والعرض يكون على الله تعالى، ولكن بعد أن تطول المدة في ذلك الموقف، وبعدما يلحقهم التعب والعناء، فيستشفعون إلى الله تعالى بالأنبياء، ويشفع محمد صلى الله عليه وسلم لينزل الله تعالى لفصل القضاء، ثم بعد ذلك العرض، وهو عرض الناس، يقول الله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] أي: صفوفاً: صفاً بعد صف؛ ليحاسبهم، وقد أخبر تعالى أنه يحاسبهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يحاسبهم الله ويناقشهم، ويذكرهم بكذا وكذا، (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) ، وأخبر الله تعالى أنه سريع الحساب، لا يشغله شأن عن شأن.
من الأهوال التي تكون في يوم القيامة: نصب الميزان، وتطاير الصحف، فإن الناس يأتيهم الهول عندما تنصب الموازين، حتى يعلم: هل يخف ميزانه أم يثقل؟! وعندما تتطاير الصحف، حتى يعلم: هل يأخذ كتابه بيمينه، أم يأخذه بشماله؟! فإذا ثقلت موازينه نودي: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإذا أوتي كتابه بيمينه كذلك يفوز فوزاً عظيماً، ويقرأ كتابه ويعرضه على من يعرفه، ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] ، وكل ذلك مفصل في القرآن بعبارات واضحة لا يعتريها شيء من الشك والريب، ولكن الفلاسفة الذين ينكرون هذه الأشياء حقيقة يتسلطون على تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ حتى تسلم لهم عقيدتهم، كما تسلط إخوانهم من المعتزلة على نصوص الصفات فتأولوها، ففتحوا للناس باب التأويل.
وهذه الأمور التي وردت في القرآن لا يتم إيمان العبد إلا بتحققها، وتيقنها، ومعرفة أنها صحيحة ثابتة، ولا يعلم ذلك إلا بالاستعداد لها والتأهب؛ لأن من آمن باليوم الآخر استعد لذلك اليوم، وتأهب له، وعمل العمل الصالح الذي يكون سبباً في نجاته وسبباً في فوزه، أما من يصدق به بلسانه ولكنه لا يستعد له؛ فإن هذا يقول ما لا يفعل، ولا ينفعه قوله بلسانه مادام أنه لا يطبق ما يقوله، كما يقول بعضهم واصفاً هؤلاء المفرطين: ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
[قوله: (والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب).
قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:15-18] .. إلى آخر السورة.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:6-15].
وقال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] ، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] .. إلى آخر السورة.
وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15] ، إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] ، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
وروى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت : يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:7-8] ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب) ، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى].
أورد المؤلف هذه الآيات، والقرآن مشتمل -بإيضاح- على ذكر الدار الآخرة، وما يكون فيها.
أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث، وهي مذكورة في قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] ، وهي النفخة التي يبعثون بعدها، ورد في الحديث: (ما بين النفختين أربعون) ، وتوقف الراوي لا يدري هل هي أربعون يوماً، أو أربعون شهراً، أو أربعون سنة؟! وجزم بعضهم أنها أربعون سنة، أي: بين نفخ الصعق وبين نفخة القيام لرب العالمين.
وبعد النفخة الثانية تسوقهم الملائكة إلى الموقف، وهذا يسمى الحشر كما في قوله تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47] ، وبعد ذلك العرض كما في قوله: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] أي: صفوفاً، وبعده الوقوف: وهو القيام الطويل. وإذا تأملنا النصوص وجدنا ما يؤيد هذه الأشياء في آيات متتابعة متكررة، فقوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة:13] ، هي نفخة البعث أو نفخة الصعق، وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:14] أي: جعلت الأرض والجبال شيئاً واحداً، حتى تكون مستوية صالحة لأن يوقف عليها، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:15] أي: حصلت الواقعة التي هي يوم القيامة.
وأما تسميتها بالصاخة فإنه لأجل ثقلها على الناس، والصخ أصله الضرب بقوة، أو الثقل.. أو نحو ذلك.
والآيات التي ذكرت فيها ووضحت متقاربة المعنى، وإن اختلفت الألفاظ؛ وذلك لأن الله تعالى يذكره في كل موطن بما يناسبه، والقصد من تكرار ذكر يوم القيامة تحققه، حتى لا يقال: إنه خيال، أو إنه تقريبي.. أو ما أشبه ذلك.
وحتى لا تتسلط عليه التأويلات التي يسلكها النفاة من الفلاسفة ونحوهم، فإذا جمعت الآيات بصراحتها يعجزون عن أن يصرفوها.
فلذلك آمن أهل السنة وآمن المسلمون بالبعث بعد الموت، وقالوا: ليس في العقول ما ينكره، والقدرة الإلهية عامة له ولغيره، والعقل يقتضيه لأجل الجزاء على الأعمال، ولأجل الانتقام من الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ولأجل إثابة المطيع، وعقوبة العاصي، وذلك لأننا نشاهد في الدنيا ظلمة يموتون وهم مصرون على الظلم، منهم من قتل، ومنهم من قطع طرفاً ظلماً، ومنهم من انتهب مالاً: سرقة، أو اختلاساً، أو غصباً.. أو غير ذلك، ومنهم من انتهك عرضاً؛ ومع ذلك يموتون والحق عندهم، ولاشك أن الله تعالى أعدل من أن يذهب صاحب المظلمة دون أن ينتقم منه؛ فلابد أن يكون هناك يوم آخر ينصف الله فيه المظلوم، وينتقم من الظالم، ويجازيه بما يستحقه، فيكون ذلك هو اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة.
كذلك أيضاً: نشاهد أن هناك من يجد في العمل، ويجتهد في الأعمال الصالحة، ويتقرب بالحسنات، ولا يأتيه جزاء في الدنيا إلا ما يجده من لذة الطاعة ونحوها؛ فلابد أن الله لا يضيع عمله، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] ، فإذاً: لا يضيع أجره ما دام أنه لم يتمتع من أجره بشيءٍ في الدنيا، فأجره يوفى إليه في الدار الآخرة، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
كما أننا نشاهد الكفرة والفجرة الذين تمتعوا في الدنيا بشهوات وملذات، وهم يظهرون الكفر والفسوق والسخرية بالرسل، ويكذبونهم ويسخرون من الحق، ويفعلون المعاصي ويتركون الطاعات، ومع ذلك يموت أحدهم وهو على إصراره، لم تنله عقوبة في الدنيا.
إذاً: لابد أن تكون هناك دار أخرى يعاملهم الله فيها بما يستحقونه، أو يعاملهم فيها بعدله إذا لم يعفُ عن المحسن منهم، فهذه الأمور العقلية تضطر المؤمن إلى أن يؤمن بالبعث بعد الموت، وأن يتحقق وقوعه.
فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش)؟
قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق..) ، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) ، فدخل على الراوي وهذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله تعالى.
وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل)، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة من تجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله.
وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر عن ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة: تطاير الصحف، فمن أعطي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار) ، وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك أنه أنشد في ذلك شعراً:
وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليل ولا تدري بما تقع
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدعُ
تهـوي بساكـنها طـوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا
طال البكاء فلم يرحم تضرعهـم فيها ولا رقة تغني ولا جزعُ
لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا].
تحقيقاً لما ذكرنا من الحشر والبعث بعد الموت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض، فدل على أنهم يجمع خلقهم ويكمل وهم في جوف الأرض، إما في نفس القبور، وإما بطن الأرض، ثم بعد ذلك تنشق الأرض عنهم فتخرج الأرواح والأجساد على وجه الأرض، فيقومون من قبورهم كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] الأجداث: هي القبور، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] ، كأنهم شعروا بأنهم قبل بعثهم كانوا نياماً قد رقدوا فيقال: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].
والأنبياء لهم مزية، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ثم بعد ذلك بقية الأنبياء، وأرواحهم في الملأ الأعلى، وكذا أرواح الشهداء قد رفعت، وأما أجسادهم فإنها في الأرض، بعد ذلك يبعثهم الله؛ لأنه أخبر بأن الأرض هي مرد كل إنسان في قوله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وفي قوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وهذا يعم الأنبياء وغيرهم، وبعدما يجتمعون في ذلك المجمع، وذلك الموضع الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ولا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ويطول وقوفهم، وقد أخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون، وهذه صعقة جديدة، إما أنهم يسمعون صوتاً مزعجاً عندما تتشقق السماء بالغمام لتنزل الملائكة، فيكون من آثار تشققها أصوات مزعجة يصعق الناس فيها -يعني: يغشون- وتطول هذه الغشية، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، ولكن يجد موسى قد أفاق قبله، وفي ذلك مزية لموسى عليه السلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، صعقة الطور: هي المذكورة في سورة الأعراف في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذا صعق في الدنيا، يعني: كأنه جوزي بهذا الصعق.
وبكل حال فهذا الصعق يكون في الموقف، وفي الموقف أيضاً -بلا شك- أهوال عظيمة منها: العرض على الله تعالى، ومنها نصب الموازين ومنها تطاير الصحف، ومنها نشر كتب الأعمال التي هي دواوين الأعمال، كل ينشر له ديوان فيه أعماله، يقول الله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] ، ويقرؤه من يقرأ ومن لا يقرأ، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]، فهذه -بلا شك- حقائق يقينية دل عليها القرآن، ودل على أنه يحضر للإنسان كل شيء عمله من الخير والشر، فيسره أن يجد الحسنات مضاعفة موفرة، وأما إذا وجد السيئات فيستاء لذلك ويحزن، يقول الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداًً [آل عمران:30]، ما عملت من خير تجده محضراً، وما عملت من شر -يعني: من سيئات- تتمنى أنه يبعد عنها، وأنها لم تره؛ وذلك لأن السيئات -بلا شك- تسوء صاحبها، ويخاف من الجزاء عليها.
وبكل حال: هذه حقائق يجب الإيمان بها، ويجب أيضاً الاستعداد لها، والتأهب لما بعدها.
أي: ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف في الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر).
وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة.. إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبهم نار، قال: فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث].
هذا من الأهوال التي ذكرت في يوم القيامة، ذكر الله تعالى أن الأرض تبدل، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أين النار يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال: في الظلمة دون الجسر)، وفي حديث ابن عباس : (إنهم على الصراط)، وقد تكاثرت الأدلة في أنهم يعبرون على الصراط، والصراط في الأصل: هو الطريق الذي يسار عليه، قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وهو صراط معنوي، وفي الآخرة صراط حسي يعبر الناس عليه، ويسيرون عليه، وهذا الصراط منصوب على متن جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم.
وقد ورد أيضاً: (يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتمثل لكل فئة طاغوتها الذي كانت تعبده، فيمثل للنصارى تمثال على هيئة ما يعبدونه، ويقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، يقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ولا صاحبة، ما تريدون؟ فيقولون: عطشنا يا رب! فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى جهنم فيتساقطون فيها، وكذلك يقال لليهود، فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فإذا بقيت هذه الأمة أتاهم ربهم، فيقول: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فإذا تجلى لهم سجدوا، فإذا سجدوا تمكن المؤمنون من السجود، ولم يتمكن المنافقون، كلما أراد المنافق أن يسجد خر لقفاه، وذلك قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43]) أي: قد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون فلا يسجدون، فكذلك إذا دعوا إلى السجود يوم القيامة وأرادوا أن يسجدوا لم يحصل لهم ولم يستطيعوا السجود، وهنالك تقسم عليهم الأنوار ويتميز المؤمنون عن المنافقين، وينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ فيقولون: بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14]، وهذا واضح في كلام الله.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجسر الذي ينصب يوم القيامة على متن جهنم ويعبرونه، يقول العلماء: إن هذا هو المرور أو الورود، فالله تعالى أخبر أن كلاً يرد على النار فقال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72]، فمرورهم على هذا الصراط هو ورودهم المذكور: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ، فأما المؤمنون المتقون فإن الله تعالى ينجيهم، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، ولا تضرهم، بل كلما مروا على لهب منها طفئ اللهب، ويروى: (أن النار تقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ، فإذا عبروا يتساءلون: ألم يعدنا ربنا أننا نرد النار؟ فيقال: إنكم قد وردتموها وهي هامدة خامد)، هذا هو مرورهم على هذا الصراط.
المؤمن يتذكر مثل هذه الأهوال فيستعد لها، ويذكر بها إخوانه الغافلين ليستعدوا لها، وليعلموا أنها حق ويقين، وأنه ليس بينك وبين هذا إلا خروج هذه الروح من هذا الجسد، ثم بعد ذلك تلاقي أول الحساب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر