الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن ذلك أشراط الساعة، مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل ].
هذا الفصل لما بدأه المؤلف رحمه الله بقوله: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه)، علمنا أنه يتكلم عما يتعلق بالإيمان بالغيب، وقلنا: إن الإيمان بالغيب من أوصاف المتقين التي يجب على المؤمن أن يتحلى بها، فإنه لا تقوى ولا إيمان إلا لمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أمر الغيب، سواء أدرك حقيقته ومعناه، أم لم يدرك حقيقته ومعناه.
ومثل المؤلف رحمه الله لما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح النقل عنه بالإسراء والمعراج، فإن حديث الإسراء والمعراج مما لا تدرك العقول حقيقته ويصعب عليها إدراك كيف كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه من آياته صلى الله عليه وسلم، كذلك مثل بما جاء من الخبر في قصة مجيء ملك الموت لموسى عليه السلام.
وهنا يقول رحمه الله في صلة ما وقفنا عليه: (ومن ذلك)، أي: ومما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه صلى الله عليه وسلم (أشراط الساعة)، فقوله: (ذلك) المشار إليه هو ما تقدم في أول الفصل.
وقوله: (أشراط الساعة)، أشراط: جمع شرط، بفتح الراء وهي العلامة، والمقصود بأشراط الساعة: علاماتها التي تدل على قربها ودنوها.
فأشراط الساعة كثيرة متنوعة ثبتت بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه العلامات تنقسم إلى أقسام:
قسم منها ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كبعثته وانشقاق القمر وما أشبه ذلك من الآيات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم وظهرت في زمانه.
وقسم منها ظهر بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ينقسم إلى قسمين: آيات وأشراط صغرى، وهي كثيرة لا حصر لها، ومنها ما رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل: (ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل)، ثم سأله عن علاماتها وأماراتها، فذكر من ذلك: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى العراة الحفاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، فهذه من العلامات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت في حديث اتفقت الأمة على قبوله والعمل به، فهو من أصح الأحاديث، وهذا الذي تضمنه الحديث هو من علامات الساعة الصغرى.
القسم الثاني من علامات الساعة: العلامات الكبرى، وهذه العلامات ليست على درجة واحدة، بل هي متفاوتة في الدلالة على قرب الساعة، فمنها ما يكون بين يدي الساعة مباشرة، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أول ما يكون من الآيات خروج الدابة.. وطلوع الشمس من مغربها) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأيهما كانت قبل كانت التي بعدها تليها) فهذا يدل على أن الأولية في أشراط الساعة الكبرى نسبية، فمنها ما يكون قريباً ومباشراً للساعة يدل على اختلال نظام الكون وقرب حصولها، ومنها ما يكون من العلامات الكبار والأشراط البينة الكبرى، لكنها ليست قريبة بين يدي الساعة، أي: ليست في القرب كالتي أخبر بأنها أول ما يكون من شأن الساعة، وذلك كخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك من الآيات التي أخبر بها كالخسف الذي يكون في المغرب، والخسف الذي يكون في المشرق، والخسف الذي يكون في جزيرة العرب.
فالواجب على المؤمن ألا ينتظر آية معينة يستدل بها على قرب الساعة، بل الآيات كثيرة منتشرة منها ما حصل ومنها ما سيحصل، ومنها ما هو واقع وحاصل في دنيا الناس، ومن ذلك: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يقل العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، وتشرب الخمر)، فهذه علامات قائمة في دنيا الناس اليوم، فإن العلم قليل والجهل منتشر، والزنا فاشٍ، وإن كان لا يلزم من فشوه أن يكون فاشياً في كل بلاد العالم، لكن ظهور الزنا فيما نسمعه وينقل إلينا من ظهوره في بلاد الكفار أمر واضح وجلي، وكذلك شرب الخمر استهان به كثير من الناس من المسلمين ومن غيرهم.
والمراد: أن العلامات منها ما يعايشه الناس، ومنها ما قد جاء وفرغ منه، ومنها ما هو مستقبل، أي: يستقبله الناس ولم يأت بعد، فالواجب على المؤمن أن يستفيد من هذه الأشراط لا في حسبها وعدها أو وقعت أو لم تقع، وإنما في الاستعداد لليوم الآخر؛ لأن الله عز وجل إنما ذكرها في مساق التنبيه ولفت النظر إلى قرب قيام الساعة الذي يوجب للإنسان العمل الصالح، ويوجب للإنسان استدراك ما مضى وما فات من صالح العمل، ولذا قال الله عز وجل: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : (بادروا بالأعمال ستاً: الدجال .. الدابة .. الدخان .. طلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة-يعني: يوم القيامة-وخاصة أحدكم) يعني: موته، فهذه الست التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي من علامات الساعة، فينبغي للإنسان أن يبادرها، ومنها ما هو من علامات الساعة الكبرى، وهي الأربع الأولى التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على المسلم أن يبادر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال)، فالفائدة المرجوة من معرفة أشراط الساعة هي المبادرة، لا ما يهتم به كثير من الناس اليوم من عدها، وهل انحسر الفرات عن جبل من ذهب أو لم ينحسر؟ وهل قد حصل خسف في المشرق وخسف في المغرب؟ وما إلى ذلك من خلاف ونزاع في تحديد بعض أشراط الساعة، وإنما المقصود والمراد هو أن يتهيأ لها أهل الإسلام، وأن يستعدوا لذلك اليوم.
إذاً: فائدة بحث هذه الشروط ليس في مجرد عدها أو معرفتها والنظر في وقوعها أو لا، وإنما النظر في المبادرة بالعمل الصالح والاستعداد لها.
وخروج الدجال أمر مجمع عليه، وهو خروج حقيقي يحصل به من الفتنة والشر ما الله به عليم.
ويأجوج ومأجوج خلق من خلق الله عز وجل عظيم، وقد أخبر الله في كتابه أن ذا القرنين بنى سداً يمنعهم من الانتشار والإفساد في الأرض، فإذا أذن الله خرجوا ووقع الفساد منهم، ووقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال التي تكون منهم من الكفر والشر الذي يعم الأرض، ثم تبطل فتنتهم ويبطل شرهم بإذن الله تعالى.
وخروج الدابة ثابت في السنة في أحاديث لا مجال لردها، فهي تبلغ حد الاستفاضة والتواتر.
والدابة ليس هناك وصف دقيق لها وكيف تكون، ولكن هناك وصف لما تخرج من أجله، وهو: أنه يحصل بها بيان وتمييز المؤمن من الكافر.
قال رحمه الله بعد ذلك: (وأشباه ذلك مما صح به النقل)، وهو كثير من الآيات الصغرى والآيات الكبرى.
عذاب القبر: هو ما يكون من العذاب الذي يكون في القبر، ونعيمه: أي النعيم الذي يكون في القبر.
وعذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة، وقد أجمع عليه سلف الأمة، فأدلة الكتاب وأدلة السنة في ثبوته كثيرة.
يقول المؤلف: (وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة) أي: أمر بالاستعاذة منه في كل صلاة.
وعذاب القبر: أي العذاب الواقع في القبر، وهذا من باب إضافة الشيء إلى محله، وليس هذا حصراً على القبور، فمن لم يقبر فإنه يدركه عذاب القبر ونعيمه ولو لم يكن في قبر، فهو إضافة للعذاب إلى محله الغالب، وإلا فإن العذاب يكون للمقبور ويكون لغير المقبور.
ودليله من الكتاب قوله تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فأخبر الله عز وجل في هذه الآية بأن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشيا، ثم أخبر ما يكون من حالهم يوم القيامة، فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] .
ومن الأدلة التي يستدل بها العلماء على عذاب القبر قول الله عز وجل: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً [نوح:25] .
ومن الأدلة الدالة على عذاب القبر أيضاً قول الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50] ، فذكر الله عز وجل حالهم في العذاب وقت قبض أرواحهم، ثم قال: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) فذكر بعد ذلك عذاب الحريق الذي هو عذاب بالنار، نسأل الله السلامة والعافية.
والمراد: أن الأدلة الدالة على العذاب الواقع في القبر كثيرة، وكذلك النعيم فإن أدلته كثيرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه) أي: من عذاب القبر، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وقد قال ابن عباس : (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، وهذا العذاب يستحقه كل من كان كافراً بالله العظيم، فإنه يعذب في القبر عذاباً دائماً كما قال تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً [غافر:46] ولم يذكر لذلك منتهى، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، ففهم من هذا أن عذابهم دائم ومستمر.
النوع الثاني من العذاب: العذاب المنقطع، وهو ما يكون لبعض العصاة الذين يعذبون جزاء ما اقترفوا من جرم وما وقعوا فيه من ذنب، ثم يرفع عنهم العذاب.
ومن أدلة أن العذاب في القبر متفاوت من حيث الدوام وعدمه، ومن حيث الشدة والخفة، حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة مرور النبي صلى الله عليه وسلم على القبرين حيث غرز على كل قبر جريدة وقال صلى الله عليه وسلم: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا)، فدل ذلك على أن عذاب القبر ليس على درجة واحدة، بل هو متفاوت من حيث الشدة والخفة، وهو أيضاً متفاوت من حيث الدوام والانقطاع، فالكفار عذابهم فيه دائم، وأما أهل الإسلام الذين وقع منهم بعض المعاصي التي يستحقون العقوبة من أجلها في القبر فإنه قد يكون منقطعاً، وهذا العذاب الذي يصيب بعض أهل الإسلام في القبر يكفر الله به عنهم من الخطايا، ويكون حاطاً عنهم ما قد يعاقبوا بسببه في النار، فهو من جملة ما يصاب به المسلم، ويكفر به من خطاياه، حتى لا يعاقب عليها في الآخرة.
ما ذكره رحمه الله هو في بيان ما يجب الإيمان به واعتقاده مما يندرج تحت الإيمان باليوم الآخر.
وهذا السؤال يسأله الإنسان سواء قبر أو لم يقبر، لكن من كان سيقبر فإنه سيسأل في قبره؛ لحديث أنس وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان)، فإتيان الملكين هو من أجل السؤال، وهو الفتنة التي تكون في القبر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة القبر وبينها في أحاديث مستفيضة تبلغ حد التواتر، فلا مجال لإنكارها ولا للتكذيب بها، وهذه الفتنة هي لجميع أهل التكليف، أعني: هي لجميع من كان مكلفاً.
والقول الثاني: أنهم لا يفتنون ولا يختبرون؛ لأنه ليس معهم عقل، وهذا في حق المجانين، وليس عليهم تكليف من أجل أن تقع عليهم الفتنة والاختبار، وهذا في حق الصغار.
والذين قالوا بالفتنة استدلوا بما رواه مالك وغيره: أن أبا هريرة كان إذا صلى على جنازة قال: (وقه عذاب القبر)، ومن جملة ما يكون في عذاب القبر ما يكون من الفتنة؛ لأن الفتنة قد يعقبها العذاب، فاستدل بعضهم بهذا على أن الصغار ومن لا عقل له يفتنون، والذي يظهر أنهم يفتنون والعلم عند الله، ولكن هذه الفتنة لا شيء فيها عليهم؛ لأن من لا عقل له يمتحن يوم القيامة، فإن أجاب دخل الجنة وإن امتنع ولم يجب فإنه يكون من أهل النار، والله حكم عدل كما قال عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44].
والجواب عن هذا أن يقال: إن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الإقعاد والسؤال إنما هو في الأصل للروح لا للبدن، وذلك أن دار البرزخ التي بين الدنيا والآخرة يقع الحكم فيها على الأرواح لا على الأبدان، وما يكون مما ذكر بلوغه للبدن أو ظهر أثره حساً على الأبدان إنما هو تبع، وإلا فالأصل أن أحكام دار البرزخ تتعلق بالأرواح ولا تتعلق بالأبدان، فالبدن لا يظهر عليه إقعاد، ولا يظهر عليه أثر الضرب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يجب ولم يوفق في فتنة الملكين، فإنهما كما في حديث أنس في الصحيحين: (يضربانه بمرزبة بين أذنيه أو بمطرقة من حديد يبن أذنيه فيصيح فيسمعه كل أحد إلا الثقلين) فهذا إنما يكون على الروح لا على البدن.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأيضاً ابن القيم أنه قد يظهر أثر ذلك على البدن، وقد يقوى اتصال الروح بالبدن، فيقعد البدن، ولا تقل: كيف؟ فإن هذا أمر لا ندركه نحن، فإننا لو فتحنا القبر أو وضعنا جهاز تصوير بعد الدفن فلن نجد بدناً يقعد، ولا ملكاً يأتي؛ لأن البدن متعلق بالروح، والآن الروح يحصل لها ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتقال والسؤال وما إلى ذلك، ولا يظهر على البدن أثر، كما أن الإنسان إذا نام ورأى في المنام أنه يدخل في عراك وقتال تجده يتأثر ويستيقظ فزعاً، وقد يجد أثر هذا على بدنه وهو في منام؛ لأن الروح مرتبطة بالجسد، والحكم في الدنيا الأصل أنه على الأجساد، فكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه، فالأصل فيه أنه واقع على الأرواح وما يكون للأبدان إنما هو تابع، وهكذا ما يكون من نعيم الروح في الدنيا فهو تابع لنعيم البدن، أما الآخرة فيقترن الروح بالبدن اقتراناً تاماً في التعذيب والتنعيم، أي: في العذاب والنعيم، فيكون عليهما جميعاً.
فالذين أنكروا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ومن فتنة القبر، ومن سؤال منكر ونكير وما أشبه ذلك، إنما اعتمدوا في الإنكار على العقل والحس، وقالوا: لا ندرك ذلك ولا نشاهده.
فنقول: نعم، أما العقل فلا مجال لإعماله فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون من أمر الغيب؛ لأنه بأي عقل يوزن خبر الله وخبر رسوله؟ كما قال الإمام مالك : ليت شعري بأي عقل نزن الكتاب والسنة؟!
وأما الحس فنقول: إن الحكم ليس على الأبدان حتى تعترضوا، وإنما الحكم في دار البرزخ على الأرواح لا الأبدان.
ومنكر ونكير ملكان كريمان، وإنما سميا بهذين الاسمين منكَر-بفتح الكاف- ونكير؛ لأنهما لا يعرفهما الإنسان، فهما غير معروفين لمن يأتيان إليه، فالنكارة هنا ليست لفعلهما، ولا لحالهما، وإنما النكارة لكون الإنسان يجهلهما.
وقيل: إنهما يأتيانه على صورة منكرة فظيعة، تدهش العقول وتذهب الألباب، وتذيب القلوب، وهذا الموقف هو الذي يحصل به الفضل لأهل الفضل كما في قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، فالثبات الذي يكون في الآخرة منه ما يكون في القبر عند سؤال منكر ونكير، بل هو سبب نزول هذه الآية كما في الصحيح، فهذان الاسمان لهذين الملكين إنما هما في الحقيقة وصف لحالهما وليس تقليلاً لشأنهما، فهما من الملائكة الكرام الذين سخرهم الله عز وجل.
وقد جاء إطلاق هذين الاسمين عليهما في السنة فيما رواه ابن حبان في صحيحه، وأيضاً جاء في مسند الإمام أحمد، فهذان الاسمان لهذين الملكين ثبتا بالسنة، وإن كان بعض أهل العلم يضعف ما ورد في ذلك.
ثم قال: (والبعث بعد الموت حق): البعث هو ما أخبر به الله به عز وجل من قيام الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، ولعلنا نترك التفصيل بما يتعلق بالبعث إلى الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر