله: [والإجارة]

    وهي بيع المنافع، فلو أن رجلاً جاء إلى صاحب عمارة، وقال له : أريد شقةً تؤجرنيها سنة، أو نظر فيها فأعجبته، فقال: بكم تؤجرها، فقال: أؤجرها بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فتم عقد الإجارة بينهما، فلو جلسا ثلاث ساعات أو أربع ساعات ثم قال: لا أريد، رجعت عن استئجار هذه الشقة، فهذا من حقه، ما دام أنهما في مجلس واحد، وليس لصاحب العمارة أن يلزمه.

    وكذلك العكس فلو أن صاحب العمارة رضي بعشرة آلاف ثم تفكر ونظر، فقال: لا أريد ورجع عن إجارتها، فذلك من حقه ما دام أنهما لم يفترقا عن مجلس العقد.

    قال رحمه الله: [والصرف]

    أي: لو كان عندك ألف دولار، وجئت إلى رجل وقلت له: اصرفها لي فقال: قبلت، وبينما أنتما جالسان في مجلس واحد، جئت تريد أن تخرج، فقال الصارف: رجعت، أو طالب الصرف، فإنه من حقه ما دام أنه قد رجع عن العقد قبل أن تفترقا، ويجب عليك أن ترد؛ لأن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، والصرف يسمى بيعاً، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد) .

    فجعل صرف الذهب بالفضة بيعاً؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة)، ثم قال (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، أي: كذهب بفضة (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

    ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه -وهو في الصحيحين-: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) وهذا في صرف الذهب بالفضة (الدنانير بالدراهم)، فقال عليه الصلاة والسلام عن الصرف: (ولا تبيعوا) فدل على أن الصرف بيع، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار) والصرف بيع دخل في هذا العموم.

    [والسلم]:

    وهو بيع، والسلم: تقديم الثمن وتأخير المثمن -وسيأتي إن شاء الله بيانه- كأن تأتي إلى صاحب المزرعة، وهو يحتاج إلى البذر، ولا تكون عنده سيولة لشراء البذر، فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن رخص في أن تعطيه قيمة لشيء ستشتريه منه، تقول له: أشتري منك مائة صاع من الحب الفلاني -الذي سيزرعه في أرضه- إلى أجل فأعطيته المبلغ لقاء كيل معلوم أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، فأوجبتما، فقال: إذاً: أنا سآخذ هذه الألف، وإن شاء الله عند حصاد الحب أعطيك مائة صاع، وقبل أن تفترقا قلت له: ما أريد، أو قال لك : لا أريد، فالرجوع من حقه ومن حقك ما دام أنكما في مجلس واحد، وهو مجلس العقد، ولم تفترقا.

    وقوله رحمه الله: [دون سائر العقود]:

    أي: فلا يشمل العقود الأخرى التي لم يسمها المصنف رحمه الله، فإن خيار المجلس لا يثبت فيها؛ لأن بقية العقود اللازمة لا يصدق عليها وصف البيع، فالصلح يمكن أن يكون بيعاً؛ لأنه إذا كان بعوض فهو معاوضة، والإجارة في حكم البيع؛ لأنها بيع المنافع، وبالنسبة للسلم والصرف، فهما أصلاً بيع، فهذا وجه التخصيص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيّعان) فخرجت بقية العقود.

    فالخيار يختص بهذا النوع من العقود ولا يشمل العقود الأخرى، فلو اقترض منك مائة ألف، ثم قال: لقاء هذا المال رهنتك مزرعتي، أو داري، وقبل أن يفترقا، قال: رجعت عن الرهن، فلك أن تقول: ليس من حقك؛ فإن الرهن يعتبر لازماً، ويبقى إلى أن يسدد أو يباع ويسدد منه الحق الذي في ذمة المدين، وعلى هذا يختص الحكم بما سمى رحمه الله من العقود.

    لمن يثبت خيار المجلس ومتى ينتهي

    قال رحمه الله: [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما]:

    فللبائع الخيار، وللمشتري الخيار.

    وذكر هذا لأن الخيار في بعض الأحيان يكون للمشتري، ولا يكون للبائع، فلو اشتريت سيارة وظهر بها عيب، فإن الخيار لك وليس للبائع؛ لأن خيار العيب يكون للمشتري ولا يكون للبائع.

    وهناك خيارات للطرفين ومنها خيار المجلس، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) وفي رواية: (المتبايعان) فهذا يشمل البائع ويشمل المشتري، فلو رجع البائع فذلك من حقه، ولو رجع المشتري فمن حقه أيضاً، ولا يختص خيار المجلس بأحدهما دون الآخر.

    إذاً: المسألة الأولى في هذه الجملة، أن خيار المجلس يشمل الطرفين، فهو حق ثابت للبائع، وحق ثابت للمشتري، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) فلم يقل: (المشتري بالخيار)، ولم يقل: (البائع بالخيار)، وإنما قال: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان).

    وقوله: (ما لم يتفرقا) هذه صريح قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) والتفرق: تفرق أقوال، وتفرق أبدان، وتفرق الأقوال لا إشكال فيه، لكن الإشكال في تفرق الأبدان، فإذا كان لكلا المتعاقدين حق في إمضاء البيع وفسخه ما داما مجتمعين في مكان واحد، فمتى ينتهي خيار المجلس؟

    ينتهي خيار المجلس بالافتراق أو بالقطع من أحدهما، أي: بأن يتفقا على أن يقطع أحدهما الصفقة، كما سنبين إن شاء الله، ففي حالة الافتراق، لا بد من ضابط وهو متى نحكم بكونهما افترقا؟

    إن كانا في غرفة، وقع الافتراق بخروج أحدهما من الغرفة.

    إن كانا في فضاء، كصحراء ونحوها وليس هناك حد معين، فيكون الافتراق أن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فبمجرد أن ينصرف عنه ويعطيه ظهره كأنه ذاهب عنه، فقد فارقه؛ ولكن ما دام أنه مقابله ومعه، فإنه لم يفارقه.

    إذا كانت الغرفة كبيرة جداً، ولا يمكنهما أن يخرجا منها، كسفينة أو نحوها، فالافتراق العرفي أن يذهب أحدهما إلى ركن والآخر إلى ركن، فلو أنهما تعاقدا في ركن، ثم قام أحدهما إلى أمر في آخر السفينة، فإننا نفهم أنه قد فارق أخاه، وبالعرف يصدق عليه أنه قد فارقه.

    وبناء على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولم يجعل للتفرق ضابطاً معيناً لاختلاف الأعراف واختلاف الأماكن، ومن هنا يقول العلماء: تنطبق عليه قاعدة: (العادة مُحَكّمة)؛ لأن الشرع في بعض الأحيان يطلق، وما أطلقه الشرع يترك الخيار فيه إلى الناس فيرجعون فيه إلى ما تعارفوا عليه، وإلى ما انضبط عندهم بأعرافهم التي لا تخالف الشرع ولا تصادمه؛ لأن شرط اعتبار العادة والعرف ألا يكون مصادماً للشرع.

    وعلى هذا فالافتراق يكون على حسب ما يسميه الناس في أعرافهم افتراقاً، فيقضي القاضي أن البيع وجب وتم بثبوت الافتراق، إذا كان العرف يشهد بأن هذا التصرف من البائع أو المشتري يسمى افتراقاً، وهذا ما يسميه العلماء بالرجوع إلى أهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة في السوق كيف يكون ضابط الافتراق في عرفهم.

    وهكذا إذا اختلفت الأسواق، مثل: أهل السمك لهم عرف غير أهل القماش، وأهل الخشب لهم عرف غير أهل الحديد، فهذه أمور يرجع فيها إلى الأعراف الموجودة، فكل أهل صنعة يحتكم إليهم في صناعتهم، وهذا أصل قرره العلماء في مسائلهم، والله عز وجل إذا أطلق الشيء ورده إلى العرف رجع فيه إلى أعراف المسلمين، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] وقال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] فيرد الأمور إلى العرف؛ لأن الشرع يأتي بالقواعد الكلية والضوابط الإجمالية ويترك للمسلمين ما ألفوه واعتادوه.

    والسبب في هذا: أنه لا يمكن أن تجتمع الكثرة في البيئة الواحدة، من عقلائها وحكمائها وكبار السن فيها على شيء غالباً إلا وفيه خير؛ لأن أهل الصناعات لهم ضوابط معينة درجوا عليها؛ لأن الغالب أن أهل العقول هم الذين يحكمون الأسواق، وهم الذين يتصرفون، والغالب في الناس أنها تجري معاملاتها بما يتفق مع العقول السوية، فهذه أعراف يحتكم إليها؛ لكن ينظر فيها إلى أهل الخبرة الذين لهم معرفة بها، فيرجع إليهم في ضوابط الافتراق على حسب ما تقرر في أعرافهم التجارية.

    إسقاط خيار المجلس

    قال رحمه الله: [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]:

    أي: وإن نفياه بأن قال: أبيعك ولا خيار لا لك ولا لي.

    والسبب في هذا: أنه في بعض الأحيان يأتي شخص ويقول لك: أصرف لك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، وأنت تريد بعد أن تأخذها مباشرة أن تبيعها في نفس المجلس، وهذا كما يقع في الأسواق التجارية أو المحلات المتقابلة، أو الأماكن التي يجتمع فيها التجار مع بعضهم، فالتاجر يشتري من هذا مباشرة ويبيع على هذا، فإذا قلنا: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، لن يستطيع أن يبيع شيئاً؛ لأنه لم يتم بيعه.

    فحينئذٍ لا بد وأن يبت الصفقة، فيقول له: أشتري منك هذه العمارة.. القلم.. الكتاب.. الساعة.. الثوب؛ لكن بشرط أننا ننفي الخيار، فبمجرد ما نعقد فإن البيع قد تم ووجب ولا خيار لك ولا لي، فيتفقان على إسقاطه أو نفيه، أو يقرّا عند القاضي أنه لا خيار لهما، فحينئذ يسقط الخيار؛ لأن لهما الحق في هذا الخيار، ولهما الحق في إسقاطه، فإن الشرع أعطاهم ذلك، والشرع إنما قصد الرفق بهما، فقد يكون الرفق أن يتم البيع بدون خيار، فأنا أعرف الصفقة وهو يعرف المال، وقد رضي بالصفقة، ويريد أن يبيعها لآخر، أو يريد أن يتصرف فيها مباشرة، فنقول له: إنه يتم العقد مباشرة ويسقط الخيار.

    وعلى هذا: لو اشترى شخص طعاماً، فإنه ينبغي عليه أن يخرج عن الدكان قليلاً ولا يأكل أمام البائع؛ لأن السلعة لا يملكها إلا بالافتراق؛ لأنه ربما يرجع عن بيعه، فإذا أراد أن يتحلل فليخرج من الشبهة.

    لكن يبقى الإشكال في المطاعم، فالمطعم لا تستطيع أن تخرج منه، فقالوا: إن هذا أشبه بإسقاط الخيار، فهو إذا وضع الطعام بين يديه، ولم يدركه قبل أن يأكله، فقد فوت على نفسه الخيار، ويكون الأكل من الأكل إسقاطاً لحقه في الخيار، وسكوت صاحب المطعم وسكوته إسقاط لحقه في الخيار، أي: أنه ما دام قد وضع الطعام ولم يرجع، ورآك تأكل، فكأنه قد رضي بإيجاب الصفقة.

    وهكذا لو أنهما اتفقا من البداية على أنهما إذا أوجبا البيع أو تم الإيجاب والقبول في الصفقة، أنه لا خيار لواحد منهما، لي ولا لك، وعليه حمل حديث السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشترى قال للأعرابي: (عمّرك الله بيعاً) فرضي الأعرابي وأوجب البيع، أي: حمل الحديث على إسقاط الخيار، وهذا أصل عندهم: على أنهما إذا اتفقا على إسقاط الخيار، فهذا لهما حق لهما إذا تراضيا بالمعروف، ولا حرج عليهما فيه، ولا بأس في إسقاطه على هذا الوجه.

    قال رحمه الله: [وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]:

    أي: بأن قال: أريد الصفقة ولا خيار لي، وسكت الآخر، فإنه يبقى حق الآخر، فليس إسقاطك يلزمني، كما أن إسقاطي لا يلزمك، فإسقاطي حق لي، فيسري الإسقاط على ما أملكه، ولا يسري على ما تملكه، إلا إذا قلت: وأنا كذلك لا أريد.

    وعلى هذا لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قلت: قبلت، فقال لك: لا خيار لي فأنا أريد البيع، فسكت، ثم بعد ساعة قلت: أريد أن أرجع عن بيعي، كان من حقك أن ترجع؛ لأن إسقاطه لا يتعدى إلى حقك في الخيار فيسقطه؛ ولأنه لو فتح هذا الباب لأسقط كل منهما حق الآخر أضر به.

    وعلى هذا: لا يملك الإسقاط إلا في حق نفسه دون حق الآخر.

    قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته لزم البيع]:

    أي: إذا مضت مدة الخيار، فإنه في هذه الحالة يلزم البائع، ويلزم المشتري، ولا خيار لهما، وهذا على التأقيت بالزمان، ويكون العقد حينئذٍ لازماً للطرفين.

    1.   

    خيار الشرط ومدته

    قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]:

    أي: النوع الثاني من الخيار، ويسمى بخيار الشرط.

    وهذا النوع من الخيار يخالف النوع الأول، فإن هذا النوع يمتد إلى ما بعد العقد وبعد الافتراق، ويكون معلقاً على شرط بعد العقد، ولكن خيار المجلس يكون أثناء مجلس العقد، فما دام أنهما في المجلس فهما بالخيار كما فصلنا.

    والأصل في خيار الشرط حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: أنه كانت به لوثة، وفيه شيء أشبه بالارتجاج، والسبب في ذلك: أنه رضي الله عنه وأرضاه أصيب في يوم بدر بالمأمومة، وهي: نوع من الضربات تصل إلى أم الدماغ، وهذه أحياناً تحدث نوعاً من الارتجاج، فكانت عنده لوثة أثرت عليه في لسانه وأثرت عليه في عقله، فصار به نوع من الضعف في العقل، فهذا الصحابي اشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يذهب إلى السوق ويشتري ويُغْبَن، وهذا فيه ضرر عليه، فرفع أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يسألونه أن يحجر عليه، أو يمنعه من البيع، ويمنع الناس من التعامل معه، فقال: (لا أصبر)، أي: أنه لا يصبر عن البيع.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن شكوى قرابته صحيحة، وأن استمراره على هذا الوجه فيه ضرر، ومن المعلوم أن من حكمة الشرع أنه في بعض الأحيان يمنع الشخص من التصرف في ماله لمصلحته هو، كالمجنون والصغير واليتيم، فاليتيم مثلاً: لو توفي أبوه وترك له مليوناً، فلو تركناه يتصرف فيها فإنه سيتضرر، والضرر يلحق نفسه، فنمنعه من التصرف في هذا المال مع أنه ملك له، خوفاً من الضرر عليه، وهذا ما يسميه العلماء: بالحجر لمصلحة المحجور.

    فهؤلاء جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحجر عليه لمصلحته، فذكر هو أنه لا يصبر عن البيع، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بحل وسط، فقال له (إذا ابتعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً) .

    (إذا ابتعت) أي: اشتريت؛ لأن العرب تقول: ابتاع بمعنى اشترى؛ لأنه من الأضداد يقال: اشترى بمعنى باع، واشترى بمعنى أخذ، كما قال تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف:20] أي: (باعوه بثمن بخس)، ويطلق الشراء بمعنى الأخذ، تقول : اشتريت داراً بمعنى: أنك عاوضت عليها وملكتها. (فقل: لا خلابة) أي: لا غبن ولا خديعة.

    (ولي الخيار ثلاثاً) أي: أني بالخيار ثلاثة أيام، إن شئت أمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيتها، فخلال هذه الثلاثة الأيام، سيطّلع قرابته على فعله، فإن وجدوا تصرفه سليماً أمضوه، وإن وجدوه خطأً ردوه.

    فحقق صلى الله عليه وسلم المصلحة ودرأ المفسدة، وهذا من حكمته عليه الصلاة والسلام وسعة رحمته بالأمة، أن كان يوسع على الناس، فالرجل حينما يحجر عليه، فيه منقصة له وتضييق عليه، وإزراء عليه بين جماعته وقرابته، فجعله يبيع، لكن قال له : (إذا ابتعت فقل : لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً) فالذي اشتكاه قرابته دفعه بقوله: (ولي الخيار ثلاثاً).

    وبسبب الثقل في لسانه كان يقول: (لا خيابة) بدلاً من (لا خلابة). وقد كان الخلفاء يقضون بهذا القضاء، حتى زمن عثمان ، لما كثر الناس لم يعرفوه؛ لأنه كثرت التجارة وجاء أناس غرباء عن المدينة لا يعرفون هذا الصحابي، ولا يعرفون قصته، وقد كانت المدينة صغيرة، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكان معروفاً مكشوفاً لا إشكال معه؛ لكن لما جاء عهد عثمان وجاء التجار الجدد الذين لا يعرفونه، فكانوا يختصمون معه، يقولون: ليس لك من خيار، فإذا رفعهم إلى عثمان قضى عليهم أن له الخيار ثلاثاً، بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    فهذا يسمى خيار الشرط، فإنه أوجب البيع ورضيه على أن له الحق أن يلغي الصفقة أو يتمها خلال ثلاثة أيام، فخلال هذه الثلاثة الأيام، يستطيع ورثته أن ينظروا في السلعة، فلهم أن يمضوها أو يلغوها، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـحبان رضي الله عنه وأرضاه أن يشترط، فصار أصلاً في اشتراط الخيار، فلو اشترط ثلاثة أيام كان له، وإن اشترط يوماً كان له، وإن اشترط يومين كان له، واختلف فيما زاد على الثلاثة أيام:

    فقال بعض العلماء: لا يزيد الخيار على ثلاثة أيام، والسبب في هذا: أن الأصل تمام الصفقة، وأن الحديث ورد بثلاث، فلا يزاد عليها.

    وقال بعض العلماء: من حقه أن يزيد على ثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه رضي الله عنه ثلاثة أيام دفعاً للضرر، والصفقات تختلف، والناس تختلف حوائجهم، فهناك الذي يحتاج إلى مشورة تستغرق نصف شهر، أو تستغرق شهراً كاملاً، أو تستغرق الشهرين، فأصحاب هذا القول يقولون: من جهة اللفظ ثلاثة، ولكن من جهة المعنى والعلة الثلاثة وغيرها سواء.

    وهذا المذهب أقوى: فإننا إذا نظرنا إلى مقصود الشرع وهو دفع الضرر وجدنا أن البيوع تختلف، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لـحبان الثلاثة؛ لأن من كان مثله وفي وضعه وحالته فإنها تكفيه؛ لكن في زمننا هذا، قد تشتري مصنعاً، وهذا المصنع يحتاج إلى نظر من أهل الخبرة، ويحتاج إلى مشاورة أناس لهم معرفة، وقيمة المصنع ليست بالسهلة، فمثل هذا في الحاجة أشد من حبان، والضرر الذي يأتيه أعظم من ضرر حبان ، فقالوا: لا يمكن أن نجمد على الثلاثة، ونلغي معنى الشرع؛ لأن الشرع أعطى حباناً رضي الله عنه الثلاثة دفعاً للضرر، ودفعاً للمفسدة، فأنت إذا احتجت مثلاً إلى هذا المصنع أو هذه المزرعة أو هذا الشيء الذي يحتاج إلى كثير من النظر والمشورة، فمن حقك أن تشترط الشهر والشهرين والثلاثة؛ لكن لابد أن تكون المدة معلومة.

    إذاً: خيار الشرط هو أن يشترط أحد المتعاقدين أو هما معاً، ويوجبا البيع بناء على تحقق هذا الشرط ويكون مدة معلومة.

    وقت خيار الشرط

    قال رحمه الله: [أن يشترطاه في العقد]

    هذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأن العقود يجب الوفاء بها في ذات العقد، أما بعد العقد وبعد الافتراق فقد تم العقد، فلا يجوز أن يشترط بعد تمام العقد، فلذلك قال: (يشترطاه في العقد)، أي: حال الإيجاب والقبول.

    فلو أن إنساناً بعد أن أوجبنا وقبلنا وانتهى خيار المجلس وافترقنا، جاء وقال: عندي شرط؛ فليس من حقه؛ لأنه قد تم البيع، ولو قلت له: لن أعطيك الشرط؛ فمن حقك.

    فقول المصنف: [في العقد] أي: أن الذي يملكه المتعاقدان من الشروط ما كان حال العقد؛ وكونهما بعد العقد وبعد الإيجاب والقبول يتراضيان هذا أمر آخر، فلو تراضيا على إسقاط البيع سقط، فالمراد الشرط الإلزامي، فلا يستطيع أن يلزمك بشرط إلا إذا كان أثناء العقد، أما لو تم العقد وافترقتما فإن البيع قد وجب على ظاهر السنة وظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولو فتح باب جواز الاشتراط بعد الافتراق لكان كل شخص يضر الآخر بذلك، وليس من حق المتعاقد مع أخيه أن يلزمه بشرط بعد تمام الصفقة وحصول التفرق، فإذا حصل التفرق ألزم بالعقد على صورته، وليس من حق أحدهما أن يدخل على الآخر شرطاً يلزمه به إلا إذا رضي، فإذا رضي فلا إشكال فيه؛ لأن هذا شيء يرجع إليهما، بل من حقهما إذا تراضيا على فسخ البيع أن يفسخاه، فهذا أمر آخر في التراضي لا نتكلم عنه، إنما نتكلم على الشرط الإلزامي وأنه لا يكون الشرط ملزماً إلا إذا كان في العقد أثناء الإيجاب والقبول.

    وقوله: [مدة معلومة ولو طويلة]:

    أي: أن يشترطاه مدة معلومة، وهذا يرجع إلى الزمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خيار الشرط بالزمان. (ولي الخيار ثلاثاً) أي ثلاثة أيام، فهو خيار يرجع إلى الزمان وهذا أصل، فإذا كان مدة فيشترط في المدة أن تكون معلومة، ومفهوم الصفة في قوله: (معلومة) أنه لو كانت المدة مجهولة لم يصح، فمثلاً لو قال: لي الخيار إلى الأبد لم يصح، أو قال: لي الخيار حتى أقطع لم يصح؛ لأنها مدة مجهولة، ولا يصح أن يشترط الخيار بمدة مجهولة؛ لأنه بهذا يفوت عليك مصلحة التصرف في المبيع، وقد يأتيك بعد مدة طويلة ويغرر بك، فلا بد وأن يحدد المدة.

    ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الخيار محدداً، فوجب أن تكون صورة الشرط بهذه الصورة، أعني: أن يكون محدداً.

    وقوله: (ولو طويلة)، إشارة إلى الخلاف وهو: هل يشترط أن تكون المدة محدودة قصيرة، أو أنه يجوز أن تكون طويلة؟ وقد صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز أن يشترط مدة طويلة لوجود الحاجة، أما إذا لم توجد الحاجة، فإنه يتقيد بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج من الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

    ابتداء وانتهاء خيار الشرط

    قال رحمه الله: [وابتداؤها من العقد]:

    أي: لو قال: لي الخيار ثلاثاً، فإنهما إذا أطلقا كان ابتداء المدة من افتراقهما، وعلى هذا يكون الخيار من بعد وجوب العقد، ولو أنهما جلسا ولم يفترقا ليلةً كاملة وفي صباح اليوم الثاني افترقا، فإن المدة تبدأ من صبيحة اليوم الثاني.

    وقد جعلوها تلي العقد مباشرة دفعاً للغرر والضرر؛ لأنه إذا كانت مبهمة، دون أن يحكم بكونها من بعد العقد مباشرة، ودون أن تليه، فإن هذا يدخل الغرر على العقد، ولذلك يقولون: يشترط أن تكون معلومة للطرفين، ومحددة بأمد معين، أي: أن يكون الشرط معلوماً محدداً للطرفين، وأن يكون تلو العقد مباشرة، وهذا هو ما يسمى بشرط الموالاة، وقد نص عليه الجمهور الذين يقولون باعتبار خيار الشرط.

    وعليه: فإنه يتحدد من لزوم البيع ويحكم بلزومه للطرفين بعد الافتراق مباشرة.

    قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]:

    خيار الشرط يأتي على ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يشترط البائع ولا يشترط المشتري.

    الصورة الثانية: أن يشترط المشتري ولا يشترط البائع.

    الصورة الثالثة: أن يشترط كل منهما.

    فأما بالنسبة لما اشترطه البائع، فكأن يقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، قال البائع: لكن أشترط أن يرضى أبي، أو أشاور أبي، ولي الخيار يوماً أو يومين أو ثلاثة، فهذا اشتراط من البائع.

    والعكس من المشتري، كأن يقول: أشتري منك هذه العمارة بمائة ألف، قال: قبلت، قال : لكن لي الخيار يوماً، أو يومين أو شهراً أو شهرين، حينئذ يكون الخيار للمشتري.

    وأما أن يكون للمتعاقدين، فذلك كأن يقول أحدهما: أشترط أن لي الخيار يوماً، يقول الآخر: وأنا أشترط أن يكون لي الخيار يومين.

    وإذا حصل الشرط من الطرفين: فإما أن يتماثل الشرطان، أو يختلفا.

    يتماثلان كأن يقول: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف؛ لكن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: وأنا لي الخيار ثلاثة أيام، فجعل كل منهما شرطاً مثل شرط صاحبه، فحينئذٍ تكون المدة متفقة من الطرفين.

    أو يختلفا مثل أن يقول له: أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، وقال الآخر: أشترط أن يكون لي الخيار أسبوعاً، فاختلفت المدة، وسواء اشترط البائع أو اشترط المشتري أو اشترطا معاً، بما يتماثلا فيه أو يختلفا فيه، فإنه حينئذ يكون كل منهما على شرطه، وكل منهما له شرطه، فإذا اشترطت ثلاثة أيام فلك ثلاثة أيام تنظر فيها في صفقتك إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت، فلو أنك اشتريت مثلاً قطعة أرض في مخطط بمائة ألف، فقلت له: أنا أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، قال لك: قبلت، فصار الشرط من المشتري، فذهبت وشاورت أهل الخبرة في اليوم الأول، فأشاروا، وفي اليوم الثاني رزقك الله رجلاً يشتريها منك، فقال: أنا أشتريها منك بمائتي ألف، فأنت تريد أن تتم الصفقة الأولى حتى تعقد الصفقة الثانية، فتقول: أنا اشترطت ثلاثة أيام فأنا أقطع هذا الخيار، وأرضي بتمام البيع فيمكنك أن تتم البيع، فتتم البيع في اليوم الثاني أو تتمه في اليوم الأول، بل ولو بعد ساعة، فبعد أن ترجع عن شرط الخيار، وتوجب الصفقة الأولى يحق لك أن تبيع بالصفقة الثانية.

    فالحاصل أنه من حقك ومن حقه هو أن يقطع الخيار قبل تمام مدته، فمراد المصنف رحمه الله أنه إذا أسقطه من اشترطه بائعاً كان أو مشترياً كان من حقه.

    (وإذا مضت مدته) أي: المهلة، فلو قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ومضت الثلاثة الأيام، لزمه البيع، ما دام أنه لم يرجع قبل تمامه، فلو جاء بعد ثلاثة أيام وقال: رجعت نقول: يلزمك البيع؛ لأن الخيار لك في ثلاثة أيام، ومفهوم الزمان وهو الثلاثة أيام، أنك بعدها قد رضيت البيع، سواءً جئت وقلت: رضيت أو ما جئت، فالبيع لازم وواجب عليك.

    قال: [أو قطعاه بطل]؛ فإن قطع أحدهما أو قطع الاثنان معاً شرطيهما كان لهما ذلك؛ لأن من حقهما أن يسقطا الخيار، كما ذكرنا في خيار المجلس.

    العقود التي يثبت فيها خيار الشرط

    قال رحمه الله: [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]:

    (ويثبت في البيع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ابتعت، فقل: لا خلابة).

    (والصلح بمعناه)؛ لأن الصلح بمعنى البيع، وهو الصلح بعوض، كما بيناه.

    قال: [والإجارة في الذمة]:

    مثلاً: اتفقت مع مقاول أن يبني لك عمارة على صفة معينة، فقال لك: سأبني هذا البناء بصفة كذا وكذا، أو بهذه المخططات الموجودة للبناء بعشرة آلاف ريال، فقلت له : قبلت؛ لكن أشترط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فحينئذ تتوقف الإجارة حتى تمضي الثلاثة الأيام، فهذه إجارة في الذمة.

    فمن حقك أن تعلق الإجارة في الذمة، مثل: بناء البيت، وحفر البئر، وخياطة القميص، فلو أن شخصاً جاء وقال: احفر لي في أرض بئراً، فقلت: أحفر لك مائة متر، كل متر بمائة ريال، فقال: قبلت، لكن لي الخيار ثلاثة أيام، يريد أن يسأل الناس ويسأل أهل الخبرة هل من مصلحته أن يمضي الإجارة أو لا، حق له ذلك كما ذكرنا في البيع.

    قال رحمه الله: [أو على مدة لا تلي العقد]

    أي: كأن استأجر منه الدار شهراً، أو سنةً لا تلي العقد؛ لأنه لو قلنا: إن الإجارة يثبت فيها خيار الشرط بعد العقد مباشرة، وتكون المدة بعد العقد، تداخل الإلزام وعدم الإلزام.

    توضيح ذلك: لو جئت إلى رجل، وقلت له: أجرني الشقة في العمارة بعشرة آلاف ريال لمدة سنة، فقال: قبلت، لكنك قلت: ولي الخيار ثلاثة أيام، فيشترط في السنة التي عقد عليها، ألا تجعلها بعد العقد مباشرة؛ لأنها لو كانت بعد العقد مباشرة لكان ابتداء العقد بعد الافتراق، وبالشرط يبتدئ العقد بعد ثلاثة أيام، فيصبح خلال الثلاثة الأيام، لا ندري هل عقد الإجارة لازم، بناء على ظاهر اتفاقكما أو غير لازم لوجود الشرط لاحتمال أن ترجع؟

    وهذا بلا إشكال أنه غرر، ولا يصح، ولذلك احتاط المصنف رحمه الله، ونص العلماء على اشتراط ألا تكون المدة تالية العقد؛ لأنه سيحدث تداخل، إذ كيف يصح أن أقول: لك الخيار ثلاثة أيام، ثم تحسب الثلاثة الأيام من الإجارة، مع أن الإجارة ما لزمت خلال الثلاثة الأيام؛ لأن من المعلوم أنه لا يصح أن تقول: خلال مدة الشرط وهي الثلاثة أيام: إن العقد لازم.

    أي أنك إذا قلت: الإجارة تلي العقد، فمعنى ذلك أنها لازمة بعد العقد، وإذا قلت: إن الشرط لازم بناء على ما ورد في السنة فمعناه أن الإجارة لازمة، وهنا الإجارة غير لازمة إلا بعد ثلاثة أيام، فيصبح هنا تناقض.

    إذاً: عندنا أمران:

    الأمر الأول : عقد الإجارة.

    الأمر الثاني: الشرط.

    نوضح أكثر: لو أنك تريد أن تستأجر شقة ثلاثة أيام، فقلت له: أجرني هذه الشقة ثلاثة أيام، السبت والأحد والإثنين، فقال: أجرتك بثلاثمائة ريال، وهذا الاتفاق كان يوم الجمعة ليلة السبت، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، التي هي السبت والأحد والإثنين فهذه لا تصح إلا إذا كانت المدة التي اشترطتها غير مدة العقد، فحينئذ قال المصنف: (على مدة لا تلي العقد)؛ لأنك لو قلت: يضع الشرط بعد العقد مباشرة، صار تناقضاً خلال الثلاثة أيام، فالعقد لازم من وجه وغير لازم من وجه، والشرع لا يتناقض، ولذلك اشترطوا في المدة أن يكون فيها فسحة للنظر وإعطاء المهلة قبل لزوم العقد لكيلا يحدث تناقض، وهذا أمر لا إشكال فيه وهو أمر صحيح معتبر، خاصة إذا مثلنا بشيء يطابق الشرط المذكور، لكن لو قال له: أشترط رضا والدي، قد يتوهم البعض أنه لا فرق بين قوله: أشترط رضا والدي، وبين اشتراط مدة تلي العقد، فيتوهم أن هذا الشرط لا علاقة له بالمدة، لكن حينما تقول: إن خيار الشرط الأصل فيه مدد الزمان، والإجارة كذلك بمدد الزمان وهي المدة المعينة، فلا بد فيها وأن يكون العقد بعد نهاية مدة الشرط، فتكون الإجارة على مدة لا تلي العقد، أي: لا تكون بعد العقد مباشرة، حتى يصح خيار الشرط من هذا الوجه.

    قال رحمه الله: [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]:

    أي: يجوز في خيار الشرط أن يشترطه أحدهما دون الآخر، وقد ذكرنا أن له ثلاث صور:

    - أن يشترط البائع دون المشتري.

    - أن يشترط المشتري دون البائع.

    - أن يشترطا معاً.

    فيكون لهذا شرطه، ويكون لهذا شرطه.

    الغاية في خيار الشرط

    قال رحمه الله: [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]:

    بعد أن بين رحمه الله برحمته الواسعة، أن خيار الشرط يقع في المدد، كقولك: ثلاثة أيام، أربعة أيام، شرع في بيان مسائل فرعية وهي إذا قال: إلى الليل، أو إلى يوم كذا، فهل العبرة بالغاية؟ أم العبرة بما بعد الغاية؟ فالأصل يقتضي أن الغاية لا تدخل في المغيا، إلا إذا كانت من جنسه، وهذا الأصل فيه خلاف بين العلماء، فمثلاً: حينما ننظر إلى الشرع يحد الأشياء بغايات، كقوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] وكقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].

    فقوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] هل المراد أن نغسل إلى ما قبل المرفق ويعتبر المرفق غير داخل في الحد، أم أن الغاية تدخل في المغيا، فيجب غسل المرفق؟ فالذي عليه المحققون أن الغاية تنقسم إلى قسمين:

    أن تكون من جنس المغيا.

    أو تكون من غير جنسه.

    فإن كانت من جنسه دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل، فلما كان المرفق من جنس اليد دخل، ولكن لما قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] وكان الليل ليس من جنس النهار، لم يدخل ولم يجب الصيام إلى الليل، وعلى هذا قالوا: إذا قال له: إلى الليل أو إلى الغد، انقطع الخيار بأول الليل وأول الغد.

    وبعض العلماء يرى أن إذا قال: إلى الليل أن يلزمه إلى صبيحة اليوم الذي يليه، فينتظر إلى انتهاء الليل لانتهاء الغاية، وإذا قال: إلى الغد، فإنه ينتظر إلى غروب الشمس، وليس إلى طلوع شمس الغد، والصحيح ما ذكرناه.

    فالقاعدة: أن الغاية إذا كانت من جنس المغيا دخلت، وإذا لم تكن من جنسه لم تدخل؛ لأن الأصل في الغايات أن لها مفاهيم، ولذلك ما بعد الغاية يخالف ما قبله في الحكم، وهذا ألفناه من الشرع، فمثلاً في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)؛ فقوله: (حتى يبدو) غاية في النهي، أي: حرمنا عليكم بيع الثمرة إلى الغاية، وهي بدو الصلاح، ففهمنا أن الغاية لا تدخل في المغيا، وقد ذكر علماء الأصول: أن من أنواع المفاهيم مفهوم الغاية، فقالوا: إن تحديد الشرع شيئاً بغاية يدل على أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم.

    قال رحمه الله: [ولمن له الخيار الفسخ، ولو مع غيبة الآخر وسخطه]:

    أي: من اشترط وقال: لي الخيار ثلاثة أيام، فله الحق أن يفسخ في أي وقت، ما دام أنه في مدة الخيار، فإذا انتهت مدة الخيار فقد انقطع هذا الحق، فإذا جئت خلال ثلاثة أيام، وقلت: لا أريد، فذلك من حقك، حتى ولو لم تذكر سبباً ما دام أنك حددت بالزمان.

    وقوله: (ولو مع غيبة الآخر وسخطه) أي: يستوي إذا كان الآخر حاضراً أو غائباً، فمثلاً: لو أني اشتريت منك سيارة بعشرة آلاف وقلت لك: لي الخيار ثلاثة أيام، مثلاً: السبت والأحد والإثنين، ففي يوم السبت اخترت أنني لا أريد الشراء، فلا يلزمني أن أبحث عنك، حتى أقول لك: لا أريد، بل يكفي أن أشهد عدلين على أني لا أريد الصفقة، فإذا قلت لي بعد ذلك: لا ألغيها لأنك ما جئتني، فحينئذ أرفعك إلى القاضي وأقيم البينة بالشاهدين العدلين على أني أسقطت هذا البيع ولم أوجبه، أو أني فسخته، فيحكم القاضي بذلك.

    ثم قوله: (ولمن له الخيار الفسخ) أي: سواءً الطرفان أو أحدهما.

    وقوله: (ولو مع غيبة الآخر) أي: لا يشترط في الفسخ أن يكون حاضراً.

    وقوله: (وسخطه) أي: قلت له: خلال الثلاثة أيام لا أريد هذه الصفقة، فقال: بل تلزمك، فتقول: لكني قد اشترطت الخيار، فقال: لا أرضى. فنقول له: يلزمك أن تفسخ العقد ولو كنت ساخطاً.

    فلا يشترط رضا الآخر؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط: أن يكون لي الخيار تاماً، فسواء رضي أو لم يرض وسواء حضر أو لم يحضر.

    1.   

    الأسئلة

    الحالات التي يسقط فيها خيار المجلس

    السؤال: ما معنى قول بعض العلماء رحمهم الله: (ويستثنى من خيار المجلس: تولي طرفي العقد، والكتابة، وشراء من يعتق عليه، وإذا اعترف بحريته قبل الشراء) أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    هناك صور للبيع الذي يتولى فيه طرفي العقد شخص واحد، مثل النكاح، فقد يكون الرجل في بعض الأحيان ولياً وزوجاً، وكذا إذا تولى البيع والشراء شخص واحد، كأن اشترى لنفسه وكان وكيلاً عن غيره في البيع.

    فمثلاً: لو كان عنده أيتام لهم عمارة فأراد أن يبيعها لهم، ليشتري لهم ما هو أصلح، فعرضها للبيع فرأى أن من مصلحته أن يشتريها، فهو بائع من وجه: من جهة الولاية، ومشترٍ من وجه: من جهة الأصالة، فهو أصالة عن نفسه مشترٍ، وولاية عن الغير بائع، فكيف يكون خيار المجلس؟ لأن البائع والمشتري بالخيار، لكن هنا هو البائع وهو المشتري، فلا يستطيع أن يخرج من نفسه أو أن يفارق نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قيد الخيار بأن يفارق صاحبه إن كان بائعاً أو مشترياً.

    فقالوا: إن هذه الصورة لا يكون فيها خيار، فبمجرد إيجابه للبيع يتم.

    ثم ذكر بعد ذلك الكتابة بين السيد وعبده، ومعلوم أن العبد لا يملك المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) أي: المشتري، فدل الحديث على أن يد العبد خلو لا تملك المال؛ لأنه إما للبائع وإما للمشتري، والسبب في هذا الكفر؛ لأنه لما كفر وضرب عليه الرق، كان عقوبة له أن لا يملك وأن يكون في حكم المملوكات؛ لأن الله جعل من كفر كالبهيمة وأسوأ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ الفرقان:44] فلما أشرك بالله وكفر بالله خرج عن مقام الإنسانية وأصبح في مقام المتاع الذي يباع ويشترى، وما ظلمه الله، بل هو الذي ظلم نفسه.

    فالشاهد:أنه أخذ يد العبد عن الملكية.

    لكن لو أن رجلاً عنده عبد فأسلم العبد وقال لسيده: أريد أن تكاتبني، والله تعالى يقول: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] فهذا العبد يريد أن يعتق نفسه والشرع يفتح أبواب العتق، فكونه رقيقاً يقتضي أن جميع ما يملك ملك لك، فهو إذا كاتبك لا يخرج عن ملكيتك إلا بعد أن يؤدي أنجم الكتابة، ولا يملك المال حقيقة إلا إذا صار حراً، فيصبح في هذه الحالة كأنك تعقد مع نفسك؛ لأن العبد وما ملك ملك لسيده، فعقد الكتابة لو جئت تتأمل لوجدت أنك في الأصل تملك العبد وماله، وهو لم يعتق الآن، فكأنك عندما تكاتبه تكاتب مع نفسك.

    وقوله: (شراء من يعتق عليه)، أي: كوالده، فلو أن إنساناً اشترى ذا رحمٍ منه، كوالده ونحو ذلك، فإنه يكون في حكم الحر، وفي هذه الحالة يخلو العقد من حقيقته؛ لأن الصفقة ماضية ماضية، والمالك الذي هو الابن مع أبيه، من عظيم حق الوالد عليه فكأنه يشتري نفسه، ويصبح العقد كأنه في يد الوالد، كأن إيجابه وقبوله للوالد، ولذلك يعتق عليه سواء رضي أو لم يرض، فدل على أن يده خلو من الملكية، فكأن العقد بيد الوالد، فيصبح في هذه الحالة لا إيجاب ولا قبول من حيث الأصل، فلا خيار في هذا.

    وقوله: (إذا اعترف بحريته قبل الشراء) كما لو اشترى من كان يقر بحريته، ثم اشتراه.

    التواضع وفضله

    السؤال: إن التواضع مما يجب أن يتحلى به المسلم، وطالب العلم إلى التواضع أحوج، فهلاّ تفضلتم بتوجيهٍ حول هذا الأمر، أثابكم الله؟

    الجواب: التواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يغيب عبد سريرة خير أظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه.

    ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمة الله جل جلاله عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا محبة للثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة موقنة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى.

    وأحق من يتواضع العلماء وطلاب العلم، وأهل الفضل والصالحون، خاصة كبار السن، لقربهم من الآخرة، ودنوهم من الأجل، فهم أحق الناس بانكسار القلب لله، وتواضع القلوب لعباد الله، والعلماء يتواضعون لأن خشية الله سكنت قلوبهم، ومحبة الله والذلة له سبحانه وتعالى استقرت في نفوسهم، فأصبحوا لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    التواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الأمة تواضعاً، وأقربهم للناس، حتى إن الناس بين يديه كأنهم هم الملوك وهو بين أيديهم من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والخلفاء على ذلك، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في الناس، ويجلس بين الناس ولا يشعر بفضله على عباد الله، وهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأعظمها زلفى وقربى عند الله جل جلاله.

    وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه مثالاً في التواضع، وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كان أئمة السلف ودواوين العلم.

    فقد كان الإمام محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وكان إذا جلس بين الناس باسطهم وألفهم وألفوه، حتى كأنهم لا يشعرون أنه عالم، وإذا جن عليه الليل سمع البكاء من بيته، فكانوا يتواضعون لعلمهم بالله، وتعظيمهم لحدود الله، وأنه مما ينبغي عليهم أن يشكروا نعمة الله، فيتواضعوا لعباد الله.

    وكان سفيان الثوري الإمام الجليل، والسيد العالم العابد رحمه الله برحمته الواسعة من تواضعه أنه يرفع قدر الفقراء في مجلسه، فكانوا يقولون واشتهر عنه ذلك: (ما كان أرفع الفقراء في مجلس سفيان )، فكان يقربهم إليه، ويباسطهم ويكون أليفاً ودوداً رحيماً بهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتخلق بخلق الكرماء، الفضلاء، الأتقياء، الحلماء، ومن رزق التواضع فهو خليق به أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذي يألفون ويؤلفون).

    تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع

    ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع

    إن كريم الأصل كالغصن كلما يزداد من خير تواضع وانحنى

    فالرمان والأشجار اليانعة كلما ازدادت من الخير تدلت أغصانها وقربت من القاطفين، وهذا هو شأن أهل العلم والصلاح، وشأن الأخيار المتقين.

    ومن الكبر العبوس في وجوه الناس، وعدم إلقاء السلام عليهم، واحتقارهم لألوانهم، أو أحسابهم، أو مناصبهم، أو مراتبهم، أو أشكالهم، أو عاهاتهم، الله الله أن تزدري عباد الله، فإنك إن تواضعت لخلق الله أحبك الله، فإن الله يحب منك أن تتواضع لعباد الله، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات حينما عبس وتولى على الأعمى، وكان جاءه يريد أن يتزكى، فقال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:3]* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:4].

    فهذا الذي تراه ضعيفاً عظيم عند الله بإرادة الزكاة، وبإرادة الخير والهدى، ولما أراد وجه الله عظم عند الله، لا لعينه التي ذهب نورها، ولا لحاله وبؤسه وفقره، فانظر إلى الناس بقلوبهم ودينهم، فإذا رأيت أخاك المسلم في المسجد، محافظاً على الصلوات الخمس، ثيابه مرقعة رث الهيئة فأحبه لله وفي الله، وسلمِّ عليه ولو كنت من أغنى عباد الله، فإن الله يحب أن يسمع منك هذه الكلمة، التي تشعره فيها بأخوة الإسلام، وإذا صلى بجنبك فالله الله أن تشيح بوجهك أو تصعر بخدك، أو تشعره بالأنفة أو السآمة أن يجلس بجنبك، وإذا جلس بجوارك الفقير أو صلى بجوارك من هو أضعف منك حالاً فتعامل وكأنك بجوار أغنى الناس وأكثرهم مالاً، واجعل عندك الشعور أنك تصلي أمام أعز الناس إن شعرت أنه ذليل.

    إذا فعلت ذلك فإن الله يحبك، فمن كان عنده هذا الشعور تواضع للناس، وأظهر الله من شمائله وآدابه وأخلاقه، قال عدي رضي الله عنه وأرضاه (حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه من الشام، وهو على دين النصرانية، وقد عاتبته أخته السفانة -؛ قال: أتيته فانطلقت معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فاستوقفه صبي، فوقف له، حتى قضى حاجته، والله ما سئمه ولا مله -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقت معه، فاستوقفته امرأة، فوقف لها حتى قضت منه حاجتها، فقلت: والله! ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فلما دخلت بيته، رمى لي بعرض وسادة، فقلت: ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، ملك صلى الله عليه وسلم العباد بالمحبة والتواضع، فلماذا يتكبر الإنسان؟ إن كان المال، فالله هو الذي أغناه، وإن كان القوة والعزة والصحة والعافية فالله هو عافاه، فمن شكر نعمة الله عز وجل أن يتواضع لعباد الله.

    والذي ينبغي للمسلم أراد أن يتواضع أن يكون تواضعه لله، لا من أجل مدح الناس، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا ينتظر إلا أن الله يرضى عنه، وأن يرى الله منه أنه اغتنى وما تكبر في غناه، وأنه طلب العلم، وما تكبر في طلبه للعلم.

    وآخر ما أختم به هذه الكلمة: أن يتواضع الشباب الأخيار وطلاب العلم لإخوانهم ممن هم دونهم، فهذا أمر مؤكد أن تنتشر الألفة والمحبة بين طلاب العلم، وألا يقع بينهم تنافر أو تكبر، بل ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يجعلوا هذا العلم رحمة بينهم.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها سواه.

    اللهم إنا نسألك الإخلاص لوجهك الكريم، ورضوانك العظيم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756281722