أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:71-75].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس تدارسنا قول ربنا: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].
واليوم سنأخذ قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71]، فصدر حكم الله عليهم؛ لأنهم ما آمنوا بربهم ولا بلقائه، ولا بكتبه ولا برسله، ولا بقضائه وقدره، فتسوقهم الزبانية، إِلَى جَهَنَّمَ [الزمر:71]، وجهنم دركة من دركات النار السبعة؛ لأن النار سبع دركات. ومعنى زمراً، أي: جماعات، ويساقون زمرة بعد زمرة، بحسب كفرهم وفسقهم وفجورهم.
ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا [الزمر:71]، أي: النار والعياذ بالله. فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71]. لأنها كانت مغلقة حتى لا يذهب شيء من حرها، وللجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب. و(فُتّحت) بالتشديد وبالتخفيف قراءتان سبعيتان.
وقوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا [الزمر:71]. أي: الموكلون بتعذيب أهلها وهم الزبانية، وعددهم تسعة عشر زابناً، كما جاء في سورة المدثر: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].
فقالوا لهم موبخين، عاتبين، لائمين: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71]؟ أي: ألم يأتكم رسل كرام من ربكم أرسلهم إليكم، ورسل الله ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أولهم نوح، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى: يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71]. أي: يقرءونها ويسمعونكم ما فيها من بيان الحق والباطل، والخير والشر، والكفر والإيمان، وينذرونكم ويخوفونكم عواقب الكفر؟ فأجابوا قائلين: بَلَى [الزمر:71]. أي: جاءتنا رسل الله وأنذرونا وخوفونا عذاب الله. وَلَكِنْ حَقَّتْ [الزمر:71]، أي: وجبت، كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71] وهي الدخول في جهنم.
وقد علمنا أن الإيمان والتقوى بهما تتكون الولاية ويصبح العبد سواء كان أسوداَ أو أبيضاً ولياً لله، وكل مؤمن تقي هو لله ولي، سواء كان شريفاً أو وضيعاً، في الأولين أو في الآخرين.
ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73]. وأبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ) بأن توضأ وضوءاً كما بينه الله في القرآن وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في السنن ( ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ). هذه والله تساوي الدنيا وما فيها، وأكثر إخواننا وأبنائنا لا يعرفونها، فإذا توضأت للصبح أو للظهر أو لتلاوة كتاب الله، فأحسن وضوءك، والوضوء سهل والكل يحسنه، ثم ارفع رأسك إلى السماء واشهد هذه الشهادة وادع بهذا الدعاء، تفتح لك أبواب الجنة ولو كنت عندها لدخلتها.
ومن اللطائف أنه قد يقال: كيف تفتح له أبواب الجنة وهو ما وصل إليها؟ فنقول: في المطارات قبل ما تصل إلى الباب ينفتح الباب لوحده آلياً، وسبحان الله!
وقد كنا نؤمن بما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونصدق ونحن لم نره، أما الآن فالذي يكذب بهذا لا عقل له لكونه يشاهد نظيره في الدنيا، والشاهد من الحديث هو: أن أبواب الجنة ثمانية.
ثم قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا [الزمر:73]. أي: الموكلون باستقبال المؤمنين والتأهيل والترحيب بهم، وإنزالهم في منازلهم وهم خزنة الجنة يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. وقد ورد أن عند باب الجنة شجرة يخرج من أسفلها عينان تفيضان، قبل أن يدخل أهل الجنة فيها يشربون ويغتسلون منهما، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة، وتقول لهم الخزنة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. وهذا قد يكون لبعض المؤمنين من أهل الآثام والذنوب إذا نجوا من قنطرة الجسر، فإنهم قبل أن يدخلوها يتنظفون ويتطيبون ويتطهرون ثم تقول لهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. ومعنى خالدون: أي: لا يخرجون منها ولا تموتون، والخلود هو: البقاء الدائم، ومن دخل الجنة فلن يخرج منها قط، ولن يموت ولن يمرض ولن يهرم ولن يصاب بشيء مكروه أبداً، وإنما هي سعادة أبدية، والذي أوجد هذه الحياة اللطيفة الضعيفة هو من أوجد حياة أعظم وأتم منها وهي في الجنة.
وقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ [الزمر:74]، المراد بها الجنة، وقد أورثهم الله أرضها وأشجارها وقصورها وكل ما فيها، وعبروا بقولهم: وأورثنا الأرض، لأن آدم وحواء كانا فيها فورثوها عنهم، وقد هبط آدم وحواء إلى الأرض بتدبير الله وقضائه وحكمه، ثم توالدوا وأصبح لهم أولاد وأحفاد وأسباط، فلما عاد أحفادهم وأسباطهم وأولادهم إلى الجنة قالوا: هذه دار أبينا وأمنا، أورثناها الله عز وجل.
وهنا لطيفة علمية أخرى وهي صحيحة هي: أن من عظمة الرب تبارك وتعالى وجلاله وكماله،أنه أوجد عالمان: عالم السعادة، وعالم الشقاء، وأوجدهما على قدر عبيده من الإنس والجن، فما من إنسان إلا وله دار في الجنة وأخرى في النار، ثم أهل الجنة يرثون أهل النار منازلهم في الجنة، وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة في النار، فمثلاً منزل أبي بكر الصديق في النار سيرثه أبو لهب، ومنزل أبي لهب في الجنة سيرثه أبو بكر وهذا توارث ولآية تحتمل المعنيين. ثم قال تعالى عنهم: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74]، أي: نمشي فيها وننزل ونسكن حيث نشاء، فليس فيها مكان خاص، ومنازل أهل الجنة تتراءى كما نتراءى الكواكب في بعدها وعلوها، لا إله إلا الله. وأنت حين ترفع رأسك تنظر إلى كواكب السماء وأفلاكها وفوق تلك السماء وفوقها سماء أخرى، وهكذا سبع سماوات وبعدها عالم السعادة، الجنة دار السلام ودار الأبرار، ودنيانا هذه لا تساويها بشيء، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثل دنيانا كقطرة ماء في البحر بالنسبة الدار الآخرة، وإذا تأملت ما تحت الأرض ستجد أنه عالم الشقاء جهنم والعياذ بالله. وهو عالم كله شقاء، ونحن في الأرض في الوسط بين عالم السعادة العلوي وبين عالم الشقاء السفلي، فإن آمنا واستقمنا وتبنا وعبدنا الله عز وجل أسكننا الجنة، وإن كفرنا وأشركنا وعصينا وفسقنا وفجرنا أنزلنا عالم الشقاء النار.
وإن أردت أن تنظر إلى آية من آيات الله الدالة على علمه وعظمته وقدرته وحكمته، فانظر فقط إلى إخوانك ولن تجد اثنين لا يميز بينهما أبداً، ولو جمعت أهل الأرض كلهم وهم كما تشاهد لهم عينان، وأنف، وشفتان، وأذنان، ورأس وجسم واحد، لن تجد اثنين لا يميز بينهما، فلا عظمة أعظم من هذه العظمة، ولا علم أعظم من هذا العلم، ولو كان هناك تشابه بحيث لا يفرق بين الناس لخربت الدنيا، فهذا سينكح امرأة هذا، وهذا سيقول أنا فلان وليس كذلك وهكذا، لكن هذه الميزة الربانية آية من آيات الله، وإذا أردت أن تنظر إلى آية من آيات الله فانظر إلى الشمس من فوقك، فهي أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، والذي أوجدها وعلقها في السماء وجعلها ناراً ملتهبة تحرق هو الله العظيم، وصاحب هذه العظمة لا يعجزه شيء أبداً.
وقد بينا أن أهل الجنة يدخلونها زمراً؛ لأنهم يتفاوتون في الأعمال الصالحة فليس مستواهم واحد، فأصحاب رسول الله منهم أربعة فوق كل صحابي، وعشرة مبشرون بالجنة، وهكذا.
وأهل المسجد متفاوتون في صالح أعمالهم فيدخلون الجنة أفواجاً، والأفواج هي: الجماعات، فهم طبقات بعضهم أعلى من بعض: والتفاوت موجود بيننا إلى يوم الدين، إذ لسنا على مستوى واحد، فهذا يصلي عشر ركعات، وهذا يصلي خمسين ركعة في اليوم والليلة، وهكذا.
ثم قال تعالى: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]، أي: للصالحات، وأجرهم الجنة، فالذين عاشوا على الإيمان وصالح الأعمال حتى ماتوا، هم العاملون ونعم أجر العاملين الجنة، وهي مثوبتهم وجزاءهم.
ثم قال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:75]. أي: وحكم الله ببين العباد بالعدل، فأدخل أهل الكفر والشرك والفسق والفجور جهنم، عالم الشقاء، وحكم لأهل الإيمان وصالحي الأعمال والتقوى بأن أدخلهم الجنة والله متعال عن الظلم والباطل.
ثم قال تعالى: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]. فقولوا: الحمد لله رب العالمين.
وهنا لطيفة علمية: قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]. فحمد نفسه على أول الخلق. وحمد نفسه عند نهاية الخلق، فقال: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]. وذلك حين انتهت الدنيا، واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقد تعلمنا أننا مطالبون بحمد الله في كل ساعة، بل في كل لحظة فلا يفارق ألسنتنا قول: الحمد لله.. فالحمد لله على نعمه، وعلى آلائه، وعلى إفضاله، فقد وهبنا أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأيدينا، وأرجلنا، ونساءنا، وبنا فوقنا سماء، وبسط لنا الأرض، وخلق لنا الأطعمة على اختلافها، والفواكه، والخضار وغيرها فالحمد لله.
اللهم اجعلنا من الحامدين الذاكرين الشاكرين.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم ] وقد يسحبون على وجوههم إلى النار، أما أهل الإيمان وصالحو الأعمال أولياء الله، جعلنا الله منهم، فلهم نجائب -ركائب- خلقها الله لهم يركبونها إلى الجنة.
[ ثانياً: التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى، وعباده المؤمنين به، المتقين له ] فقد ندد الله بالكفر والكافرين الاستكبار والمستكبرين، الظلم والظالمين، والعياذ بالله.
[ ثالثاً: بيان إكرام الله تعالى لأوليائه؛ إذ يحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة، ويلقون فيها تحية وسلاماً. تحية احترام وإكرام، وسلام أمان من كل مكروه ] والمسلمون هم أولياء الله وليسوا أعداءه، لأنهم آمنوا واستقاموا على منهجه فلا يخافون أبداً.
[ رابعاً: بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الأتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار.
وأخيراً: ختم كل عمل بالحمد لله، فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وختم بالحمد، وقيل الحمد لله رب العالمين ] وعلى العبد أن يبدأ عمله بالحمد لله، ويختمه بالحمد لله كما فعل الله عز وجل اقتداءً بالله تبارك وتعالى؛ إذ بدأ الخلق بالحمد لله، وختمه بالحمد لله.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر