وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:150-152] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
فلما استقبل البيت وترك بيت المقدس أخذ الناس يتكلمون، وخاصة مرضى القلوب من المنافقين واليهود والمشركين وضعاف الإيمان، أما اليهود فقالوا: ينكر ديننا ويستقبل قبلتنا! في هزء وسخرية، وهذا تعرفونه من بعضنا كيف نتكلم، فالبشر هم البشر؛ لأن إبليس هو إبليس، هو الذي يلعب بقلوب البشر وبأخلاقهم وآدابهم، والمشركون قالوا: حن إذا ديار آبائه وأجداده! وبعضهم قالوا: اليوم إلى الكعبة وغداً لا ندري إلى أين يتجه! وآخر يقول: هذه الذبذبة وهذه الحيرة كيف يدعي معها النبوة ويقول كذا؟ فكان موقفاً صعباً، واضطرب المؤمنون، فلهذا تكررت الآيات، وآخر ما فيها: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:150] أنتم أيها المؤمنون في أي مكان فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، أي: جهته. وبهذا استقرت القبلة إلى يوم الدين، فلا تصح صلاة عبد يتعمد عدم التوجه إلى الكعبة، فإن استقبال الكعبة شرط في صحة الصلاة، فلا تصح بدونه، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أن من تعمد عدم استقبال القبلة فصلاته باطلة بالإجماع.
وأما من كان عاجزاً ما يستطيع فإنه يصلي حيث يستطيع، كالمكتوف الرجلين أو الملقى في زنانة أو مريض لا يقوى على أن يستقبل القبلة.
ثانياً: من جهلها ولم يعرفها يجب عليه أن يطلبها، وأن يتحرى طلبها، فإذا اجتهد وصلى ولم يوفق فصلاته صحيحة؛ لأنه بذل ما في وسعه، سأل الناس إن وجدهم، أو ما وجد أحداً فنظر إلى السماء، فكر في الشرق والغرب وصلى، فهذا معذور وصلاته صحيحة؛ لأنه طلب وما وجد، هذا بالنسبة إلى صلاة الفرض.
وأما المسافر الراكب على الطائرة أو السيارة فيستقبل إن أمكن في أول مرة البيت، وإن دارت دابته أو سيارته فليصل حيث اتجهت دابته النوافل، فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته النوافل حيثما اتجهت، والله عز وجل يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] فهؤلاء لن تستطيعوا إقناعهم، إذاً: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] إن كنتم مؤمنين.
لا تفهم أن نعمة المال أو الولد أو السلطان تعدل نعمة الإسلام، والله! لا تعادلها نعمة؛ لأنها الطريق إلى دار السلام، وما عدا ذلك فأين يصل بالعبد؟ ساعات وتنتهي تلك النعم!
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150]، و(لعل) من الله كـ(عسى) تفيد الحقيقة، والهداية تكون إلى ما يحب الله ويرضى، الهداية إلى دار السلام، إلى الجنة.
وهكذا هدأ الله تلك الضجة، وأطفأ تلك النار، واستقرت الحال على أحسن حال بتوجيه الله عز وجل وتدبيره.
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] أي: رجاء أن تهتدوا، أو ليعدكم ويؤهلكم للهداية إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، وانتهت بهذا قضية القبلة واستقر أمرها إلى يوم الدين.
فكانت نعمة الله عز وجل بإرسال هذه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخذ القرآن ينزل وأخذت الشريعة تطبق، وما هي إلا خمس وعشرين سنة فقط والإسلام قد تجاوز نهر السند، وتجاوز الغرب، ووصل إلى أقصى الشرق والغرب في خمس وعشرين سنة!
ومن ثم افهموا أنه لولا الإسلام الذي أضاء الدنيا وأشرقت به الحياة ما كانت هذه الكهرباء موجودة، ولا عرف الناس الطائرة ولا الباخرة، قبل الإسلام كانوا كالبهائم، ما إن تفتحت قلوب البشر بنور الله حتى أصبحت البشرية تتطور إلى أن وصلت إلى هذا الحد!
ولعل هذه الكلمة ما هي بمسلمة عندكم؟ ولكن قالها علماء الغرب الصناعيون، قالوا: لولا الإسلام ما عرفنا هذا النور، ولا وصلنا إلى هذه الحضارة.
فنعمة الله بإرسال الرسول نعمة عظيمة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [البقرة:151]، لو أرسل الله الرسول من العجم للعرب لقالوا: لا نؤمن به ولا نتابعه، أو لقالوا: لساننا يختلف عن لسانه، أو سيتعبون ويعانون ويقاسون حتى يعلموا ويفهموا، لكن قطع الله ذلك بإرساله منهم ينطق بلسانهم، ومنهم حيث عرفوه من ولادته إلى نبوته أنه أكمل مخلوق وأعز مخلوق وأعظم إنسان على الإطلاق، فهي نعمة عظمى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] يقرؤها على أسماعكم وأنتم تسمعون، أي نعمة أعظم من هذه؟ بلغتكم ولسانكم، لا يطالبكم بأجر ولا بجزاء، أجره على الله عز وجل، فاذكروا هذه النعم واشكروها: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] إلى أين؟ إلى سبل السلام وطرق السعادة، وهل بدون العلم نصل إلى هذا الكمال؟
فهل المراد بالتزكية أن يقال: فلان ذو علم، فلان ذو شرف، فلان ذو كرامة؟! ليست بتزكية هذه، هذه التزكية هي تزكية النفس، بمعنى: تطهير النفس وتطييبها، فإذا طابت النفس وطهرت تجلى ذلك وانكشف في سلوك العبد، أيما إنسان زكت نفسه- أي: طابت وطهرت- إلا تجلى ذلك في منطقه، فلا ينطق بالمكروه، ولا يتلفظ بالسوء، وتجلى ذلك في مشيته، فلا يمشي خيلاء ولا كبرياء، وتجلى ذلك في يديه، فلا يتناول ما يؤذي ولا يضر، وتجلى ذلك في تفكيره، في كل حياته!
النفس البشرية إذا طابت وطهرت انعكس ذاك النور على السمع والبصر والنطق وعلى الجوارح، فإذا كانت النفس خبيثة مدساة مظلمة ظهر ذلك في سلوك هذا الإنسان، في منطقه، في سمعه، في كل حركاته وسكناته، وإن قلت: كيف؟ قلنا: النفس هي المحرك للجسم، وبدون نفس هل تكون فيه حياة؟ إذا خرجت الروح هل يبقى للجسم ما يتحرك به، أو يفكر أو يعقل أو يبصر؟! انتهى.
فهذه الروح التي هي من أمر الله إما أن تتدسى وتخبث وإما أن تطيب وتطهر، فإن طابت وطهرت حصل الكمال للإنسان بكامله، وإن خبثت هبط حتى يصبح أسوأ من الحيوان.
والواقع شاهد، وهذا ملموس، مرئي محسوس في البشر كلهم، فلهذا قال تعالى في نعمة ثالثة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] لم يتلو عليهم الآيات؟ ليذكرهم، ليعظهم، ليأمرهم، لينهاهم، ليبشرهم، لينذرهم، ليدفعهم إلى الكمال، ليسوقهم إلى السعادة، فالآيات تلاوتها هي الدافع، ويزكي نفوسكم ويطيبها ويطهرها.
فهيا نبكي إذاً؟ هل عرفتم؟ من زكى نفسه أفلح، ومن دساها خاب، والخيبة والفلاح بينهما تعالى حتى لا يبقى لك عذر أو كلمة تقولها.
قال تعالى في بيان هذا الفلاح: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز ما هو؟ ما الفلاح؟ إنه الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
والخسران والخيبة ما هما؟ بين تعالى الخسران بنفسه، فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، هل بقي وراء هذا شيء؟
فالله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وأسند الله تعالى الأمر إليك يا ابن آدم أو يا ابن الجان.
وأعيد فأقول: معشر السامعين! هل عرفتم هذا الحكم الصارم القاطع؟ من أصدره؟ الله. ما مفهومه؟ ما مضمونه؟ ما حقيقته؟
الجواب: من زكى نفسه منا فاز بدخول الجنة والنجاة من النار، ومن دساها منا وأخبثها دخل جهنم، وخسر الخسران المبين.
ونقول: الذين يحضرون هذا الدرس فازوا بالعلم والمعرفة، والذين ما جلسوا نقول لهم: هل عرفتم بم تزكون أنفسكم، أم أنه لا شأن لكم؟! أعوذ بالله .. أعوذ بالله!
أقول على علم: لو أن مستمعاً أو مستمعة لهذا الكلام الإلهي علم يقيناً أن فلاحه متوقف على زكاة نفسه معرفة كاملة، وسكتُّ أنا وأعرضت، فوالله! لما استطاع أن يبيت الليلة حتى يقرع الباب ويقول: والله! لتبينن لي كيف أزكي نفسي، بم أزكيها؟
ولك أن تتكلم في مجتمعات العالم الإسلامي في الشرق والغرب وتقول هذا، ولا يقف واحد ويقول: كيف نزكيها يا شيخ؟! بماذا نزكيها؟ فإذا قال الشيخ: تعبت قال: لا. لا بد أن تبين لي. فإنا لله وإنا إليه راجعون!
فهل تريدون أن تزكوا أنفسكم أم لا؟ إن مصيرنا هكذا، أقسم الجبار ألا فلاح ولا فوز إلا بتزكية النفس، فمن يزكيها؟ هل أبي أم أمي؟ من يزكيها؟ هل الطبيب أم فلان؟ أنت الذي تزكي نفسك.
ثم إذا عرفنا الأدوات وأحضرناها بين أيدينا يبقى سؤال آخر: كيف نستعملها؟ فحين يوضع الدواء بين يديك أما تسأل كيف تستعمله؟ لا بد من معرفة كيف تستعمله.
من هنا كان يقيناً أن طلب العلم فريضة، تسمعون هذا من علمائكم؛ إذ لا تستطيع أن تسعد إلا به، مستحيل أن تزكي نفسك وتطهرها بدون علم.
إذاً: العلم فريضة، فلم لا نطلب العلم؟ نقول: مشغولون بتجارتنا، فلاحتنا، مصانعنا، أزواجنا، أولادنا، والدنيا، فكيف نطلب العلم؟! ما علمنا آباؤنا، ما ربونا على العلم، والآن ونحن رجال وآباء وأمهات كيف نطلب العلم؟!
فهل هذا يعتبر عذراً؟ والله! ما هو بعذر، ولا يقبل عند الله؛ لأن طلب العلم لا يشترط له الرحلة، ولا القلم ولا القرطاس، ولا العكوف أمام العالم طول النهار، ولا طول العام، العلم فقط يؤخذ بالسؤال الصادق والجواب الحق، اسأل العالم في صدق: كيف أزكي نفسي؟ وستعلم.
ونعود لبيان الحقيقة الضائعة، فنقول: اسمعوا يا أيها المؤمنون ويا أيها المسلمون: واجبنا، طريق نجاتنا، سلم رقينا العلم بالله جل جلاله، وبمحابه ومكارهه، وبما عنده وما لديه، هذه المعرفة، هذا هو العلم المطلوب والفرض على كل مؤمن ومؤمنة، هذا العلم الحصول عليه -لو عرفنا- من أيسر الأمور وأسهلها، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فمن كان لا يعلم شيئاً من مزكيات النفس ومطهراتها فليتعلمه، من كان لا يعرف ما يدسي النفس أو يخبثها فليسأل فيعلم، أما ألا نسأل ولا نتعلم فكيف نطمع أن نلحق بالسماء، وننزل الملكوت الأعلى؟
ولعل السامعين يخطر ببالهم أشياء، لقد عرفنا واقعنا، هل يبلغكم ما يصبه المؤمنون على إخوانهم من ألوان العذاب؟ يدعون أنهم مؤمنون، ويرتكبون عظائم يكاد القلب يتمزق لها، كيف لعبد مؤمن يفعل هذا بمؤمن؟! هذا نتيجة عدم المعرفة، نتيجة الجهل المظلم، ما عرفوا الله، فهل لمجرد قوله: أنا مسلم وأصلي عرف الله؟
وأضرب لكم مثلاً جزئياً: هذه الصحون الهوائية التي على السطوح أهلها -والله- لقد علموا أنها محرمة، وصدرت فتيا مفتي الديار السعودية الكريمة بحرمتها، ونبكي ونصرخ هنا، وكل يوم تجدها على سطح، ما سر هذا؟ والله! ما عرفوا الله، والله ما عرفوا الله كسائر الناس، أين العلم؟ وأين المعرفة؟
ومع ذلك أبينا هذا وما نريده، فكيف نعمل؟ أي مانع من أن يجتمع أهل القرية في مسجدهم؟ قولوا لي يرحمكم الله: ما المانع ما بين المغرب والعشاء؟ هل يشتغلون بين المغرب والعشاء؟
قلنا لكم: إن اليهود والنصارى والمشركين في الدنيا إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والملاعب، ذهبوا يطلبون الاستراحة، ونحن إلى أين نذهب؟ نذهب إلى بيت الإله، بيت الرب: المسجد؛ نتلقى الكتاب والحكمة، تتلى علينا آيات الله، ونزكي أخلاقنا وآدابنا ونفوسنا.
فالله تعالى يقول: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يخلفه؟ يخلفه المؤمنون العالمون، ويكذب من يقول: ما وجدنا عالماً، فالله عز وجل يأتي به لتقوم الحجة على الناس، والذي يسمع نداء العلماء بأعلى صوت أن هذا حرام قد يقول: لماذا هو حرام؟ فيقال: لأنه يشيع الفاحشة والخبث، ويدمر النفس، ويحول الإنسان إلى خنزير أو كلب، ولذلك أصبحوا ينزو بعضهم على بعض أمام التلفاز!
فكيف نرقى؟ كيف نصل إلى الملكوت الأعلى؟ أنخادع أنفسنا؟ الجنة ما هي بمقهى من المقاهي، الجنة متوقفة على أن تكون نفسك شبيهة بنفس الملك، ما عليها دخن أبداً ولا ظلم ولا عفن، وإن طرأ عليها شيء فهناك أدوات المسح والتنظيف والتطهير، وهي التوبة الصادقة، ارتكب ذنباً فصاح: أستغفر الله، أتوب إلى الله، يبكي بين يدي الله ويتمرغ؛ فيمحى ذلك الأثر.
ماذا نقول والله يمتن علينا؟ وقد فاز ذلك السلف الصالح بهذه الآيات: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151]، فإذا لم نجتمع حوله فكيف سيتلو علينا آياته؟ لو كان الصحابة ما يجلسون مع رسول الله فكيف سيتلو عليهم الآيات؟ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151].
والله! ما اكتحلت عين الوجود بأصحاب أنجاب فضلاء كرام صادقين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الكمالات البشرية، فمن أين تخرجوا؟ ماذا تعلموا؟ والله! ما هو إلا ما أخبر الله تعالى: يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
وأنا أقول هنا في المجلس: والله! لأعلمنا بالله أتقانا له، أقسم بالله على يقين: أعرفنا بالله وجلاله وكماله أتقانا له، وأجهلنا أفجرنا وأكثرنا سوءاً وباطلاً، فهذه أمور ملموسة محسوسة، أفلا نعود إلى بيوت الله إذاً؟ يكفي قرون مضت ونحن من الجهل إلى الجهل حتى وصلنا إلى الحضيض، فلم لا نرجع؟ ما المانع؟ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
فالثوب هذا يزكو على الماء والصابون، لا شيء آخر، بماء وصابون فقط ينظف ويطيب أم لا؟ ونفسي تزكو على الإيمان والعمل الصالح، حقق إيمانك، ثبته حتى تصبح موقناً أنك مؤمن، ثم اعمل الصالحات التي وضعها الله لتزكية النفوس وتطهيرها.
يبقى السؤال: كيف تستعمل تلك الأدوات؟
الجواب: تحتاج إلى العلم، كيف تصلي صلاة تزكي نفسك، كيف تصوم صياماً ينتج لك الطاقة ويولد لك النور، كيف تتصدق بصدقة يعود نورها عليك؟ لا بد من العلم.
يقول الله تبارك وتعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات من سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ما معنى أولياء؟ هذه الولاية عبارة عن حب ونصرة، من لم يحب مؤمناً فوالله ما هو بأخيه، ومن لم ينصر مؤمناً فما هو بمؤمن، وانظر الآن هل المؤمنون يحب بعضهم بعضاً أم يأكل بعضهم بعضاً؟ هل المؤمنون ينصر بعضهم البعض أم يهزم بعضهم بعضاً؟ أين الإيمان؟
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] هذه صفة، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] هل المؤمنون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؟! والله! ليوجد الملايين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فهل هؤلاء يحسبون على المؤمنين؟ هل نكذب الله تعالى في أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71] ملايين المؤمنين ما يصلون، محسوبون في العالم الإسلامي أنهم مسلمون، ومنهم من يصلي ولا تنتج له صلاته حسنة واحدة، بل ينعكس عليه باطلها، صلاة لا يذكر فيها الله، ولا يشعر أنه بين يدي الله، ولا تدمع له عين، ولا يرتعد له جسم أبداً، دخل وخرج وما مس شيئاً؛ فماذا ينتج؟!
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].
ومن شاء أن يجادلني فليتفضل، فالله تعالى يقول وقوله الحق: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟! ما العلة؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فإذا كان يخرج من المسجد ليتكلم بالباطل عند باب المسجد -بل يصلي وهو متلبس بالحرام- فأين آثار الصلاة؟ يصلي ويخرج يلعب القمار، ويتكلم بالباطل، ويغتاب المؤمنين والمؤمنات، ويمزق أعراضهم، ويقول ويقول، فأين آثار الصلاة؟ لو أنتجت النور المطلوب واستنار قلبه وانعكس على لسانه وسمعه وبصره لما كان يرتكب ما حرم الله!
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ [التوبة:71] بحق، هذا وصف الله لهم: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] حتى في قلم الأظافر، أو الأكل باليمين، أو نزع النعل من الرجل اليمنى أولاً، طاعة الرسول في كل جوانب الحياة.
فهل عرفتم المؤمنين بحق؟ هؤلاء قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فهل نحن من هؤلاء؟ أو مرة هنا ومرة هناك؟
وإليكم آية أخرى: قال تعالى من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] أي: بحق وصدق، ما هو بالادعاء والنطق، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] خافت واضطربت، أقول: على الأقل إذا قيل لك: يا عبد الله! أما تخاف الله وأنت على هذه المعصية؟ في هذه الحال إذا ما خشعت ولا تألمت فما أنت بالمؤمن، امرؤ متلبس بالجريمة بمعصية الله والرسول، يقول له أخوه المؤمن: أما تخاف الله؟ أما تتقي الله؟ إن تحرك الإيمان وكان موجوداً وقال: أستغفر الله، أتوب إلى الله، فهذا فيه إيمان، وإذا قلت له: اتق الله فضحك، وأخرج لسانه واستهزأ بك، فهل هذا مؤمن؟ والله! ما هو بمؤمن، ولا يصح أن يقال فيه: مؤمن!
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، كان عداد الإيمان يشير إلى درجة مائة وستين، فيرتفع عند سماع القرآن إلى مائتين كما تعرفون في عقارب الطقس.
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] لا على المرأة، ولا على الوظيفة، ولا على الولد، ولا على السلطان وعلى فلان وفلان، ولا على مزرعة ولا مصنع، وَعَلَى رَبِّهِمْ [الأنفال:2] وحده يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] أي: يعتمدون.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4]، هذا كلام الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] وصدقاً، فكيف حالنا أيها المستمعون والمستمعات؟! نحن مؤمنون إن شاء الله.
ثم غابت الشمس وإذا نحن في بيت ربنا، نستمطر رحماته، ونتلقى العلم والمعرفة من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأزيدكم فبلغوا: والله! إن لم نعد إلى هذا المسلك النبوي ما ارتفع لنا شأن، ولا عز لنا شأن، ولا نزداد إلا هبوطاً وتمزقاً، هذه منة الله ونعمته، يقول تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151] أو يعلمكم الكرة واللعب؟ أو يعلمكم الرقص؟ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151] كل يوم نزداد علماً من هذا الكتاب.
ثم يقول تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] هذا أمر، فاذكروني يا عبادي أذكركم، ومن ذكره الله فهل أهانه؟ أذله؟ أفقره؟ أمرضه؟ كلا، بل أعزه ورفعه، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة:152] إنعامي وما أفضته عليكم وأنعمت به عليكم، اشكروني أزدكم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل عرفنا أننا مطالبون بتزكية أنفسنا أم لا؟ فمن الليلة نعمل إن شاء الله، فبماذا نزكيها؟ هل بالماء والصابون؟ بالإيمان والعمل الصالح، الإيمان الذي بينه الرحمن في كتابه والعمل الصالح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لنا، من الصلاة إلى سبحان الله والحمد لله والله أكبر، على شرط أن نؤدي العبادات على النحو الذي أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإذا أديناها أداء مخالفاً فلن تنتج تزكية، سنة الله، لا تنتج الحسنات أبداً، لا بد أن نؤديها كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن زدنا أو نقصنا بطلت ولم تفعل شيئاً.
وهذا يحتاج إلى العلم أم لا؟ نحتاج إلى العلم؟ أين نطلب العلم؟ في أوروبا؟ في أمريكا؟ في الصين؟ لا، نطلبه في قريتنا، في حينا أيها المؤمنون، نطلبه في بيت الله، ومصدره موجود، هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيعجزنا هذا؟ فمتى نسمع أن أهل القرية الفلانية أصبحوا لا يفارقون مسجدهم من المغرب إلى العشاء، وكل ليلة نساؤهم وراء الستارة وأطفالهم بينهم، وهم يتلقون الكتاب والحكمة؟ هل سمعتم أن هذا حصل في قرية؟
عندكم (كتاب المسجد وبيت المسلم) فيه ثلاثمائة وستون آية وحديثاً، اطبعوه بالآلاف، صوروه، ضعوه في كل بيت من بيوت العالم الإسلامي، اجتمعوا في بيت ربكم، ولكن كأننا لا نعي ولا نسمع، فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! وما يئسنا أبداً، ولكن نصرخ ونبكي: عودوا إلى بيوت الله ينته الخلاف والصراع والبغض والحسد والشره والطمع، وحب الدنيا والإسراف والشهوات، هذا هو العلاج، لا ينفع إلا هذا.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر