أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:12-20].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ [ص:12]، هذه الآيات فائدتها تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمله على الصبر والثبات وتعزيته، وهو يواجه المصاعب من أعداء الله من المشركين الكافرين في مكة؛ حتى ينجز الله له ما وعده. وفي نفس الوقت هي عبر وعظات للمشركين لو كانوا يتعظون ويعتبرون.
فقوله عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ، أي: قبل قوم مكة من المشركين قَوْمُ نُوحٍ [ص:12]. ونوح هو أول الرسل عليهم السلام، وقد قضى في قومه تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى الله، وهم يسخرون منه ويضحكون ويؤذونه، ولم يسلم منهم إلا نيف وثمانون نسمة بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم بعد ذلك أهلك الله هذه الحياة بماء ينزل من السماء، وماء يتفجر من الأرض، حتى غرقت الدنيا بما فيها، وهذا هو الطوفان الذي طفا وقضى على كل الموجودين، ولم ينج منه إلا نوح وأصحاب السفينة.
وقوله: وَعَادٌ ، وهم بعد نوح، وقد كانوا في جنوب الجزيرة في حضرموت غرباً وشرقاً، وكانوا أعظم دولة في ذلك الوقت، وحسبنا أن الله قال فيهم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]. فقد كان طول أحدهم ستين ذراعاً، فأهلكهم الله ولم يبق منهم إلا المؤمنين الذين خرجوا من ديارهم، والتحقوا بالشمال فقط.
وقوله: وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ [ص:12]، الأوتاد هي المباني العظيمة من الأخشاب وغيرها، ومن ذلك الأوتاد التي كان يضع من يخالفه عليها، فيصلبه ويقتله، فقد كان له أربعة أعمدة يضع من يخالفه بينها، وينزل عليه ما شاء من العذاب.
وقوله: وَقَوْمُ لُوطٍ ، أي: كانوا مكذبين فأهلكهم الله، ولم ينج منهم إلا لوط وابنتاه وإحدى نسائه فقط، وأهلك الله تلك الأمة كلها، وهي الآن بحر يابس منتن عفن.
وقوله: وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ، أي: كانوا مكذبين، وهم قوم شعيب عليه السلام، والأيكة هي: الحدائق والأشجار، وهي الغيظة. أُوْلَئِكَ ، أي: البعداء، هم الأَحْزَابُ [ص:13] الذين أهلكهم الله عز وجل.
وقوله: فَحَقَّ عِقَابِ [ص:14]، أي: لما كذّبوا الرسل دمرهم الله وأهلكهم، بعضهم بالغرق، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة من السماء، وقد حق عليهم عقاب الله ووجب فعاقبهم، فليتعظ بهذا أهل مكة.
ومعنى: مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ص:15]، أي: من تقطع، بل ستستمر عليهم دفعة واحدة من غير تقطع. والفواق: هو حلب الشاة أول النهار وآخره. ولكن الصيحة لن تكون هكذا، بل ستكون صيحة واحدة مستمرة، حتى لا يبقي منهم أحد.
والفواق أيضاً عند العرب: هو الزمن بين الحلبتين ، فالفصل بين الزمانين يقال له: فواق، والمراد أن الصيحة ستستمر حتى تنهيهم، ولن تنقطع ثم تعود، وقد قال الله تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53]. وهذه هي النفخة التي لا بد منها لفناء العالم بأسره.
وقوله: ذَا الأَيْدِ َ [ص:17]، المراد بالأيد: القوة، وداود هو نبي الله ورسوله، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.
وقوله: إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، أي: رجّاع، فكلما غفل عاد وتاب إلى الله، فهو رجّاع إلى الله، يعود إلى ذكره وشكره وطاعته، فائتس به يا محمد!
وقوله: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18] أي: في الصباح والمساء، قال ابن عباس: كنت أمر بهذه الآية ما أدري ما معناها، فسألت أم هانئ بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي في مكة وطلب مني وضوءاً فتوضأ وصلى ركعتين وقال: ( هذه صلاة الإشراق ). والمراد بهذا الضحى، ولهذا فال أبو هريرة : أوصاني خليلي بثلاث لا أتركها حتى أموت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. والشاهد عندنا في قوله تعالى: بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]. فالعشي من العصر إلى المغرب، والإشراق من طلوع الشمس إلى الضحى قبل وقت الظهر.
وقوله: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، أي: رجّاع يرجع إليه.
وقوله: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، أي: آتيناه النبوة والرسالة، وأعطيناه فصل الخطاب، فكان أذكى وأفضل قاضٍ على وجه الأرض. وكان علي رضي الله عنه يقول: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهذا من حكمة القضاء. فإذا جاء القاضي خصمان أحدهما يطالب الآخر بشيء قال القاضي للمطالب: عليك بالبينة، فإن لم يكن له بينة طلب من الآخر أن يحلف يميناً أنه بريء وكفى.
وقد كان داود عليه السلام من أفضل القضاة وأحسنهم؛ وذلك لما أتاه الله من الحكمة والعلم.
ومن ثمرات هذه الآيات:
أولاً: لعل المشركين يتفطنون ويفهمون ويعودون إلى الله حين يقص عليهم هذه القصص.
ثانياً: حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات.
[ من هداية هذه الآيات
أولاً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها ] لكون الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه ما لا يقدر عليه سواه، فقد كانوا يسبونه ويشتمونه، ويؤذونه ويكفرون به في مكة، فنزلت هذه الآيات تسلية له، وتحمله على الصبر والثبات.
[ ثانياً: تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب بأشد أنواع العقوبات ] وقد عرض الله في هذه السوره: عاداً وثمود، وأمماً كاملة أهلكها الله؛ لأنهم كذبوا رسلهم، ولأن كفار قريش كذبوا رسولهم فهم ليسوا بعيدين من عذاب الله تعالى، وفي هذا ما ينفعهم لو كانوا ينتفعون.
[ ثالثاً: بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه ] فقد قالوا: ربنا عجّل لنا بكتبنا التي فيها أعمالنا قبل يوم القيامة. وهذا لا يقوله مؤمن، ومع هذا فهم لا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء فيه.
[ رابعاً: مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين ] فمن وجد مؤمناً أصلح منه فليقتد به، من وجد رجلاً صبوراً فليصبر مثله، وهكذا، فهذه سنة، وهي أن يقتدي المؤمنون بالصالحين. ولهذا قص الله على رسوله قصة داود، وأمره أن يقتدي به وبغيره من الأنبياء والمرسلين.
[ خامساً: بيان آية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه ] وهذه من آيات الله وقدرته وعلمه، وتسخيره للكائنات بما فيها الجبال والطير، فكانت الطيور تتجمع بمئات الآلاف حول داود، وهو يسبح الله فتردد معه، وكان إذا مشى مشت الجبال عن يمينه وشماله تسبح معه.
[ سادساً: حسن صوت داود في قراءته وتسبيحه ] فقد كان حسن الصوت في تكبيره وتسبيحه؛ ولهذا كانت الطيور معجبة بصوته، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري يقرأ بصوت حسن، فقال: ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ). ولهذا يستحب أن يُتلى القرآن بصوت حسن، ويستحب للقارئ أن يحسن صوته بكلام الله، وهذا لكل مؤمن ومؤمنه.
[ سابعًا: مشروعية صلاة الإشراق والضحى ] وقد سمعتم أن ابن عباس ما كان يعرف معنى العشي والإشراق، حتى سأل أم هانئ فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وطلب ماء وتوضأ وصلى في الضحى ثمان ركعات وقال: ( هذا هو الإشراق ). حتى لا تفهم أن الإشراق هو طلوع الفجر، فالإشراق من حين ترتفع الشمس ويبدأ الضحى إلى قبل الظهر بربع ساعة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر