إسلام ويب

التوكل لا التواكلللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوكل على الله من العبادات القلبية، فهو واجب على كل مسلم، ومن صرفه إلى غير الله فقد أشرك. ولعظم هذه العبادة جعلها الله معجزة لنبيه ورسوله عليه الصلاة والسلام، وذكر فيها الخليلين عليهما السلام في القرآن على سبيل المدح والفخر. ولهذا التوكل ثمار في الدنيا والآخرة، ومن عايش التوكل على ربه علم حقيقة ضعف البشر أمام خالقهم، وعلم أن الأنبياء والرسل توكلوا وأخذوا بكل الأسباب، وجعلوا اعتمادهم على مسبب الأسباب عز وجل.

    1.   

    الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

    اللهم ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا, واجعله الوارث منا, واجعل ثأرنا على من ظلمنا, وانصرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, واجعل الآخرة معادنا, ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الرحمين!

    اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا, وتوفنا إذا علمت الوفاة خيراً لنا.

    اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة, ونسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب, ونسألك القصد في الفقر والغنى, ونسألك نعيماً لا ينفد, ونسألك قرة عين لا تنقطع, ونسألك الرضا بعد القضاء, ونسألك برد العيش بعد الموت, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان, واجعلنا هداة مهتدين.

    اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم لقائك, اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين, وارحم موتانا وموتى المسلمين.

    سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].

    أيها الأحباب الكرام: إني أحبكم في الله, وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ومستقر رحمته.

    حديثي اليوم حول مقام التوكل على الله, وهو من العبادات القلبية, وواجب وفريضة على كل مسلم, والمسلم بلا توكل كأنك تقول: بلا إيمان, فالله عندما وصف المسلمين في كتابه جاءت من أعظم صفاتهم: التوكل على الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

    والتوكل على الله لا يتنافى مع بذل الأسباب, فكثير من الناس يظن أن التواكل توكُّل, ويظن أنه إذا ترك الأسباب فقد توكَّل, لا, فالله سبحانه قد أقام الكون والخلق على أسباب ومسببات ونواميس وقوانين وأقدار تُدفع بأقدار, والله سبحانه وتعالى علمنا أننا لا نتوكل على السبب وإنما نتوكل على الله المسبب لهذا السبب, فالسبب يصيب والسبب يخيب, ولكن توكلنا عند بذله على الله رب العالمين مصيب ولا شك.

    كالذي يأخذ الدواء لا يتوكل على الدواء, والذي يذهب إلى الطبيب لا يتوكل على الطبيب, إنما يأخذ الدواء ويتوكل على الله فيسأله الشفاء, فنحن لا نسأل الطبيب الشفاء, ولا نسأل الدواء الشفاء.

    عظم توكل إبراهيم عليه السلام

    من حقيقة التوكل بعد أخذ الدواء: أن نسأل الله الشفاء, وهذا الذي كان إمام المتوكلين دائماً وأبداً يردده إبراهيم عليه السلام عندما قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80] نعم من شعاره كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن كلمة إبراهيم التي قالها يوم أن قذف في النار: حسبي الله ونعم الوكيل) (حسبي الله ونعم الوكيل) حوَّلت بإذن الله النار إلى برد وسلام, نعم، انظر كيف! لهذا كما جاء في الأثر: أن جبرائيل عليه السلام نزل عليه وهو مربوط وقد وضع في المنجنيق والكفار يهددونه بإلقائه في النار المشتعلة فقال له: ألك حاجة؟ قال: أما منك فلا, ومن الله فنعم, حسبي الله ونعم الوكيل, فنزلت الإجابة: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] ومن شدة برودتها قال المفسرون: لولا أن الله حدد البرودة بالسلام لتجمد إبراهيم داخلها وهي نار, فقال: بَرْداً وَسَلاماً [الأنبياء:69] حتى لا يتجمد, إذ أن من تمام توكله على الله سبحانه أن سحب خاصية الإحراق من النار وهي ملتهبة وأنجى بهذا التوكل العظيم إبراهيم عليه السلام.

    1.   

    جعل الله معجزة هود في توكله

    أحبتي في الله: ومقام التوكل على الله كان في يوم من الأيام معجزة نبي، ولعلكم تسمعون هذا لأول مرة, أن الأنبياء جاءوا بمعجزات, معجزات مادية, آمَنَ عليها البشر.

    فموسى عليه السلام كما تعلمون أن معجزته: العصا.

    عيسى عليه السلام كما تعلمون أن معجزاته: يحي الموتى، ويشفي الأبرص والأكمه والأعمى بإذن الله, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.

    ومعجزة صالح: الناقة.

    ومعجزة نوح: السفينة.

    ومعجزات كثيرة، لكن هناك نبي وهو هود عليه السلام كانت معجزته التوكل, نعم، حتى أبيِّن لكم عظمة هذا المقام حتى جعله الله معجزة من معجزات أنبيائه ورسله.

    هود عليه السلام ما جاء بمعجزة مادية محسوسة ملموسة يؤمن عليها قومه, حتى إنهم ردوا عليه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53] ببينه: يعني: بمعجزة, فكان الجواب الآتي:

    هناك كلمة يقولها أهل وأرباب السلوك العلماء، يقولون: الزم التوحيد يأتيك التأييد، لاحظ الكلمة هذه!

    تحدي هود لقومه بما يحمل من توكل

    ومن أركان التوحيد: التوكل, قالوا: الزم التوحيد يأتيك التأييد, من أين يأتيك التأييد؟ من الله, ما دليل ذلك؟

    قال تعالى في قصة هود مع قومه عندما قالوا: ما جئتنا ببينة، وتحدوه، وجماهير صاخبة، وصراخ وضجيج، وبلاوي: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ [هود:54-55] هذا التوحيد, الزم التوحيد, بقية الآية: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] انظر! سبحان الله! قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55] تحدٍ, كيدوني جميعاً, الآن وليس غداً, لا تنظروني، يعني: لا تمهلوني إلى غد, لا، الآن باجتماعكم وقوتكم وجيشكم وعددكم تعالوا اقتلوني إن كنتم تقدرون, احرقوني إن كنتم تقدرون, أنا أتحداكم, بماذا تحداهم؟

    بأمرَين:

    - بالتوحيد الذي أداه.

    - وبالتوكل الذي ختم به.

    قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا [هود:54] هذا التوحيد الآن الذي هو الولاء والبراء, البراءة من الكفر والشرك، والولاء لله رب العالمين: أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].

    كلام ابن القيم في عظم توكل هود

    والإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه العظيم الذي جمعه العلماء، التفسير القيم لـابن القيم يقول في تفسير هذه الآية: إن هود عليه السلام لما أعلن براءته من الشرك ونادى بالتوحيد, أنزل الله عليه التأييد، حيث إنه قال لهم: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:55-56] بما أنه هو ربي هو أيضاً ربكم سبحانه, إذاً ما دام هو ربي سيحميني, ما دامت هذه عقيدتي فيه, حيث إن من معاني أسماء الربوبية: الكفاية والرعاية والحماية, إذاً هو ربي سيحميني, وبما أنه ربكم ما أخافُكم؛ لأن الذي يحميني قادر على أن يمنعكم من أن تؤذوني, فإذاً هو ربي وأيضاً ربكم, لو كان هناك له رب آخر ينافسه, لتَصارَع الربان عليَّ وعليكم, لكن الرب واحد, أنا أطعته فهو عني راضٍ, وأنتم أشركتم فهو عليكم غاضب, فمن المنصور ومن المهزوم؟!

    فلهذا قال: رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] يحميني ويخذلكم! ينصرني ويهزمكم! لهذا دائماً تجد عندما يذكر الله سبحانه وتعالى نصرة أوليائه وهزيمة أعدائه, يأتي في آخر القصة ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:139-140] لماذا جاء بهذين الاسمين والصفتين؟

    عزيز: بعزته غلب كل كافر, رحيم: برحمته نصر أولياءه على أعدائه, فهو عزيز غالب, وهو رحيم ينصر, لا إله إلا هو, فجاء هذا التعقيب مطرداً إلى آخر الآيات, يتكرر في قصة إبراهيم، في قصة هود، في قصة صالح، حتى في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه, دائماً تتكرر هذه التعقيبات العجيبة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:139-140] العزيز: الذي غلب الكفار, الرحيم: الذي بهذه الرحمة أيد أولياءه ونصرهم سبحانه وتعالى.

    توحيد الألوهية والربوبية من معاني التوكل

    فهود يخـبر ويقول: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] ماذا نلاحظ في كلامه لما قال: تَوَكَّلْتُ [هود:56]؟

    من معاني التوكُّل: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية, نعم؛ لأنه عنـدما قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ [هود:56] مـاذا قال؟

    قال: عَلَى اللَّهِ [هود:56] هذا توحيد الألوهية, ومعنى توحيد الألوهية: أنني لا أعبد مع الله إلهاً آخر, فلا أسأل إلا الله, ولا أطلب إلا الله, ولا أستغيث إلا بالله, ولا أعوذ ولا ألوذ إلا بالله, ولا أستجير إلا بالله, ولا أعتمد ولا أسلم ولا أحاكم ولا أخاصم ولا أفوض إلا لله رب العالمين, هذا كله معناه توحيد الألوهية الذي قدمه على توحيد الربوبية: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ [هود:56] هذا توحيد الألوهية, ما أعبد مع الله إلهاً آخر, بحركاتي، بركوعي وبسجودي وبعبادتي القلبية، وعبادة جوارحي لله.

    قال: رَبِّي [هود:56] هذا توحيد الربوبية, فهو وحَّد توحيد الألوهية، ووحَّد توحيد الربوبية بعد التوكل مباشرة, كأنه يقول: إن من أعظم مقامات التوكل وأعمدته وحقيقته: أن يوحد الله توحيد الألوهية، وأن يوحد الله توحيد الربوبية.

    الكفار مع الأسف الشديد أنهم يوحدون الله توحيد الربوبية, لكن ما يوحدونه توحيد الألوهية, يوحدونه توحيد الربوبية، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] الله الذي يخلق، ويزرق ويأخذ، ويعطي, لكن اعبدوه وحده قالوا: لا. نعبد معه اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والآلهة والأهواء .. وإلخ.

    إذاً الكفار اختلفوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة في توحيد الألوهية؛ ولكنهم لم يختلفوا في توحيد الربوبية, قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

    في النهاية يظهر العلماء أن توحيد الألوهية ملازم لتوحيد الربوبية, وتوحيد الربوبية ملازم لتوحيد الألوهية, لا ينفصل، بل الإنسان يعتبر متناقضاً, ويعتبر إنساناً بلا عقل إذا فصل بين هذين التوحيدين، فعجباً لكم أيها العرب المشركون كيف تنكرون أن يكون نبيكم بشراً ولا تنكرون على عقولكم أن يكون ربكم حجراً؟!

    نعم: هذه من أعجب العجائب! محمد بشر وهذا تشريف للبشر أنكروه، وربهم حجر يعبدونه!

    فلهذا هود عليه السلام قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ [هود:56] توحيد الألوهية, رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] توحيد الربوبية، أنا لا أخاف منكم إنما أخاف منه هو عز وجل: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56].

    أثر التوكل في خوف العبد من ربه

    قال: مَا مِنْ دَابَّةٍ [هود:56] وهذه الكلمة فيها تحدٍّ, تصوَّر! يسميهم دواباً، وكلمة: (الدابة) دائماً تطلق على الحيوان, وهو: كل ما يدب في الأرض؛ لكن عندما تطلق هكذا يراد بها البهائم، فكأنه يقول: أنتم أيها الكفار عندي بمستوى البهائم, إذا كانت البهائم تضرني فأنتم تضروني، البهائم مهما اجتمعت ما تضرك, ألف بعير طفل صغير بعصاه يقودها, خمسة آلاف عنز طفل صغير بعصاه يقودها.

    مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56] وهذا يبين لك عظمة مقام التوكل في قلوب أولئك الأنبياء والأصفياء؛ حيث إنه يشاهد بعين الحقيقة أن كل مخلوق الخالق آخذ بناصيته, ابتداءً من جبرائيل إلى ميكائيل إلى إسرافيل إلى أحد حملة العرش الثمانية الذي ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام, إلى الملَك الذي يحمل العرش وتخترق رجلاه السماوات السبع والأرض يقول: سبحانك حيث كنت, إلى عالم الإنس، إلى عالم الجن، إلى عالم الحيوان، إلى عالم الحشرات والطيور، إلى عالم النباتات، إلى عالم الجمادات آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56].

    إذاً هي ليست متروكة, وعندما تنفع وتضر ليس على كيفها ومشيئتها, لا, مثل الذي عنده حصان ومربوط بحبل طويل, والذي يراه من بعيد يركض في الرياض وعلى الراوبي يقول: هذا حصان متروك, لكن حبله بيد صاحبه, عندما تقترب أنت منه فعلاً وتنظر بعين الحقيقة ترى صاحبه فقط ينادي عليه يأتي، لهذا يقول القرآن: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:115-117] أين يذهب وأين يسير؟ اذهب وبعد ذلك حسابك أين؟ المرد إلى ربك:فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117].

    فهذه الحقيقة تبين لك هذه الصورة العجيبة التي يطرحها هذا النبي أمام هؤلاء الذين يظنون أنفسهم أن المسألة بأيديهم وأنهم ما دام أن معهم القوة والمال والجاه والسلطان والملك والضجيج والجماهير والصخب، لا: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

    تفسير الصراط المستقيم من كلام ابن القيم

    وابن القيم في هذه الآية يقول كلاماً طويلاً نختصره, يقول: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]:

    فالصراط: هو الطريق الأقصر طريقاً بين نقطتين.

    والصراط في الشريعة الإسلامية .. الصراط المادي هو: جسر مضروب في أرض المحشر على ظهر جهنم, يعبر عليه الناس المؤمنون إلى الجنة والكافرون يهوي بهم في النار.

    والصراط الشرعي هو: هداية الله سبحانه وتعالى, تستطيع أن تقول: القرآن، تستطيع أن تقول: الصلاة، المهم الطريقة الشرعية التي أرادها الله سبحانه وتعالى، لذا نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5] أي: الطريقة الإيمانية الإسلامية التي ترتضيها يا رب العالمين!

    عندما يقول: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] : معنى هذا: أنني أنا على النقطة بموقفي هذا الذي أتحداكم عليه، أنا على موقع أو رأس طريق أو أقرب ممر يوصلني إلى الله: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] وأنا على هذا الصراط, إذاً أول من يصل إلى الله هو أنا. وأول من يأتيه المدد من الله عن هذا الطريق السريع هو أنا.

    ثم إن الكلمة تحمل في طياتها الرضا بقضاء الله, بحيث يقول: إن الله نصرني فهو على صراط مستقيم، وهذا الذي أنا أريده, لكن إن قتلوني أيضاً ما أتزحزح بأن ربي على صراط مستقيم إذ أن قتلي شهادة، وليس معنى ذلك أن ربي خذلني، لا, بل هذه كرامة من الله أنني أموت شهيداً في سبيله, بل أحقر ما أقدم في سبيل مولاي: المال والنفس والروح والدم, فربي على صراط مستقيم سواء كنت منصوراً أم كنت مقتولاً، عقيدتي الثابتة التي لا تتزحزح في حالة النصر والقتل أن ربي على صراط مستقيم.

    هذه هي عقيدة التوكل يا إخوان, وليس التوكل أن الله إن أعطاني فأنا أحِبُّه، أو إن ربَّح أسهمي فهذا أيضاً أحبُّه، أو إن أعطاني ولداً فسوف أطيع! وإذا ما أعطاني هذا كله أأبحث لي عن رب غيره؟! هذا الذي قالته الكفار, قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11] .

    فلهذا مقام التوكل عظيم بحيث يجعل الإنسان راضياً بقضاء مولاه، إن جاءه الخير فمن الله, إن جاءه الشر أيضاً فمن الله, فهو راضٍ به سبحانه وتعالى في السراء، وراضٍِ به في الضراء.

    فالله سبحانه وتعالى أيد هوداً ونصره لما بلغ هذا المقام السامي من مقام التوكل.

    1.   

    نصيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التوكل

    هو إمام المتوكلين عليه الصلاة والسلام, والله ذكر عنه مع قومه أيضاً آيات مشابهة لهذه الآيات، ماذا يقول الله عنه؟

    الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ [الأعراف:195] كل الآلهة من البشر والحجر والشجر والبقر: ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:195-196].

    إذاً: هذا الكلام العظيم الإلهي عندما يتكلم به محمد صلى الله عليه وسلم فنراه وحيداً فكثر الله سبحانه أتباعه، مطروداً فأوجد له النصر والتأييد، حتى حكم دولته، ونفذ شرائعه، وأقام الحدود، وجند الجنود، وعمَّل العمال ونصب القضاة، وقد كان وحيداً على وجه الأرض يقول: ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف:195].. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:195].

    إذاً هذا التوكل يجب أن يعتقده الدعاة اليوم عندما يسيرون في الطريق الذي هو الصراط المستقيم الذي قال عنه هود عليه السلام: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] يجب أن يضعوه نصب أعينهم, عندما يرون أعداءنا في الشرق والغرب يصنعون الذرة، والصواريخ، والعابرات، والناقلات، والطائرات، والجيوش، والمناورات، والصناعات، والتكنولوجيات، والتقنيات, ثم نقول: ذَهَبْنا .. ذَهَبْنا .. ذَهَبْنا، لا ما ذَهَبْنا ما دمنا نعتقد هذا: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] توكلت على الله, اعتمادي على الله، وبذلنا الأسباب، سنصل إلى الصراط المستقيم الذي كُتِب في آخره: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] والعاقبة: أي: النهاية الحتمية الطيبة المباركة للمتقين.

    يا أحبتي في الله! هذا أمر مهم أن أطرحه الآن في زحمة الحياة والدنيا والإعلام والصحف, فترى شخصاً كرمز ديني إسلامي يضع الصليب في رقبته, وترى البابا يأتي ويصول في الدنيا, وترى الجرائم, وبعد ذلك؟! نصفي ما لنا، ونقعد نبكي على أنفسنا؟!

    لا. ما بكى هود وهو الوحيد على وجه الأرض, ما بكى محمد صلى الله عليه وسلم وما طوته الأحزان وهو الوحيد على وجه الأرض, يجب أن نفهم هذه الحقيقة ونتقدم ونحث المسير إلى الله ولا نلتفت, الغزال أسرع من النمر، لكن ما الذي يجعل النمر يصيدها ويأكلها؟ كثرة الالتفات, تركض وتركض فتقطع عنه مسافة، ثم تقف وتلتفت وتقول: أين هو؟ فما تلبث قليلاً إلا ويصلها؛ لكن لو استمرت ما يصيدها, لهذا أنت استمر ولا تلتفت, بالالتفات يتخطفك شياطين الإنس والجن, لكن شعارك شعار هود: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

    والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا في هذه القضية مثالاً، نحن نشاهده يومياً, كلكم ترون الطيور, أفيكم واحد يعترف أنه هو الذي أَكَّل طيور الكويت ، أو أَكَّل طيور الدنيا؟ أتحداكم من الأمير إلى الوزير إلى الحقير أن يقول شخص: أنا أؤكِّل الصراصير! من الذي يؤكلهن؟ الله سبحانه وتعالى, فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً -أي: جائعة- وتعود بطاناً) كل يوم.

    1.   

    ثمار التوكل

    فلهذا أحبتي في الله انتبهوا إلى الأمر الخطير، واسمعوا معي هذه الآيات العظيمة التي تبين لك مرة أن التوكل كشجرة قائمة, ومرة تبين لك ثمار التوكل.

    من ثمار التوكل النجاة من فتنة الكافرين

    أما التوكل كشجرة قائمة فاستمع ماذا يقول عنه القرآن: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86].

    فتبين بأن التوكل ينجي من فتنة الظالمين والكافرين, فلا يتسلطون عليك ولا على عرضك ولا أهلك ولا مالك ولا ولدك, إذا أنت أقمت مقام التوكل.

    من ثمار التوكل تأييد الله لأهل الحق

    معنى آخر من معاني التوكل: يبين لك بأنه إذا صارت المسألة مفاصلة بين أهل الحق وأهل الباطل -كما حدث في بدر- فالله سبحانه وتعالى يؤيد أهل الحق: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89] ففتح خيرُ الفاتحين، نصرَ محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وخذلَ أبا جهل وأصحابه, تحقيقاً لهذه الآيات العظيمات.

    كـذلـك قـوله تعالى: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا [الممتحنة:4] في الدنيا: وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا [الممتحنة:4] في الطاعات والعبادات: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4] حتى نقبض الأجر والثواب كما يقبض أي عامل في نهاية العمل الأجر والثواب, فنحن عليك توكلنا في الدنيا, وأنبنا بالطاعة والعبادة, والمصير إليك لكي نقبض الأجر والثواب, انظر مقام التوكل كيف يتنقل معك هذه التنقلات من الدنيا إلى الآخرة! وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].

    من ثمار التوكل حماية الإنسان من شياطين الجن والإنس

    ونجد أيضاً أحبتي في الله أن التوكل يحمي الإنسان من شياطين الإنس والجن, بحيث أن الجني أو الشيطان أو إبليس: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99] ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه وحاميه, وهذا موجود, حتى الإنسان إذا كان فيه جراح وكان فيه ألم، كما حدث لأهل أحد في حمراء الأسد ، تعرفون هذه القصة, حتى إن الواحد منهم يجر أخاه، ورجلاه تسحب على الأرض من الجراح والألم.

    فبعد معركة أحد بخمسة عشر ساعة -نصف يوم تقريباً- أرادهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى حمراء الأسد يطاردون الكفار, فجاء من قال لهم: إن الكفار قد أعدوا لكم وأرادوا أن يستأصلونكم ويقضوا عليكم.. و.. و.. إلخ, ماذا كان الجواب؟

    الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174].

    إذاً قضية لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] هذه نتيجة حتمية لكل متوكل على الله.

    من ثمار التوكل التفويض إلى الله تعالى في كل شيء

    وثمرة وزبدة هذا التوكل اسمه: التفويض, وهذا يتجلى عند مؤمن آل فرعون يوم أن صاح فرعون الطاغوت الجبار بأعلى صوته أمام الملأ بأنه سيقتل موسى لا محالة: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] والله سبحانه وتعالى أظهر له واحداً من أقاربه ومن البلاط الملكي مؤمن يكتم إيمانه, وبعدما خطب فيهم خطبة طويلة عريضة تقرؤونها في سورة غافر: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28] ... إلى أن قال في النهاية: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] وجاء بكلمة (بصير) حتى يبين لك بأن الله يرى مكائدهم في الظلام ومؤامراتهم وجواسيسهم ومباحثهم وخططهم وكيدهم وكرههم, هم يظنون أن لا أحد اكتشفه ولا رآه, وأنها تقارير سرية, وأنها تعاملات وأشياء سرية، لا: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] ماذا كان التعقيب؟

    فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً [غافر:45-46].

    أرأيتم أيها الأحباب الكرام؟!

    هذا باختصار سريع حول هذا المقام السامي, والمقام العبودي الذي مقره القلب, وله متنفس في واقع الحياة, وهو مقام التوكل على الله رب العالمين, فلنعِشْه كعقيدة إسلامية من أهل السنة والجماعة , ولنحققه من خلال تحركنا في الدعوة إلى الله, وليكن شعارنا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ، نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40].

    اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً, وشفاءً من كل داء.

    رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].

    أقول قولي هذا. وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين التوكل والتواكل

    السؤال: ما معنى التوكل على الله، وما الفرق بين التوكل والتواكل؟

    الجواب: التوكل هو: بذل السبب في الوصول إلى المقصود والاعتماد على الله في ذلك, لهذا جاء الصحابي وقد أفلت ناقته, قال: أتركها وأتوكل على الله؟ قال: (اعقلها وتوكل).

    التواكل: تركها بدون عقال.

    والتوكل: ربطها وعقلها، ثم التوكل على الله سبحانه وتعالى.

    كذلك من معاني التواكل: الركون على رحمة الله وترك العمل، فإذا قلت له: صلِّ يا أخي, قال: الله أرحم الراحمين, صلاتي لا تفيدني ولا تنفعني. لا, بل إن الله سبحانه وتعالى جعل العمل الصالح طريقاً إلى الرحمة والرضوان, والرحمة والرضوان طريق إلى الجنة, فلهذا عندما قال الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة عمله, قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).

    فالرحمة والفضل من الله, كيف تصل إليه؟

    بالعمل الصالح: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس:9] والإيمان كما تعلمون: قول باللسان، واعتقاداً بالجنان، وتطبيق بالأركان, والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, ولهذا قالوا وهم في الجنة: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] وهم في الجنة, ودخلوا برحمة الله، قالوا: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136].

    فالتواكل: ترك العمل, وترك بذل السبب, وهذا تجده مع الأسف الشديد فهماً خاطئاً عند بعض المتدينين, ليس كلهم, والرسول صلى الله عليه وسلم إمام المتوكلين نراه ليلة الهجرة يبذل كل الأسباب في هجرته, بحيث رسم خطة الهجرة, وجعل علياً ينام على فراشه، وغير طريق السفر, ودخل الغار ثلاثة أيام, وأعد الزاد والراحلة, وجعل الحراسة مشددة, وأمر من يأتيه بالطعام, وأمر من يأتيه بالأخبار, وأمر بمن يخفي الآثار من خلفهم, هذه كلها أسباب مبذولة ولكن هي من التوكل.

    ونجد مفهوم الصحابة لهذا التوكل عجيب، بحيث إنهم لا يلقون تقصيرهم على القضاء والقدر, وإنما يلقون تقصيرهم على أنفسهم, وهذا الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه كلها: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) دائماً يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الناس ما ينتبهون إليها, حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما علم أن في الشام طاعوناً ما دخل الشام , فقالوا له: [تفر من قضاء الله؟ قال: نعم، أفر من قضاء الله إلى قضاء الله] بحيث إن القضاء يُدْفَع بقضاء, ولهذا يجب أن ننتبه إلى هذا الأمر.

    - يا فلان قم صلِّ.

    - قال: إذا الله كتب عليَّ الصلاة أصلي.

    - إذاً: نحن نعاملك بنفس ما عاملت ربك, إذا عطشت لا تشرب، إذا الله كتب لك الشرب اشرب، يقوم الكوب ويأتي إليك وتشرب منه، وليس إذا عطشت تقوم ذاهباً إلى الثلاجة وتشرب ماءًَ! وإذا جاء الراتب لا تذهب لاستلامه إذا كتبه الله لك يطير الراتب وينزل في حضنك! فلهذا تأبى لنفسك ما ترضاه لربك؟! لا، لا يجوز، أنت ابذل السبب والله سبحانه وتعالى يهديك ويفتح لك الأبواب، ويعينك على فعل الخيرات, ويجعلك بفضله وبره وجوده من الصالحين, وإذا أنت تريد أن تعامل بهذه المعاملة، نحن سنعاملك بها, تعال اضربك على رأسك.

    - لماذا؟!

    - الله كتب عليك هذا الضرب من زمان.

    - لماذا؟!

    - الله كتب عليك (الرفسة) ألستَ أنت الذي تقول: الله إذا كان كتب عليَّ الصلاة أصلي، إذاً الله كتب عليك هذا، ماذا تقول؟

    - ما أرضى، كفى، سوف أصلي.

    فلهذا التواكل من أخطر ما يكون، وبعض الناس مع الأسف الشديد في الماضي كان يخرج إلى الحج بلا زاد, مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن الزاد والراحلة قد تصل إلى درجة الوجوب في أداء فريضة الحج؛ لأنها الوسيلة إلى هذه الفريضة, والله سبحانه وتعالى قال في القرآن: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] نعم، ثم يخرجون بلا طعام ولا شراب ولا نعال ولا كساء ولا غطاء ولا شيء ويقول لك: أنا متوكل على الله, وبعد ذلك عندما يعبر في الصحراء إما أن يموت من العطش، أو يأكله ذئب, أو يذبحه البرد أو الحر, أو يجد من شياطين الجن من يطلب منه الشرك فيشرك بالله, وهو ذاهب إلى طاعة, يسجد أو يخضع للجني أو يذبح ذبابة للجني فيحضر له الطعام والشراب والكساء والغذاء, ولكن هذه المرة ما فَقَدَ حَجَّهُ، بل فَقَدَ دينه كله, وبعدها يقول: هذه كرامة من الله سبحانه وتعالى أرسل لي ملكاً ورآني وأنا في الصحراء وأنزل لي فاكهة وعنقود عنب من الجنة و.. و.. إلخ, وهو مسكين لا يدري أنه ضيع دينه كله بهذا الأمر.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ معه الطعام والكساء, بل إذا حارب يلبس درعين وليس درعاً واحداً, كان يظاهر بين الدرعين وهو إمام المتوكلين عليه الصلاة والسلام.

    والله أعلم.

    حال قصة طقة الجهر

    السؤال: هل طقة الجهر حقيقة؟

    الجواب: طقة الجهر هي من القصص الواقعية ولعل عمرها مائة عام, والبدو يعرفونها, ومشهورة فيهم, بأن رجلاً ذا دين خرج يوماً في فصل الربيع إلى حلاله وإبله, وشاهد الإبل في الصحراء لها جمال ورونق حيث إنها تراها في الغداة تسرح وفي الرواح تعود شباعاً بطاناً, خلفها أولادها، فلها منظر جميل, لهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6] وقدم الرواح الذي هو: العودة في المغرب على الخروج في الصباح الباكر, لماذا؟ لأن عودتها في المغرب الذي هو الرواح أجمل؛ لأنها آكلت العشب, فأصبحت شبعانة، مرتاحة, تجتر, والحليب عندها متوفر, وفي الصباح الحليب ليس متوفراً، ولهذا قال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6].

    الشاهد: هذا وهو يعود بالإبل رأى ناقة عظيمة خلفها فصيلها، وفيها الحليب، وهي سمينة، فقال: والله إني أحبك، ولكن الله أحب, اللهم إني جعلتها في سبيلك وتصدقتُ بها على جاري أبو البنيات السبع الفقير, فالله يقول في كتابه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وهذا يحبها, وقادها هي وابنها وذهب إلى جاره وقرع عليه الباب وتصدق بها.

    فمر الربيع وجف الزرع, وصار حميساً، ثم أكلت البهائم الحميس, وأحسوا بالحاجة إلى الماء, وجفت الغدران, والبدو يبحثون عن المياه في جوف الأرض عن طريق الدحول، يجد الماء تحت الأرض يجري في أقبية ومحابس, فهذا البدوي جاء إلى دحل، وتاه تحت الأرض, ظلام تحت الأرض, وانتظروه أولاده الثلاثة خارج الدحل، يوم كامل ما طلع, فأيقنوا أن أباهم قد قرصته دابة أو هامة, وما دخلوا يبحثون عنه وذهبوا يتقاسمون الميراث, وكان فيهم لؤم, وعند تقاسم الميراث:

    قال أحدهم: ما رأينا أغبى من أبينا, حيث إنه أخذ أطيب حلاله وأعطاها هذا الجار! فلنذهب إليه ونأخذها منه ونترك ابن الناقة عنده فقط.

    هذا الكلام بعد مرور أسبوعين تقريباً من ذهاب هذا الوالد في الجحر.

    فذهبوا إلى الجار بعدما قسموا الميراث وأخذوا منه الناقة, وحزن على ذلك حزناً عظيماً وقال: إن أباكم قد تصدق بها عليّ وأنا أحمل عليها وأحتطب وأسقي بنياتي من لبنها, وأربي ابنها حتى يكبر فأبيعه أو يلقح أمه ... إلخ.

    المهم قالوا له: ندع لك ابنها, هذا الفصيل.

    وأخذوا الناقة وانكسر قلبه, ولكن اشترط عليهم شرطاً واحداً.

    قال: لا أسلمكم الناقة حتى تذهبوا بي إلى الجحر الذي تاه فيه أبوكم.

    فقالوا: بسيط, امشِ، أوصلوه إلى البر، قالوا: هنا.

    فأخذ ابن الناقة وذبحه عند الجحر, وسَلَّتَ جلده وعمله خيوطاً -فتائل وسيوراً- ربط بعضها ببعض, وقطع ثوبه هو ووضعه في عصى, وأخذ من سنام البعير الذي ذبحه ودهن فيه الشعلة, وربط طرف السير بصخرة خارج الجحر, والطرف الثاني ربطه في بطنه, وأشعل الشعلة ودخل ليس من وجهه ولكن يزحف من الخلف, بحيث إذا أراد أن يخرج يسحب الحبل هذا، يمشي عليه حتى يطلع, وظل يمشي إلى أن مست رجله الماء, ثم سمع عند الماء أنيناً, فبحث هنا وهنا فإذا هو ما بين الصخور تحت الأرض في هذا القبو والمحبس المائي وإذا هذا الإنسان بين الحياة والموت, جاءه وإذا به يتنفس.

    - أأنتَ حي؟!

    - قال: نعم.

    - قال له: أبشر بالخلاص, ولكن كيف حييت أسبوعين كاملين؟!

    - قال: لما دخلت ولم أعرف طريق الخروج كان يأتيني وأنا تحت الأرض قصعة فيها لبن ناقة محلوب فيه زبد، أشرب منه ثلاث مرات في اليوم, وأنا دخلت العصر فجاءتني أول وجبة فقلت: هذا المغرب, فكنت أعرف الأوقات في المرات الثلاث التي تأتيني، ومرة المغرب، ومرة الصبح، ومرة الظهر، وهكذا، وأنا في هذا المكان, لكنها منذ أربعة أيام انقطعت، ما أتتني، ما أدري ما السبب؟

    - قال: قطعها أولادك, كان الله يسقيك بصدقتك, وجاء أولادك إلى بيتي وأخذوا الناقة، وكان الله يسقيك منها.

    والحديث يقول: (إن الصدقة لتقي مصارع السوء) وإنها: (تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) (والمؤمن في ظل صدقته يوم القيامة).

    وكثيراً ما كان الناس يتداوون بالصدقات ويفرجون الهموم ويكشفون الغموم بالصدقات.

    خرج الوالد وغمَّى عينه حتى لا يجهره الضوء, وعصر له الإبريس حتى يشربه فما يُصاب بالإجهاض المعدي أو الانهيار المعدي لأن المعدة ما دخلها شيء, وبعد ذلك لما اشتدت حاله ذهب إلى الأولاد ودخل عليهم وفاجأهم, فأخذوا يتباكون بين يديه.

    - قال: اخسئوا.

    وأخذ الميراث كله منهم, وأعطى جاره نصف ما يملك, وكتب على ذلك عقداً، وتحقق حديـث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).

    أقول قولي. وأستغفر الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767469081