إسلام ويب

تفسير سورة غافر (11)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القيامة والعرض والجزاء والحساب كلها أمور حتمية لا ينكرها من آتاه الله مسكة من عقل وبصيرة، لذلك فإن الله يصور مشاهدها كأنها رأي عين للمؤمن الموقن بربه، ومن مشاهدها تجادل أهل النار بعد أن يدخلوها، حيث يأتي الضعفاء التابعون إلى المستكبرين المتبوعين يسألونهم أن يحملوا عنهم جزءاً من العذاب؛ لأنهم إنما كانوا يتبعون خطاهم ومنهجهم وأوامرهم، فما يكون من أولئك المستكبرين إلا أن يتنكروا لهم، مخبرين لهم أن حالهم في النار واحد، وأن الخسران المبين من نصيبهم أجمعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا بنا نقضي هذه الساعة مع الله، ومع ملائكته، ونقضيها في الدنيا ونقضيها في الآخرة.

    وقد وصلنا إلى هذا الكمال بطريق الإسلام والحمد لله. فالحمد لله أن هدانا للإسلام، فأصبحنا مسلمين، وأنزل على رسولنا كتابه الكريم القرآن العظيم، فأصبحنا نعيش دقائق وساعات مع الله وملائكته ولقاءه. وهذا فضل الله علينا معشر المسلمين! فهيا نحمد الله ونشكره. فالحمد لله.

    قال تعالى: واذكر يا رسولنا! وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47]، أي: يختصمون في جهنم. وهم أبو جهل عمرو بن هشام وفلان وفلان، الذين كانوا يُجَهِّلون الناس، ويحملونهم على الكفر والشرك والحرب للرسول والمؤمنين. فاذكر وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47]. وكيفية حجاجهم ذكره تعالى بقوله: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ [غافر:47] الذين كانوا فقراء وضعفاء وليسوا بأقوياء، والذين كان يلزمهم الأغنياء وأصحاب السلطة بالكفر والفسوق والفجور، فهؤلاء الضعفاء يقولون للذين استكبروا في هذه الدنيا ولم يعبدوا الله ولا أطاعوه، ولا آمنوا به ولا بلقائه، وأبوا أن يقوموا لله راكعين ساجدين، أو عابدين متقين: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [غافر:47]، أي: كنا تابعين لكم أيها الأغنياء! .. أيها الرؤساء! فنحن كنا لكم تبعاً، فقد تبعناكم أنتم أيها الرؤساء والمسئولين! وكنتم أنتم الذين توجهوننا وتقودوننا حيث شئتم، حتى كفرنا بربنا وفسقنا عن أمره. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [غافر:47]، أي: تابعين. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47]؟ ويقولون هذا وهم في جهنم في عالم الشقاء، فيقول: هل تغنون عنا نصيباً قليلاً من النار، فلا تحرقنا؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد)

    قال تعالى حاكياً أن الذين استكبروا يردون على المستضعفين بما ذكره تعالى عنهم بقوله: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48]. فنحن وأنتم على حد سواء، فـ إِنَّا كُلٌّ [غافر:48] أي: الضعفاء والأقوياء .. التابعين والمتبوعين كلنا في النار.

    وكلمة نار يا أبناء الإسلام! ما تستطيعون أن تتصوروها، فأنتم ترون الشمس أكبر من الأرض مليون ونصف مليون مرة، وكلها نار، وحرارتها لا يمكنكم أن تمسوها. فكيف بعالم آخر كله نار؟

    وهنا يقول الذين استكبروا: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48]، أي: نحن وأنتم. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:48]. فقد صدر حكم الله، فأدخل أهل الإيمان والتقوى الجنة، وأدخل أهل الكفر والفجور النار. وهذا حكم الله، وهم اعترفوا به وأقروه، فقالوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:48]. فأدخلنا نحن وإياكم النار، وأدخل أهل طاعته وولايته الجنة دار النعيم المقيم. هكذا اعتذروا إليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب)

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ [غافر:49]. وهذا عام للأقوياء والضعفاء. فهو يقول: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ [غافر:49] في ذلك العالم لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ [غافر:49]. جمع خازن، وهم الزبانية الملائكة المكلفون بتعذيب أهل النار. والكافر الذي يعذبونه ضرسه والله كجبل أحد، وما بين كتفيه مائة وخمسة وسبعين كيلو متر. وبهذا أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد قال: ( كما بين مكة وقديد ). وهي مائة وخمسة وسبعين كيلو متر. فالملك هذا الذي يعذب كيف يكون؟ قولوا: آمنا بالله.

    فهم في النار يقولون ما حكاه تعالى عنهم بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]، أي: سلوا ربكم ادعوه يا ملائكة! أن يخفف عنا يوم من العذاب، يعني: مقدار يوم من أيام الدنيا؛ إذ ما في الآخرة يوم وليلة، ولا ليل أبداً، بل كلها نهار. فيقولون: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]، أي: مقدار يوم من أيام الدنيا، وأما الآخرة فما فيها ليل أبداً، بل هي يوم واحد.

    ويوم الحساب والناس على عرصات الأرض ينتظرون الجزاء طوله خمسين ألف سنة من أيامنا هذه، فقد قال تعالى من سورة المعارج: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]. وهذا كعمر الدنيا بكاملها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ...)

    قال تعالى مخبراً عن إجابة الزبانية عليهم السلام لأصحاب النار: قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:50]؟ أي: أما كانت تأتيكم رسلكم بالبينات، وتوضح لكم الطريق الذي تسعدون به، والطريق الذي تشقون به إذا سلكتموه؟ وألم تك تأتيكم رسلكم وأنبياء الله لكم من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات والحجج والبراهين، وتعلمكم كيف تسعدون في الدنيا والآخرة، وكيف تكملون؟ قَالُوا بَلَى [غافر:50]، أي: نعم، جاءتنا رسلنا بالبينات. فتقول لهم الزبانية: قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50]. فاطلبوا ما شئتم من الله، أو من الملائكة، أو من حيث شئتم، فدعاكم ما يستجاب له، ولا يقبل أبداً، ادعوا، وما دعاء الكافرين إلا في تياه وضلال، لا يستفاد منه أبداً. والآن لو يدعو الكافر الليل والنهار ربه لا يستجيب له، ولا يستجيب للكافرين والمشركين، والفجرة والفسقة، بل يستجيب للمؤمنين الصالحين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)

    قال الرب تبارك وتعالى: إِنَّا [غافر:51]، أي: رب العزة والجلال والكمال لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]. وهذا خبر عظيم، وهو والله يزن الدنيا بما فيها. فقد قال الرب مخبراً: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. وهو يوم القيامة. وما كان لله من أعداء إلا دمرهم، وخرب ديارهم، وسخط عليهم، ونصر رسله وأنبياءه من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا مات أو قتل نبي كزكريا مثلاً فما هي إلا أيام وينزل الله البلاء والعذاب بالأمة بكاملها، وتتجلى نصرة الله واضحة. ولهذا قال تعالى في هذا الخبر: إِنَّا لَنَنصُرُ [غافر:51]. وما زال الله ينصر أولياءه إلى اليوم. فإذا وجد لله أولياء وعبدوه وحده ودعوا إلى عبادته البشرية فوالله لينصرنهم الله، فلا ينهزمون ولا ينكسرون، بشرط أن يكونوا حقاً أولياء الله فقط، يعبدونه بما شرع لهم، ولا يفرطون في عبادته في صغير الأمر ولا النهي. فهؤلاء ينصرهم الله، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. فمن باب أولى يوم القيامة. فينصر أولياءه يوم القيامة ويدخلهم الجنة. فقد قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51]. ونحن إن شاء الله منهم، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]، وقد نصرنا، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار)

    قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر:52]. فلو يعتذر الظالم ألف معذرة ما تقبل له معذرة. وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ [غافر:52] من الله، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52]. ألا وهو أقبح مكان في جهنم وأتعسه. فقولوا: الحمد لله على أننا مؤمنون مسلمون موحدون، لا ندعو مع الله غيره، ولا نتوكل على غير الله، ولا نرهب ولا نخشى ولا نخاف إلا الله، ولا نعبد إلا الله، وحياتنا كلها ذكر لله، فليلنا كنهارنا. فالحمد لله. اللهم اجعلنا من أولياءك وصالح عبادك، وأدخلنا الجنة معهم يا رب العالمين!

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: بيان تخاصم أهل النار، وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين ] أي: بين الرؤساء ومن دونهم، والأقوياء والضعفاء؛ لأن الأقوياء دائماً هم الذين يحملون على الكفر والفساد والشر، والضعفاء يتبعونهم لفقرهم وحاجتهم. فيقع والله بينهم خصومة في جهنم. وقد سمعتموها.

    [ ثانياً: التنديد بالكبر والاستكبار؛ إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة ] فنبرأ إلى الله من أن نتكبر أو نستكبر، ومهما ما كنا لا بد من التواضع، ولا بد أن نتطامن، ولا بد من اللطف والرقة، وأما الشدة والعنف والغلظة والتكبر فنبرأ إلى الله منه ومن أهله. وهذه الآية تندد به، وتذكر مصير أصحابه.

    [ ثالثاً: عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة ] أبداً [ إلا ما شاء الله ] فلا يستجيب الله للكافر إذا دعا، إلا لأمر أراده الله وحكمة أرادها، وإلا ففي العموم الكافر ما يستجاب له، ولو يبيت يدعو الله ويظل يدعوه ما يستجيب له بنص الآية الكريمة، إلا من شاء الله.

    [ رابعاً: عدم قبول المعذرة يوم القيامة ] والمعذرة تقبل في الدنيا. فإذا عصيت ربك الآن واعتذر إليه بقولك: غرني فلان .. جهلني فلان .. غرتني الدنيا .. فعل بي الشيطان، وأنا أتوب إليك يا رب! فاغفر لي وارحمني واقبلني، فإنه يستجيب لك، وأما في الآخرة لا معذرة تقبل أبداً؛ لأنها ليست دار عمل، بل دار جزاء فقط، إما الجنة وإما النار.

    [ خامساً: عدم استجابة الدعاء في النار ] فأهل النار يدعون وما يستجاب لهم، كالكفار في الدنيا لا يستجاب لهم.

    [ سادساً ] وأخيراً: [ بيان وعد الله لرسله والمؤمنين، وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين: الأول: أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن، والثاني: أن يهلك عدوهم وينجيهم ] فالله ينصر أولياءه ورسله، إما بنصر دينهم، وإما بنصرهم هم وإهلاك أعدائهم، كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود.

    وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، الأشهاد هم الأنبياء الذين يشهدون على أممهم، والعلماء والدعاة الصالحون، فإنهم يشهدون على من دعوهم، والملائكة يشهدون كذلك.

    فالأشهاد ثلاثة: الأنبياء، والدعاة من الصالحين، والملائكة. فالكل يشهدون على أهل النار، وعلى ما عملوا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756176691