فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
وقراءتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102-103].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!
قول ربنا جل ذكره: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، هذا كلام الله جل جلاله وعظم سلطانه .. هذا إخبار الله عز وجل عن بني إسرائيل .. عن اليهود، والسياق فيهم من قبل ومن بعد.
ومعنى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، خلوها وراءهم، ولا يقبلون عليها لا بالقراءة، ولا بالأخذ منها والاحتجاج بها؛ لأنها تمشي مع القرآن، إذ القرآن كلام الله، والتوراة كلام الله.
فماذا يفعلون بعد؟ قال تعالى عنهم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، لكن ما هذا الذي اتبعوه؟
تقول الأخبار السليمة الصحيحة: أن سليمان عليه السلام لما حصل له ذلك الحادث، وترك قول: إن شاء الله، وغفل تلك الغفلة، ففي تلك الأثناء استغل شياطين الجن ومردتهم تلك الفرصة فاجتمعوا وكتبوا كتاباً يحمل أصول السحر ومبادئه وآثاره، وكان كاتب سليمان عليه السلام هو آصف بن بلخيا ، فاستطاعوا بواسطته أن يدسوه تحت كرسي سليمان، ولما توفي سليمان عليه السلام استخرجوا ذلك الكتاب، وأشاعوا في عالم الجن والإنس أن سليمان عليه السلام كان ساحراً، وكان يحكم الإنس والجن، ويتصرف ذلك التصرف العظيم بواسطة السحر، فأبعدوا عن الناس والجن أن سليمان كان نبياً رسولاً، وكان يسود الناس بقدرة الله وتوفيقه، وعونه، وتسخيره، حتى إن الله سخر له الجن، وسخر له الريح، وكلام الله شاهد: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10].. الآيات من سورة سبأ: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82]. فهذا الكتاب وسعوه، وشرحوه، وأضافوا إليه، وأصبح اليهود سحرة العالم.
قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: على عهد ملك سليمان، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لم يكن نبياً، ولا رسولاً، فكيف تذكره مع المرسلين، وإنما كان ساحراً يحكم الإنس والجن بالسحر.. فأبطل الله هذه الدعوى بقوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بل هو أحد المرسلين الثلاثمائة والأربعة عشرة، ووالده كذلك: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]. فانظر كيف كفر اليهود بتكفيرهم نبي الله ورسول الله.
ونحن عندنا قاعدة عامة: من قال لأخيه المسلم: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان الذي قال صدق فيما قال والمقول فيه حقاً كافر نجا، أما إذا كفر مؤمناً غير كافر فقد كفر، فكيف بالذي يكفر أنبياء الله ورسله؟!
وهذا الذي جاءت به السنة: ( من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ).
إذاً: فكيف بالذين يكفرون أنبياء الله ورسله، وكيف بالذين يكفرون أولياء الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله، ونبرأ إليه أن نكفر مؤمناً أو مؤمنة.
والكفر يكون بإنكار وتكذيب الله .. بإنكار وتكذيب رسول الله .. بجحود ما شرع الله وما قنن لعباده، أما مجرد معصية، حتى ولو كانت قتل نفس فصاحبها لا يكفُر ولا يكفَّر، إذ الكفر لابد فيه من استباحة ما حرم الله، وعدم اعتقاد أن هذا حرمه الله.
إذاً: قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، ولكن كفر اليهود الذين كفروا سليمان.
لكن ما هذه الحادثة التاريخية؟
تقول الرواية: إن الملائكة عليهم السلام تعجبوا من بني آدم كيف يفجرون؟ كيف يكذبون؟ كيف يقتل بعضهم بعضاً؟ كيف.. كيف؟ لما يشاهدون ما يجري بين الناس من السوء والشر والباطل، فتحدثوا فيما بينهم وتعجبوا، فقال لهم الرب تبارك وتعالى: أنتم تتعجبون من بني آدم كيف يخرجون عن طاعة ربهم، ويفسقون عن أمره؟! فهيا اختاروا اثنين منكم، ونغرز فيهم غرائز بني آدم، ونطبعهم بطابع البشرية، وننزلهم إلى الأرض، ويعيشون كما يعيش بنو آدم، وانظروا هل يعصون الله، ويخرجون عن أمره أو لا؟ قالوا: يا حبذا، فاختاروا ملكين هما: هاروت وماروت، ونزلا إلى الأرض، وما هي إلا أيام أو أعوام حتى انغمسوا، فهذا زنا، وهذا كذب، وهذا .. فارتكبوا كبائر الذنوب.
فخيرهما الله عز وجل بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فإن شئتما أن تبقيا هنا هكذا في هذه الحياة ولا تعذبان في الدار الآخرة، وإن شئتما جازيتكما، فرضيا بالبقاء، وأخذا يعلمان السحر بأرض بابل من العراق، فيلهمان إلهاماً وليس بوحي من الله، فإذا جاءهم من يريد أن يتعلم السحر ينصحان له، فيقولون له: لا تكفر، فإن الذي يتعاطى السحر، ويعمل به يخرج من ملة الإسلام، ويكفر تماماً، ويصبح في عداد الكافرين، فإن أصر على أن يتعلم ليتخرج ساحراً، وليأكل بالسحر ويشرب علموه أو وكلوه إلى شيطان مارد يعلمه ما به ينمسخ، ولا يصبح في قلبه ذرة من إيمان، فيعلمه سيئات يرتكبها، يتقزز منها الإنسان، وبعدها يصبح ساحراً ماهراً.
ولنستمع إلى الآية الكريمة إذ قال تعالى: (( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )) بل كفر من كفروه، وهم اليهود، (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ )) هم الذين ((كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ))، وما هناك حاجة إلى أن تقول: (ما) نافية، (( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ))، فالحادثة ثابتة، فما تنفى بـ(ما) أبداً، فهي موصولة: والذي أنزل على الملكين، لكن ليس إنزال وحي وإنما إلهام، فكما أوجد الله السم في العقرب والأفعى أوجد فيهم هذا الفهم، وأصبحوا يعلمونه الناس.
(( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )) الموجودين (( بِبَابِلَ ))، وبابل بلاد بأرض العراق، ودخلها أناس وعرفوها من أهل المجلس، وهي ديار الخليل وآبائه عليه السلام، لكنه هاجر منها إلى أرض الشام: (( بِبَابِلَ )) هكذا: (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )).
وإن كان هناك ساحر يأتي ويقول لنا: أنا مؤمن، أنا كذا، أقوم الليل، ولكنني أسحر، وأستطيع أن أفرق بين كذا وكذا؛ لا يستطيع لأن حد الساحر ضربة بالسيف، ولهذا مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، وإمامنا في مدينة الرسول، يرى أن الساحر حيث بان سحره، وظهر منه وعلم، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل له توبة؛ لأن الحكم الشرعي أن الشخص إذا كفر وارتد يهودياً أو نصرانياً أو سب الله والرسول أو كذب الله أو الرسول فإنه لا يقتل على الفور، والحكم الشرعي أنه يستتاب ثلاثة أيام؛ فيدخل السجن أو الحبس، وتعرض عليه التوبة ثلاثة أيام، فإن تاب تاب الله عليه وخرج، وإن أصر على معتقده الباطل، وعلى إرادته الكافرة وارتد فإنه يقتل كفراً لا حداً، ومصيره مصير كل كافر وكافرة، إلا الساحر فإن الإمام مالك يقول: لا يستتاب؛ لأنه يعمل في الخفاء، فيقول: أنا تائب، وما رأينا رجلاً يسحر، فالسحر في الظلام والخفاء، فلهذا لا معنى لتوبته واستتابته لأنه قد يقول: تبت إلى الله ولن أعود إلى هذا الإثم أبداً، ثم يخرج من السجن، وإذا به يثير الفتن.
وأكثر علماء الأمة على أن الساحر إذا قتل بسحره يقتل، فإذا أفسد عضواً؛ كأن يصيب إنساناً بالشلل أو بفقد بصره فإنه يقتل، فإذا لم يقتل ولم يصب ما هو كالقتل في الدية، فهذا يعزر ولا يقتل، وهذا الذي عليه جمهور أهل الملة الإسلامية.
فقوله تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) أي: هاروت وماروت: (( حَتَّى يَقُولا )) ناصحين: لا تكفر يا عبد الله. ومن هنا: من شك في أن من يتعاطى السحر، ويعمل به، ويصنعه، وينشره بين الناس كاليهود فقد كذب الله وكفر، فالساحر كافر.
وخذوا هذه الحقيقة: فالإيمان نور، فإذا ضعف يصبح المؤمن مريضاً، يرى ولا يرى، يحس أحياناً ولا يحس، يشعر ولا يشعر، وهنا في إمكانه ومن السهولة عليه أن يعصي الله ورسوله.
أما مع العلم والبصيرة، فالناظر في الأحداث التي تقع في التاريخ، يمكن في مائة سنة أن عالماً يفجر أو يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فالنور الإلهي الذي في قلبه لا يستطيع أن يفجر معه، والرجل الذي يمشي في الظلام ممكن أن يطأ على حية .. يمكن أن يطأ على شوك .. يمكن أن يجلس على عذرة؛ لأنه لا بصيرة له في الظلام، لكن صاحب النور، والذي بين يديه نور وهو ماش هل من الممكن أن يدوس حية تنهشه، أو أن يجلس على عذرة وقذر؟ الجواب: لا، لأنه على نور، فإذا خفت النور، وأصبح ساعة وساعة، فإنه ساعة ما يخفت يقع في المعصية ويرتكبها.
ولهذا نعيد القول: كل الذي تشكوه البشرية هو الجهل بالله عز وجل، وبمحابه، ومساخطه، وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، والله لهذا هو العلة.
فمن أراد أن يطهر المجتمع من الرذائل .. من الأوساخ والقاذورات .. من الشرك، والكفر، والمعاصي، والذنوب، فالطريق الوحيد أن يعلمهم الكتاب والحكمة، كما كان رسول الله في هذا المسجد يفعل: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فالرجل كالمرأة، والصغير كالكبير، فإذا عرف وانشرح صدره ولاحت الأنوار له لا يرتاح أبداً إلا إذا دخل في عبادة الله، وتضيق به الأرض إذا نسي الله.
وأقسم بالله لا علاج لإنهاء هذه الخبائث، والشرور، والمفاسد في الأرض إلا أن يعرف الله، وتعرف محابه ومكارهه، وما عنده وما لديه، والطريق: قال الله وقال رسوله، فلا علم وراء الكتاب والسنة، وعلى شرط أن يقوم بذلك علماء ربانيون يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، فيعلمون الكتاب والحكمة ويزكون النفوس والأخلاق والآداب ويهذبونها.
قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان، والباطل على الحق، والشر على الخير يتعلمون من هاروت وماروت علماً يفرقون به بين المرء وزوجه، ولم ما قال: بين المرء وزوجته؟ الجواب: لأن الرجل يصبح زوجاً إذا تزوج، والمرأة تصبح زوجاً إذا تزوجت، فإذا قرنت أحدهما مع الآخر قلت: زوجان.
قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ماذا؟ مَا أي: شيئاً: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ألا إنه السحر.
وكذلك الحديد يقطع، فبه نذبح النعجة أو البقرة أو الإنسان، وكم من آلاف ذبحوا، ولما أخذ إبراهيم مدياه ووضعها على عنق ابنه إسماعيل ما قطعت، كالعصا: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
إذاً قوله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مطلق إلا بإذن الله ، فإذا كتب الله في كتاب المقادير: أن فلاناً يسحر ويتقلب قلبه عن زوجه، ويصبح يبغضها ولا يحبها، ويطلب البعد منها، فهذا كان بتدبير الله وقضائه وقدره، وقد يكتب كذلك أنه يأتي إلى فلان ويعلمه الرقية والتعوذات فيتعوذ بها ويشفى ويبرأ ويعود كما كان، فهو كالمريض يمرض، يُمرضه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ثم لما يتم وعد الله يشفيه بحبة أسبرين أو بكأس عسل، أو بكية من نار، فهذا تدبير الله في دار الابتلاء؛ لأن هذه الحياة ليست بخالدة وباقية، فقط دار ابتلاء، فمنهم من ينجو ويكمل ويسعد، ومنهم من يهبط ويُخفض.
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إذا أذن الله كان الضرر، فإذا ما أذن تجده يسحر ويسحر ويعطيه ويسقيه فلا ينفع.
ولا تتألموا فهذا نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وهذا شاهد للجمهور أن الرسول ما أمر بقتل لبيد ؛ لأنه ما قتل، ولا كسر عضواً، ولا أفسد من الرسول شيئاً، إلا أنه ظل يومين .. ثلاثة أيام يخيل إليه أشياء ما قالها أو قالها، وما هي إلا ثلاثة أيام أو أقل وإذا بسورة الفلق تنزل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5]، فتلاها ثلاث مرات، فزال كل ذاك الذي كان في ذهنه والحمد لله. فما تعوذ متعوذ بمثل سورة الفلق في هذا الباب، فـلبيد بن الأعصم اليهودي ما قتل، وبئر ذروان الذي ألقي فيه السحر كانت قبل ثلاثين سنة موجودة.
ولقد عرفنا أن الساحر كافر خارج من الملة، فما يتعلمه قد يبدو أنه نفعه بريال أو بعشرة أو بمليون، لكن هذا ليس هو النفع الحقيقي، فكل الناس يأكلون ويشربون ويلبسون، فما امتاز عنهم، ولكن كما أخبر الحق عز وجل: يتعلمون الذي يضرهم لا الذي ينفعهم.
أسألكم بالله: لو أن أهل القرى عندنا والمدن في العالم الإسلامي درسوا هذه الآيات دراستنا هذه وسمعوا، هل يتعاطون السحر؟
الجواب: والله لا يتعاطوه، لكنهم للأسف ما علموا وما عرفوا، بل وجدوا من يسهل لهم القضية ويخفف الآلام عنهم، فوقعوا في السحر الذي هو الكفر وهم لا يشعرون، وأكثرهم لا يفهم أنه كافر أبداً، ويصلي ويصوم.
ولقد علم بنو إسرائيل وعلم اليهود وعلمنا نحن الآن: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فلا حظ له ولا نصيب في دار السلام؛ الجنة دار الأبرار؛ لأنه كافر شر الكفر.
قال تعالى: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) قَبُحَ هذا الثمن الذي باعوا به أنفسهم، فشرى بمعنى باع: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) فباعوها رخيصة للشياطين؛ لتصبح في النار ومآل النار.
ومن هنا نعود إلى ما قلناه: هيا نعلم، فبدون علم لا تطمئن إلى أن ابنك أو امرأتك أو أمك أو أباك يستقيم على منهج الله، فلا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا ظلم، ولا سحر، ولا باطل، فهو جاهل، وهيهات هيهات، فلا يمكن، ومن أراد أن يتأكد -كما نقول- يسأل المسئولين في أي بلد عن المجرمين بالقتل والجرائم و.. و.. هل تجد بينهم عالماً ربانياً؟ والله لا تجد، وإن وجدت في خمسين سنة فالشواذ لا حكم لهم، ولن تجد فاعلي الجرائم والموبقات والمهلكات إلا جهلة وإن صاموا وصلوا، وهذه الآية نص قطعي قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )).
فهيا نتعلم.
ولسان الحال: كيف نتعلم؟ وما الطريق يا شيخ؟ أليست المدارس والحمد لله فيها من العلم ما يكفي، فكيف تطالبنا بأن نتعلم؟!
الجواب: نحن نقول: هذه المدارس ما أسست من أجل أن يعبد الله وحده .. ما أسست من أجل التهذيب للآداب والأخلاق .. ما أسست لأجل تطهير النفوس وتزكية الأرواح، إنما أسست للمادة، حتى ولو كان الذي اقترح المدرسة ربانياً صالحاً، فنحن لما جئنا بأولادنا ما جئنا بهم ليتعلموا كيف يعبدون الله؛ إنما جئنا بهم ليتعلموا كيف يتوظفون.
هل هناك من يرد علي من الأبناء؟!
الواحد منا يبعث ابنه ويقول له: تعلم .. تعلم حتى تصبح كذا وكذا.
وتساهلنا وقلنا: إن كان هذا في الذكور فلا بأس، خلهم يطلبون الدنيا، لكن المصيبة وقعت كذلك في البنات؟! فيأتي بابنته ويبعث بها إلى المدرسة ويقول لها: تعلمي. هل لتتعلم الحياء، والآداب، والأخلاق، والاحتشام؟ لا.. لا.. لا.. تعلمي لتكوني كذا وكذا .. لتتوظفي في الوظيفة.
أين آثار العلم: أما يوجد زنا، وفجور، وحشيشة، وخمور، وسفك الدماء، والجرائم ..؟
ليس هناك من آثار للعلم؛ لأن العلم ما أريد به وجه الله، واعرفوا هذا وافهموه، وسوف تعلمون يوم القيامة.
ومن احتج علينا بقول الفقيه المالكي، وهو أحد العلماء الفطاحلة الأجلاء من علماء الأندلس حيث قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا يتناقض مع ما قلته أنا الآن في الظاهر، وهو في الباطن -والله- لا تناقض؛ لأن الذي تعلم -حقاً- علماً عرف به الله عز وجل وجلاله، وكماله، ومحابه، ومساخطه، وأصبح عالماً حقاً، والله لن يكون علمه إلا لله.
لكن هذه العلوم المادية التي نتعلمها لا تتجاوز معرفة كذا للحصول على الوظيفة، فيتخرج كل عام في العالم الإسلامي خمسة ملايين خريج، والله لن تجد فيهم إلا نسبة (1 أو 2%)، والباقون ما تخرجوا لله، بل من أجل الوظيفة؛ لأن هذا العلم ما هو واف كافٍ، والذي جعله لا يكفي ولا يفي حال الامتحانات والشهادات، فيدخل الأستاذ يعلّم، ويصرف جهده في المادة التي يدرسها فقط، والطلاب عقولهم منصبة على تلك المادة: كيف ينجحون فقط؟ وقلَّ من يريد أن يعبد الله أو يتخلق بالإسلام، وآداب الإسلام.
إذاً: من طلب العلم لله لو طلبه لغير الله وعلم لأصبح العلم يدعوه إلى الله، لكن إذا كان العلم فتاتاً وجزئيات، والله لو يأتي عالم من أولئك الذين نعنيهم ما صح لي أن أجلس إليكم وأحدثكم، فلو يظهر عالم من أولئك العلماء لا يستطيع مثلي أن يجلس في مسجد رسول الله ويتكلم عن الله، وهذا يدلكم على أن العلم الآن علم سطحي، ما هو عميق في النفوس، وما أثر فيها، فلهذا الخريج همه الوظيفة والعمل الدنيوي، وليس همه أن يبيت يتململ ويبكي بين يدي الله.
قال تعالى: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) لو علموا ما شروا بإيمانهم الكفر، ولما اشتروا جهنم وعذابها بأوساخ الدنيا وآثارها، لكن ما علموا، وإن كانوا يقرءون، ويكتبون، ويخطبون، فلا ينفع هذا.
أما دعوى أنا مؤمن فلا تنفع هذه أبداً، بل مؤمنون بيوم القيامة، والبعث والجزاء، وبكتب الله، والله يقول: لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .. بالقرآن العظيم .. بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء عليه السلام.
يا عباد الله! بم يتقى الجبار ذو الجلال والإكرام، الذي يقبض السماوات بيده، والأرض في يده، الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي خلق الموت وخلق الحياة، ورفع الكون وأوجده، كيف يتقى إذا غضب؟ هل نتقيه بالحصون والأسوار وبالجيوش الجرارة؟! إن هذا لا يقينا شيئاً أبداً، وإنما نتقيه بالإسلام له، فأعطه قلبك ووجهك، وأسلم له أعز ما تملك؛ ألا وهو القلب والوجه، فقلبك لا يتقلب دائماً إلا في مرضاته، ووجهك لا ينظر إلا إليه، ولا يلتفت إلى غيره: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125].
يتقى الله -يا عباد الله- بالإسلام، أي: إسلام القلب والوجه، فلا تنظر إلا بإذنه، قال: لا تنظر، فغمض عينك، فلا تأكل إلا ما أذن لك أن تأكل، ولا تلبس إلا ما أذن أن تلبس.. وهكذا، وبهذا يتقى الله.
يا عباد الرحمن! أين هذه الجنة؟
الجنة قد ارتادها أبو القاسم، أعظم رائد عرفته الدنيا والبشرية، ارتادها ووطئ أرضها بقدميه، ورأى حورها، وقصورها، وأنهارها، وما يجري فيها من ذلك الكمال المعد لأولياء الله، فقط فوق السبع الطباق: السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، وفوق السابعة دار السلام، والمسافة بسيطة، مسافة: سبعة آلاف وخمسمائة عام للطائرة حتى تصل إليها!
الله أكبر، من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وفي لحظات إلى الجنة دار السلام، وجاء يصفها كما وصفها خالقها جل جلاله وعظم سلطانه، فهذه هي المثوبة التي عند الله، وليست امرأة، ولا كرسي، ولا وظيفة، وهذا ابتلاء، فالمثوبة هي الجنة عند الله.
قال: خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، فهيا نتعلم، وإذا أردنا في الشرق أو الغرب فنلزم المواطنين والمواطنات كل ليلة في مسجد الحي أو القرية طول العام ننفض أيدينا، ونغسل ثيابنا نتوضأ، ونأتي بيت الرب، وكل ليلة لا يتخلف إلا مريض أو امرأة مريضة أو نفساء، والنساء وراء الرجال، ونتعلم الكتاب والحكمة بكل هدوء وسكينة واستقرار، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يبقى جاهل ولا جاهلة في القرية أو في الحي، وينتهي الخبث، والشر، والفساد، والظلم، والطغيان و.. و.. ونصبح كالكواكب في السماء؛ يرهبنا الإنس والجن بسهولة.
فإن قالوا: لا نستطيع هذا، نقول: إذاً: ابقوا على ما أنتم عليه، والحكم لله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر