فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:34-37].
هذه الآيات نزلت لغرض .. لهدف، وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه، ولكن النظرة العامة في مثل هذا السياق أنه تقرير لمبدأ: لا إله إلا الله، ومبدأ: محمد رسول الله، ومبدأ: الحياة الثانية التي هي دار الجزاء بعد هذه الدار التي هي دار العمل، إذ اليوم عمل، وغداً جزاء.
والبشرية أيام نزول هذه الآيات وبعثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم كانت ضالة، تائهة في أودية الضلال، اللهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
البشرية منهم المشركون الذين يعبدون الأوهام كالأصنام، والتماثيل، والشمس، والقمر، والنجوم .. وما إلى ذلك، وهذه أغلبية البشرية .. مشركون.
وأهل الكتاب زيادة على أنهم أشركوا فهم كافرون، إذ كذبوا رسل الله، فالنصارى -والعياذ بالله تعالى- ضللهم اليهود فضلوا، وأصبحوا وثنيين يعبدون ثلاثة آلهة، واليهود مع علمهم غضب الله عليهم ولعنهم؛ لأنهم عرفوا لكنهم عموا عن الحق، وأعرضوا عنه، فهم أيضاً مشركون وكافرون.
فكيف تنقذ البشرية؟ أنقذها الله عز وجل ببعثة هذا النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أرسله إلى الناس كافة، من ذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
فمثل هذه الآيات: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30] يخاطب الله عز وجل محمد بن عبد الله بن هاشم القرشي العدناني من ذرية إبراهيم.
وَإِذْ قُلْنَا القائل رب العزة والجلال والكمال، وتقدم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30].
إذاً: الله عز وجل خالق الخلق، ومدير الكون، ومدبر الملكوت؛ هو الذي أرسل هذا الرسول، وإلا كيف يخاطبه وينزل عليه وحيه، ويعلِّمه؟!
فالآية بمجرد ما تسمعها تقرر مبدأ أنه لا إله إلا الله، أما الإلحاد العام الذي ظهر منذ ثمانين سنة، وهو لا إله والحياة مادة، فهذا ما كان موجوداً على سطح الأرض، لا بين الإنس ولا بين الجن، بل الخليقة كلها تؤمن بخالق رازق مدبر، فلما ما عرفوه اتخذوا رموزاً يعبدونها تحت شعار التقرب إلى الله العليم الحكيم، والذين يعبدون الأصنام ما عبدوها لذاتها، بل هم يبحثون عن الله خالقهم، رازقهم، معطيهم ومانعهم، محييهم ومميتهم، فلما ما عرفوا زينت لهم الشياطين عبادة الأصنام.. وما إلى ذلك، فعبدت الشعرى -كوكب معروف- في ديار اليمن، وعبد المجوس النار، أما الإلحاد بمعنى: لا إله، فهذه فرية يهودية أرادوا أن يطمسوا بها معالم التوحيد، وأخيراً بعدما بلغت مبلغها في الشرق والغرب انفضح ستارها، وظهرت أنها لعبة يهودية!
إذ الفطرة التي فطر الإنسان عليها تشهد أن لا إله إلا الله، وتؤمن بوجود الله، ولكن عبدت الأصنام والأوثان تقرباً إلى الله عز وجل، وهؤلاء كبار المشركين، بل وأئمتهم في قريش في مكة قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وكيف وهم يحجون بيت الله؟ ويقفون في عرفات لله؟ ويعبدون اللات والعزى ومناة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً؟! ولكل قَبيل إله يعبده.
فخطاب الله عز وجل في مثل قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] هذا يثبت وجود الله، فهاهو ذا يتكلم، وهذا كلامه، وكيف وصل هذا الكلام؟ أوحاه، إلى من؟ إلى محمد بن عبد الله ورسوله، فهو رسول الله، فتم مبدأ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهذه الأنباء، وهذه الأخبار غيبية، تعجز البشرية عن الوصول إليها، أو الحصول عليها بحال من الأحوال، إذ كان هذا قبل أن يكون الإنسان، فكيف نعلم هذا ونصل إليه؟! إنه من طريق الوحي الإلهي الذي نزل بهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم.
فالملائكة كأنهم استغربوا هذه القضية وتعجبوا منها، وقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]! وقد علمنا أنه بلغهم علم سابق أن هناك من سكن هذه الأرض من عالم آخر -عالم الجن-، وما كان منهم إلا أن فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وتقاتلوا وأجرموا، فالملائكة فهموا أن هذا المخلوق الجديد الذي سيعمر الأرض قد يسفك الدماء، ويفسد فيها بارتكاب المعاصي، وغشيان الذنوب؛ فأبدوا ما عندهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا وليس هذا -والله- من باب الاعتراض على الله، وإنما هو من باب التقرير: أتجعل هذا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فما هناك حاجة إلى أن تخلق مخلوقاً يعصيك، ويخرج عن طاعتك، ويفسق عن أمرك، ونحن نسبحك الليل والنهار ونقدسك يا رب العالمين!
فهذا مجرد إبداء رأي، ومن حقهم أن يقولوا، وهم مع ربهم يناديهم ويكلمهم.
فرد تعالى عليهم بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] فعلمه أحاط بكل شيء، وعلمهم محدود في نطاق ضيق، فهم سمعوا أو شاهدوا ما حدث في الأرض، فخافوا أن الذي ينزل بعد الآن يفعل مثل الذي فعل الأولون، وقد حصل، فقد سفكنا الدماء، وأفسدنا في الأرض الأمر الذي لا يقادر قدره. ولكن منا أولياء .. منا صالحون .. منا ربانيون، عبدوا الله الليل والنهار، والدهر كله!
أراه صورة الأجناس كلها وأسماءها، وأثبتها في قلبه، فحفظها، وفهمها، وعرفها، ولا حرج، وسواء قلنا: في ساعة أو في دهر أو في عام، هذا لا علم لنا به، الأهم أنه علمه الأسماء كلها .. أسماء الأجناس حتى قال ابن عباس : كالقصعة والقصيعة. شاهدها ثم حفظ أسماءها، وأراد الله ذلك ليختبر الملائكة، وليريهم عجزهم وضعفهم.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] عرض التلفاز والشاشة التي تشاهدون، ولا ننسى عرضاً مثل هذا العرض تم هنا، في هذا المسجد، والله العظيم، الرسول صلى الله عليه وسلم في محرابه ولم يكن محراباً كهذا بل مكان مصلاه إلى الجدار في الروضة، والآن موجود مكان مصلاه محراب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس، وإذا به يتقدم قليلاً ويمد يديه كأنما يريد أن يتناول شيئاً ثم يرجع ويواصل صلاته، ثم يرجع القهقرى ويشيح برأسه ووجهه هكذا، كأن لهباً مر، فلما فرغ من صلاته سألوه: ما الذي حدث يا رسول الله؟ قال: ( عرضت علي الجنة، فرأيت عنباً فهممت أن آخذ عنقوداً، لو أخذته لأكلت منه الدهر كله ) لم؟ لأنه غير قابل للفناء، فلا يفنى، كالعالم الآتي لا فناء فيه، ( وعرضت علي النار فرأيت أكثر أهلها النساء فأشحت بوجهي لحرارتها ) فالعرض الآن في التلفاز والشاشة السينمائية بارد ليس فيه حقيقة، بل هي صور، أما العرض هناك فكان حقيقة.
هل قال أصحاب رسول الله: هذا مستحيل أو كيف يتم؟! قالوا: آمنا بالله، وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشاهد عندنا وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] أسماء الأجناس: الإنسان والحيوان والماء .. وما إلى ذلك، وشاهدها ذواتاً. كيف هذا؟ ألم يكن قد كتبها الله في كتاب المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين؟
وما من كائن على سطح هذه الأرض ولا في السماء إلا وله صورة في ذلك السجل العظيم، الكتاب المبين أو الإمام المبين، منه فقط عرضها، وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود ( يؤمر بأربع كلمات يكتبها )، هذه الكلمات مستحدثة، جديدة؟ هذه من كتاب المقادير ( فيكتب عمله وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد ).
إذاً: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31] عرضاً فشاهدوها، فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] بأنكم كذا وكذا، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].
ثم قال لآدم : يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33] أخبرهم، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] لأن إبليس -عليه لعائن الله- قبل أن يبلس ما يزال في محيط الملائكة يعبد الله عز وجل كان قد حمل في نفسه شيئاً لهذا، فأخبرهم الله بعلمه بما في نفوسهم، وما يكتمون.
كما قدمنا: الآيات تقرر وجود الله، وعلم الله، وقدرة الله، وحكمة الله، ورحمة الله، فكل آية تقرر هذا.
وهذا نظير صلاتنا إلى مقام إبراهيم وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فنحن بعد الطواف سبعة أشواط نصلي ركعتين لمن؟ لله تعالى، وأين نصليهما؟ خلف مقام إبراهيم. فالمقام فاز بأشرف عبادة تقع عنده ودونه، والصلاة هي لله عز وجل.
والسجود المعروف عندنا هو وضع الجبهة والأنف على الأرض، ولا تصح صلاة من هو قادر على السجود بدون سجود. نعم، المريض يومئ إيماءً إلى الأرض، أما القادر على أن يضع جبهته وأنفه على التراب فلا تصح له صلاة؛ لأن هذا ركن من أركانها، وهذا السجود كان الأولون يسجد العظماء أو الكرماء لبعضهم البعض، والعوام تبع لذلك، والدليل أن يوسف الصديق ابن الصديق عليه السلام لما جلس على أريكة الملك وعرش الدولة، وجمع الله له شمله بأبويه وإخوته خروا له ساجدين، فسجدوا طاعة .. إكباراً .. تعظيماً .. تبجيلاً ليوسف عليه السلام، وذكر هذا الحق تعالى في كتابه: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100].
وسجد الناس لبعضهم البعض كما هي التحية المعروفة عند الناس، وهنا أشير إلى فائدة وهي أن التحيات كلها لله، ولهذا لما نجلس بين يدي الله عز وجل نقول: التحيات لله، التحيات: جمع تحية، وهي ما يعظم به الإنسان أخاه، ويجله ويكبره، كلها لله، والسجود من التحيات، ولذا قال أهل العلم: جميع حركات الصلاة تحيات، من رفع اليد، وهذه تحية عسكرية معروفة، لكن بيد واحدة ونحن نحيي ربنا بكلتا يدينا، لا يجوز أن ترفع واحدة فقط مع الله، لابد من يديك الاثنتين.
وكذلك الوقوف باعتدال، غير مطأطئ الرأس ولا منكسر، وذلك الاعتدال فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] هذه تحية، وقد يحيي الناس بها الآن بعضهم بعضاً.
والركوع معلوم بالضرورة أن الناس يحي بعضهم بعض بالانحناء والركوع، وتلك الجلسة التي يجلسها جلسة تحية، والسجود فوق ذلك.
فجميع التحيات التي عرفتها البشرية وحيا بعضها بعضاً بها جمعها الله تعالى لنا في الصلاة، فلهذا الذي لا يصلي كفر الله عز وجل، وما اعترف بجلاله، ولا كماله، ولا بعظمته، ولا بوجوده. وإن عوقب فالعقوبة الإعدام؛ لأنه غير أهل للحياة كفر الله عز وجل، ولم يحيه، ولم يعظمه.
إذاً عرفنا أن الصلاة تحية، وقد جمعت كل أنواع التحيات، ولهذا نقول: التحيات لله والصلوات.
حاول بعض المؤمنين أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحد الصحابة كان بديار الشام وجاء إلى المدينة مسلماً، فأراد أن يسجد للرسول صلى الله عليه وسلم، فأبى ولم يسمح له، واعتذر الصاحب بأنه رأى أهل الشام يسجدون للقسس وللبطارقة قال: فأحببت أن أسجد لك كما يسجدون لهم، فقالها صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لما له عليها من حق، ولكن لا سجود إلا لله رب العالمين ).
فنسخ الإسلام برسوله، ورسالته، وكتابه السجود للمخلوق، فلا يسجد إلا لله، ولا يذل المؤمن، ولا ينتصر أبداً إلا بين يدي الله عز وجل.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] امتثلوا أمر ربهم على الفور، والملائكة كما درسنا وعرفنا لا يحصي لهم عدداً إلا الله، إذا كانت السماء لا يوجد فيها موضع قدم أو شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم فمن يحصي عدد الملائكة! وإذا كان كل واحد منا موكل به عشرة من الملائكة أو اثني عشر ما بين الحفظة والكرام الكاتبين.
والشاهد عندنا (فسجدوا) امتثلوا أمر الله فخروا ساجدين لآدم، وهذا السجود وإن كان لآدم لكن حقيقته للآمر الذي أطيع.
من هو إبليس؟
إبليس كنيته أبو مرة معروفة، هل كان اسمه هكذا أو عزازئيل؟
على كل إبليس كان من العابدين لله عز وجل، الراكعين، الساجدين آلاف السنين، وهو ليس من الملائكة بل هو من الجن، من العالم الثاني، فالملائكة أولاً والجن ثانياً والإنس بعد ذلك عالم ثالث، والحيوان عالم رابع.
والمناسبة بين النار والنور معروفة، فلهذا الجن يختلطون بالملائكة، ويفهمون لغتهم، ويسمعون منهم، والدليل أما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الجان يكونون في عنان السماء فيختلطون بالملائكة، فيسمعون الملائكة تتحدث عن أخبار الله التي علمهم إياها، فيسترق أحدهم الكلمة فيأتي بها إلى الآدمي الكاهن فيقرقرها في أذنه، فيضيف إليها تسعاً وتسعين كذبة )، ويقال: فلان يعلم الغيب ويأتونه، ويعطونه المال ليعلمهم الغيب، ونسبة الصدق معه واحد إلى مائة.
والشاهد عندنا أن إبليس كان من العباد، ويروى أنه سبحانه أرسله مع جند من الملائكة إلى الجن الذين سكنوا الدنيا وفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فحاربهم إبليس بجيش عظيم من الملائكة، وأجلاهم إلى جزر البحر، ثم لما حصل الامتحان الإلهي والاختبار وقال للملائكة وإبليس قبل أن يبلس: اسجدوا فسجدوا إلا إبليس أبى أن يسجد واستكبر، وكان من الكافرين.
وقد جاء هذا مفصلاً في عدة آيات منها ما في سورة الحجر: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28-33] وخلقتني من نار.
فأبدى علة امتناعه عن السجود لآدم وهي:
أولاً: الكبر، كيف، وأنا المخلوق من مادة ملتهبة؛ النار أسجد لمن خلق من طين، من صلصال، من حمأ منتن مسنون.
ثانياً: منعه -أيضاً- مع الكبر الحسد، فكيف يتفوق هذا المخلوق علينا، ويفضلنا، ونؤمر بالسجود له.
فكانت المصيبة مزدوجة، مركبة من الكبر والحسد، وهما شر ما يوجد على الأرض.
وداء الأمم كلها الكبر والحسد، فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) لأن هذا القدر الخفيف القليل يحجب صاحبه عن النور، ويمنعه من الهداية، ويطغى هذا الكبر عليه، فيتكبر حتى على الله عز وجل، فلا يركع، ولا يسجد.
والحسد من نتائجه أن أول دم سفك على سطح الأرض من بني آدم كان نتيجة الحسد وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27] هابيل وقابيل ابنا آدم عليه السلام، كل منهما قدم قرباناً لله عز وجل، فقبل الله أحد القربانين ولم يقبل الآخر، لم؟ لأن الذي قبله كان يريد به وجه الله، وكان خيرة ما يملك من المال الذي تقرب به إلى الله، والآخر -والعياذ بالله- كان أسوأ ماله وأردأه، فلم يقبله الله عز وجل، فلما رأى أخاه تقبل الله منه، وهو لم يتقبل منه عزم على قتله، وقتله بالفعل، فهذه أول قطرة دم على الأرض من بني آدم، وسببها الحسد.
(إلا إبليس أبى) بمعنى: رفض، وامتنع، واستكبر، وكان من الكافرين، ومن هنا -معاشر المستمعين- إن بعض الذنوب يكفر بها صاحبها، إبليس ما كفر الله وقال: لا وجود لله ولا سب الله ولا ولا .. كفر بمعصية، فلهذا توجد المعاصي التي يكفر بها صاحبها، فلهذا نحذر ما هو معصية، وسواء قيل فيه فسق أو إثم أو جريمة أو كبيرة أو صغيرة، فهناك ذنوب يكفر بها فاعلها، والعياذ بالله.
فهذا إبليس كان من جملة الكافرين لامتناعه عن طاعة الله في السجود لآدم، وحمله على ذلك داء الأمم ألا وهو الكبر والحسد.
(وقلنا يا آدم) أي: بعد أن خلق الله آدم، وأسجد له الملائكة، وبعد أن خلق حواء من ضلعه الأيسر فكانت إلى جنبه، وأراد الله عز وجل أن يهبطهما إلى الأرض، وهذا متى تم؟ بعد أن خرجا عن طاعة الله وأكلا من الشجرة، وهذه فيما يبدو معصية خفيفة، وإبليس هو الذي غرر بهما وخدعهما وقال: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].
إذاً: هذه الأحداث لم تتم في ساعة أو دقيقة لكن الكلام هذا: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] متى؟ لا يوم سجد الملائكة لآدم، ولا يوم أبلس إبليس، فهذا دهر يعرفه الله عز وجل.
ولكن الترتيب للأحداث هكذا: أولاً: خلق الله آدم ثم أسجد له الملائكة ثم بعد ذلك أمره أن يهبط إلى الأرض، وسبب الهبوط إلى الأرض أن الله عز وجل أذن له ولحواء العيش في دار السلام، يأكلان من ثمار الجنة ونعيمها ويسعدان بوجودهم فيها، لكنه نهاهما عن أكل شجرة، وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] أباح لهما كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة أراد أن يمتحنهما، وقد كتب قدراً أن ينزلهما إلى الأرض، وتعمر الأرض بذريتهما إلى يوم القيامة ولكن هي الأسباب والسنن.
فحرم عليهما الأكل من الشجرة، ما هي هذه الشجرة؟ ما دام لم يبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حق لنا أن نقول: التين، ولا أن نقول: الرمان أو التفاح، هي شجرة وكفى.
والحكايات الإسرائيلية تقول: دخل إبليس في صورة حية إلى الجنة، ولا حاجة إلى هذا، فإنه ما من أحد منا إلا وعنده جهاز تلقي وإرسال إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله نزع منه ذلك الجهاز حتى لا يستطيع الشيطان أن يتصل به.
أما نحن فعندنا رادار، يعمل ليل نهار.
فاتصل بهما عن طريق الوسواس، فوسوس لهما الشيطان، ما دخل الجنة ولا يدخلها، ولكن اتصل بهم، والآن يتصل بك الإنسان من أمريكا وأنت في المدينة هو معك في بيتكم، في أسواق المدينة؟ تقول: لا، مستحيل، قل: مستحيل، وهو: آلو آلو، يتكلم معك، ويوسوس لك.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [البقرة:36] وأسقطهما، وأوقعهما في الزلل، وهو ارتكاب المعصية، بسبب ماذا؟ بالتزيين والتحسين هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] إذا أكلتما من هذه الشجرة لا تموتان، ولا تفنيان بل تخلدان، وكذبهما، وهو لا يملك إلا التزيين فقط، وأعظم سلاح لدى العدو ليوقع الآدمي في معصية الله فيهلك هو التزيين إذ قال: فبعزتك لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40].
فلهذا فطرة الآدمي أنه يستر عورته ولو كان مجوسياً أو كافراً أو لا؟ بالفطرة أن الآدمي يستر عورته.
وإن قلت: وجدت أندية العري في أوروبا، فعند الباب تسلخ روحك سلخاً وتدخل عارياً، وهذا مسخ إبليسي وليس بفطري، فإبليس هو الذي مزق حجاب الفطرة، ونفذ إلى القلوب.
أما الفطرة الحقيقية فهي كما تعلمون عندما تمشي إلى سكان الغابات تجدهم قد وضعوا على فروجهم ستارة ولو من شجر إلى الآن. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22].
إذاً وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ [البقرة:36] لا في السماء مستقر قرار ومتاع أكل وشرب وحياة إلى حين نهاية آجالكم وأعماركم، ونهاية الحياة بكاملها، ولكم في الأرض -هذه المعهودة- مستقر ومتاع إلى حين، فمن يزعم أنه يستطيع أن يبني قصراً في القمر أو في كوكب آخر ويعيش هو هناك؟ هذا باطل باطل.
والحمد لله استرحنا من هذه الكذبة كما استرحنا من الشيوعية التي انتهت؛ لأن الذين كانوا رواداً بالقمر كذبوا لأنهم أخيراً من سنتين قالوا: ما طلعنا، هي أفلام سينمائية في الجبال واستريحوا.
ما هذه الكلمات؟ هذه جاءت من سورة الأعراف، وهو قولهما عليهما السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] فكل مؤمن أو مؤمنة أراد أن يتوب فعليه بهذا الكأس من العسل، يقول رب ظلمت نفسي، معترفاً بفجوره أو بفسقه أو بمعصيته، متألماً منها؛ لأنه أغضب الله عليه، وأسخطه بغشيانه وارتكابه ما حرم عليه، يناديه بهذا الصدق: رب ظلمت نفسي، أي: بفعل كذا وكذا. ولا يذكر جريمته لله؛ لأن الله يعلمها.
ربي، ظلمت نفسي، وإن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين، أي من جملة الخاسرين وفي عدادهم.
الماديون لا يعرفون من الخسارة إلا المادية؛ صفقة تجارية لا ربح فيها، باخرة تحمل بضاعة غرقت، مزرعة انقطع عنها الماء ماتت، زوجة ماتت، ولد جن، هذه خسائر الدنيا.
لكن الخسران الحق بينه الله تبارك وتعالى وهو أن يخسر الإنسان نفسه وأهله، فلا يبقى له أب، ولا أم، ولا ولد، ولا أخ، ولا قبيل، ولا يعرف أحداً، ويعيش في عالم وحده، لا أنيس ولا أنس.
بين تعالى هذا في آيتين من كتابه فقط، وهو قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] نعم، نحن نعد الخسارة أن نضيع ركعة من الصلاة، نعد خسارة أن نفطر في يوم من أيام الصيام، خسارة أن نشتم مؤمناً أو نضربه، نعد المعصية لله عز وجل خسارة، نعم.
ولكن غيرنا يعد الخسارة فقد المال أو الإنسان، وقد بين تعالى لنا الخسارة الحقيقية، وهي أن يفقد الإنسان كل ما عنده، ويجد نفسه في عالم شقاء كله، لا أنيس ولا من يؤانسه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
إنه بالإيمان وصالح الأعمال .. باتقاء الشرك والمعاصي يجنبك الله هذا الخسران ويبعدك عنه، إيمان صحيح اعرضه على الكتاب والسنة يوافقان عليه، عمل صالح، وهو الذي بينه الله ورسوله، بينه الله في الكتاب والرسول بلسانه وبعمله مع اجتناب الشرك بالله ولو في كلمة واحدة، ولو في إشارة برأسك.
علمنا أن أحد الأولين جاءه الشيطان وهو مقيد، يعد للموت لجريمة ارتكبها. قال له: هل أدلك على شيء إذا فعلته نجوت؟ قال: دلني. قال: اخفض رأسك لي، اسجد لي سجدة. فسجد له، فقتلوه، ومات إلى جهنم، ومن أراد أن يقف على هذه ففي التفاسير عندما قال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ [الحشر:16-17] إبليس وذلك الرجل الفاسق وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:17].
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] عرفنا الكلمات أو لا؟ ما هي؟
قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، يجب أن نحفظها ونستعملها في كل ذنب نشعر به، وكل خطيئة نرتكبها؛ إذ نجى الله تعالى أبانا آدم وأمنا بهاتين الكلمتين، فكيف ننساهما؟
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر