فيقول المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه ].
موضوع هذا الحديث هو الترغيب في هذين النسكين العظيمين:
(العمرة إلى العمرة) أي: الزيارة إلى البيت، من أي قطر من أقطار الدنيا، فأداء عمرتين يكفر ما بينهما من ذنوب، طال المدى أو قصر، ويأتي بحث للعلماء في نوعية المكفَّر أهي الكبائر، أم الصغائر، أم هما معاً؟
وقد جاءت أحاديث فيما يسمى بمكفرات الذنوب، جاء في القرآن الكريم: أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيئاتِكُم [النساء:31]، وجاء أيضاً: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام) ، وكذلك المشي إلى المساجد للصلوات الخمس، وكذلك يوم عرفة، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في مكفرات الذنوب.
ويرى بعض العلماء أن هذا عام (العمرة إلى العمرة كفارة) لم يأت قيد لكبيرة ولا لصغيرة، ولم يأت قيد لحق الله أو لحق العبد، والعلماء مختلفون في هذه المسألة:
فهناك من يقول: تكفر حق الله وتكفر حق العباد على الإطلاق.
وهناك من يقول: تكفر حق الله فقط، أما حق العباد فمتوقف على الأداء.
وهناك من يقول: تكفر الصغائر فقط ولا تكفر الكبائر.
وأشد من تشدد في ذلك ابن عبد البر رحمه الله، والذين قالوا: تكفر حتى حقوق العباد، مع أن حق العباد لا يسقطه حتى الجهاد وحتى الشهادة في سبيل الله؛ لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تكفر الشهادة.. -فأخبره بأنها تكفر كل شيء- ؟ ثم ولى، فدعاه مرة أخرى، وقال: إلا الدين، فإن الميت مرهون في قبره بدينه) وقالوا: إن حق العبد مبني على المشاحة، فهو يقف بين يدي الله ويطالب بحقه.
فالذين قالوا: إنها تكفر كل شيء حتى حقوق العباد، قالوا: إن الله سبحانه قد وعد بذلك، فهو الذي يتولى إرضاء ذوي الحقوق عن حقوقهم، وقد جاءت نصوص وفيها: (إذا كان الناس في عرصات القيامة، ترفع غرف يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا ربنا! لمن هذه الغرف؟ فيقول -سبحانه- : لمن تنازل عن مظلمة له عند أخيه)، فكل ذي مظلمة يتنازل لينال من تلك الغرف الرفيعة المنازل، كرفعة النجوم في الدنيا.. إلى غير ذلك.
ومهما يكن من شيء فهذا نص عام، إلا أن المسلم العاقل لا ينبغي أن يتكل على ذلك كل الاتكال، فعليه أن يؤدي حقوق العباد، وأن لا يقصر في حقوق الله.
وبعضهم قال: لا تكرر في الشهر الواحد.
وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام.
وحجة أولئك: بأن من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت شعره ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة لمن أراد ذلك.
ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر، وأتى مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين، وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة، مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور: بأن فعله صلى الله عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على عدم الجواز، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛ مخافة أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم.
ومن هنا ترك العمرة في فتح مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة ثمان سنة فتح وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له، فما كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان إلا قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم كرر العمرة في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة آلاف من أهل مكة، انضموا إلى جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد، وتكرار العمرة سنة ونافلة، وليس بواجب.
وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على عدم الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد أتى بالقول، وجعله عاماً ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة، ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار منه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت مع أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: لا عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة في حجة -فأدخلت العمرة على الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت: أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك، قالت: لا، أيرجع صاحباتي بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة مستقلة- فقال صلى الله عليه وسلم لأخيها
ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛ لأن بقاءهم عند البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في الذهاب والإياب إلى غير ذلك.
إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت لأداء العمرة، خلافاً لما جاء عن مالك رحمه الله.
ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضاً؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله : (أن تعين الرجل على دابته، تحمله عليها وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة) وهكذا الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك، ثم تجده يرفث عند النساء.
إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من إتمام واجباته، وسننه، ومندوباته، وأركانه.
والبعض يقول الحج المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من أدى الحج بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام في هذه السفرة المباركة.
وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك... إلخ، ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه.. في منهجه.. في أمانته.. في معاملاته.. في محافظته على العبادات.. في وفائه للحقوق.. أهو خير مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس، ويظهر ذلك في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله.
ومهما يكن من شيء فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور على ما جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة: (إطعام الطعام وإفشاء السلام) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير في أداء الحج.
قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة)، أعظِم بهذا الجزاء! يخرج في رحلة، أياماً وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم الله على إنسان بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو فضل من الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا سلطانه، إنما هي نعمة من الله.
ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام البيت ورفع القواعد، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب! وأين يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج، حتى الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين.. إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم الذر، قبل أن يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها.
وهكذا عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك، و(لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك إنسان فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك، وممتثل لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك، إنما هي إجابة لذاك النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.
إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم كم خلف في قومه ممن هو أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والله سبحانه وتعالى أعلم.
يقول هنا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (يا رسول الله! أعلى النساء جهاد؟) قولها: (على النساء) خبر يراد به الإنشاء أو الاستفهام؟ (على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)، وجاء بصيغة أخرى وفيها: (يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟) تقول رضي الله تعالى عنها: نرى الجهاد -معشر النسوة- أعظم الأعمال وأفضل الأعمال، أفلا نشارك في هذا الفضل؟ (قال: نعم، ولكن جهادكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو جهاد للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل للمشاق، ولربما البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج على الحالة التي كان عليها من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته من وسائل الراحة قد يجدها أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في الحج من وعثاء السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان أو المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة، والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة.
نجد في الحج جهاد النفس، فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف بها، وقد نجد في الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا إلى محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه، فتكون زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي حلال له بكتاب الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي حجه، ونجد الحاج يرى الصيد بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه من الحلال، ولكن لإحرامه يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه.. إلى غير ذلك.
والجهاد كما قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس.. إلى غير ذلك من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج وأنه يعدل فضل الجهاد.
وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) إذاً: الجهاد الذي لا قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على سبيل التشبيه؛ لأن الحديث السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء رجل وقال: أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا به شاب قد خشيت عليه، فمنعته منها) وهكذا.
جاء في بعض الأخبار: أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى- جاءه رجل وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق وتقطع يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير، قال: نظرت إلى الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله سبحانه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك، فأخذتها من قوله: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].
إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه الأحاديث الثلاثة: بر الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في سبيل الله، لاختلاف أحوال السائل: فقوي البنية الذي يقوى على الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي لا يقوى على الجهاد أرشده إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده إلى برهما، وهكذا كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه.
إذاً: النصوص التي جاءت في بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا مراد المؤلف رحمه الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.
هذا ترتيب حسن من المؤلف رحمه الله، فبدأ كتاب الحج بحديثين موضوعهما بيان فضل الحج والعمرة، والترغيب فيهما، وكأنه يدعو الناس ويرغبهم في الحج والعمرة، ثم دخل في موضوع الأحكام.
فقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة) لكن هل هي واجبة أم سنة؟
وقوله: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هل هو واجب أم ليس بواجب؟ مع أن الحج مفروغ من أمر وجوبه، فوجوبه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] (لله على) هذا آكد من قوله: (أوجبت)؛ لأنه أصبح ديناً وحقاً لله على العباد، والفرض قد يسقط، والدين لا يسقط.
وفي نهاية الآية الكريمة: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] ثم قال: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] هذا وعيد شديد، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ [آل عمران:97] أي: ومن لم يحج، فإن الله غني عنه، ولكن ما جاء المقابل من جنسه، فلم يقل: ومن لم يحج، بل جاء بديلاً عن من لم يحج (ومن كفر) ليبقى كما يقول أهل المنطق الماصدقي (ومن كفر) تصدق على من لم يحج، أو من لم يحج كفر.
وقد جاء عن عمر أنه قال: (من استطاع الحج ولم يحج، فليمت إن شاء نصرانياً، أو يهودياً) وجاء عنه كذلك: (لقد هممت أن أبعث رجالاً للأعراب على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين!(.
إذاً: بدأ المؤلف في بيان الأحكام، وبدأ بالعمرة؛ لأنها محل الخلاف، أما الحج فلا خلاف في وجوبه بالشرط المذكور: (من استطاع).
الأول: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة؟) أخبرني عن حكم العمرة أواجبة هي؟ هذا سؤال إنسان متثبت: أهي واجبة أم ليست بواجبة؟ ماذا كان الجواب؟ الجواب: لا، وكما يقولون: الجواب يتضمن إعادة السؤال، (لا) العمرة ليست واجبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على ذلك؛ حتى لا يظن إنسان أنها مستوية الطرفين: الفعل والترك، بل قال: (وأن تعتمر خير لك) كأنه قال: ليست واجبة، ولكن فعلها خير من تركها، وهذا الأسلوب يدل على عدم وجوبها، وأنها مرغب فيها ومندوب إليها.
ومن هنا بدأ خلاف العلماء، فهناك من أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا، وقالوا: ليست بواجبة، أخذاً بهذا النص، ولكن هل سلم سند هذا الحديث؟ العلماء متفقون على أنه ضعيف.
ثم يأتي المؤلف رحمه الله -من فقهه- بالأثر الثاني عن جابر .
[ (وعن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً) ].
(مرفوعاً) يعني: مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجابر : صحابي، ولو كان القول من عنده لاعتبره العلماء موقوفاً على الصحابي، لكن إذا قال: (مرفوعاً) فإنه يرفعه درجة، وإذا رفع الصحابي الحديث درجة عن طبقة الصحابة فإنه يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وعن جابر أيضاً مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الحج والعمرة فريضتان).
(الحج والعمرة فريضتان) ولكن هل هذا أيضاً صحيح قوي أو ضعيف مثل الذي قبله؟
قال المؤلف: [ وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف ].
كلا الأثرين -عن جابر - ضعيف، فمن أخذ بالأول أخذ بسند ضعيف، ومن احتج بالثاني احتج بسند ضعيف، إذن: كما قال الشافعي : حديث في عدم فرضيتها خير من حديث في فرضيتها.
ويرجع الاستدلال على وجوبها إلى مسائل أخرى: من ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (العمرة والحج مقترنان)، واستدل بقوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] ولكن الذين يقولون بعدم الفرضية قالوا: الأمر هنا: (إتمام) والإتمام يكون بعد البداية، لا ابتداءً، وبالإجماع: أن نافلة العمرة، ونافلة الحج، إذا شرع فيها الإنسان وجب عليه أن يتمها، مع أنها نافلة، ولو اعتمر عشر مرات، ثم شرع في عمرة جديدة فإنه وجب عليه بعد الشروع فيها أن يتمها، فقالوا: الإتمام يكون بعد الابتداء، أما الوجوب ابتداءً فليس فيه نص، والآخرون يقولون: هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وفتواهم جميعاً.
والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ما عدا مالكاً يقولون: العمرة فرض كالحج.
إذاً: ما هو الفرق بين حديث: (فرض على كل مسلم)، وحديث: (لا. وأن تعتمر خير لك) يقول الأصوليون: إذا جاء نصان متعادلان في السند، أحدهما ينفي ويسقط الوجوب، والآخر يثبت وينشئ الوجوب، قالوا: المثبت مقدم على النافي، وقالوا: ما يخرج عن البراءة الأصلية مقدم على غيره؛ لأن الأصل عدم الوجوب، فلما جاء النص بالوجوب ولو كان ضعيفاً فإنه أقوى من النص الأول الذي مؤداه كالعدم؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وحديث: (لا)، ما زاد عن الأصل بشيء، بخلاف الحديث الثاني الذي قال: (العمرة والحج فرض على كل أحد).
إذاً: الناقل من البراءة الأصلية إلى التكليف مقدم عما لا ينقل عن البراءة الأصلية؛ لأن فيه زيادة تكليف وزيادة علم، ولهذا قال الجمهور: إن العمرة واجبة كوجوب الحج.
وهناك نصوص أخرى أصح سنداً، منها: (إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج أفأحج عن أبي؟ قال: نعم، حج عن أبيك واعتمر) فهو سأل عن الحج، فزاده (واعتمر) كأنه يجهل أمر العمرة، أو كأنه أغفلها، فذكّره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر