إسلام ويب

تفسير سورة غافر (13)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعاء هو العبادة، والمؤمن القريب من ربه لا يمل من دعائه سبحانه ولا يستكبر، فالله عز وجل يفرح بدعاء عبده وسؤاله، فهو سبحانه بيده خزائن السموات والأرض، وبيده سبحانه تقليب الليل والنهار، وفضله عز وجل واسع، ويده سحاء بالليل والنهار، لا ينقص من ملكه إعطاء كل السائلين، ولا يعجزه شيء من طلبات الطالبين، ثم الذين كفروا بآيات الله يجحدون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [غافر:58-63].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [غافر:58]، فلا يستوي الأعمى والبصير، فالذي لا يبصر شيئاً ولا يرى شيئاً ليس كصاحب البصر الذي يرى كل شيء، فهما ما يستويان. فالذي يبصر ويشاهد هذا الكون بكل ما فيه بعينيه لا يستطيع أن يكذب بوجود الله، أو ينكر وجود الله، أو يكفر بالله، أو يعبد سواه، فهو ما يستطيع هذا. ولكن المشركين والكافرين والملاحدة والعلمانيين عمي ما يبصرون، ولو كانوا يبصرون لشاهدوا الطير فقط وفكروا فيمن خلق هذا الطير ومن رزقه، وكذلك عندما يشاهدون البعوضة والنملة يفكرون فيمن خلقها، ولعلموا أنه لا يوجد شيء بدون خالق. ولكنهم عميان ما يبصرون.

    فلا يستوي المؤمن والكافر، ولا الأعمى والبصير، ولا الميت والحي، ولا المريض والصحيح. بل الأضداد هذه سنة الله، وما تتساوى أبداً، فقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ [غافر:58]. فلا يستويان. فهذا مؤمن يعمل الصالحات وهذا فاسق كافر فاجر، يأتي الذنوب كلها، فلا يستويان والله.

    إذاً: فلنؤمن ولنعمل الصالحات، ونبرأ إلى الله من الكفر وفعل السيئات. فالمؤمنون العابدون الذاكرون الصالحون ليسوا كالكافرين والمشركين والهابطين أبداً، فهم لا يستوون.

    ثم قال تعالى: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]. وفي قراءة سبعية: (قليلٌ ما تذكرون). ويكون الخطاب لأهل مكة، فهو يقول: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]. ولو كانوا يتذكرون ويتعظون والله ما كفروا بالله، ولكانوا يبحثون في الشرق والغرب عمن خلق هذا الكون، ومن رفع هذه السماء، ومن أوجد هذه الكواكب، ومن أضاء هذا النور، ومن أتى بهذا الظلام، ولعرف أنه لا جواب إلا الله فقط، وليس هناك من يقول: أمي أو أبي، أو فلان أو فلان، فيؤمنون بالله. ولكنهم ما يذكرون ولا يتفكرون ولا يتعظون؛ لأن الكافر كالميت، لا يسمع ولا يبصر، فالكافر كالميت، وأنت لا تكلف الميت بشيء، بل انفخ فيه روح الإيمان، ولما يحيا بإيمانه مره فإنه يفعل، وانهه يترك؛ لكمال حياته. والكفار أموات غير أحياء، وهم عميان لا يبصرون، وصم لا يسمعون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

    قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [غافر:59]. وهذا والله خبر إلهي. وهذا الخبر هو: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [غافر:59] وجائية، ووالله إنها لقريبة المجيء. فساعة نهاية هذا الوجود وساعة الحياة الثانية وساعة البعث والنشور بين يدي الله آتية لا ريب فيها، والذي قدر على وجود هذه الحياة لا يعجز أن يوجد نظيرها ومثيلها، ولا يقول عاقل بهذا أبداً. وقد قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ [غافر:59] أبداً فِيهَا [غافر:59]. ومعنى هذا: عباد الله! تهيئوا للحياة المقبلة؛ لتسعدوا فيها وتكملوا، ولتفوزوا وتنجحوا وتربحوا. فعجلوا.

    وكيفية إعدادك للساعة بأن تؤمن وتعمل الصالحات، وتبتعد عن الشرك والسيئات. فليكن هذا عملك، ووالله لتجزى به يوم القيامة عند قيام الساعة. ولو أبيت وأصررت على الكفر والشرك والفسق والفجور فوالله إن لك أكمل جزاء وأتمه، ألا وهو الحياة الأبدية في عالم الخلود في النار، والعياذ بالله تعالى. فهذا هو الجزاء لا محالة.

    والآية تقرر: الإيمان بالبعث الآخر، والإيمان بالدار الآخرة. وكثيراً ما أقول: أي إنسان ذكراً أو أنثى لا يؤمن بلقاء الله والبعث الآخر لا خير فيه، ولا يعول عليه في شيء، ولا يوثق فيه في شيء، بل هو شر الخلق، والذي يؤمن بالدار الآخرة وما يجري فيها ذاك الذي يستقيم على منهج الحق، ويعمل الصالحات، ويتجنب الطالحات؛ لإيمانه بالجزاء يوم القيامة. فلهذا يجب أن نبلغ البشرية العمياء أن لها حياة غير هذه تحياها، وتجزى فيها على عملها في هذه الحياة الدنيا، وقد قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]. وهذا هو الواقع، فنسبة المؤمنين إلى الكافرين ولا واحد في المائة، فأكثر الناس لا يؤمنون، والعياذ بالله.

    والذي صرفهم عن هذا الشياطين، أي: شياطين الإنس والجن، فهم يبعدونهم عن الإيمان بالدار الآخرة؛ حتى ما يستقيموا في هذه الدار، حتى يعيشوا على الفجور والكذب، والباطل والكفر. وأما المؤمن الصادق فوالله ما يسرق، ووالله ما يزني، ووالله ما يفجر، ووالله ما يكذب عليك، ووالله ما يخدعك، ووالله ما ينقصك حقك، إلا إذا قدر الله شيئاً وكان. وأما الكافر فكل الشر منه، ولا يوثق فيه أبداً؛ لأنه كافر ميت، أعمى أصم، لا يسمع ولا يبصر.

    وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]، عرفتم أن هذا الخبر هو الواقع، فأكثر الناس كفار من أمريكا إلى اليابان والصين، ونسبة المؤمنين فيهم قليلة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم ...)

    قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ [غافر:60]، أي: خالقكم ورازقكم، ومالك أمركم وموجدكم، وموجد هذا العالم. فهو الخالق لهذه الحياة، وهذا هو الرب، وهو ربكم. ولا يمكنك أن تنكر أنه ربك، فهو الذي صنعك، ووهبك سمعك وبصرك، وأعطاك وجودك، وأوجد لك هذه الأرض والسماء. ولهذا مضت آلاف السنين على البشرية وهم ما ينكرون وجود الله أبداً، وقد كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويفعلون المنكر والباطل، ولكنهم كانوا يؤمنون بموجد هذا الكون، واسمعوا قول الله تعالى في مشركي مكة والعرب: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

    ولما كاد اليهود عليهم لعائن الله للبشرية وخاصة للإسلام والمسيحية أوجدوا مبدأ: لا إله والحياة مادة. وهذا هو مبدأ البلشفة الحمراء، والشيوعية المنتنة، والعلمانية الطائشة الهابطة. ومن هنا وجد في العالم من ينكر وجود الله في هذه الفترة من قبل مائة وخمسين سنة أو أقل فقط، وإلا فلم يكن أحد لا أبيض ولا أصفر .. عربي ولا أعجمي ينكر وجود الرب أبداً، بل يقول: أنا مؤمن بوجود الله، ولو تسأله: من خلقك؟ يقول: الله، ولا يقول أمي.

    وقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، هذه بشرى للمؤمنين والمؤمنات، فربكم يأمركم بأن تدعوه، وتطلبوا حاجاتكم منه، وتسألوه ما تحتاجون إليه في دنياكم وفي أخراكم، فإنه يستجب لكم ويعطيكم. فقولوا: الحمد لله. ومع هذا تجد (95%) ما يدعون الله، ويحرمون هذا. وهو قد قال: ادْعُونِي [غافر:60]، أي: اطلبوا أَسْتَجِبْ [غافر:60]، أي: أعطيكم. وهذا وعد الله. والله قوي قادر، لا يعجز من أن ينجز وعده أبداً.

    وهنا لطيفة علمية، وهي: أنك قد تسأل الله شيئاً يضرك، وهو وليك، ولذلك ما يعطيك؛ لأنه ما يريد لك الضرر. وأنت ما تعرف ما هي العاقبة. فقد تسأله أن يزوجك وتلح في الدعاء وما يعطيك هذه الزوجة؛ لعلمه أنك لا تسعد معها، وقد تسأله ولداً وهو يعلم أن هذا الولد يضرك، فلا يعطيك، وإذا سألته وطلبت منه شيئاً وهو يعلم أنه ينفعك فإنه يعطيك إياه، وإن كان يضرك لا يعطيك، بل يعوضك على دعائك حسنات، تسجل لك في دفتر حسناتك، ولا يحرمك أجر الدعاء أبداً. فهو إما أن يعطيك ما سألت، وإما أن يثيبك على دعائك. ولهذا ( الدعاء هو العبادة )، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فلهذا ادعو الله ليلاً نهاراً؛ فإنه يستجيب لكم. وهذه بشرى عظيمة.

    ومن اللطائف أيضاً: أنك ما تقول: يا رب! اجعلني نبياً، فهذا ما يجوز. وكذلك لا تقول: يا رب! أرني نبيك في اليقظة، فهذا ما يجوز، فالنبي قد مات. وكذلك لا تقول وأنت في عمر التسعين سنة: يا رب! ارجعني إلى عشرين سنة، فهذا ما يستجاب لك فيه. بل لابد وأن تسأل الأمر الذي سنة الله ماضية فيه، كأن تكون أعمى فتقول: يا رب! رد إلي بصري، أو تكون أعرج فتقول: اللهم صحح رجلي، فيصححها، أو تكون فقيراً فتقول: اللهم أغنني، فيغنيك، وهكذا. وأما كونك تسأل شيئاً مستحيلاً فهذا ما ينبغي، بل هذا سوء أدب مع الله. ولذلك لابد وأن نعرف ما نسأل الله عز وجل فيه، وقد قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، أي: صاغرين ذليلين محتقرين، والعياذ بالله.

    وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60]، أي: عن دعائي. والدعاء هو العبادة. وعبادة الله هي الصلاة والصيام، والحج والاعتمار، وما إلى ذلك من أنواع العبادات. والمستكبرين يحملهم الكبر في نفوسهم على ألا يتوضئوا ولا يصلوا، ولا يفعلوا أي عبادة. وهؤلاء سَيَدْخُلُونَ [غافر:60] والله جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، أي: صاغرين ذليلين حقيرين ولا بد.

    وقد عرفنا نحن أهل الحلقة سر هذا والحكمة فيه، وهو أن الذين ما يعبدون الله تكون نفوسهم منتنة عفنة مظلمة، ولا تكون مشرقة طيبة طاهرة، بل تكون منتنة عفنة سيئة؛ لما صب عليها من أطنان الذنوب والآثام، وأما النفس الطاهرة الطيبة وهي نفس المؤمن العبد الصالح فلا تدخل جهنم؛ لأن صاحبها ولي الله، وقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].

    فبلغوا عباد الله! هذا الحكم الإلهي، وهو أنه قد أفلح بالنجاة من النار وبدخول الجنة من زكى نفسه، أي: طيبها، أي: طهرها بمادة الإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عن الشرك والذنوب والآثام. فهذا قد أفلح والله وفاز بأن نجا من دخول النار ودخل الجنة.

    وقال تعالى: وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]. وخسر الجنة وما فيها ودخل النار. وهذا مصير صاحب النفس المدساة الخبيثة المنتنة العفنة.

    والنفس تطهر وتخبث حسب الأدوات المستخدمة، وأدوات الإيمان والعمل الصالح يزكيها، والشرك والكفر والخيانة والكذب يدسيها. كهذا الثوب سواء بسواء، فالماء والصابون ينظفه، والطين والخرأ يخبثه.

    وهنا قال تعالى في هذا الخبر العظيم: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] فيها، أي: صاغرين ذليلين حقيرين، بلا عز وبلا كبرياء كما كانوا في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ...)

    قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [غافر:61]. وليس اللات ولا العزى ولا هبل، ولا الأصنام، ولا عيسى ولا أمه، ولا غيرهم من المخلوقات. وإنما الله هو الذي جعل لكم الليل مظلماً؛ لتسكنوا فيه وتهدئوا وتستريحوا، وجعل لكم النهار مبصراً؛ لتشاهدوا ما تعملونه في زراعتكم وصناعتكم، وتجارتكم وأعمالكم. فالذي خلق النهار والليل ليس آباؤنا ولا أمهاتنا، ولا روسيا، بل الذي خلق الليل والنهار الله. وهو الذي جعل الليل والنهار، وما جعل الحياة كلها نهاراً، ولا كلها ليلاً؛ حتى لا ينتفع الناس بها، ولكن من لطفه ومن رحمته ومن إحسانه بأوليائه وعباده جعل الليل مظلماً؛ ليناموا ويستريحوا، ويعبدوا الله ويشكروه، وجعل النهار مضيئاً مشرقاً؛ ليعملوا فيه زارعين أو حاصدين، أو تاجرين أو عاملين. وهذا تدبير من هذا.

    وهنا لطيفة علمية، وهي: أني لو كنت رئيساً مالكاً لكنت نظمت حياة الأمة بحيث ما أسمح بعد العشاء بساعة أن يبقى دكان مفتوحاً، ولا كهرباء مضاءة في الشوارع؛ حتى نحقق مراد الله عز وجل. فبعد صلاة العشاء اذهبوا إلى النوم؛ لتستردوا قوتكم، ولتعبدوا ربكم وتتهجدوا؛ حتى نحقق مراد الله في قوله هنا: إنه جعل اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [غافر:61]. فليكن هذا هو النظام عندنا معشر المواطنين، وهو: أنه إذا دقت الساعة السابعة مثلاً أو الثامنة صلينا العشاء، ثم يعود الناس إلى بيوتهم، ولا يبقى دكان مفتوحاً ولا مقهى ولا غير ذلك، بل ولا ضوء في الشوارع أيضاً، بل يكون هناك ظلام كامل؛ حتى يناموا ويستريحوا؛ حتى يتهجدوا في الليل ويصلوا الصبح. لا أن نسمح لهم أن يسهروا إلى نصف الليل في العبث والباطل والضحك، ثم ينامون كالبغال، فإنهم ما يفيقون إلا عند طلوع الشمس. فهذا ليس حال أمة الإسلام، ولا هؤلاء أولياء الله والله. ولن تستطيعوا أن تردوا هذه النظرية إذا ما آمنتم بلقاء الله وكلامه.

    إذاً: الله يمتن علينا هنا بمنة، وهي أنه جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غافر:61]. والسكون: الهدوء والاستقرار والنوم. هذا السكون. وكذلك جعل النهار مبصراً؛ حتى تحرثوا وتحصدوا، وتبنوا وتصنعوا في الضوء؛ لتعيشوا وتكمل سعادتكم.

    فلا نتحول عن مراد الله، بأن نجعل الليل هو النهار، والنهار ننام فيه ونستريح. فهذا والله ما يجوز، وهو خروج عن نظام الله عز وجل، وقد يلعن الله من يفعل هذا؛ لأنهم ما رضوا بما قضى لهم وأعطاهم. فهيا نتحول إلى مراد الله، ويكون ذلك بأنه إذا صلى أحدنا العشاء دخل بيته، وجمع أولاده في بيته معه، ولا يترك ولداً منهم يصيح في الشوارع، ولا يبكي ولا يصرخ، ولا ندع أحداً يمشي، ولا نبقي دكاناً مفتوحاً أبداً، بل إذا صلينا العشاء نمهلهم بعد الصلاة ربع ساعة .. نصف ساعة؛ لأنه قد يأخذ أحد حاجة من الدكان، ثم بعد ذلك يجب أن تغلق الدكاكين، ويدخل الناس بيوتهم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم يستريحون؛ ليقوموا آخر الليل يبكون ويتهجدون، أو على الأقل ليصلوا الصبح في بيوت الله مع المؤمنين. فافعلوا هذا ولا تقولوا: إنكم ما تستطيعون.

    فيا صاحب الدكان! علم جيرانك والذين يأتونك بأنك من الليلة بعد نصف ساعة من صلاة العشاء ستغلق الدكان، ومن أراد أن يشتري حاجاته فليشتريها في النهار.

    وقوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ [غافر:61]، أي: من أجلكم اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ [غافر:61] وجعل النَّهَارَ مُبْصِرًا [غافر:61]. لتعملوا فيه وتكملوا وتسعدوا.

    ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر:61]. وصدق الله العظيم. فإن الله لذو فضل على الناس وعطاء وإحسان، فقد جعل لهم الليل مظلماً، والنهار مبصراً؛ لأجلهم. وهذا إحسان منه ونعمة منه. فيجب أن نشكر الله على ذلك ولا نكفره، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر:61]. والعياذ بالله. فقل من يقول: الحمد لله.

    كيفية الشكر لله على نعمه

    الشكر يكون بكلمة: الحمد لله. فإذا أكلت وإذا شربت وإذا لبست، وإذا ركبت وإذا نزلت، وإذا قمت وإذا قعدت، وإذا نمت وإذا استيقظت فلا يفارق لسانك: الحمد لله. مع الاعتراف في قلبك أن هذه النعم الله واهبها ومعطيها، وأنه ليس إلا هو، فتفزع إليه. ثم هذه النعمة التي تحمد الله عليها يجب أن تنفقها وتصرفها في مرضاة الله عز وجل، فهو الذي وهبك بصرك، فلا تؤذي به المؤمنات بالنظر إليهن، وهو الذي وهبك يدك، فلا تسرق بها ولا تضرب، وإذا وهبك رجلك فلا تمشي بها مشية ضد الله عز وجل، ولا تأتي إلى محرم مثلاً. وكذلك إذا أعطاك ريالاً فيجب أن تنفقه فيما يحبه، لا فيما يكرهه. وهذا هو الشكر الحقيقي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء ...)

    قال تعالى يعلمنا: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر:62]. وأعطني حتى بعوضة وقل: ما خلقها الله، بل الله خالق كل شيء. لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:62]، أي: لا معبود بحق إلا الله، وكل ما عبد من دون الله فعبادته باطلة، وذلك المعبود باطل؛ إذ لا يوجد من يؤله بالعبادة إلا الله؛ لأنه خالق الحياة كلها؛ من أجل أن يُعبد فيها، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وعبادة الأصنام والأحجار والشهوات والباطل والأولياء والموتى وعيسى وأمه لا تصح عبادتهم. وعيسى أو أمه لم يفعلا للنصارى شيئاً حتى يعبدوه، وكذلك عبد القادر الجيلاني لم يفعل شيئاً لبني فلان، ولا فعل لهم فاطمة ولا الحسين ؛ حتى يعبدونهم، فلا يُعبد إلا الله، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر:62]. فيا للعجب أن تصرفوا عن هذا النور والهداية! وأن تصرفوا عن عبادة الله، وتتنكروا لخالقكم ورازقكم!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون)

    قال تعالى: كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [غافر:63]. فكما صرف هؤلاء المشركون صرف من قبلهم من الأمم التي بعث الله فيها رسله، فقد كذبوا بالآيات والقرآن، وما أنزله الله من المعجزات، وكذلك صرفوا عن توحيد الله وعبادته.

    وهكذا يسلي الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويحمله على الصبر والثبات، وهكذا يوجه دعوته لعباد الله، وقد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وبعد خمسة وعشرين عاماً ما بقي كافر في هذه الديار بهذه الدعوة الربانية.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: بيان حقيقة ] وتقرير مبدأ [ هي أن الضدين لا يجتمعان، فالكفر والإيمان، والإحسان والإساءة، والعمى والبصر، والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض، فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة، ولا تنبغي ] فإذا تضاد شيء مع شيء لا يجتمع معه أبداً، كالحي مع الميت، والأصم مع السامع، والأعمى مع المبصر، وهكذا المهتدي مع الضال، والكافر مع المؤمن. فالضدان لا يجتمعان. وهذا ما قرره الله في هذه الآية، وهذه قاعدة عامة، وهي: أن الضدان لا يجتمعان. فلا يجتمع العدل والظلم، ولا يجتمع الحق والباطل، ولا يجتمع الخير والشر، ولا الفسق والطهر، فهذا مستحيل، فلا يجتمع الضدان أبداً. فهذه الآية قررت هذه الحقيقة.

    [ ثانياً: قرب الساعة مع تحتم مجيئها، والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جداً ] وقد ظهرت علامات تدل على قربها. وأعطيكم علامة من علاماتها تضحككم، وهي: قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يكون من أمتي رجال يركبون على السروج كأشباه الرحال، ينزلون بها على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات ). هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف السيارة، ولم تكن السيارات موجودة في عهده، ولم يكن يعرف أن للسيارة كرسي ككرسي الفرس يركب عليها، ولذلك قال: ( يركبون على السروج كأشباه الرحال ). لأنها مغطاة من فوق كالرحل. ( ينزلون بها على أبواب المساجد ). وأنت اخرج إلى العالم بأسره يوم الجمعة فستجد السيارات عند باب المسجد في كل مكان، فهم ينزلون بها على أبواب المساجد. ( نساؤهم كاسيات عاريات ). فهي لابسة الحرير، ومكشوفة من أسفل أو من فوق، فجهة مكسية وجهة عارية. ( على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف ). وهي الباروكة التي تسمعون بها، وقد منعت في المملكة، وقد كانوا يصدرونها إلينا، ويبيعونها بأرخص مما هي في فرنسا بعشر مرات، فقد كانت تباع في فرنسا بمائة ريال، ويبيعونها عندنا بعشرة ريالات؛ وهذا حتى ينشروا الخبث. ولكن الله وفق الهيئة ومنعتها.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( العنوهن فإنهن ملعونات ). فلعنة الله عليهن. فهذه من آيات النبوة المحمدية، فقد تم هذا. وهناك أكثر من ستين علامة ظهرت، وما بقي إلا عشر علامات، وإذا ظهرت العلامة الأولى تتابعت البقية، وقامت القيامة.

    [ ثالثاً: فضل الدعاء، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شسع نعله ) ] أي: ليسأل أحدكم حاجته من ربه، حتى خيط النعال. فلا تستح، بل اطلب من الله ما أنت بحاجة إليه، حتى الخيط الذي في النعل؛ لأن الدعاء عبادة، والداعي عابد، و( الدعاء هو العبادة ). فاسألوا ربكم، وقد قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    قال: [ وللدعاء المستجاب شروطاً منها: أن يكون القلب متعلقاً بالله، معرضاً عما سواه ]. فلا تدعو وأنت غافل، أو وأنت لاه، بل تدعوه وكأنك بين يديه، موجهاً وجهك وصوتك إليه. فلابد من هذا، ولا يكن دعاء غفلة أو إعراض.

    قال: [ وأن لا يسأل ما فيه إثم ] فلا يقول: يا رب! أعطني خمراً، أو يسر لي كذا مما هو حرام، أو ابني لي كنيسة. فلا يسأل ما هو إثم أبداً، بل لا يسأل إلا ما هو حلال وطيب.

    قال: [ ولا يتعدى في الدعاء، فيسأل ما لم تجر سنة الله به، كأن يسأل أن يرى الجنة يقظة، أو أن يعود شاباً وهو شيخ كبير، أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج ] فلا يسأل المستحيل، كأن يطلب من الله أن يجعله شاباً وهو في التسعين أو الثمانين، ولا يسأل الله أن يريه الجنة يقظة حتى يؤمن، وإنما لابد أن يطلب من الله الشيء الذي يقع، ويوجد حسب سنة الله في الكون، فلا يسأل ولداً وهم لم يتزوج، ويجلس طول العام يدعو: يا رب! ارزقني أولاداً. فهذا عليه أن يتزوج؛ لأن الولد لا يكون بدون زوجة، بل هذا مستحيل.

    [ رابعاً: ( الدعاء هو العبادة ) ] كما أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولذا من دعا غير الله فقد أشرك بالله ] هذا المدعو، وجعله شريكاً لله في عبادته. فلهذا لا نسأل إلا الله، فلا نقول: يا رسول الله! ولا يا عبد القادر ! ولا يا فاطمة ! ولا يا أولياء الله! أبداً ولو نقطع، ولا نسأل إلا الله؛ لأن ( الدعاء هو العبادة ). فمن سأل غير الله أشرك؛ لأنه سوى هذا المسئول بالله، وجعله مثله، مع أنه ميت، لا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع، ولكن الجهل حملهم على أن يسألوا أصحاب القبور، كما حمل المشركين أن يسألوا الأصنام والأحجار [ وقد روي بإسناد لا بأس به: ( من لم يسأل الله يغضب عليه، ومن لم يدع الله غضب عليه ) ] فلهذا لا بد من الدعاء، وقد طلب الله منا هذا، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]. وقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]. فالذي يعرض عن دعاء الله فإنه هالك، والعياذ بالله.

    [ خامساً ] وأخيراً: [ بيان إنعام الله وإفضاله، والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه، وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه ] فيجب علينا أن نؤمن بنعم الله التي أنعم بها علينا، ونشكره عليها، ونحمده ونثني عليها، وننفقها فيما يحب أن ننفقها فيه.

    فيا معشر المستمعين والمستمعات! خذوا بهذه النعمة الإلهية، وذلك بأن تناموا بعد صلاة العشاء بنصف ساعة ساعة، ولا تسمحوا لأولادكم بالبقاء خارج المنزل، ولا تتركوا دكاكينكم مفتوحة بعد صلاة العشاء؛ لنحقق مراد الله من هذه النعمة، وهي أن الليل لنسكن فيه، والنهار مبصراً؛ لنعمل فيه. فاعملوا في النهار، ولا تتركوا أولادكم طول الليل يصيحون ونحن نسمع، ولا الدكاكين مفتوحة إلى نصف الليل أو إلى الفجر، بل في الليل ناموا واستريحوا. ولكنهم ما سمعوا بهذه الآية ولا عرفوها والله؛ لبعدهم عن كتاب الله، فهم يقرءونه على الموتى فقط، ولا يقرءونه ليتعلموا ويعملوا به.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755999418