اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلا زلنا نتدارس الباب الخامس من أبواب الطهارة من سنن الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وعنوان هذا الباب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقد روى الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً من طريق شيخه شيخ المحدثين وإمام المسلمين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك). قال الإمام الترمذي : هذا حديثٌ حسنٌ غريب، ثم قال: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكنا نتدارس ما يتعلق بترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقلت: سنتدارس أحوالها ضمن ستة أمور:
أولها: في بيان فضلها وأفضليتها على من دونها من النساء.
والثاني: في حب النبي صلى الله عليه وسلم لها حباً خاصاً زائداً على نسائه وزوجاته عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
والأمر الثالث: في الأسباب التي اقتضت هذا الحب من نبينا عليه الصلاة والسلام نحو أمنا عائشة رضي الله عنها.
والأمر الرابع: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
والأمر الخامس: في قيام أمنا عائشة رضي الله عنها بأمور الدين على وجه التمام من تعظيم الرحمن، والشفقة على عباده.
وآخر الأمور وهو السادس: غيرة الله على أمنا عائشة رضي الله عنها، ودفاع الله عنها.
وكنا تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول في فضل أمنا عائشة وأفضليتها رضي الله عنها وأرضاها، وشرعنا في مدارسة الأمر الثاني من أحوالها ألا وهو حب النبي صلى الله عليه وسلم لها حباً زائداً على سائر نسائه، وقلت: إن هذا كان معلوماً للصحابة أجمعين، وبخاصةٍ عند نسائه الطاهرات الثيبات على نبينا وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، وآخر ما ذكرته قصة أمنا صفية مع أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين عندما وجد النبي صلى الله عليه وسلم على أمنا صفية وأرادت أن ترضيه، فوسطت في ذلك أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، وقالت لها: إذا رضي النبي صلى الله عليه وسلم عني وزال ما في قلبه نحوي فلك يومي، وبينت ما فعلته أمنا عائشة رضي الله عنها، وكيف طيبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم نحو أمنا صفية على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بإسنادٍ حسن عن عمرو بن الحارث المصطلقي وهو أخٌ لأمنا جويرية رضي الله عنهما، فهو خال المؤمنين، قال: بعث زياد -وهو زياد بن أبيه الذي استلحقه معاوية رضي الله عنه وجعله أخاه، وكان من الأمراء، وتوفي سنة ثلاثٍ وخمسين للهجرة قبل وفاة أمنا عائشة رضي الله عنها بأربع سنين، وليس هو من الصحابة الكرام الطيبين إنما هو من التابعين- إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعطاء، وفضل أمنا عائشة رضي الله عنها فيه، فكل واحدةٍ أعطاها شيئاً، وزاد أمنا عائشة رضي الله عنها، فقال الرسول الذي أتى بهذا المال إلى أمهات المؤمنين لأمنا أم سلمة رضي الله عنها بعد أن أعطاها المال، قال لها معتذراً: إن زياداً أعطى عائشة أكثر، وما نريد أن يتكدر خاطرك من ذلك، فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: يعتذر إلينا زياد أن فضل علينا عائشة رضي الله عنها، فقد كان يفضلها من هو أعظم علينا تفضيلاً من زياد ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعني بذلك أن تفضيل النبي عليه الصلاة والسلام هو المعتبر، لا تفضيل زياد ولا غيره.
وثبت في سنن الترمذي ، وقال: حسنٌ صحيح، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً جاء عنده فنال من أمنا عائشة رضي الله عنها ووقع فيها، فقال له عمار بن ياسر : اغرب مقبوحاً منبوذاً -أي: انصرف وابتعد، وأنت قبيح لا تستحق أن تجالس- تؤذي حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام. يقول: أنت تتكلم في عائشة رضي الله عنها وتقع فيها، وهذه لها منزلةٌ خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاغرب مقبوحاً منبوذاً.
وروى أبو نعيم في كتاب الحلية في الجزء الثاني صفحة أربعٍ وأربعين عن مسروق إمام التابعين أنه كان إذا حدث عن أمنا عائشة رضي الله عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله، على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا، ففي السنن الأربع وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم وصححه وقال: على شرط الإمام مسلم ، وأقره عليه الإمام الذهبي ، ورواه الإمام الدارمي والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، والإمام البزار في مسنده أيضاً عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، قال أئمتنا: يعني حبه لأمنا عائشة رضي الله عنها وميل قلبه إليها، فهذا يملكه الله وليس في وسع النبي عليه الصلاة والسلام شيءٌ من ذلك، فهو يقول: قلبي بين يديك وبين إصبعيك، وأنت جعلت فيه محبة هذه الصديقة الصالحة القانتة لما فيها من اعتباراتٍ شرعيةٍ معتبرة، وعليه فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
والحديث صحيح، وإسناده متصلٌ، لكن وقع نزاعٌ وخلافٌ في الاتصال هل هو مرسلٌ أو متصل؟ فمن ذكرتهم صححوا الحديث واعتبروه متصل الإسناد، ووقع شيءٌ من الكلام حول الاتصال كما في فتح الباري في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وذكر الإمام الحافظ أيضاً ملخص هذا الكلام في كتاب الدراية في تلخيص تخريج أحاديث الهداية الذي أصله للإمام الزيلعي وهو نصب الراية في أربعة مجلدات اختصره في مجلدين صغيرين، وكلامه في الجزء الثاني صفحة ستٍ وستين، والكلام في الأصل في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائتين، وخلاصة كلام أئمتنا: أن حماد بن سلمة روى الحديث عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة رضي الله عنها، فهو إذاً حديثٌ متصل، لكن قال الإمام الترمذي في السنن: أرسله حماد بن زيد ، وهذا أصح، فـحماد بن زيد بن درهم قال: عن أبي قلابة ، عن أمنا عائشة ، فحذف عبد الله بن يزيد فصار الحديث مرسلاً، وقال الإمام الدارقطني -كما نقل ذلك عنه ابن حجر والإمام الزيلعي -: أرسله أيضاً عبد الوهاب الثقفي وابن علية وهو أولى. يعني هذا الحديث متصل، وذكر فيه عبد الله بن يزيد عن أمنا عائشة ، أو أن أبا قلابة رفع الحديث إلى أمنا عائشة رضي الله عنها دون أن يذكر عبد الله بن يزيد ، فهو متصلٌ أو مرسل.
أما فيما يتعلق بقسم الإنسان بين زوجاته فالإنسان مطالب بالقسم والعدل في أمرين:
أولهما: البيتوتة، ويتبعها النهار، فهذه لها ليلة بنهارها، وتلك لها ليلة بنهارها وهكذا، والنهار في الأصل ينبغي أن يكون تبعاً لليلة التي قبله، فتجعل لزوجةٍ من زوجاتك مثلاً ليلة السبت التي تكون في آخر يوم الجمعة، ومعها يوم السبت، وليلة الأحد لزوجةٍ ثانية ومعها يوم الأحد، قال أئمتنا: ولو جعل اليوم من الليلة التي قبلها، أي: ابتدأ باليوم ثم جعل الليلة بعد ذلك أيضاً يصح، يعني: لو جاء في الصباح بعد صلاة الفجر إلى زوجته، ثم أعطاها الليلة التي تليها، ثم بدأ بالزوجة الثانية من الصباح فلا حرج، والأصل أن النهار يتبع الليلة، وأن تكون الليلة قبل النهار، فلو جعل النهار قبل الليلة فلا حرج، المقصود أنه لا بد من التسوية فيه.
والأمر الثاني الذي يجب فيه العدل والقسم: هو النفقة الواجبة، فكل واحدةٍ لها نفقتها بالمعروف من سكن، وطعام، وكساء، أما النفقة الزائدة التي هي من باب الهدايا والتطوع والإحسان فهذا إحسان منك تضعه حيث شئت، فقد تشتري لهذه حلياً بعشرة آلاف وتلك لا تشتري لها حلياً ولا بدرهم، فلا حرج، ولا منقصة في ذلك على الإطلاق.
فهذا أمر يجب أن نعيه، ولا أعلم بين المذاهب الأربعة خلافاً في أن تعطي هذه لباساً أو حلياً لا تعطيه لتلك، وهذا كما لو كان عندك عشرة من الأصحاب وأهديت لواحدٍ هدية، فلا يحق للبقية أن يطالبوك بشيء.
إذاً: الحق الواجب لا بد منه، وما زاد فهو إحسان تضعه حيث شئت، نعم يستحب لك أن تسوي بينهن في ذلك استحباباً، فإذا اشتريت لهذه شيئاً زائداً عما يجب عليك فاشتر لهذه، وإذا لم تفعل فلا إثم ولا حرج.
فإذاً عماد القسم كما قال أئمتنا: الببيتوتة ويتبعها النهار، سواءٌ كان قبلها أو بعدها، والنفقة الواجبة هذه لا بد منها، وما عدا ذلك فمتروكٌ إليك، وهذا هو الذي شرطه الله جل وعلا لمن يريد أن يعدد ألا وهو العدل.
وهذا ميسورٌ في وسع كل أحد، لكن إذا كان الإنسان يخشى من الجور ويخشى إذا تزوج ثانيةً أن يحرم الأولى من حقها الواجب فقد قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. وإذا كان يضمن نفسه في هذين الأمرين: القسم والنفقة الواجبة فلا حرج عليه في كون القلب بعد ذلك يميل لهذه أو لهذه، فالقلوب بيد علام الغيوب سبحانه وتعالى، وكونه بعد ذلك يؤثر هذه على هذه في نفقةٍ أو في طعامٍ فلا دخل لواحدةٍ في ذلك على الإطلاق، والمرأة إذا طالبت في ذلك بما لا يجب لها، نبين لها أنها على خلاف الصواب وانتهى الأمر، فإذا قصر في أحد هذين الأمرين فهو ظالم، والويل له عند الله جل وعلا.
ثبت في المسند والسنن الأربع، والحديث رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)، وفي بعض الروايات: (وشقه مائل)، كما مال فالجزاء من جنس العمل، فيجعل الله أحد جانبيه يوم القيامة مائلاً، أو كأنه مشوه في الخلق، أو كان فيه شيئاً من المسخ، فيأتي وأحد جانبيه ساقطٌ مائلٌ ليظهر جوره على رؤوس الخلائق.
إذاً: الجور في هذين الأمرين فقط، وما يتوهمه بعض الناس من أنه إذا اشترى لهذه ثوباً أصفر مثلاً فينبغي أن يشتري لتلك أيضاً ثوباً أصفر، فهذا كله لا حقيقة له من ناحية الوجوب، فإن أراد أن يفعل هذا من باب التطوع والإحسان فليفعله، وأما أنه يجب عليه أن يسوي بين النساء في ذلك فلا؛ بل الواجب القسمة في البيتوتة، ثم بعد ذلك في النفقة الواجبة كما لو لم يكن معها زوجاتٌ أُخَر، فتنظر ما يجب لها من حق في طعامها وشرابها وسكنها وكسائها فتعطيها، وأما أن تساوي تلك بهذه أو هذه بتلك فلا يجب عليك ذلك، وعليك العدل وهو ميسورٌ على من يتقي الله جل وعلا، وأما أن تميل لهذه أو نفسك أحياناً تنشط لمعاشرتها أكثر من غيرها فلا حرج، نعم .. يجب أن تعطي كل واحدةٍ حقها من العشرة، وليس معنى هذا أن تسوي بينهما؛ فالقلوب بيد علام الغيوب، وإذا قام بالحق الظاهري فقد أحسن، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير والحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح: أن رجلاً جاء للإمام الشعبي عليه رحمة الله فقال له: كل أمهات المؤمنين أحب إلي من عائشة -أي: أنا أحبهن كلهن، لكن كل واحدةٍ عندي أكثر حباً من عائشة ، وأفضلها على عائشة ، فـعائشة هي أقل أمهات المؤمنين حباً في قلبي- فقال له الشعبي : أما أنت فقد خالفت ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أحبهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت الذي جعلتها في آخر المراتب وهي في أول المراتب عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت تؤمن به وتحبه فينبغي أن تقدم من قدمه نبيك عليه صلوات الله وسلامه.
فهذه هي أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الأمر الثاني من سيرتها العطرة فهي أحب النساء إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمتها في الجزء الثاني صفحة أربعين ومائة: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولا أحب امرأةً حبها.
وقال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمتها في الجزء الثامن صفحة إحدى وتسعين: لم يكن في أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أمنا عائشة رضي الله عنها جعلها الله جل وعلا أذكى النساء وأزكاهن، فكانت ذكية زكية، عاقلة طاهرة فاضلة، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4]، وبالعلم والتفقه يتميز الإنسان عن البهائم، فيصير من عباد الله المقربين، وهذا الذي وجد في أمنا عائشة رضي الله عنها فكانت أعلم نساء هذه الأمة، بل هي أعلم النساء على الإطلاق؛ فما وجد على ظهر الأرض أعلم ولا أفقه ولا أذكى ولا أزكى من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني صفحة خمسٍ وثلاثين ومائة: كانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق. ثم قال في صفحة أربعين ومائة: ولا أعلم في أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام بل في النساء مطلقاً أعلم منها وأفقه.
ومثل هذه العبارة يقولها أيضاً الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الأول صفحة ستٍ ومائة، والعبارتان متشابهتان، والله أعلم من أخذ هذه العبارة من الآخر، فالإمام الذهبي توفي سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة، والإمام ابن القيم توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، فبينهما ثلاث سنواتٍ في الوفاة، وكلٌ منهما قرين الآخر وصاحبه، وهما تلميذان باران لشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية، فكل واحدٍ قال هذه العبارة، وهي نظير عبارة أخيه وصاحبه، قال الإمام ابن القيم : هي أفقه نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمهن، بل أفقه نساء الأمة، بل هي أعلم النساء على الإطلاق. فهي كعبارة الإمام الذهبي تماماً، ومثل هذه العبارة للإمام ابن كثير أيضاً في البداية والنهاية في الجزء الثامن صفحة اثنتين وتسعين في ترجمتها، يقول: من خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم النساء على الإطلاق.
وهذا الأمر يقرر لنا سبب حب نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها هذه المحبة الزائدة، فالذكية الألمعية الزكية النقية تحب بلا شك.
ولو كان عندك ولدان أحدهما تبذل معه من الجهد ما تبذل وهو لا يعي ولا يفقه، والآخر إن أشرت له إلى المطلوب إشارةً فحسب فهم ما تريد، فهل يستوي هذا مع هذا؟ كلا، يقول الله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وأمنا سودة قد انفردت بنبينا عليه الصلاة والسلام قبل أمنا عائشة ثلاث سنواتٍ متتالية، كانت مع النبي عليه الصلاة والسلام وليس معه في ذلك الوقت زوجةٌ ولا سرية، ثم جاءت عائشة -وهي الزوجة الثالثة- في العام الثاني من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام فصحبته ثمان سنين فقط، فزادت رواياتها أضعافاً مضاعفة، لا على رواية سودة فقط، بل على روايات سائر نسائه، فلو جمعت سائر روايات نساء النبي عليه الصلاة والسلام لما وصلت بمقدار رواية أمنا عائشة عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، بل لو جمعت روايات كثيرٍ من الصحابة لما بلغت إلى رواية أمنا عائشة ، وسيأتينا أنها من المكثرين في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهم ستة رجالٍ سيأتينا ذكرهم ومعهم أمنا عائشة رضي الله عنها، فهؤلاء هم المكثرون في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قال قائل: إن سودة لم تكثر من الرواية؛ لأن حالها كحال أبي بكر رضي الله عنه. قلنا: لا؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه عاش بعد النبي عليه الصلاة والسلام سنتين، وأكثر من عاصره سمع الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، فعلام يرويه عن أبي بكر ؟ فقلت الرواية عنه لتقدم وفاته، وأما أمنا سودة رضي الله عنها وأرضاها فتوفيت سنة خمسٍ وخمسين، وقيل: أربعٍ وخمسين، وقبل أمنا عائشة بسنتين أو ثلاث، فقد احتاج الناس إلى ما عندها من علم لو كانت تضبط كما تضبط أمنا عائشة ، أما أبو بكر رضي الله عنه فقد عجلت منيته رضي الله عنه وأرضاه، ثم يضاف إلى هذا شغله بأمر الخلافة وعدم تفرغه للرواية، وهذا هو تعليل قلة الرواية عن أكابر الصحابة؛ وهو أن موتهم كان قريباً من موت نبينا عليه الصلاة والسلام كـأبي بكر وعمر ، وأكثر من عاصر هذين الشيخين المباركين من الصحابة حملوا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، فما الداعي لاختيار أبي بكر أو عمر رضي الله عنهم أجمعين؟ أما من امتدت حياته، ووجد بعد ذلك ذرية ناشئة، وهم الذين يقال لهم: التابعون، فهؤلاء سيتلقون العلم من الصحابة، فمن امتدت حياته من الصحابة أخذ العلم عنه التابعون، ومن مات فما عنده من يعطيه هذا العلم ومن يتحمله عنه، مع اعتبارٍ آخر وهو انشغال أكابر الصحابة بأمر الخلافة وتدبير الأمة ورعاية شئونها كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وكثرت الرواية عن الخلفاء الراشدين الثلاثة لامتداد حياتهم واحتياج الأمة إلى مروياتهم عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ونحن نوقن بلا تردد أن أبا بكر رضي الله عنه كان أحفظ من علي وعمر وعثمان ومن أمنا عائشة ومن سائر الصحابة الكرام، لكن ما وجد وقتٌ ينشر فيه هذا العلم ويؤخذ منه، ومن كان يعاصره فهو يعلم ما يعلمه أبو بكر وإن كان مفرقاً، فهذا يعلم شيئاً.
فأمنا عائشة رضي الله عنها كأمنا سودة ، وسودة زادت في الصحبة ثلاث سنين، يضاف إلى ذلك أنها كانت في هذه السنوات الثلاث تصاحبه ليل نهار، ولا يوجد بينها وبين غيرها قسم، أما أمنا عائشة فصحبته ثمان سنين مع وجود غيرها معها فما لها من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أقل من ثلاث سنوات.
فلو جمعت بقية عمر النبي صلى الله عليه وسلم وقسمته على عدد زوجاته لكان نصيب عائشة أقل من سنة، فالمدة التي حصلت فيها عشرة أمنا عائشة لنبينا عليه الصلاة والسلام أقل من سنة، هذا عدا الغزوات التي كان يشهدها نبينا عليه الصلاة والسلام ويغيب عن سائر زوجاته الطاهرات الطيبات؛ فصحبتها قليلة لكنها كانت واعية ذكية طاهرة فاضلة، وكلهن صاحبات طهر وفضيلة، لكن الكمال يتفاوت، وكما جعل الله نبينا عليه الصلاة والسلام أكمل النبيين وأفضل المرسلين فقد جعل هذه الصديقة بهذه الاعتبارات، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]؛ ولذلك فإن حبها كان لأمرٍ شرعي وسيأتينا -إن شاء الله- عند الأمر الرابع في بيان زواج نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا عائشة رضي الله عنها أن حبها كان بأمرٍ إلهي؛ فما نزل الوحي السماوي عليه في لحاف امرأةٍ من نسائه إلا في لحاف أمنا عائشة ، أما أن جبريل نزل عليه وهو مضطجع مع إحدى زوجاته الأخريات فما حصل هذا على الإطلاق.
إذاً كانت ذكية زكية ألمعية نقية، فمثل هذه تحب، ولا أقول: إن الأخريات يبغضن؛ ففيهن طهر وصفاء ونقاء لكنهن دون هذه، فلهن من الحب ما يتناسب معهن، ويكفيهن أنهن قرن بخير خلق الله على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.
ثبت في سنن الترمذي -وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وكثيراً ما كانت تستدرك على الصحابة كما سيأتينا، وقد ألف الإمام الزركشي كتاباً سماه الإجابة في استدراك عائشة على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فكانت تستدرك وتبين أن فلاناً وهم، وأن هذا الحديث قيل في مناسبة كذا وما ضبط ذلك الصحابي الراوي تلك المناسبة، وهذا سبب وهمه، والكتاب مطبوع في قرابة مائتي صفحة.
وثبت في سنن الترمذي أيضاً وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب، والحديث رواه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وقال الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح. وأنا أعجب من استدراك هذا الحديث وجعله في الزوائد مع أنه موجودٌ في سنن الترمذي ، والأصل أن مرويات الإمام الطبراني إذا كانت في الكتب الستة فينبغي ألا تذكر في المجمع، فالله أعلم بسبب ذلك، والأثر عن موسى بن طلحة ، وهو الذي يقال له: موسى السجاد لكثرة سجوده لربه جل وعلا، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين، قال: ما رأيت أحداً أفصح من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها. فهي تسحر بكلامها وتأخذ بالألباب، وتشد السامع إليها من جزالة عباراتها وحلاوة ألفاظها، ولا غرو في ذلك، فهي حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد أفصح من نبينا، ولا أحلى كلاماً منه عليه صلوات الله وسلامه، فهذه الحبيبة سيسري فيها ما في محبها على نبينا وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
وروى الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ أيضاً رجاله رجال الصحيح كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، عن معاوية رضي الله عنه قال: ما رأيت خطيباً قط أبلغ ولا أفصح ولا أفطن من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
فالخطيب الذي يدون الخطبة ويعد لها ويحسنها والتدوين هنا بمعنى التحضير، مع ذلك إذا قرنت كلامه بما تتكلم به أمنا عائشة رضي الله عنها وهو كلام عادي لا يسبقه تحضير، فكلامها أبلغ وأفصح فبه يقنع السامعون من كلام الخطباء.
وروى الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع صفحة أربع عشرة عن عطاء ، قال: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً في العامة.
وفي معجم الطبراني الكبير بسندٍ حسن: أنه قيل لـمسروق : هل كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تحسن الفرائض؟ أي: هل كانت تعرف الحديث وتحفظ القرآن وتحسن الفرائض، أي: تتقنها؟ وهي المواريث، فقال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت مشيخة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض. فالمشيخة الكبار إذا استعصى عليهم أمر واستصعب عليهم شيءٌ في أمر الإرث، وخفي عليهم وجه الصواب فيه لجئوا إلى أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، يسألون هذه الصديقة المباركة التي كانت عمرها عندما توفي نبينا عليه الصلاة والسلام ثمان عشرة سنة فقط. والفرائض نصف العلم.
وفي مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك عن عروة بن الزبير وهو ابن أختها، فهي خالته، قال عروة لأمنا عائشة رضي الله عنها: يا أماه! أنا أفكر في أمرك فأعجب، أجدك من أفقه الناس، ثم أقول لنفسي: ما يمنعها من ذلك وهي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام وبنت أبيها. يعني العجب يزول نحو هذه القضية، فسيسري فيك الفقه والاستنباط وحسن المأخذ والدلالة من الكلام؛ لأنك زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، وبنت صديق هذه الأمة، ثم قال لها: وأجدك عالمةً بأيام العرب وأنسابها وأفعالها أي: ما جرى للعرب من وقائع، وأمنا عائشة لم تدرك ذلك؛ لأنها ولدت في الإسلام رضي الله عنها وعن سائر الصديقات، لكن مع ذلك تذكر أيام العرب وأشعارها وحوادثها، قال عروة : ثم أقول في نفسي: ما يمنعها من ذلك وهي بنت أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها، يعني: أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم أفكر فيك فأجدك عالمةً بالطب، وهذه هي التي توقف عندها عروة حتى قال: فمن أين علمت الطب؟ يعني من أين أخذت علم الطب وأنت لم تدرسي في جامعة ولا تلقيت ذلك عن طبيب؟ فقالت: يا ابن أختي! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الأسقام، أي: يمرض كثيراً، و(أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، فكان يأتي إليه أطباء العرب فينعتون له الدواء عليه الصلاة والسلام، فكنت أعالجه له، يعني ذلك الدواء أنا الذي أصنعه وأقوم به، فمن ثم -أي من ذلك الأمر- تعلمت علم الطب.
فكانت أفقه الناس وأعلم الناس بأيام العرب وأشعارهم ووقائعهم، وهي أيضاً طبيبةٌ ماهرةٌ رضي الله عنها وأرضاها، فمثل هذه حقيقةً ينبغي لزوجها أن يجعل لها محبةً خاصةً، وهذا هو الذي حصل في نفس نبينا عليه الصلاة والسلام؛ فكان يقدمها على سائر نسائه عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه.
أما رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقد بلغت ألفين ومائتي حديث وعشرة أحاديث، أخرج الإمام البخاري ومسلم منها فيما اتفقا عليه أربعةً وسبعين ومائة حديث، وانفرد الإمام البخاري بأربعةٍ وخمسين حديثاً، وانفرد الإمام مسلم بثمانيةٍ وستين حديثاً.
قال أئمتنا: روايات أمنا عائشة في الصحيحين تصل إلى ثلثي أحاديث الأحكام التي في الصحيحين، يعني لو جمعت أحاديث الأحكام التي في الصحيحين، أي: أحكام الحلال والحرام من بيوعٍ ومعاملةٍ وحدودٍ وعقوبات لا ما يتعلق بالأخلاق والآداب، فستجد ثلثها مرويات أمنا عائشة رضي الله عنها.
وأما المكثرون الآخرون فأذكرهم من باب ارتباط البحث ببعضهم، فأكثر الرواة حديثاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام أبو هريرة رضي الله عنه، وعدد الأحاديث التي نقلت عنه خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعةٌ وسبعون حديثاً، ويليه عبد الله بن عمر ، وأحاديثه عن النبي عليه الصلاة والسلام ألفان وستمائة وثلاثون حديثاً.
والثالث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأحاديثه عن النبي عليه الصلاة والسلام ألفان ومائتان وستة وثمانون، حديثاً فهو يزيد على أمنا عائشة رضي الله عنها قليلاً.
والمكثر الرابع في الترتيب: أمنا عائشة ، والخامس: عبد الله بن عباس ، وأحاديثه ألف وستمائة وستون حديثاً، والسادس: جابر بن عبد الله ، وأحاديثه ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً، والسابع الذي ألحق بالستة وحقيقٌ به أن يلحق؛ لأن رواياته زادت على ألف: أبو سعيد الخدري ، وأحاديثه ألفٌ ومائة وسبعون حديثاً.
فهؤلاء كلهم زادت رواياتهم عن الألف، وأمنا عائشة تأتي في المرتبة الرابعة، وما بينها وبين أنس إلا أحاديث تنقص عن مائة رضي الله عنهم أجمعين، فهذا حال هذه الصديقة الطاهرة المطهرة حبيبة حبيب الله على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.
قال الإمام ابن كثير : هذا الحديث ليس له أصل، ولا هو مثبت في شيءٍ من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا الإمام الحافظ أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له، وكرره الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، لكنه ذكره قبل هذا المكان في ترجمة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها في الجزء الثالث صفحة ستٍ وعشرين ومائة، فقال: ذكر كثيرٌ من الناس الحديث المشهور: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء)، في المقارنة بين أمنا عائشة رضي الله عنها وأمنا خديجة رضي الله عنها، وما علق في ذلك المكان على هذا الحديث بشيء، وأما في المسار الثاني في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقال: هذا الحديث لا أصل له، وليس هو في شيءٍ من أصول كتب الحديث، وسأل عنه شيخه أبا الحجاج المزي فقال له: لا أصل له.
وقد قال أئمتنا: كل حديثٍ فيه لفظ الحميراء لا يصح وهو باطل، وسيأتينا أن الإمام ابن القيم عليه رحمة الله قال ذلك في كتابه المنار المنيف في بيان الحديث الضعيف، فقال: كل حديثٍ فيه: واحميراء! أو ذكر حميراء فهو حديثٌ باطلٌ مختلق. والعبارة فيها شيءٌ من التساهل وعدم التدقيق، وقال هذا أيضاً بعض الأئمة منهم الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، لكن ما نسب ذلك إلى نفسه بل قال: قيل: إن كل حديثٍ فيه يا حميراء لم يصح.
وواقع الأمر كما قال الإمام الزركشي في كتاب الإجابة فيما استدركته أمنا عائشة على الصحابة في صفحة إحدى وخمسين عند بيان الخصائص التي امتازت بها أمنا عائشة ، فقال: الخصيصة الخامسة والعشرين يقال لها: حميراء، وهذه الصفة محببةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ورد أحاديث فيها نعتها بذلك، منها ما هو صحيحٌ، ومنها ما هو باطلٌ مردود، فقال: سألت شيخنا الحافظ ابن كثير عن الأحاديث التي فيها ذكر الحميراء؟ فقال: سألت شيخنا حافظ الدنيا شيخ الإسلام الإمام المزي فقال: كل حديثٍ فيه ذكر الحميراء باطلٌ إلا حديثاً في الصوم رواه الإمام النسائي .
أما الحديث الأول: فهو ما أشار إليه الإمام ابن كثير نقلاً عن شيخه الإمام المزي، ونقل ذلك الإمام الزركشي ووافقهما على أنه ورد حديثٌ في الصوم فيه ذكر الحميراء رواه الإمام النسائي ولعله في السنن الكبرى وما عندي علمٌ عنه، وقد فتشت عنه في كتب السنة التي عندي فلم أقف عليه، لكنهم عزوه إلى سنن النسائي الكبرى، وبلغني أن سنن النسائي الكبرى طبعت من قريب، وليس عندي منها نسخة، فإذا كان أحد منكم عنده نسخة من سنن النسائي الكبرى فليرجع إلى كتاب الصوم ليتحقق من لفظ هذا الحديث الذي فيه ذكر الحميراء، ويقول الإمام المزي وتلميذه ابن كثير وتلميذه الزركشي : إن الحديث صحيح، وهو في سنن النسائي الكبرى، وليس في المجتبى ويقال لها أيضاً المجتنى وهي سنن النسائي الصغرى المطبوعة في ثمانية أجزاء في أربعة مجلدات.
الحديث الثاني: رواه الإمام النسائي في كتاب عشرة النساء، ولا أعلم هل طبع الكتاب أم لا؟ وهو مخطوط، لكن أئمتنا ذكروا لفظ الحديث الذي رواه الإمام النسائي في عشرة النساء، لذلك أنقله عمن نقل هذا الحديث عن كتاب عشرة النساء، وهو الحافظ ابن حجر نقله في الفتح في الجزء الثالث صفحة أربعٍ وأربعين وأربعمائة، وقال: إسناده صحيح.
قال الحافظ ابن حجر : ولم أر في حديثٍ صحيحٍ ذكر الحميراء إلا في هذا الحديث.
وأصل الحديث ثابتٌ في الصحيحين: في لعب الحبشة بالحراب والدرق يوم العيد في مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه رواية الإمام النسائي في كتاب عشرة النساء.
ولفظ الحديث عن أمنا عائشة ، تقول: دخل الحبشة المسجد وهم يلعبون، وكانوا يقولون: أبا القاسم طيباً، محمدٌ عبدٌ صالح، فقال لي: (يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم؟ قلت: نعم يا رسول الله تقول: فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب ووضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده)، تقول أمنا عائشة : ومن قولهم يومئذٍ: أبا القاسم طيباً -على الحكاية- محمدٌ عبدٌ صالح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (حسبك -أي: يكفيك- قلت: لا تعجل يا رسول الله، فقال لي: حسبك، قلت: لا تعجل يا رسول الله، ثم قالت: وما لي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه ومكاني منه)، على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.
الشاهد في هذا الحديث قوله: (يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقالت: نعم).
أما الحديث الثالث فرواه الحاكم في المستدرك، ومن طريقه رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة، وهي في سبعة مجلدات ولم تحقق، ولو حققت لعلها تبلغ عشرين مجلداً، والحديث في المستدرك في الجزء الثالث صفحة مائة وتسع عشرة، والحديث في دلائل النبوة في الجزء السادس صفحة أربعمائة وعشرة، بوب الإمام البيهقي باباً فقال: باب ما جاء في إخباره صلى الله عليه وسلم بأن واحدةً من أمهات المؤمنين تنبح عليها كلاب الحوأب، وما روي من إشارته على علي رضي الله عنهم أجمعين بأن يلطف بها، وما روي في توبتها من خروجها وتلهفها على ما خفي عليها من ذلك، وكونها من أهل الجنة مع زوجها صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.
ولفظ الحديث عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: ذكر النبي عليه الصلاة والسلام خروج بعض نسائه -والخروج يراد منه هنا خروجٌ إلى قتالٍ بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن لم يصرح بذلك فبقية الأحاديث تقرر ذلك، وليس الخروج من البيت لقضاء حاجةٍ أو لزيارة- فضحكت عائشة تعجباً ممن ستخرج لتقاتل بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (انظري يا حميراء ألا تكوني أنت)، ثم التفت إلى علي رضي الله عنه وقال: (يا
فهذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك، ومن طريقه رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة، وقال الحاكم : إسناده صحيح على شرط الشيخين، لكن الحافظ الذهبي قال في التلخيص: قلت: عبد الجبار -ويريد به عبد الجبار بن الورد - لم يخرجا له، يعني ليس هو من رجال الصحيحين، وعبد الجبار حكم عليه الحافظ في التقريب فقال: صدوقٌ يهم، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في السنن، وهو من الطبقة السابعة.
وقال الإمام الذهبي في الكاشف: عبد الجبار بن الورد صدوقٌ وثقه أبو حاتم . فالحديث ما فيه إلا عبد الجبار بن الورد ، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن فهو صدوق، وقد نص على تصحيح الحديث الإمام الزرقاني في شرح المواهب اللدنية في الجزء السابع صفحة ست عشرة ومائتين، فقال: هذا حديثٌ صحيح، ثم قال: وهذا الحديث يرد على زعم من زعم أن كل حديثٍ فيه يا حميراء فهو موضوع، فهذا حديثٌ صحيح وفيه: (يا حميراء).
وهذا الحديث إخبارٌ بغيب يشير به نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ما سيقع وقد وقع في العام السادس والثلاثين من هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، في موقعة الجمل، عندما خرجت أمنا الطاهرة المطهرة رضي الله عنها إلى البصرة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فبعد أن بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان في أيام موسم الحج وأيام التشريق رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام، كانت أمنا عائشة مع أمهات المؤمنين أيضاً في الحج في مكة المكرمة، وذهبن إلى مكة لما يوجد في المدينة المنورة من فتنٍ من قبل الثوار الأشرار، وقد عزم أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام ألا يقاتل أحدٌ دونه، وقال: دعوني حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، ولا أريد أن أفتح على هذه الأمة باب الفتنة والقتال من أجلي، فإذا انكفوا عن غيهم وعادوا فبها ونعمت، وإلا إذا قطعت رقبتي -ولا بد من الموت- فهو أيسر من أن تفتح أبواب الفتن على هذه الأمة، رضي الله عنه وأرضاه، وكان يأخذ العهد على الصحابة بذلك، وكان يمنع كل من يريد أن يقاتل ويقول له: إذا كنت تسمعني وتطيع ولي عليك حق السمع والطاعة فاترك الأمر بيني وبينهم، وما كان أحدٌ من الصحابة الكرام يظن أن هؤلاء الثوار الأشرار سيصل بهم الأمر إلى أن يتسوروا الدار على عثمان رضي الله عنه وأن يذبحوه وهو يقرأ القرآن، فلما تم الأمر صارت الأمة في بليةٍ وفتنة لا بد من ضبطها، فبويع علي رضي الله عنه وهو كارهٌ أيضاً، وقال: لا بد من أن تجتمع الأمة، وأن تنظر من أمرها، وقالوا: هؤلاء الثوار سيصعدون إذا لم يوجد للأمة خليفة وسيزداد البلاء الذي فيها، فبويع رضي الله عنه وبايعه الصحابة الكرام وتمت له الخلافة، لكن إذا تم له الأمر وهدأ الموقف فلن يسكت عن قتلة عثمان ، وهو الذي كان يرسل ولداه الحسن والحسين إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين من أجل أن يكلفهما عثمان بما يريد؛ بقتالٍ أو بغيره، فكان يأمرهما بالسمع والطاعة والخروج، فإذا تم الأمر لـعلي رضي الله عنه وأرضاه فسيبحث عن قتلة عثمان وتحصل بعد ذلك لهم العقوبة التي يستحقونها. فاستغلوا هذا الموقف لإثارة الفتن المتتابعة حول عليٍ رضي الله عنه وأرضاه؛ فألبوا أهل الشام، ثم بعد ذلك جاءوا لبعض الصحابة الكرام كـطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين وقالوا: قتلة عثمان في جيش علي ، فكيف تبايعون لـعلي ؟ لا بد من قتل قتلة عثمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام أجمعين. وأنا لا أستبعد أن يقع هذا من بعض القتلة من أجل أن يجعلوا أمام الناس سنداً للخروج عن علي .
فعرض الأمر على علي فقال: اللهم العن قتلة عثمان في السهل والوعر، في الجبل، وفي البحر، أينما كانوا، من الذي أقر؟ ومن الذي رضي؟ لكن لا بد من صفاء الأمر لنبحث عنه، ثم بعد ذلك نوقف كل أحدٍ عند حده ونعطيه ما يستحقه، قالوا: لا، قتلة عثمان في بيتك ولا بد أن تقيم الحد عليهم مباشرةً. لكن الأمر ما انتظم بعد، فلا بد له من تثبيتٍ وثبات حتى يبحث عن القتلة، ويوقف كل إنسانٍ عند حده ويعاقب بما يستحقه، وأولئك يستغلون الفرصة وأيضاً وجود السبئية فيهم وهم الشيعة، وقد فعل بهم علي رضي الله عنه ما فعل بعد أن آلت إليه الخلافة، وكان ينكر عليهم ضلالهم وغلوهم فيه قبل حصول الخلافة له، فكان هناك خوارج وشيعة وثوار قتلة عثمان الأشرار، هؤلاء كلهم وجدوا في ذلك الوقت، والأمور فيها ما فيها من الهرج والمرج وعدم الثبات والانضباط، فحصل ما حصل بأن طلبوا من أمنا عائشة رضي الله عنها أن تذهب من مكة إلى الأبطح، وكان يوجد هناك أمراء من عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وقالوا لأمنا عائشة : ذهب بعض الثوار الأشرار للبصرة، والذي في تلك الناحية سيساعدنا فنبدأ بقتلة عثمان من البصرة ونطهر البلاد بقعةً بقعة، وهناك لنا أعوان، وظنت رضي الله عنها وأرضاها أنها تريد بذلك رشداً وخيراً، وأن قتلة عثمان سيقتلون، وبعد ذلك سيتم الأمر لـعلي رضي الله عنه كما حصل لغيره، وإذا لم يكن عند علي استعداد لمتابعتهم في هذا الوقت فنحن سنتابع، فخرجت وخرج علي رضي الله عنه بعد ذلك للقاء هؤلاء؛ لأنه يعتبرهم خرجوا عليه وعلى الخلافة، وحصل ما حصل ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقتل لكل فريق خمسة آلاف، وبلغ عدد القتلى عشرة آلاف رضي الله عنهم وأرضاهم، وقطعت سبعون يداً ممن كانت تحرس هودج أمنا عائشة رضي الله عنها من بني الضبة، ولما سقط هودجها من الجمل الذي عليه رضي الله عنها وأرضاها كلف علي بحمل الهودج وإنزاله في بيتٍ لتكرم، ثم جاء وسلم عليها، ورفق بها، وهذا ما يجب عليه نحو أمه رضي الله عنهم أجمعين، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وهذه الحادثة أشار إليها نبينا عليه الصلاة والسلام في كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة، وما وقع بين سلفنا الكرام قد ندموا عليه، فينبغي أن نحذره، وأن نستغفر لهم مما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
فنبينا عليه الصلاة والسلام أشار في هذا الحديث إلى أمنا عائشة وقال: (انظري يا حميراء ألا تكوني أنت).
ولفظ الحديث عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه وأرضاه، قال: لما خرجت أمنا عائشة رضي الله عنها من مكة إلى البصرة، وهي على جملها على الهودج نزلت عند ماءٍ هناك قريب من البصرة، فنبحت عليها الكلاب، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: أي مكانٍ هذا؟ قالوا: يقال له: الحوأب من ديار بني عامر، قالت: ما أراني إلا راجعة، فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب)، فقال لها الزبير : ترجعين! لعل الله أن يصلح بك بين الناس.
وفي روايةٍ: لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر نبحت عليها كلاب الحوأب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب، قالت: لا أظنني إلا راجعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب)، فقال لها الزبير ما قال رضي الله عنهم أجمعين.
والحديث صحيح، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في أحاديث أخرى، فروى عمر بن شبة في أخبار البصرة، والبزار ، ورجال إسناد الحديث ثقات عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليت شعري أيتكن تكون على الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب)، والأدبب أصله الأدبّ، قال أئمتنا: هو كثير الوبر في وجهه، فالأدبب جمل في وجهه وبرٌ كثير، وإنما قال: أدبب، مراعاةً للفظ: الحوأب، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير، ثم تنجو بعدما كادت)، أي: بعدما كادت أن تهلك تنجو بإذن الله جل وعلا.
وقد وردت أحاديث أخرى تدل على هذا الأمر أيضاً أذكرها في أول الموعظة الآتية إن أحيانا الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر