أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى مسير الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، والدرس الماضي كان عن التجهيزات والإعدادات، وقد تم كل ذلك، والآن الرسول صلى الله عليه وسلم وجيشه في طريقهم إلى تبوك.
فهيا نماشي رسولنا، ونقف عند كل موقف وقفه؛ ليقوى إيماننا، وتزداد محبتنا له، ويعظم إقبالنا على الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: [مسير الحبيب صلى الله عليه وسلم:
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة ، وعلى أهله علي بن أبي طالب ] رضي الله عنه؛ لأنه ابن عمه وزوج ابنته.
[وأرجف المنافقون] أرجفوا: قالوا: لم لم يأخذ علياً معه؟ لعله استثقله.. أو ما أطاقه؛ فلهذا تركه وراءه، ولا شك أنكم تسمعون الإرجاف، إلا من اجتبى الله واصطفى وانتقى من خلقه، فهم لا ينطقون بغير الحق! [وقالوا: ما خلف علياً إلا استثقالاً له، فسمع ذلك علي ] لأنهم روجوه، فبلغه ذلك [فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً سلاحه] يعني: هزمهم ومشى يحمل سلاحه [وأخبره] أي: أخبر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم [بما قال المنافقون، فقال: ( كذبوا، وإنما خلفتك لما ورائي من أهلي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى )] أراد أن يمسح دموعه ويغيظ المنافقين [( أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي )] أي: هذه المنزلة انتهيت إليها في الحب والولاء، لكن النبوة لا، فلا نبي بعدي، فلن تكون نبياً!
قال: [فرجع علي ] من الطريق [وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى جلاد بني الأصفر] أي: إلى قتال الروم، فهم بنو الأصفر.
[وقبل مسير الحبيب صلى الله عليه وسلم بلغه أن جماعة من المنافقين يجلسون في بيت أحدهم] يتآمرون بالطعن والنقد ليسلّوا على أنفسهم، ونعوذ بالله أن تكون هذه المجالس موجودة بيننا، ولكن الآن يجلسون على الشيشة! [وهو سويلم اليهودي ] كانوا يجلسون في بيت سويلم - تصغير سالم- اليهودي بعد أن ادعى الإيمان وهو منافق.
قال: [يثبطون الناس عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذه مهمتهم! يقولون: عندنا مجلس خاص وتفضلوا، ثم الذي يجلس يقال له: ما قيمة هذا الجهاد؟ وماذا سيحدث؟ وكيف تقاتلون الروم؟! هذا جنون وهذا كذا.. !! ونحن لا نحسن كلامهم، فهم يقولون أكثر من هذا، لكن يكفي أنهم يثبطون المؤمنين حتى لا يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ويقولون: لا تنفروا في الحر] وكان الحر شديداً -كما علمنا- في تلك الأيام [تزهيداً في الجهاد، وتشكيكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى فيهم قوله: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82] هذه الآيات نزلت في آل بيت سويلم اليهودي .
قالوا: لا تنفروا -وقد علمنا النفرة التي تمت والتعبئة العامة- في الحر، فقل لهم يا رسولنا: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، أي: أين الفقه وفهم أسرار الشريعة؟
[وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه أن يحرق عليهم بيت سويلم ] كانت مؤامرة ضد الإسلام ونبيه وجهاده، فمن الخير أن يحرّق عليهم ذلك البيت حتى لا يجلسوا فيه [ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا] وذهبوا [وفي هذا يقول الضحاك:
كادت -وبيت الله- نار محمد يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظلت وقد طبقت كبس سويلم أنوء على رجلي كسيراً ومرفقي
سلام عليكم لا أعود لمثلها أخاف ومن تشمل به النار يحرق]
لما انكسرت رجله انهزم وردد هذه الأبيات.
قال: [ما هذا بالنصف] أي: ليس هذا بالإنصاف [والله ما أحل عريشاً منهما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم! فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه] جمله؛ لأنه ينضح به الماء [فركبه وجرى وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه في تبوك، ورآه الناس من بعيد، فقالوا: يا رسول الله! راكب مقبل] أي: علينا [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كن
[وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبته مع رجالات الحرب، فأتاه إلى مجلسه [وأخبره بخبره] عن العريشين والمرأتين وما أعدتا وهيأتا وكيف قالا [فدعا له ففاز بدعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم] وبكم تقدر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والله لا تقدر بمال!
[وقال أبو خيثمة في قصته هذه شعراً هذا نصه:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التى كانت أعفَّ وأكرما
وبايعت باليمنى بيدي لمحمد فلم أكتسب إثماً ولم أغش محرما
تركت خضيباً في العريش وحرمة] والحرمة: جماعة من النخل.
[.................... صفايا كراماً بُسرها قد تحمما] أي: اسود.
[وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمما].
هذه الأبيات قالها أبو خيثمة في تبوك لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما نزلوا بالحجر ملئوا منها مياهاً وعجنوا، فتدارك الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف، وقال معلناً لهم: ( لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له )؛ لأنه قائدهم، فهو مسئول عنهم.
وانظر الآن كيف تتجلى الآيات النبوية.
قال: [ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم] امتثلوا، فأراقوا الماء، وعلفوا العجين للإبل، وما توضئوا من ذلك الماء؛ لأنه بلد أهلك الله فيه ثمود قوم صالح [إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته مخالفاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج وحده] هذان الرجلان من بني ساعدة من الأنصار، أحدهما خرج لحاجته مخالفاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [فخنق في طريقه] خنقه جني؛ لأنه خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم -ونحن يا رب! كم خالفنا أمر رسولك؟- فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلن: لا يخرجن أحدكم الليلة إلا ومعه صاحبه، فلا يخرج أحد منفرداً للخوف عليه، وهذا خرج راكباً رأسه رضي الله عنه ليقضي حاجته وحده فخنق.
قال: [وخرج الآخر في طلب بعير له] طلب بعيراً له ولم يجده فخرج في الليل يبحث عنه [مخالفاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاحتملته الريح حتى طرحته في جبال طيء] يعني: على مسافات كبيرة عجيبة في البعد [فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: ذهب فلان وفلان وحصل الذي حصل [فقال: (ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه) ثم دعا للذي أصيب بخنق الجن فشفي] شفاه الله، وهذه آية من آيات النبوة.
[وأما الآخر -الذي وقع في جبال طيء- فإن طيئاً أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة] عثروا عليه في جبالهم تائهاً، فقالوا: ما لك؟ ما أصابك؟ قال: كذا وكذا .. فجاءوا به هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [فكانت هذه آية من آيات النبوة المحمدية]. إذاً: صلوا عليه وسلموا تسليماً.
يا مستمعي الكرام! يا شبيبة الإسلام! يا أتباع محمد! لا تحلقوا وجوهكم، أبقوا شيئاً من الشعر يدل على رجولتكم وفحولتكم، يا من تدخنون! أطيعوا رسولكم، فإنه يكره الروائح الكريهة، لا تدخنوا! فدوسوا عند باب المسجد على علبة السيجارة، وكلك عزم على ألا تعود إليها حتى الموت، وبهذا ترتقي يا عبد الله! من سماء إلى سماء، أما بدون عزم ما ينفع.
[ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديار ثمود] ماذا فعل رسول الله؟ [غطى وجهه بثوبه واستحث السير] أي: أسرع في المشي على بعيره [وقال لأصحابه: ( لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم )] وهذا في العودة، والآن هناك بعض الهابطين يذهبون متسللين يقضون اليوم واليومين يضحكون ويدخنون، بل ويصورون أيضاً والعياذ بالله، والحمد لله لولا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولولا حكومة القرآن الكريم لرأيت العجب العجاب، لكن الآن يختفون ويكذبون وليس هناك علانية، فالأمر ممنوع، والذين لا يؤمنون بالله ولقائه وعذابه وانتقامه من أعدائه لا يفهمون هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم خاف وأسرع في المشي، وقال: هذه الأرض أهلك الله فيها أمة، ونخشى أن يصيبنا ما أصابهم. فـ( لا تدخلوا إلا وأنتم تبكون ).
قال: [وأصبح الناس ولا ماء معهم] كانوا ماشين فناموا وباتوا في الطريق [فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه] فأجابه [فأرسل الله سحابة فأمطرت، حتى ارتوى الناس وأخذوا حاجتهم من الماء؛ فكانت آية من آيات النبوة، وقيل لذلك المنافق: ويحك! هل بعد هذا شيء؟ أي: من الشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سحابة مارّة!] والآن يقولون أكثر من هذا! ولا يقرون ولا يثبتون آيات النبوة. هذا هو مرض القلوب لا بد وأن يخرج!
قال: [فقال وهو في رحل عمارة ] وفي تلك الساعة كان عمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعمارة عند الرسول صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده] وسبحان الله! بلا سلكي ولا هاتف! الرجل يقولها مع جماعته، والرسول صلى الله عليه وسلم في خيمته يقولها. لا إله إلا الله!
قال: [( إن رجلاً -يعني:
ورجع عمارة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحله فقال: والله لعجب من شيء حدّثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا -للذي قال زيد بن اللصيت - فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال زيد -والله- هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ عنقه -أي يطعن بيده في عنقه- وهو يقول: إلي عباد الله! إن في رحلي لداهية وما أشعر! اخرج أي عدو الله! من رحلي فلا تصحبني] لما حضر وأُخبر بأن صاحبه هو الذي قال، انكب عليه يطعنه في حلقه بيده ويقول: اخرج أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني. وطرده.
إذاً: عندما كان يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إذا تخلف عنه رجل وأخبر بذلك قال: ( دعوه؛ فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم -كما فعل
قال: [وتلوم أبو ذر على بعيره -أي: تمهل وتمكّث-] ما أسرع المشي ليلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم [فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره] البعير هو الذي تباطأ به، وما استطاع أن يمشي، فماذا يفعل أبو ذر ؟ أخذ متاعه على ظهره وترك بعيره في البر ومشى، وهذا موقف عجيب لـأبي ذر !
ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً على رجليه ومتاعه على ظهره [ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله في الطريق، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله! إن رجلاً يمشي في الطريق وحده! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كن
قال: [وتمضي الأيام والأعوام، وينفى أبو ذر إلى الربذة، ويحضره الموت هناك وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاها: إذا مات أن يغسلاه ويكفناه ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر عليكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، وفعلاً فعلا به ذلك] أي: المرأة والخادم [وجاء عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عمّار] أي: معتمرين [فلم يرعهم إلا والجنازة على قارعة الطريق كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام] غلام أبي ذر [فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم! تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك! ثم نزل هو وأصحابه وواروه التراب؛ فكانت آية من آيات النبوة المحمدية].
اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وصحابته، واجعلنا من أتباعه وأحبائه، وألحقنا به يا رب العالمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر