إسلام ويب

تفسير سورة الأنبياء (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعيب الله عز وجل في مفتتح هذه السورة على الكافرين الذين تأتيهم آيات الله عز وجل فيقابلونها باللعب والاستهزاء، متهمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم باختلاق ما جاء به من الدين تارة، وزاعمين تارة أخرى أن ما جاءهم به من القرآن إنما هو أضغاث أحلام أو كلام مفترى أو شعر يريد أن يصرفهم به عن عبادة آلهتهم، وهم في كل هذا غافلون عن اقتراب الساعة وما فيها من الحساب والجزاء.

    1.   

    الخلاف بين الأئمة الأربعة في عدّ البسملة من الفاتحة وكذا عدد آياتها

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن في ليلتنا هذه مع فاتحة سورة الأنبياء المكية، وهذه السورة يقول فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: الكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن تلادي، أي: أموالي القديمة التي أحتفظ بها؛ لأنه حفظها لما نزلت، واحتفظ بها، فكانت تدخر عنده.

    وها نحن مع هذه الآيات من فاتحة السورة، فهيا بنا نصغي ونستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وبما نسمع.

    بسم الله الرحمن الرحيم: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:1-6].

    وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي.

    فالسورة -إذاً- مكية، وهي من أوائل ما نزل، فهي كغيرها مما ذكر ابن مسعود ، فقد ذكر طه ومريم والكهف.

    والسور المكيات يعالجن العقيدة؛ لإيجادها وتصحيحها، ومن أعظم أركانها التوحيد بلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث الآخر، وما يجري فيه من جزاء على العمل في هذه الدنيا.

    اختلاف الأئمة الأربعة في عد آيات الفاتحة السبع

    يقول ربنا عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم. وبسم الله الرحمن الرحيم تفتتح بها السور، ليس على سبيل الوجوب، ولكن على سبيل الأدب، اللهم إلا بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]. والإمام الشافعي رحمه الله وتلامذته يرون أنها آية من سورة الفاتحة، وبنوا على هذا أن من لم يبسمل عند قراءة الفاتحة في صلاته فهي باطلة. فافقهوا هذا. فالإمام محمد بن إدريس الشافعي تلميذ مالك يرى أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الفاتحة. والإجماع على أن سورة الفاتحة سبع آيات، أي: أن بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] الآية الأولى. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] الثانية. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] الثالثة. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] الرابعة. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الخامسة. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] السادسة. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] السابعة.

    وخالفه في ذلك شيخه مالك وأحمد وأبو حنيفة ، وقالوا: ليست آية من الفاتحة، وإنما تفتح بها السورة كغيرها من السور. وعدوا آيات الفاتحة السبع هكذا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7]. فـ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] الآية السادسة. و غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]. الآية السابعة. فافهموا هذه القضية.

    وعلى كل حال لا تقل: أنا شافعي ولا مالكي، ولكن بسمل، ولا تترك بسم الله الرحمن الرحيم.

    ومما ينبغي أن يعلم أن سر هذا الخلاف هو: أن سورة الفاتحة نزلت مرتين من السماء، مرة ببسم الله الرحمن الرحيم، ومرة بدونها. وبمعرفة هذا ينتهي الخلاف. فمن بسمل على أنها نزلت معها، ومن لم يبسمل على أنها نزلت بدونها. ومن ثم لا خلاف، والأحوط كما قدمت لكم أن نبسمل، فنقول: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] في السر والجهر والفريضة والنافلة على حد سواء.

    تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)

    قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]. وهذا الخبر أخبر به الله الذي يقيم الساعة متى شاء، فهو يخبر تعالى فيقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]. وذلك في يوم القيامة، في اليوم الذي نخلق فيه خلقاً جديداً، ونجمع في ساحة واحدة، ويجري الحساب، ويتم الجزاء إما بالنعيم المقيم في دار السلام الجنة دار الأبرار، وإما بالعذاب الأليم المهين في النار دار البوار، ولا واسطة هناك، بل إما سعداء وإما أشقياء، فهناك إما إلى عالم علوي، وهو الجنة، وإما إلى عالم سفلي، وهو النار.

    وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ [الأنبياء:1] أبيضهم وأسودهم .. عربهم وعجمهم، وإن كانت الآية نزلت في أهل مكة الكفار من قريش.

    و اقْتَرَبَ [الأنبياء:1] بمعنى أخذ يقرب. ونحن والله لفي آخر أيام الدنيا، ومن يوم نزلت هذه الآية إلى اليوم ألف وأربعمائة وتسعة عشر عاماً، إذاً: فنحن نقترب، والساعة قد اقتربت.

    ثم قال تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] مع الأسف. أي: والحال أنهم في غفلة معرضون عن ذكر الله، وعن الإيمان به وبلقائه، وعن الإيمان برسوله وما نزل عليه من آيات الله، ومعرضون عن توحيد الله وعبادته. وليس هذا أيضاً مقصوراً على قريش، بل العالم اليوم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يصدق عليه هذا، ولا يستثنى إلا بعض المؤمنين، فالعالم اليوم في غفلة، وأهله مشغولون بالنكاح والطعام والشراب، والدنيا والصناعات، ومعرضون عن الله، فلا يسألون عنه، ولا عما يحب، ولا عما يكره، ولا إلى أين يصيرون أبداً. ولا يفكرون هذا التفكير.

    وصدق الله العظيم، فقد اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]. والحال وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]. فالنار تقترب منهم، وهم مشغولون بالطعام والشراب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ...)

    قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]. وهذا ينطبق على أهل مكة لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات الله التي تنزل، فقد كانوا مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ [الأنبياء:2]، أي: من كتاب الله الذي هو من عند الله ومن كلام الله مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] جديد، فقد كانت الآيات تنزل يوماً بعد يوم، وكل يوم وكل أسبوع، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2].

    والآن المشركون والكافرون واليهود والنصارى كلهم لا يسمعون ولا يعرفون، ولكن لو أسمعناهم فمن أراد الله سعادته في الدار الآخرة آمن وأسلم، ومن لم يرد الله له ذلك فإنه والله يعرض ويسخر ويستهزئ، ويخرج لسانه ويقول: هذه رجعية، وهذا كذا، كما يقولون.

    فهم مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] جديد طري إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]. ويضحكون ويسخرون، ولا يبالون بما يحمل من الهدى، أو بما يبين من الضلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لاهية قلوبهم ...)

    قال تعالى في الخبر الثاني: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3].

    لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:3]. قلوبهم مشغولة. وهذا يتناول حتى الكثير من المؤمنين، فالقلوب لاهية، فهذا مشغول بزراعته، وهذا بصناعته، وهذا بوظيفته، وهذا بزوجته وأولاده، وهذا بكذا، وهذا بكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالقلوب لاهية، في حين إنه ينبغي أن يلهى القلب بما يحب الله تعالى ويريده، ويشتغل بذكر الله وطلب رضاه، ويشتغل بذكر الدار الآخرة وما أعد الله فيها، يشتغل بعمل الصالحات وكيف يعملها، وكيف يتوب بها ولا يشغل قلبه بالدنيا وما فيها من قاذورات وأوساخ. ولكنهم لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:3].

    نصح الكافرين بعضهم لبعض بعدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء:3]. وهذا يتناول طغاة المشركين في مكة، وعلى رأسهم أبو جهل عمرو بن هشام ، وعقبة بن أبي معيط ، وغيرها.

    وقوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الأنبياء:3] أي: لما يتناجون ويتحدثون في ناديهم وفي فرشهم وفي مجالسهم يسرون النجوى، ويقولون في النجوى: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]؟ أي: ما هذا إلا بشر مثلكم، فكيف يكون رسولاً، ويدعي النبوة والرسالة، ويأمر بطاعته وطاعة الله؟ فهو إنسان مثلكم. هكذا يقولون فيما بينهم.

    وهؤلاء الذين قال الله عنهم: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الأنبياء:3] هم الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء:3] بالشرك والكفر. وهذه النجوى هي قولهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]. فهذه نصائح يوجهها بعضهم لبعض.

    فقوله: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ [الأنبياء:3] يعني: أنه ساحر، وما يدعوا إليه ويقوله سحر. وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]. فأنتم لستم عميان. هذه هي كلمات النادي التي يسرونها فيما بينهم؛ ليصرفوا قلوبهم وقلوب الناس عن لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والآن أهل الباطل في كل مكان لهم مجتمعات، ولهم أندية، ولهم سر ونجوى، ويقولون كما يقول الأولون، ولكن يعبرون بحسب الظروف والأحوال؛ إذ هذه طبيعة الإنسان قبل أن يستنير قلبه، وينشرح صدره، ويقبل على ربه يعبده. فهم كما قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]؟ أي: إنسان فقط منكم، فلا تؤمنوا به. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]. ولو كنتم عميان لعذرناكم. فلا تأتون السحر والسحرة، ولا تقولون بالسحر وأنتم تبصرون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ...)

    قال تعالى: قَالَ رَبِّي [الأنبياء:4]، أي: قل يا رسول الله! وقرأ الجمهور نافع ومن معه: قل ربي، أي: قل يا رسولنا!: ربي يعلم القول في السماء والأرض، وهو السميع العليم وقرأ حفص : قَالَ [الأنبياء:4]، أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ [الأنبياء:4]. والرسول لما قال علمه الله، وأمره الله أن يقول.

    فقوله: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ [الأنبياء:4] أي: الكلمة والنطق فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:4]. ويستمع لأقوال عباده، فهو العليم بأفعالهم.

    ولم يكشف هذا السر إلا الله، وإلا فليس هناك من ذهب إلى النادي وأخبر الرسول بهذا، ولكن الله مطلع عليهم، فعرف ما يقولون في ناديهم، وما يدعون إليه من الباطل، فأخبرهم بأن ربه علمه.

    ثم قال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ [الأنبياء:4] أي: لأقوال عباده، الْعَلِيمُ [الأنبياء:4] بأعمالهم، خيراً كانت أو شراً. فسبحانه الذي لا إله إلا هو! فهو والله لسميع عليم، فهو سميع لأقوالنا، عليم بأفعالنا، فلا يمكن أن يخفى عنه شيء أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ...)

    قال تعالى: بَلْ قَالُوا [الأنبياء:5]. وهؤلاء القائلون هم المشركون المعاندون، المكابرون المصرون على عبادة الأصنام؛ ليسودوا العوام ويقودوهم. فهؤلاء قَالُوا أَضْغَاثُ [الأنبياء:5]، أي: هذا الذي يقوله محمد رآه في المنام، وهو أضغاث أحلام، ورؤى منامية تتخبط بصاحبها، وليس هذا وحياً ولا قرآناً، ولا نزل من السماء، بل هو مجرد أضغاث أحلام ومن الرؤى المنامية، فهذا هو الذي وقع له حتى قال ما قال.

    وقالوا أيضاً: بَلِ افْتَرَاهُ [الأنبياء:5]. ولم يره فقط، بل هو يكذب ويقول: أمرني ربي، وقال ربي، وأنزل علي كذا وكذا، وهذا مجرد افتراء فقط.

    ثم قالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء:5]. وانفضحت سوءتهم في كلمة شاعر، فقد كان والله لا يحسن الشعر، ولا يحسن ولا بيتاً من الشعر، فقد عصمه الله تماماً، فلم يكن رسول الله يجيد أن يقول بيتاً من الشعر، مع أنه كان في أسرة شعراء. فأبطل الله دعواهم.

    ثم إن الشاعر لما يأتي بقصيدة تجد فيها الأباطيل والترهات والأكاذيب، ولا تجد فيها دعوة الحق ومحاربة الباطل أبداً.

    والشعر معروف، والقرآن ليس شعراً. بل في القرآن الكريم تعاليم وهدى وبيان، وإصلاح الخليقة والبشرية، وإعدادها للسعادة في الدنيا والآخرة. فهذا ليس من الشعر. ولكن هذا شأن المريض -أي: العدو- الذي يرمي بالكلمة ليصرف عن نفسه ما يخافه.

    ثم قالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ [الأنبياء:5]. فليأتينا بآية كما جاء بها موسى، فقد كانت عصاه تنقلب ثعباناً، وكيد موسى، وكآية عيسى وناقة صالح. فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ [الأنبياء:5] من الأنبياء والمرسلين. وقد تلقوا هذا من اليهود بالمدينة، وإلا فهم لم يكونوا يعرفون صالحاً ولا قومه، ولا موسى.

    فقولهم: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ [الأنبياء:5] أي: بمعجزة تدل على أنه رسول الله، كما أرسل الأولون من الأنبياء والمرسلين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ...)

    قال تعالى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:6]. ويعني بالقرية: أهل القرية، وهي المدينة الكبيرة. فـ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:6] أبداً. فلم تبقى عاد ولا ثمود، ولا مدين ولا فرعون، ولا المؤتفكات ولا قوم لوط، ولم يبقي منهم شي، وقد جاءتهم الآيات. ولهذا لو جاءتهم الآيات التي يطالبون بها فوالله لن يؤمنوا، وثم ينزل بهم الهلاك الدائم التام.

    والأمم قبلهم لما جاءتهم الآيات ما آمنوا، فالآية لا تستدعي الإيمان أبداً، بل تزيد في العناد، كناقة صالح، فقد قالوا: ادع ربك يخرج لنا ناقة من هذا الجبل، فقام يصلي ويرفع يديه إلى الله، فانشق وانصدع الجبل عن ناقة عشراء، كأعظم ناقة في الأرض، وليس هناك آية أعظم من هذه. ومع ذلك اتفقوا على قتلها وقتلوها. وأعظم من هذا أنها كانت تشرب ماء المدينة وحدها، فقد كان لها يوماً، ولأهل المدينة يوماً. ومع هذا ما آمنوا. والآن المشركون يطالبون بالآية، ووالله لو جاءت ما آمنوا. مع أنه لا يوجد آية عقلية أعظم من تلقي الرسول الوحي من السماء.

    فلذلك يقول تعالى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:6]، أي: أهلها. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:6]؟ ولا والله ما يؤمنون أبداً. ولهذا أبطل دعواهم، ولم ينزل عليهم الآيات. فافهموا هذا الكلام.

    ونقرر ثلاثة أشياء: التوحيد، فلا يعبد إلا الله، والنبي محمد رسول الله، والقرآن كلام الله، والدار الآخرة دار الجزاء.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال: [معنى الآيات:

    يخبر تعالى فيقول وقوله الحق: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، أي: دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [الأنبياء:1] عما ينتظرهم من حساب وجزاء. مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي، والتزود بالإيمان وصالح الأعمال.

    وقوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] أي: ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، أي: استمعوه وهم هازئون ساخرون لاعبون، غير متدبرين له ولا متفكرين فيه.

    وقوله تعالى: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:3] أي: مشغولة عنه، منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من هدى ونور. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء:3]. وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]؟ أي: ما محمد إلا إنسان مثلكم، فكيف تؤمنون به وتتابعونه على ما جاء به؟ إنه ما هو إلا ساحر. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]؟ مالكم أين ذهبت عقولكم؟

    قال تعالى لرسوله ] صلى الله عليه وسلم [ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ [الأنبياء:4] لأقوال عباده، الْعَلِيمُ [الأنبياء:4] بأعمالهم. فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب، عليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه.

    وقوله تعالى: بَلْ قَالُوا [الأنبياء:5] أي: أولئك المتناجون الظالمون ] قالوا: [ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ [الأنبياء:5]، أي: قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم؛ ليهتدوا به، قالوا فيه أضغاث أي: أخلاط رؤيا منامية، وليس بكلام الله ووحيه. بَلِ افْتَرَاهُ [الأنبياء:5] ] أي: [ انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم. بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء:5]، أي: صلى الله عليه وسلم، وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي هو ذكر أشياء لا واقع لها ولا حقيقة.

    وقوله تعالى عنهم: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ [الأنبياء:5]، أي: إن كان رسولاً كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر ] إذاً [ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ [الأنبياء:5]، أي: معجزة، كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون.

    قال تعالى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء:6]، أي: أهل قرية أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:6] بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:6]؟ أي: لا يؤمنون؛ إذ شأنهم شأن غيرهم. فلذا لا معنى لإعطائهم الآية من أجل الإيمان، ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون ].

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات:

    أولاً: قرب الساعة ] أي: ساعة الفناء وانتهاء هذه الحياة ثم استقبال البشرية حياة أخرى، هي أعظم وأبقى وأخلد من هذه، وقد اقتربت، وكما قلت لكم: بعث الرسول في آخر الأنبياء آخر الدنيا، والآن قد مضى على وفاته ألف وأربعمائة سنة وزيادة، فهي نقترب، وعما قريب سيقع ما سيقع في الكون، ونشهد أحداث الساعة بكاملها.

    وفي سورة القمر قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]. وهذه أعظم آية. فقد انشق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس، وهم يشاهدون، وليس هناك آية أعظم من هذه، وما آمنوا. وهم ما طلبوا هذه الآية، ولكن الله عز وجل أراهم هذه الآية بدون أن يطلبوا، فانشق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس، وشاهده أهل مكة ومن وراءهم حتى العراق وما إلى ذلك، فقد شاهدوا القمر منقسماً.

    والشاهد: هو قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]. وإذا ظننتم أنها ما زال على إتيانها عاماً .. عامين .. عشرة فأعمارنا نحن وأيامنا لا ندري كم هي، ووالله ما ندري أنصبح أو لا نصبح، ومعنى هذا: هيا نبكي، وهيا نقترب من الساعة بأن نقدم لها ما ينبغي أن نقدم من الذكر والدعاء، والصلاة والأجر العظيم والعبادة.

    [ ثانياً: بيان ما كان عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض ] والباطل والشر [ والناس اليوم أكثر منهم في ذلك ] بل وأعظم من كفار قريش.

    ونكرر ونقول: والله لكفار قريش أشرف من كفار اليوم، فقد كان عندهم الأمانة، وعندهم الثقة، وعندهم غير ذلك، وأما كفار اليوم والعياذ بالله فشر الخلق، وخاصة البلاشفة. فافهموا هذا.

    فكفار قريش يعتبروا أشراف الكفار، فقد كان عندهم أمانة وشهامة ومروءة، وغير ذلك، وهؤلاء ليس عندهم شيء، إلا النكاح والأكل والشرب والصياح، وليس فيهم شيء غير ذلك.

    [ ثالثاً: بيان حيرة المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صلى الله عليه وسلم ] فقد كان المشركون في حيرة أمام الوحي الإلهي، وكما بينت لكم فقد كانوا مرة يقولون: إنه منام، ومرة يقولون: سحر، ويتخبطون، وهلك على هذا من هلك، وكانوا أعداداً، ثم دخلوا الإسلام، وحملوا رايته في الشرق والغرب. والذين ماتوا على الكفر هم الذين قتلوا في بدر، وهم سبعون، وأضف إليهم سبعين آخرين إن شئت، وما عدا ذلك فكلهم في دار السلام.

    [ رابعاً: ] وأخيراً [ المعجزات لم تكن يوماً سبباً في هداية الناس، بل كانت سبب إهلاكهم؛ إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد الإيمان والهداية، فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية ] وهذه حقيقة يجب أن لا تحيد عن أذهاننا، وهي: أن الآية لا تكون سبباً للإيمان مهما كانت عظيمة. ولو يقوم قائم بينكم وقال: اتبعوا الرسول محمداً وسأريكم آية، ثم انشق السقف شقتين ورأينا السماء فالمستعدون للإيمان والعمل الصالح هم مستعدون من قبل، وأما الآخرون فيضحكون ويسخرون، يقولون: هذا مجنون، وهذا سحر، وهكذا.

    فالآيات لا تستلزم الإيمان أبداً، ولهذا ما أعطي الرسول آيات يتحدى بها المشركين، وإن كان الله أعطاه ألف آية وليست آية واحدة ولكن ليست آيات التحدي. وقد علمتم أن أعظم آية أنه يتلقى الوحي من السماء، وأعظم آية العروج به إلى الملكوت الأعلى، وأعظم آية القرآن الذي يتلوه بين يديه.

    والله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، وأن يتوفنا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين. اللهم آمين.

    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959064