والأمر المهم الذي يهمنا ضمن هذه الخصائص هو عامل النضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية طيبة؛ لأننا إذا تصفحنا صفحات التاريخ سنجد أن كثيراً من الناس رزقوا الكثير من هذه المواهب، ولكن البيئة من حولهم إما أنها لم تكتشفهم، وإما أنها وجهتهم توجيهاً بعيداً عن مواهبهم، وإما أنها حطمتهم، فكانت هذه البيئة أباً أو أماً جاهلة، أو أنه نشأ في ظروف اجتماعية كالفقر، أو ظروف ضاغطة، أو مع صديق هابط الهمة، أو غير ذلك، ففي نفس الوقت نحن حينما نريد أن نسلط الضوء على هذا الموضوع لا يمكن أن نجد واحداً من أعلام التاريخ الإسلامي إلا ولابد أن يكون عالي الهمة، فأعلام التاريخ من العلماء والمصلحين لو لم يكونوا كبيري الهمة ما كانوا أبداً ليجدوا مكاناً في صفوف عظماء الإسلام.
فعلو الهمة هو قاسم مشترك بين كل من يترك بصمة في تاريخ هذه الأمة فيما يتعلق بتأثير البيئة المحيطة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فالإنسان لا يولد عالماً، وإنما الإنسان بجانب المواهب التي يهبه الله سبحانه وتعالى إياها لابد أن تربيه وتوجهه البيئة المحيطة به، والجماعة التي تتولى رعايته، وتتعهده؛ حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه، فلا شك أن الأمة التي تهتم بالنابغين تصنع بهم مستقبلها المشرق؛ لأنهم هم الذين يقدرون على إصلاح أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها أو توجههم بعيداً عن الدين وبعيداً عن الإسلام سوف تشقى، وذلك حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك، أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو فشلة أصحاب نفوس دنيئة وهمم خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس، فكل هذا حصاد إهمال أن يلي الأمر أو أن يوكل الأمر إلى غير أهله، فيوفر لأمثال هؤلاء، ثم يسومون الناس سوء العذاب، ومع كون المواهب استعدادات فطرية يولد هذا النابغة أو هذا المتفوق أو كبير الهمة، فهو أصلاً عنده استعدادات، لكن لابد مع الاستعداد من البيئة، وهناك نماذج كثيرة في الحقيقة في هذا، كطفل كان يدعى سيد جلال الأفغاني ، التحق بجامعة البترول في الظهران وعمره عشر سنوات في العام الجامعي 1980-1981م، حيث دخل الجامعة وعمره عشر سنوات، وكان قد حصل على الثانوية العامة وعمره ثماني سنوات، وتعلم الأردية والإنجليزية والروسية وعمره تسع سنوات، وهذا واضح جداً إن فيه مواهب ميزه الله سبحانه وتعالى بها.
فأقول: هذه مسئولية المدرسين والمربيين والموجهين، فعليهم أن يبحثوا عن هذه الشخصيات ويتولوها بالرعاية، فمن كان موسراً ينفق على مثل هذا ويساعده، وإن كان عالماً لا يملك إلا النصيحة ينصحه، وكل يبذل أي وسيلة من وسائل التشجيع؛ فإن العلماء كانوا ينقبون وراء هؤلاء النابغين، ووراء كبيري الهمة؛ حتى يوفر الوقت ويختصر الطريق لإصلاح الأمة، فمع كون هؤلاء أصحاب استعدادات فطرية، لكنها لا تؤدي إلى النبوغ إلا إذا توفرت لأصحابها الظروف البيئية المناسبة والتربة الصالحة اللازمة لتنميتها وصقلها.
تعد الأسرة وبخاصة الوالدان أو من يقوم مقامهما أهم عناصر البيئة تأثيراً في إظهار النبوغ، فأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق هي الأسرة، والوالدان بالذات.
فالبيئة إذا اهتمت بالكشف المبكر عن النبوغ، وإذا اكتشفت أن فيها ولداً نابغاً أو مبكراً فلا شك أنهم إذا كانوا على وعي سيهتمون جداً بزراعة أو بذر بذور الهمة العالية في قلوب هؤلاء الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وهذا هو السر الذي يفسر لنا سر اتصال سلسلة النابغين من كبيري الهمة من أبناء أسر معينة في التاريخ الإسلامي؛ حيث نجد عائلات معينة وجد أن فيها علماء كثيرين؛ لأن البيئة تكون بيئة على قدر كبير من العلم والوعي والحماس لرسالة الدين وخدمة الإسلام، فمن أجل ذلك كان أحدهم منذ صغر الولد وربما قبل أن يولد الولد كان يدعو الله أن يرزقه أو يخرج من صلبه من يجدد الدين أو من يكون إماماً من أئمة الهدى، فكان الاهتمام موجوداً حتى قبل أن يولد الطفل، بل إن الاهتمام بالأطفال يبدأ قبل الزواج بأن يتحرى المرأة الصالحة ذات الدين، وقد لاحظنا هذا في عدة عائلات، كآل تيمية وآل السيوطي، وآل الألوسي، وغير ذلك من العائلات التي ظهر منها كثير من العلماء؛ لأنها جمعت عدة استعدادات فطرية، ولا شك أن هذه يدخل فيها عنصر الوراثة، فيدخل عنصر الاستعدادات الفطرية الموروثة، كذلك تدخل القدرات الإبداعية مع البيئة المساعدة، والبيئة أهميتها أنها تكتشف مبكراً هذه المواهب، ثم إنها تنميها، ثم توجهها إلى الطريق الأمثل.
وللأسف الشديد -وهذا مما يبكى عليه بدم العين، وليس بالدموع- أن الآن تقريباً يكاد يكون معظم المسلمين حتى البيئات المتدينة إذا وجد فيهم الولد النابه فجل اهتمامهم وتركيزهم أن يخرج طبيباً أو يخرج وزيراً أو كذا أو كذا، من مناصب الدنيا أو أغراض الدنيا، ولا نكاد نسمع عن أحد إلا ما ندر أن يوجه ابنه من أجل التخصص في علوم الدين، والتوجه إلى مقام الاجتهاد في الدين؛ حتى يسد هذه الثغرة.
فالناس الآن كلهم انصرفت همتهم إلى طلب الدنيا وإلى المناصب البراقة، وإلى المال، وإلى غير ذلك من المظاهر، لكننا لا نكاد نجد أحداً يكون هدفه أن يكون ابنه إماماً من أئمة المسلمين، أو أن يوجهه إلى طلب العلم الشريف، إلا ما ندر. والله تعالى أعلم.
لكن السلف كانت البيئة عندهم أن العلماء يفتشون، فإذا وجدوا من أمثال هؤلاء يولونهم اهتماماً خاصاً، كما فعل الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله تعالى مع تلميذه النابغة العبقري الشيخ حافظ أحمد حكمي رحمه الله تعالى، الشيخ المشهور صاحب كتاب (معارج القبول) وغيره من الكتب النافعة التي ألفها مع صغر سنه؛ فإنه مات وعمره حوالي خمسة وثلاثين سنة، لكنه ترك من الآثار العلمية ما يبهر ويدهش من يطالعها، وقد كان والد الشيخ حكمي رحمه الله مصراً على أن يعينه ابنه في رعي الأغنام وهذه الأشياء، والشيخ اكتشفت موهبته مبكراً، فأطاع أباه، ورفض أن يذهب إلى الشيخ؛ حتى يطيع ويبر أباه، فمما سمعت يوم كنت هناك في منطقة عسير أن الشيخ نفسه كان هو الذي يذهب إليه ويتتبعه حيث ما حل بغنمه؛ ليلقنه العلم، وهو يرعى الغنم، وذلك من شدة عظم الأمل الذي توقعه من هذا الطفل النابغة، وبالفعل لما توفي والده رحمه الله تعالى تجرد لطلب العلم وتفرغ للشيخ، فكان منه هذا الإمام الفذ النابغ، مع حداثة سنه رحمه الله تعالى، ومع أنه توفي في ريعان شبابه رحمه الله تعالى.
ورب أم ذكية محبة للعلم أو أب عالم مشهور بعلمه كان سبباً في تيسير السبيل إلى العلم ومجالسة العلماء، ولا شك أنه هذا يكون له أثر بليغ في تنمية نبوغ أبنائهم.
فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان عمر يعدل به ألفاً من الرجال، لما أرسله لنجدة عمرو بن العاص قال: (أرسلت إليك أربعة آلاف جندي، ومعهم أربعة كل منهم بألف ... وذكر منهم: الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه).
وإذا تأملنا البيئة التي نشأ فيها الزبير بن العوام نجد أن أمه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أخت أسد الله حمزة بن عبد المطلب ، وهؤلاء الكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تربى على يد أمه فاطمة بنت أسد وخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنهما.
وهذا عبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب تعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها.
وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أريب عربي، وألمعي، ورث عن أمه هند بنت عتبة همة تجاوزت الثريا، فإن أمة هنداً لما ولد معاوية وكان وليداً بين يديها قال لها بعض الحاضرين: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فأجابت غاضبة: ثكلته إذاً؛ إن لم يسد إلا قومه. يعني: أن الطفل كان وليداً في المهد حديث الولادة، وبدت عليه علامات النجابة، فقال هذا الشخص: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت: ثكلته إذاً. يعني: يموت أحسن إذا كان لا يسود إلا قومه، وإذا كان كذلك فأنا لا أريده ولداً لي؛ فتخيل أنت لو كانت أم تعيش بهذا الأمل وتعيش بهذه الطريقة من التفكير كيف سيكون سلوكها مع ولدها؟ لا شك أنها سترضعه مع اللبن هذه القيم؛ حتى تكبر همته، وتصعد به إلى أرقى ما يمكن الوصول إليه من الهمم، وهذا لا شك فيه.
وبالفعل إذا نظرنا إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما نجد أن معاوية كان من أسود العرب، ومن أعظم الناس قدرة على سياسة الأمم، وإمارته في الشام خير شاهد على ذلك.
وهذه الأم نفسها لما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه، قالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد، والله! لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء.
وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع بالفخر، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه، وكان يفاخر الناس إذا احتاج أن يفتخر فيصدع أسماع خصومه بقوله: (أنا ابن هند )؛ فخراً بأمه رضي الله تعالى عنها.
وهذا سفيان الثوري الإمام الجليل والعلم الشامخ كان ثمرة أم صالحة؛ غذته بلبانها، وحاطته بكنفها، حتى صار إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث، وسفيان الثوري هو الذي قالت له أمه وهو طفل صغير: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. مع أنه كان يتيماً، فكانت تشتغل بالغزل، وتنفق عليه، حتى يتفرغ لطلب العلم.
وهذا الإمام الثقة الثبت أبو عمرو الأوزاعي نشأ يتيماً في حجر أمه، فتنقلت أمه به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجزت الملوك وأبناؤها عنها، حتى استفتي في الفقه وله ثلاث عشرة سنة.
كذلك فعلت أم الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن الشهير بـربيعة الرأي شيخ الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكان ربيعة ثمرة تربية أم فاضلة؛ حيث أنفقت عليه أمه ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها وهي حامل به؛ لأن أمه لما كانت حاملاً به ترك أبوه معها ثلاثين ألف دينار، وخرج للغزو، فغاب في الغزو مدة كبيرة، فلما رجع كان ابنه قد أنفقت أمه عليه كل هذا المال في سبيل أن يطلب العلم الشريف، فلما رجع أبوه من الغزو بعد سنوات طويلة كان ابنه قد استكمل الرجولة، واستكمل أيضاً المشيخة، فأتى إلى بيته، فدفع الباب ودخل، فواجهه ابنه وكان قد صار شيخاً عالماً جليلاً، وشاباً يافعاً، فقال له: أتدخل على حرمي يا عدو الله! لأنه لما رآه ظنه رجلاً أجنبياً دخل الباب واقتحمه، فاشتبك الابن مع أبيه دون أن يعرفا بعضهما بعضاً، إلى أن اجتمع الناس وازدحموا عليهما، ثم جاء الإمام مالك رحمه الله تعالى وقال له: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار. أي: إذا كنت محتاجاً لدار فابحث عن دار أخرى، فلك سعة في غير هذه الدار، فقال: هذه داري. فسمعت أم ربيعة من وراء الحجاب هذا الصوت فقالت: إن هذا هو فروخ زوجي أبو عبد الرحمن ، فتعانق الولد مع أبيه، ثم بعد ذلك لما أتى وقت الصلاة خرج أبوه إلى المسجد، فوجد حلقة كبيرة جداً في المسجد قد تصدرها ابنه الذي رآه آنفاً، فتعجب جداً! واستحيا منه ابنه، فأطرق برأسه، وأظهر كأنه لم يره، فلما رجع إلى البيت قال لها: لقد رفع الله ابني. فلما سألها عن الدنانير قالت: أيهما أفضل عندك: الثلاثين ألف دينار أم ما صار إليه ولدك من الإمامة والمشيخة في الدين؟ فقال: بل ما صار إليه. فقالت: فقد أنفقتها كلها عليه.
فالشاهد من هذه القصة: أن الذي تولى تربيته هي أمه، حيث انفردت بتربيته، ووجهته إلى طلب العلم.
وكذلك الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى كانت أم تأخذه وهو صبي صغير، وتلبسه العمامة الصغيرة على رأسه، وتلبسه ملابس طلبة العلم، وتحرضه على الذهاب إلى العلماء، وتقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
ومات والد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرفت عليه بحكمتها، وتنقلت به من غزة إلى مكة مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك، ونشأ الإمام الشافعي يتيماً فقيراً، ولم تستطع أمه دفع أجر معلمه، إلا أن المعلم قبل أن يعلمه بدون أجر، فتعهده بالرعاية، وجعل له منزلة خاصة بين التلاميذ؛ لما لمسه فيه من نباهة وسرعة في الحفظ.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي أن يعلمني بدون أجر، وأن أخلفه في الدرس إذا غاب.
وهذا إمام المحدثين على الإطلاق الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى مات أبوه إسماعيل وهو صغير، فنشأ يتيماً في حجر أمه، وكانت امرأة عابدة صاحبة كرامات.
والحقيقة أننا لو أردنا التفصيل لوجدنا أن النماذج كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، هذه النماذج بلا شك تبرز لنا دور البيئة في صناعة هؤلاء الأماجد.
وهناك خطأ آخر في الحقيقة نقع فيه كثيراً، وهو أننا دائماً نسلط الضوء على الشخصية التي هي عبارة عن ثمرة، ونغفل النظر إلى البيئة التي أثمرت هذه الثمرة، أو الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة، فهل يمكن أن نغفل أثر البيئة ونركز فقط على ثمرة هذه البيئة في رجل مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى؟ ولماذا دائماً نركز على عمر بن عبد العزيز دون أن نلفت النظر إلى البيئة؟ فـعمر بن عبد العزيز أو غيره أو أي واحد من المجددين أو من أئمة الدين يرزق استعدادات الفطرية ومواهب وقدرات إبداعية، لكن لابد من وجود البيئة، فالبيئة إما أنها تحطم وتعوق، وإما أنها تنهض بهذه الثمرة وتسقيها، فهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يمارس دوره في تجديد الدين ويتهيأ له هذا الأمر لولا البيئة الصالحة التي وجهته إلى المعالي، وبذرت بذور الهمة العالية في قلبه منذ طفولته؟ فنحن كثيراً ما نتكلم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على أنه هو مجدد القرن الأول، ولا شك أننا نسلم بأن عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الأول، لكننا نقول: إن عمر بن عبد العزيز ما كان له أن يقوم بهذه الحركة التجديدية الواسعة الجوانب لولا وجود عدد كبير من أجلاء التابعين وساداتهم الذين كانوا بالفعل ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة، وعلى رأسهم رجاء بن حيوة الذي كان له فضل على الأمة الإسلامية في موقف غير مجرى التاريخ كله؛ لأن رجاء بن حيوة هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك وعند وفاته باستخلاف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، وكان لهذه الشورى ولهذه النصيحة الأثر العظيم الذي نشأ عنه تمكين عمر بن عبد العزيز من القيام بدوره التجديدي الفذ.
ونحن نتأمل بعض المواقف من طفولة عمر بن عبد العزيز نجد أنه لم ينشأ إلا ببيئة، وأننا مسئولون عن توفير هذه البيئة لأبنائنا، فعن سعيد بن عفير قال: حدثنا يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان -وهو والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة؛ يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان صالح بن كيسان يلزمه الصلوات، ويراقبه في الصلوات، ويحثه على حضور الصلوات، ويشرف عليه في ذلك، فأبطأ يوماً عن الصلاة. أي: في يوم من الأيام تأخر، وأتى متأخراً عن الصلاة، فقال له صالح بن كيسان رحمه الله: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي - أي: الخادمة المتخصصة في تصفيف شعره- تسكن شعري. وبعض الناس أحياناً يتكلمون أن عمر بن عبد العزيز نشأ في بيئة مترفة وكذا وكذا، فنقول: نعم، هي مترفة، لكنها بيئة دينة، وعمر بن عبد العزيز طلب العلم، وعمر بن عبد العزيز لم يصل الإمامة بانقلاب سياسي أو بمجرد القفز إلى مقعد السلطة، وإنما عمر بن عبد العزيز إمام من أئمة الاجتهاد، وصل إلى أعلى مراتب العلم، فمع أنه كان يعيش هذه المعيشة المترفة لكن أمر الدين ما كان عنده فيه مساومة، وقوله: كانت مرجلتي تسكن شعري، قال هذا وهو صبي صغير، فقال له صالح بن كيسان : بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ أي: أنت مهتم بتسكين شعرك إلى حد أنه أخرك عن حضور الصلاة! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه، فما كلمه حتى حلق شعره. أي: أن أباه أرسل رسولاً وقال له: لا تكلمه كلمة واحدة حتى تحلق شعره كله؛ عقوبة له على أنه آثر تسكين شعره على حضور الصلاة في أولها.
فـعبد العزيز ألقى ولده إلى المدينة لا لكي يتعلم فقط، ولكن كي يتأدب، ثم كلف واحداً من العلماء الأتقياء أن يشرف عليه وعلى تربيته، ويتعهده، ويراقب حضوره في الصلوات، فإذا تخلف مرة ضبطه، وقال: ما حبسك؟ .. إلخ، ويرسل إلى أبيه شكوى أنه تأخر عن صلاة بسبب هذا الأمر التافه، فيرسل أبوه هذا الرسول، فما كلمه حتى حلق شعره.
وعن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت -قال هذا وهو طفل صغير- وكان يومئذٍ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
ونقل الزبير بن بكار عن العتبي قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه.
يعني: أن أول العلامات التي أظهرت أن هذا الشخص غير عادي وأن عمر بن عبد العزيز هذا شخص ينتظره مستقبل عظيم أنه لما ولي أبوه كان حديث السن يشك هل بلغ أم لا؟ فأراد إخراجه. فقال: يا أبت! أو غير ذلك؟ لعله أن يكون أنفع لي ولك؛ ترحلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم، فوجهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه.
ونقفز قفزة أخرى لنتكلم على خصيصة أخرى من الخصائص التي أشرنا إليها في مقدمة الكلام، والتي يتميز بها النابغون أو الفائقون أو كبار الهمة، وقد أشرنا إليها ضمناً، وهي: قضية النضوج الاجتماعي المبكر بجانب النشأة في بيئة اجتماعية طيبة تساعده على الازدهار، كذلك النضوج الاجتماعي المبكر، يعني: كما أن الطفل ينمو فإنه ينمو في عدة اتجاهات، وكما أن جسمه ينمو باستمرار له ملامح معينة وعلامات في نموه في كل مراحله العمرية فكذلك نفسه تنمو، وروحه تنمو، وشخصيته تنمو؛ وهناك نوع من النمو الاجتماعي في تعامله مع المجتمع من حوله، والنضج الاجتماعي المبكر الذي يؤهله إلى أن يتحمل المسؤوليات منذ حداثة سنه، ونحن إذا تأملنا أعمار كثير من العلماء الذين رحلوا في طلب العلم في آفاق الأرض نجد أن بعضهم كان عمره ثلاث عشرة سنة، أو عشر سنوات، أو ما بين العشرة والعشرين. فكان الشاب الذي عمره ثلاث عشرة سنة -كالإمام ابن جرير الطبري وغيره من الأئمة- يرحل إلى أقطار الأرض في طلب العلم، وما كانت وسائل العلم المرفهة موجودة في ذاك الزمان، فكون أبيه أو أمه أو وليه أو شيخه يتركه يرحل في الأرض لطلب العلم، هذا فيه إشارة عظيمة جداً إلى النضوج الاجتماعي الذي كان يبلغه هؤلاء العلماء، بمعنى: أنه يستطيع أن يواجه الناس وحده، ويسافر وحده، ويتحمل مسئولية نفسه، ويغترب، ويصارع الفقر، ويصارع المرض، ويصارع الوحدة، ويستطيع أن يتعامل مع الناس، وكل هذا من أمارات النضوج الاجتماعي المبكر، ولكن بعض الآباء أحياناً يرتكب خطيئة الحماية الزائدة للولد، حتى إن كان قد وصل إلى الثانوية يريده لا يقطع الشارع إلا إذا أمسك بيده، فيطيل فترة الطفولة في عمر هذا الشاب، وكثير من الآباء من خوفه على ابنه والحماية الزائدة له لا يحمله أي مسئولية، ولا نريد أن نخرج عن موضوعنا؛ لأن هذا موضوع نحاول -إن شاء الله- أن نتكلم فيه فيما بعد، ونذكر أخطاءنا التربوية في معاملة هؤلاء الأبناء.
وعلى أي الأحوال نذكر الآن نموذجاً من القرن الثاني عشر الهجري؛ حيث يحدثنا والد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهو صاحب أعظم حركة تجديدية منذ القرن الثاني عشر إلى الآن؛ فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لا ينكر دوره التجديدي العظيم إلا جاحد، فاكتشف والده فيه النضج الاجتماعي المبكر، فذهب أبوه ينمي ثقته بنفسه، ويصقل مواهبه، ويعده لتحمل المسئوليات.
كتب أبوه يوماً إلى صاحب له فقال له وهو يتكلم عن ولده محمد بن عبد الوهاب : تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال سن اثنتي عشرة سنة على التمام، ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والإتمام. أي: أنه بلغ في هذه السن، ورأى أن عنده الأهلية في أن يصلي الجماعة، ويصلي إماماً بالناس. قال: فقدمته إماماً، لمعرفته بالأحكام؛ لأنه كان ربي على الفقه، وربي رحمه الله تعالى على العلم، فقدمه أبوه ليكون إماماً؛ تنمية للثقة بالنفس، وتنمية لهذه الشخصية والنضوج الاجتماعي المبكر.
يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة. وطبعاً في ذاك الزمان كثيراً ما نجد أن الشاب يتزوج في مثل هذا السن، وقد يكون وصل إلى مرحلة البلوغ، لكن النضج الجسدي لا يتوافق مع النضج الاجتماعي، وهذه لا تكون قاعدة: أن واحداً يتزوج وعنده اثنتا عشرة سنة مثلاً؛ لأننا نتكلم عن حالة استثنائية، ونشير إلى خاصية النضج الاجتماعي المبكر؛ حيث يكون صاحبه قادراً على تحمل المسئولية، وإلا فتخيلوا لو أن شاباً من شباب هذا الزمان عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة أو حتى سبع عشرة يتحمل مسئولية فكم من المشاكل ستنجم نتيجة التخلف في النضوج الاجتماعي، فنحن نتكلم الآن على حالة شاذة تميزت بظهور النضج الاجتماعي مبكراً.
يقول أبوه: وزوجته بعد البلوغ مباشرة، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف إلى ذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام.
هذا كلام والده عنه، وهذا هو النضوج الاجتماعي المبكر، وهذه هي التربية الواعية؛ لأنها تنمي الملكات، وتغرس الثقة في النفس، لا كالآباء الذين يحطمون في أولادهم كل موهبة، كأن يقول له: أنت غير فالح، وأنت غير نافع، وأنت.. وأنت، ودائماً يحقر في ذاته دون أن يدري.
فهذه التربية هي التي تنمي الملكات، وتغرس الثقة بالنفس، وتحررها من التواكل والتبعية والطفولية لغير هذا النضج المبكر، وبهذا نستطيع أن نفسر ظاهرة ارتحال العلماء في سن الصبا والشباب المبكر في أقطار الدنيا؛ طلباً للعلم، وقد فارقوا الأهل والأوطان، وكابدوا المخاطر والمشاق دون كلل ولا ملل ولا تبرم.
وعلى الجهة الأخرى إن كنا نقول: إن البيئة قد تكون سبباً في النضج فإن البيئة المعدمة -كأن يكون الأب فقيراً جداً أو غير ذلك من الأسباب- قد تكون سبباً في الإعاقة عن نمو هذا الملكات.
وقد نشأ المتنبي شاعر العرب الفحل في أسرة فقيرة غير متعلمة، والمتنبي شخصية عليها بعض الملاحظات، لكن أيضاً بلا شك أن المتنبي من أعظم الناس في علو همتهم، وهذا بين لمن يعرف ترجمته، فنشأ في بيئة غير معينة له على ذلك، لكن الله قيض له فرصة التعليم المجاني في الكتّاب الخاص بأبناء الأشراف في الكوفة، وشجعه أصحاب المكتبات، فكان أصحاب المكتبات يشجعونه على أن يقرأ الكتب بدون مقابل، ومما يروى أن وراقاً كان يلازمه المتنبي ؛ حكى هذا الوراق عن المتنبي فقال: كان اليوم عندي، وقد أحضر رجل كتاباً في نحو ثلاثين ورقة، لبيعه، فأخذه أبو الطيب المتنبي ونظر فيه طويلاً، فقلت له: ما هذا؟ أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك. أي: لأنك ماسك الكتاب، وأنت تتأمل في الكتاب، وقد قطعتني عن بيعه؛ فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله، فقال المتنبي : إن كنت حفظته في هذه المدة؟ قال: أهب لك الكتاب. قال: اسمعه مني. فأخذت الدفتر من يده، وأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره!
ولذلك كان أصحاب المكتبات يسمحون له بالقراءة دون أجرة.
وكان سبب أخذ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى العلم ما حكاه مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان الشافعي رحمه الله في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم رشد في الفقه بعد. والإمام الشافعي حجة في اللغة بلا شك، والإمام الشافعي يقول في بيت من الأبيات:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
فالإمام الشافعي لو ترك نفسه على سجيته في الشعر لقال الناس: إنه أشعر من لبيد الشاعر المعروف.
وكذلك العلامة الجليل الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى كان على مقدرة عجيبة جداً في الشعر، وترك أيضاً طلب الشعر؛ لأنه رأى أن التوغل في الشعر ينافي المروءة، ولذلك إذا قرأت شعر الشنقيطي كأنك تقرأ شيئاً من المعلقات، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.
المهم أن الإمام الشافعي بدأ في طلب الشعر وأيام العرب والأدب، وأخذ في الفقه بعد ذلك، كان سبب أخذه في العلم: أنه كان يوماً يسير على دابة له وخلفه كاتب لـأبي عبد الله الزبيري فتمثل الشافعي ببيت شعر، فقرعه كاتب أبي عبد الله الزبيري من خلفه بالسوط، ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟ فهزت هذه الكلمة الإمام الشافعي ، فقصد مجلس مسلم بن خالد الزنجي ، وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وعن الشافعي رحمه الله تعالى قال: كنت أنظر في الشعر، فارتقيت عقبة بمنى فإذا صوت من خلفي: عليك بالفقه.
فانظر كيف كانت البيئة من حوله؟ كان يجد كلمة التشجيع والنصيحة المخلصة التي توجهه إلى هذا المسار الصحيح الذي يفيد به الأمة، فهل كانت الأمة ستستفيد من الشافعي إذا خرج شاعراً فحلاً كما استفادت منه بعد أن صار إماماً جليلاً من أئمة الإسلام؟ فانظر كيف كانت النصيحة تأتي كل جهة، وكيف كان يأتي التوجيه.
يقول الحميدي : قال الشافعي : خرجت أطلب النحو والأدب، فلقني مسلم بن خالد الزنجي ، فقال: يا فتى! من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، قال: أين منزلك؟ قلت: شعب. قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف. قال: بخ بخ! -اسم فعل مضارع بمعنى: أستحسن -لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك في هذا الفقه فكان أحسن بك؟
ثم رحل الشافعي من مكة إلى المدينة قاصداً الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وفي رحلته مصنف مشهور مسموع، فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظاً، فأعجبته قراءته ولازمه، وقال له مالك : اتق الله! واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن.
وهذه نصيحة قريبة من نصيحة وكيع بن الجراح لما شكى إليه سوء حفظه، حيث قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
فانظر أيضاً كيف أنه في كل مرحلة توجد النصيحة والتوجيه، ممن حوله، فالبيئة كلها بيئة واعية بأهمية الالتقاط والتفتيش والتنقيب عن هؤلاء النابغين.
وفي رواية أخرى: أن الإمام مالك قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفه بالمعاصي.
وكان للشافعي رحمه الله تعالى حين أتى مالكاً ثلاث عشرة سنة، وقد أمره بالإفتاء شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي إمام أهل مكة ومفتيها، ولما بلغ الشافعي خمسة عشرة سنة قال له شيخه الإمام الجليل مسلم بن خالد الزنجي : أفت: يا أبا عبد الله ! فقد والله! آن لك أن تفتي.
وأقاويل أهل عصره فيه كثيرة مشهورة، وأخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة، مع توافر العلماء في ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة على عظم جلالته وعلو مرتبته.
وسيرة الشافعي معروفة في الكتب التي ألفت في مناقبه رحمه الله تعالى.
ونقفز أيضاً إلى العصر الحديث، ونذكر هذا المثال أيضاً عن العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
حكا ابنه أن أمارات النبوغ وعلو الهمة لما لاحت على والده في طفولته قال له شيخه: يا بني! إن العلماء يقولون: إن من وجد من نفسه استعداداً وموهبة تؤهله للإمامة تعين عليه طلبها، وإن طلب الإمامة في الدين متعين عليك، فلا تضيع نفسك.
فانظر كيف نصحه بهذه النصيحة، وحمله المسئولية، وبين له أن هذا متعين عليك؛ لأنك شخص موهوب، ويرجى أن يأتي منك خير كثير للأمة، فيتعين عليك طلب الإمامة والاجتهاد في طلب العلم.
ومن عجيب النماذج الناجحة في زراعة الهمة العالية في الأطفال ما يقال من أن الشيخ مصطفى آغا شمس الدين كان أحد مشايخ السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله، وقد كان شيخه هذا يأخذ بيده، ويمر به على الساحل، ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعد شاهقة حصينة. وأسوار القسطنطينية أسوار عظيمة، بل الإنسان لما يتخيلها لا يكاد يتصورها؛ لأن أول طبقة من طبقات السور ارتفاعها أربعون متراً.
المهم كان يقول له: يا بني! أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟ إنها مدينة القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها! ولنعم الجيش ذلك الجيش!)، وإن كان العلماء يضعفون هذا الحديث، لكن الشيخ حينما كان يقول له ذلك يبدو أنه كان يعتقد صحته.
الشاهد: أنه ما زال الشيخ يكرر هذه الإشارة على مسمع الأمير الصبي إلى أن نمت شجرة الهمة في نفسه العبقرية، وترعرعت في قلبه.
فعقد العزم على أن يجتهد؛ ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد كان، فقد كان والده السلطان مراد الثاني يستصحب ابنه منذ الصغر بين حين وآخر إلى بعض المعارك؛ ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة.
والسلطان محمد الفاتح العثماني كان له بعد الله سبحانه وتعالى الفضل في إسلام كثير من شعوب أوروبا، وخاصة أهل البوسنة والهرسك؛ لأن في ذلك الوقت الذي فتح فيه البوسنة والهرسك كان قد بدأ يظهر في بلاد البوشناق أو البوسنة مذهب شباب متمرد على النصرانية، مذهب يحن إلى أصول النصرانية، وأحدثوا مذهباً نصرانياً جديداً، فيه التبرؤ من كثير من مظاهر الوثنية والشرك والتثليث وعبادة المسيح عليه السلام، فكانوا يُحاربون من الكاثوليك ومن الأرثذوكس، والأرثذوكس هم الصرب لعنهم الله، وكذلك الكروات الكاثوليك لعنهم الله، فكان الصراع على أشده في هذا الوقت بين هذه الطوائف، فلما دخل محمد الفاتح العثماني رحمه الله تعالى وأشرق عليهم نور الإسلام انقادوا للإسلام، ودخلت الأمة البوسنية تقريباً بكاملها التي هي من هؤلاء الطائفة في دين الإسلام.
الشاهد: أن شيخه لما ربى وزرع الهمة العالية في نفسه منذ طفولته تحقق الوعد المرجو، ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ؛ ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة، قال رحمه الله -انظر إلى علو الهمة-: حسناً! عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر! إنه التصميم على إحدى الحسنيين، وأتذكر بأن الملك عبد العزيز لما أرسل ابنه الملك فيصلاً لفتح عسير قال له: إما أن تعود منتصراً، وإما لا تعد. وهذا نفس المنهج.
وحاصر السلطان محمد الفاتح -وأنعم به من فاتح- القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، سقطت على يد بطل شاب له من العمر يومئذٍ ثلاث وعشرون سنة. يعني: كان عمر محمد الفاتح يوم فتح القسطنطينية ثلاث وعشرون سنة.
وننتقل الآن إلى تربية أبنائنا وتربية الشباب الآن، فتخيل واحداً في سن ثلاث وعشرين سنة هل ممكن أن يقود الجيوش، ويفتح البلاد والأمصار، ويدير أمة بكاملها؟! وطبعاً هو ولي السلطنة قبل ذلك بسنوات، وفي سن ثلاث وعشرين سنة فتح القسطنطينية، فرحمه الله تعالى.
وبقي مسألة أيضاً أخرى وثيقة الصلة بموضوعنا، وإن كنا نتكلم على مرحلة الطفولة والتنقيب عن النابغين، ورعايتهم، والاهتمام المبكر بهم، وزراعة الهمة العالية في قلوبهم، ولكن أيضاً لا ننسى حظ الشباب، ولذا نذكر أنفسنا جميعاً بأهمية اغتنام فرصة الشباب؛ لأن الشباب ضيف عابر، وصيف زائر، سرعان ما سيولي، فلا ينخدع الإنسان بشبابه، لكن ينبغي أن يغتنمه؛ لأن الكثير من الناس الآن يسوغون لأنفسهم الانهماك في الطرب وفي اللعب وفي اللهو وفي الشهوات وغير ذلك من قتل الفراغ كما يقولون فيما لا طائل من ورائه، بل فيما هو ضار محض؛ بحجة أن الواحد منهم ما زال شاباً، وكأن الإنسان لا يتمتع بشبابه إلا إذا عاث في الأرض فساداً! وحين تتحجب الواحدة مثلاً وهي شابة يقال لها: أنت ما زلتي شابة، ولما تكبرين تذهبين لتحجي أو تعتمري، وبعد هذا تتحجبين! مع أن الشرع نظر بعكس هذا، كما بينا من قبل، فالشابة هي التي تتحجب، والعجوز القاعد التي لا فتنة من ورائها لا بأس أن تكشف الوجه والكفين، كما في قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، فإذا كان الإنسان لا يقبل على الله وهو شاب، فمتى سيقبل على الله سبحانه وتعالى؟ لأن العمل الحقيقي هو في الشباب؛ لأن فترة الشباب فترة متميزة في حياة كل منا؛ بسبب بسيط جداً، وهو: أن الشباب فترة قوة بين ضعفين، والذي يقدر على الإنجاز هو الشاب، وليس الطفل أو العجوز، فلا شك أن فترة العمل والإنجاز وخدمة الإسلام هي فترة الشباب، فالشباب هو زمن العمل، وهو فترة قوة بين ضعف الشيوخه وضعف الطفولة، فمن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم) ، وتأملوا جيداً كلمة: (اغتنم) أي: أن الفرصة سانحة، وسرعان ما تفر منك، قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
وتأملوا أيضاً هذه الكلمة جيداً للإمام أحمد ، يقول الإمام أحمد : ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط. والكم هو: الذي نحن نسميه جيباً، ويبدو إنه يمثل الشباب بوضع شيء في جيب مثقوب، فحين وضعه في كمه سقط فوراً من أسفل الكم، فكذلك الشباب يمكث معك مثل هذه الفترة الوجيزة.
فالشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الرحيل؛ فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعد حسرات، كما يقول الشاعر:
أماني كانت في الشباب لأهلها عذاب فصارت في المشيب عذابا
أي: أنها كانت عذبة في أيام الشباب، فإذا أتى المشيب فإنه يذوق مرارتها.
ويقول آخر:
ألم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلا
ضيف زارنا أقام إلى أن سود الصحف بالذنوب وولى
يعني: أنه يتحسر على الشباب ويقول: حينما غادرني شبابي وبدأ الشيب يزحف إلى رأسي ولحيتي مقت هذا الشباب؛ فلما ودعني الشباب لم أسلك معه المسلك الذي أسلكه مع الضيف الكريم أو الضيف الحبيب حينما يغادرني، أما الشباب فإنه لما غادرني لم أقل له: في كنف الله، ولا في رعاية الله، ولا في حفظ الله، كما تقول للضيف الحبيب إليك؛ لم أقل له ذلك نقمة عليه.
فمن ثمّ يسأل الله عز وجل كل عبد من عباده عن نعمة الشباب؛ فإن هناك أربعة أسئلة إجبارية يوم القيامة، ولا يمكن أن تزول قدما عبد من أمام ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة حتى يمتحن هذا الامتحان الصعب العسير، ولابد أن يسأل هذه الأسئلة الأربعة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه ..).
مع أن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر لأن له هذه الخصيصة التي ذكرناها، قال عليه الصلاة والسلام: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم).
وعد صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الشاب العابد، فقال عليه الصلاة والسلام: (وشاب نشأ في عبادة الله).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما آتى الله عز وجل علماً إلا شاباً، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60])، (فتى) يعني: شاباً.
وقال تعالى في أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13] .
وقال تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] .
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإنما العمل في الشباب.
وقال الأحنف بن قيس: السؤدد مع السواد.
وكلمة السواد هنا يحتمل بها عدة معانٍ، لكن المعنى المناسب لموضوعنا أنها تحمل على سواد الشعر، والسؤدد: السيادة، يعني: مع الشباب قبل أن يبيض الشعر، وكأنه يقول: من لم يسد مع الحداثة لم يسد مع الشيخوخة.
وطبعاً هذه قاعدة، ولها استثناءات، لكن القاعدة: أن من لم يسد وهو شاب يفوته القطار، ولا تكون هناك فرصة في الشيخوخة؛ لأن الإنسان تتغير نفسيته، وتتغير قدراته البدنية، حتى النواحي العاطفية والوجدانية تتغير فيه، وتبدأ تميل كما تميل الشمس للغروب، فحين يتجاوز الإنسان مرحلة الشباب بقي إلا أن ينتظر الموت، كما قال بعض السلف لصاحب له: كنا نطفة في أرحام أمهاتنا، فسقط منا من سقط، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك أطفالاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك صبية، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شباباً، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك كهولاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شيوخاً، فأي شيء بقى بعد ذلك حتى ننتظره؟! أو كما قال رحمه الله.
أي: إذا كان الواحد وصل إلى هذه السن وما تاب وما أناب إلى الله سبحانه وتعالى فماذا ينتظر؟! قطعاً سيأتيه الموت، كما أتى من عداه.
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.
هذا أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة.
وهذا عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما صار إلى حنين وعمره نيف وعشرون سنة.
وهناك نماذج أخرى لشباب الصحابة الذين أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام ونشر نوره في العالمين.
فالشباب كما ذكرنا هو القوة الروحية والقوة البدنية، وهي فترة القدرة على إنجاز جسام المهام، فينبغي للإنسان أن يغتنمها، كما نصحنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه القدرات تضمحل بعد ذلك بمرور الوقت.
والصحابة رضي الله عنهم حينما تطالع سيرتهم في الجهاد تشعر بمدى القوة التي كان عليها الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وبعض الناس يتصورون أن الصحابة هؤلاء كانوا ناساً عباداً يذكرون الله سبحانه وتعالى ويخلون في الخلوات ويصلون ويصومون ويتصدقون فقط، وأنهم كانوا ينصرون فقط بالمدد الرباني، ولا شك أن هذا من أهم أسباب النصر، لكن الصحابة كانوا يأخذون بأسباب القوة، فالصحابة رضي الله عنهم ما كانوا بالصورة التي تريد الصوفية أن تزرعها في قلوبنا؛ لنتصور بها السلف الصالح.
كانت هناك مناقشة على موضوع الفتور البدني الموجود عند بعض الشباب، وأن بعض الشباب لا يهتم أبداً على الإطلاق بقضية تنمية بدنه؛ فأنت أيها الشاب! إذا لم تغتنم فرصة النمو الكبير في صحتك وفي عضلاتك في فترة الشباب فسيفوتك القطار، وبعد ذلك تعجز عن أن تنجز نفس هذه الأشياء، فينبغي الاهتمام بالصحة، والاهتمام بالرياضة البدنية، والاهتمام بقوة البدن، فنحن الآن في عصر كله يعين على الكسل والتراخي والترهل، فنحتاج إلى أن يكون في جدول كل منا نوع من الإنجاز بالجهد العضلي؛ حتى يستطيع الواحد منا أن يحافظ على صحته، ويكون قوياً على الأقل يدافع عن نفسه، وعلى الأقل ينهى عن المنكر إذا احتاج، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.
فبعض الأخوة كنت في مناقشة معهم حول هذا، فقال لي: هل الصحابة كانوا يجرون أو يمارسون شيئاً من هذه الرياضات؟ فقلت له: هل أنت غافل عن أن حياة الصحابة كلها عبارة عن حركة وركض وجهاد؟ فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والأجيال التي فتحت الدنيا فتحتها بالأخذ بالأسباب التي منها الاهتمام بهذا الجانب، والصحابة ما عرفوا جلسة المكاتب، وما عرفوا قيادة السيارات، وما كانوا يجلسون على المكاتب حتى تنتفخ منهم الكروش، الصحابة ما عرفوا هذا، والسلف ما عرفوا هذا، وإنما عرفوا الجوع، وعرفوا السهر، وعرفوا الجد، وبعض الأخوة الأفاضل ممن كان يجيد ركوب الخيول كان يقول لي في معرض هذا الكلام: ركوب الفرس يحتاج إلى قوة عضلية غير عادية. ولعل من عنده خبره بذلك يعرف ذلك؛ لأنه يكون غير جالس على ظهر الفرس، وإنما يكون واقفاً على قدميه، فيحتاج إلى قوة عضلية شديدة جداً، فالصحابة لما خرجوا وجاهدوا في أقطار الأرض على الخيول كانوا أقوياء.
ومنهم: محمد بن مسلمة وعلي بن أبي طالب ، بل إن بعض الناس حكى أنه رأى سيف خالد بن الوليد في بعض المتاحف في تركيا، وأن هذا السيف يحتاج إلى ستة أفراد أو عشرة أفراد حتى يستطيعوا أن يحملوا هذا السيف للضرب به والطعن.
فـخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب كانوا من فرسان الإسلام، وما كانوا مثل التصور الصوفي الآن الموجود عن السلف رضي الله عنهم، بل السلف كانوا يأخذون بالقوة في كل جانب، سواء القوة البدنية أو القوة الإيمانية، وما كانوا يسلكون هذه المسالك التي نعاني منها نحن الآن، من الجلوس على المكاتب، والترفيه، وغير ذلك من هذه الصور.
قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي : يا أبا عبد الله ! تركت حديث سفيان بعلوه، وتمشي خلف بغلة هذا الفتى، وتسمع منه؟ فقال له الإمام أحمد : لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر؛ إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لن أدركه بعلو ولا نزول.
وقدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر إلى شاب منهم يريد الكلام، فقال عمر : كبر كبر. فقال الفتى: يا أمير المؤمنين! إن الأمر ليس بالسن، ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسن منك. قال: صدقت، فتكلم.
ويقول الشاعر في خلاف هذا المعنى:
إنما الظلم أن يساسوا بغر لم تعره الأيام رأياً وثيقا
وحكى المسعودي في شرح المقامات: أن المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي، وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة -أي: لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية مع أنه كان صبياً، لكن كان خلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة وإياس أمامهم- فقال المهدي : أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ أي: لم يجدوا غير هذا الشاب الحدث السن يتقدم المشايخ وهؤلاء الناس الكبار؟ ثم إن المهدي التفت إليه وقال -أي: لـإياس بن معاوية بن قرة بن شريك القاضي المعروف-: كم سنك يا فتى؟! فقال: سني -أطال الله بقاء الأمير- سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر . فقال له: تقدم بارك الله فيك.
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد: أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغروه -أي: أن الحاضرين استصغروه وقالوا: عشرين سنة وأتى ليكون قاضي البصرة؟- فقالوا: كم سن القاضي؟ قالوا هذا كنوع من الازدراء له، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح -وكان سن عتاب خمساً وعشرين سنة- وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على البصرة. فجعل جوابه احتجاجاً له.
وقال أبو اليقظان : ولى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي قتال الأكراد بفارس، فأباد منهم، ثم ولاه السند، فافتتح السند والهند، وكان عمره سبع عشرة سنة.
فيا حسرتاه! على شباب المسلمين الآن الذين نطالعهم في الشوارع يتسكعون ويعزفون ويسمعون الموسيقى الأمريكية، ويعلقون الأعلام الأمريكية على أعناقهم وفي سياراتهم، إنه خزي وعار لم يسبق له مثيل، وهو كذلك نوع من خفة الهمة إلى أسوأ الصور، ومعناه الضياع، والله المستعان.
فعلم أمريكا يعلقه أولاد المسلمين في سياراتهم الآن، وما بقي إلا علم إسرائيل!
فـمحمد بن القاسم رحمه الله تعالى قاد الجيوش، وفتح السند والهند، وهو ابن سبع عشرة سنة. والسند والهند يراد بها: باكستان وبنجلاديش والهند وكشمير، كل هذه المنطقة يقال لها: الهند والسند، فقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى لـمحمد بن قاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد!
يعني: أن السيادة والعلو والشرف ناله وهو قريب العهد بسن ميلاده.
ويروى:
يا قرب ذا سورة من مولد.
والسورة هي: المنزلة الرفيعة.
وكان حطيط الزيات مشهوراً جداً بموقفه العظيم مع الحجاج ، فلما قبض عليه وذهبوا به إلى الحجاج بن يوسف الثقفي قال له الحجاج : أنت حطيط ؟ قال: نعم، سل ما بدا لك؛ فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. فقال الحجاج : فما تقول فيِّ؟ قال حطيط : أقول: إنك من أعداء الله في الأرض؛ تنتهك المحارم، وتقتل بالظنة. قال الحجاج : فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ؟ قال: أقول: إنه أعظم جرماً منك؛ وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فأمر الحجاج بتعذيبه، حتى انتهى به العذاب إلى أن يشقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه، وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يستلون قصبة قصبة، حتى انتزعوا لحمه - أي: أن القصب نزع اللحم من جسده - فما سمعوه يقول شيئاً، ولا بدا عليه جزع أو ضعف، فأخبر الحجاج بأمره، وأنه في الرمق الأخير، فقال: أخرجوه، فاقتلوه في السوق. ووقف عليه رجل وهو بين الحياة والموت يسأله: ألك حاجة؟ فما كان من حطيط إلا أن قال: مالي من حاجة في دنياكم إلا شربة ماء، فأتوه بشربة شربها، ثم مات، وكان رحمه الله تعالى ابن ثماني عشرة سنة.
وولي عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لـمعاوية رضي الله تعالى عنه.
وولي معاذ بن جبل اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة.
حمل أبو مسلم أمر الدعوة والدولة وهو ابن إحدى وعشرين سنة.
وحمل الناس عن إبراهيم النخعي وهو ابن ثماني عشرة سنة.
ومات سيبويه إمام النحو وحجة العرب وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة.
قال البحتري في هذا المعنى وهو يمدح شخصاً اسمه العباس ؛ لأنه أدرك المجد مع أنه صغير:
لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن وانظر إلى المجد الذي شادا
قوله: (لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن) يعني: لا تحتقره لصغر سنه، ولكن انظر إلى المجد الذي بناه.
وقوله: (إن النجوم نجوم الأفق) أي: النجوم التي ترى.
وقوله: (أصغرها في العين أذهبها في الجو إصعادا) يعني: النجوم القريبة تُرى أكبر من النجوم البعيدة، وكلما بعد النجم وارتفع كلما بدا بصورة أصغر.
فالشباب هم الشريحة الفعالة في الأمة، وهم عمودها الفقري، وجهازها العضلي، وروحها الحية، وطبيعتها الوثابة؛ فلا يمكن أن يتصور نجاح دعوة أو حركة لا تقوم على حماس الشباب وعلى قوته وبأسه؛ فعلينا أن نتذكر موعظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغتنم شبابك قبل هرمك، فاغتنم الشباب قبل أن يسقط الشباب من كمك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر