إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا قامت الساعة وجمع الله العباد للحساب، وقرر الذين أرسل أليهم والمرسلين على حد سواء بتبليغ الرسالة، عند ذلك تنشر الصحف وينصب الميزان، فأما المفلحون فهم من ثقلت موازينهم بالإيمان والأعمال الصالحات، وأما الخاسرون فهم من خفت موازينهم بسبب إعراضهم ومقارفتهم للمعاصي والسيئات.

    1.   

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الأعراف

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأعراف المكية، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا نصغي إلى سماعها من مرتلها ومجودها، ثم نشرع بإذن الله في دراستها، وبيان ما فيها من الهدى والنور، فليتفضل.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

    فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:6-10].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم ونفسي ببعض الآيات التي تدارسناها بالأمس، ونذكر منها قوله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، فهل أعطينا هذا الأمر ما يستحق؟ وهل عزمنا أن نتبع فقط ما أنزل الله إلينا في هذا الكتاب؟ وما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم منه؟

    فاتباع أهل الأهواء وأهل البدع والعنصريات والشخصيات والضلالات هو الخسران بعينه، فهذا أمر الله: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:3]، وما بينه رسول الله في سنته، فمنهج السلامة وطريق السعادة أن نعتقد ما جاء في كتاب الله، وأن نعبد الله بما جاء في كتابه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نحرم ما حرم الله، وأن نحل ما أحل الله، ولا نلتفت إلى آراء الضالين والمضللين، أرباب الأهواء والأطماع والنزوات، ليقول: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، نذكر هذا، ونذكر التخويف والتهديد الذي تتطاير منه قلوب الشجعان لو كانوا يؤمنون في قوله عز وجل: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:4-5]، اعترافهم بالظلم هل يسبب مغفرة الله لهم؟ فمن أذنب منا ذنباً فليعترف به إلى ربه ويستغفره ويطلب مغفرته، وهذا ينجو بإذن الله، أما الإصرار على الذنوب والمعاصي حتى الموت، ثم إذا جاءنا الموت وشاهدنا علاماته نتوب إلى الله، تلك التوبة مردودة وغير مقبولة؛ لأنها لا تزكي النفس ولا تطهرها، كالأعمال التي يأتيها العبد مكرهاً عليها، أو يأتيها وهو ناسٍ لها، أو جاهل بها، ما تزكي نفسه أبداً، وكم من عاصمة، وكم من حاضرة وكم .. وكم، أهلكها الله عز وجل بسبب انحرافهم وعدولهم عن الحق، وإعراضهم عن كتاب الله، وهدي رسله عليهم السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)

    دلالة القسم في قوله تعالى: (فلنسألن)

    ثم يقول تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ [الأعراف:6]، وعزتي وجلالي لنسألن الذين أرسلت إليهم ولنسألن المرسلين، فلو عرف مؤمن هذا لأغمي عليه، يقسم الله بأنه سيسأل الرسل أنفسهم هل بلغوا؟ هل أدوا ما أمرهم بأدائه؟ هل دعوا؟ هل أنذروا؟ هل خوفوا؟ ويسأل من أرسل إليهم، وتبعت هذا السؤال وثمرته ونتيجته الجزاء بحسب ما يحق ويثبت في ذلك المقام بين يدي الله عز وجل.

    سؤال الله للأمم يوم القيامة عما أجابوا المرسلين، وسؤال المرسلين عما بلغوا

    فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف:6]، من الشعوب والأمم والجماعات والأفراد، يسألهم الله واحداً واحداً، عن كل ما فعلوا وتركوا، وعن كل ما أهملوا، وعن كل ما أضاعوا، وكل ما قاموا به وفعلوا.

    وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، إذا كان الأنبياء والرسل سيسألهم سبحانه وتعالى، فكيف بنا نحن، ونحن العبيد الذين ما خلقنا أبداً إلا لعبادته، فأعرضنا عنها وانصرفنا إلى غيرها، وعققناه وحاربناه -والعياذ بالله- فكيف سيكون موقفنا؟ والله يخبر مؤكداً الخبر بمقتضى القسم: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف:6]، من البشر.

    وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، أنفسهم، يسأل الرسول: هل بلغت؟ كيف بلغت؟ من يشهد لك؟ فكيف بالمرسل إليهم، الرسل معصومون محفوظون، والله ما عصوا الله ولا خرجوا عن طاعته؛ ولكن من باب إظهار العدالة الربانية يبدأ بالرسل يسألهم، فكيف بغير الرسل؟ يسألهم عن ماذا؟ ماذا أكلتم؟ ماذا شربتم؟ ماذا لبستم؟ ماذا سكنتم؟ ماذا قلتم؟ ما الذي قمتم به؟ كل الحركات والسكنات يسأل عنها، والرسل يسألون عن البلاغ، وحمل الرسالة وأدائها إلى من أمروا بإبلاغها لهم.

    فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)

    ثم قال تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7]، فَلَنَقُصَّنَّ [الأعراف:7]، القصص: تتبع الأشياء جزءاً بعد جزء، كالذي يقص الأثر، فلنقصن عليهم أعمالهم من ساعة تبليغهم وبلوغهم إلى موتهم.

    فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الأعراف:7]، منا؛ إذ لا تتحرك -يا عبد الله- حركة إلا والله يعلمها، وينظر إليها.

    وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7]، وما كنا غائبين عنكم، لما خرجتم عن طاعتنا، وفسقتم عن أمرنا، أو عندما أقبلتم علينا وصدقتم في إقبالكم علينا، وعبدتمونا، أي: الكل كنا غير غائبين عنكم.

    فلك أن تقسم بالله أنك لا توجد في مكان ما والله لا يعلمه، أو أنك تقول كلمة والله ما يدريها وما يعلمها، والله ما كان، فلهذا أهل الإيمان يستحون من الله عز وجل أكثر مما يستحون من الناس، فإذا أراد أحدهم أن يتكلم بالكلمة يستحي من الله فلا يقولها؛ لأنها غير مرضية لله عز وجل، وما أذن الله ولا سمح بها فلا يتكلمها، فلا يخطو خطوة يمينًا أو شمالاً حتى يعرف هل الله راضٍ عنها أو ساخط، بل حتى لقمة الطعام لا يتناولها حتى يدري هل الله راضٍ عنه في هذا أو غير راض، هذا هو الإيمان الحق، ولكن الذين أعرضوا عن كتاب الله وما تدارسوه ولا فهموه لا يعرفون هذا، ولا يذكرونه وينسونه.

    فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف:7]، أي: على الرسل والمرسل إليهم، بِعِلْمٍ [الأعراف:7]، فما فعلت وفعلت بدون علم سابق، بل بعلم سابق، وكيف والله علم أعمالنا قبل وجودنا، وسجلها في ديوان القضاء والقدر، وحال اكتسابنا للقول أو العمل الله معنا، والله معكم أينما كنتم.

    فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الأعراف:7]، فليس تتبع للقول من شخص يدري ساعة ولا يدري أخرى، لكن بعلم كامل.

    وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7] عنهم، هل يغيب الله عنا؟ نحن بين يديه أكثر من النملة بين يديك أنت.

    وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فكيف يخفى عليه أمرنا وهو خالق قلوبنا وعقولنا وغرائزنا وطابع طبائعنا، فدعوة إلى الحياء من الله عز وجل ومراقبته طول الحياة، حتى لا ننحرف أبداً أو نعوج في سلوكنا، وقد بين الله لنا الطريق وهدانا إليه ألا وهو هذا الإسلام العظيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق...)

    مفهوم الوزن في الآخرة

    ثم قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، الوزن: هو ما يوزن به من جواهر الذهب أو العنب أو التمر، فهذه الموازين من خلقها؟ الله خلقها، ومن هدى الناس إليها؟ الله هداهم إليها؛ ليوزعوا الحق ولا يظلموا ولا يعتدوا.

    وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، الثابت. ونعم.

    واقرءوا: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4] لا عقول، ولا فهوم، ولا تعالي، ولا علم، ولا جهل.

    كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]؛ لهزة الأرض وحركتها.

    فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7]، مرضية، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، هذا محل الشاهد، كيف حاله؟ فهو في عيشة راضية.

    وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:8-11].

    والشاهد: في الموازين؛ وتوضع الموازين والأعمال، ولا تقولن كما يقول الفلاسفة واليونانيون والمعتزلة والمنحرفون من هذه الأمة: كيف توزن الأعمال وهي صفات وأعراض وليست ذوات، وعموا أن الله يجعل لها ذوات بكلمة كن، فهذه الصفات والأعراض تصبح أعمالاً ذات ثقل توزن وترجح كفة الميزان أو تخف.

    من ثقلت موازينه في الآخرة فهو الفائز

    وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8].

    المفلحون: أي الفائزون، فبماذا أفلحوا وفازوا؟ نقول مثلاً: أفلح فلان وفاز فلان، فبأي شيء أفلح وفاز، فالآن في دنيانا أفلح في تجارته، ونجح في عمارته، وفاز في دراسته، فهذا هو الفوز، ونجح في تربية وإصلاح أولاده، لكن هذا كله يزول ويفنى وينتهي، فالفلاح الحق الذي نكرر القول فيه، أن تبعد عن عالم الشقاء وتجد نفسك في عالم السعادة، وأن تنجو من النار دار البوار، وتدخل الجنة دار الأبرار.

    والله عز وجل بين لنا هذا إذ قال وقوله الحق: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    فالمفلحون هم من ثقلت موازينهم بالحسنات وبالأعمال الصالحة قليلها وكثيرها، صغيرها وكبيرها، فبها يثقل الميزان، ويخف إذا كانت قليلة، وإذا خف الميزان ترجح كفة السيئات وتهبط، وقل من تستوي حسناته وسيئاته فيرجأ ويؤجل حتى تنقضي المحكمة ثم يحكم الله فيهم، هذا إذا استوت حسناته وسيئاته.

    المؤمنون يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا

    فلهذا أولوا البصائر والنهى من المؤمنين والمؤمنات يحاسبون أنفسهم على الصغيرة والكبيرة، على الكلمة يقولها ويشعر أن فيها عدم رضا الله فيبكي الليالي العديدة، حتى يمحي ذلك الأثر، يعمل عمل لجهله وغفلته وتسلط الشيطان عليه فما أن يشعر حتى يكاد يذوب من الهم والكرب الأيام بل الأعوام، حتى يمحى ذلك الأثر ويزول.

    وكيف وهو يعلم: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

    في آيات كثيرة من كتاب الله تقرر أننا نحاسب وتوزن أعمالنا ونجزى بحسب ذلك، فلهذا قرية المؤمنين إذا دخلتها آمن واطمئن؛ لا يسلب مالك، ولا تمس عورتك، ولا ينال من شرفك أبداً؛ لأنك بين مؤمنين، قد عرفوا الطريق إلى الله وسلكوه.

    وتدخل إلى قرية أهلها جهلة يعيشون على الظلام فلا تسلم لا في عرضك، ولا في بدنك، ولا في مالك، فلا يحاسبون أنفسهم، ولا يعرفون محاسبتها؛ لأنهم ما عرفوا وما علموا، لماذا لم يعرفوا ولم يعلموا؟ لأنهم ما طلبوا، فما أرسلنا إليهم من يعلمهم، وما بعثنا إليهم من يعرفهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث أصحابه إلى القرى والمدن، وإلى القبائل والجهات ليعلموا ويبينوا.

    الخسران الحقيقي هو خسران النفس

    وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:9]، ما معنى خسر فلان نفسه؟ أي: هلكت.

    وبيّن الله تعالى وجه الخسران في آيتين من كتابه العزيز إذ قال: قُلْ [الزمر:15]، فيا رسولنا والمبلغ عنا قُلْ [الزمر:15]، مبيناً معلماً: إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15]، أي: بحق، حقيقة خسروا، ما خسر دابة أو بغلة أو شاة، إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، ففقدان شاة، أو بعير، أو دينار، أو درهم، أو سيارة، أو منزل، أو امرأة، أو ولد هذا ليس بخسران، خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر:15]، أولاً: وَأَهْلِيهِمْ [الزمر:15]، إذ يلقى في عالم النار، لا يواجه أباً، ولا ابناً، ولا أخاً، ولا قريباً، ولا بعيداً، ملايين السنين وهو في عذاب وحسبه أنه عذاب النار، هذا هو الخسران، أما كونك تخسر في تجارة أو في بضاعة وتبكي وتقول: خسرت، فهذا ليس بخسران.

    التكذيب بآيات الله سبب في الخسران المبين

    قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:9]، بسبب ماذا؟ من ظلمهم؟ من خسّرهم؟ قال: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9]، ومعنى (يظلمون): أي: يجحدون ويكذبون؛ لأن الباء لا تدخل على الظلم، وإنما تدخل على التكذيب، يقول: كذب به، ولا يقول: ظلم به، بما كانوا يكذبون بآيات الله ويجحدون، فمن كذب بآيات الله صام وصلى، تجنب الباطل والشر وابتعد عنه، ذكر الله وبكى واستغفر، لا أبداً، ما دام قد كذب وجحد، ولم يعترف بشرع الله، ولا دينه، ولا وعده ووعيده، فكيف يعبد الله؟!

    الكفر والجهل علة كل الآثام والذنوب

    وعلة كل الآثام والذنوب دائماً في شيئين:

    أولاً: الكفر.

    ثانياً: الجهل.

    فالكافر يفعل ما يفعل لا يخاف الله، ولا ترتعد فرائصه من الله، ولا يذكره أبداً، ولا يراقبه، والجهل وإن آمن، ما دام جاهلاً لا يفرق بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين الجائز والممنوع، فلا بد من الإيمان والعلم، وهما ضرورتان من ضرورة الحياة، الإيمان الحق والعلم الصحيح، العلم بمحاب الله ومكارهه، فما علمنا أنه يحبه ربنا أحببناه وأتيناه وفعلناه، وأحببنا العاملين به، والراغبين فيه، وما علمناه مكروهاً لله كرهناه وتجنبناه، ورحلنا من ساحته.

    وهنا أذكر الهجرة، فالمسلم يجد نفسه في قرية لا يستطيع أن يستقيم فيها على منهج الله فيجب أن يخرج من هذه القرية، ويجد نفسه في إقليم من الأقاليم لا يتمكن من عبادة الله أبداً، فيجب عليه أن يرحل إلى رؤوس الجبال، وينزل في عمارة من العمارات فيها سكن فلا يستطيع أن يغض بصره، ولا أن يحفظ فرجه، فيجب عليه أن يرحل، وينزل في بلاد كلهم يعيشون على الربا -والعياذ بالله تعالى- ولا يجد درهماً من حلال، والله ما جاز أن يقيم بينهم فليرحل؛ حتى ينجو من الخسران.

    هكذا يقول تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:9]، بسبب ماذا؟ بسبب بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9]، أي: يكذبون ويجحدون.

    وتحمل الآية معنى آخر: وهو أنهم كانوا يظلمون بالآيات شرائع الله عز وجل فيحرفونها ويبدلونها ويغيرونها؛ ليسهل عليهم فعل الباطل والشر بين الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناكم في الأرض...)

    كيفية تمكين الله تعالى لعباده في الأرض

    وقال تعالى ممتناً علينا: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ [الأعراف:10]، فالأرض لا تميد بنا، والمنازل لا تسقط علينا، والأرض لا تنشق فجأة علينا ونرحل، بل هي قارة وثابتة ونحن متمكنون، نمشي .. نقعد .. نبني، والأرض قارة ثابتة، فلو أراد الله أن تتحرك الأرض في كل دقيقة لما بقي عليها واقف ولا ساكن، من فعل هذا؛ آباؤنا أو أجدادنا أو أمريكا وروسيا هي التي مكنت لنا الأرض؟ الله الذي فعل هذا، أم الأرض وجدت بدون موجد؟

    فالذي يستطيع أن يثبت أن شيئاً ما في الكون وجد بدون موجد له أن يقول: الأرض والسماء وجدت بدون موجد، هذه الكلمة خبث وعبث وباطل، كما نقول مثلاً: هذا الخيط ممكن تعتقد أنه وجد من نفسه؟ لا.

    تصدق؟ فلماذا تقول: الشمس وجدت من نفسها؟ هل تستطيع أن تقول: هذا العمود وجد هكذا بدون موجد؟ كيف؟ إذاً البشرية كلها من أوجدها؟

    فالملاحدة والعلمانيون الذين ينكرون وجود الله، وحاولوا أن يتكئوا على كلمة الطبيعة، سألوهم: الطبيعة ما هي امرأة وإلا رجل؟ طبيعة ذات عقل وبصيرة وإرادة وإلا لا؟ ما هي الطبيعة؟ الآن قف بيننا وانظر إلى وجوهنا، ما تجد وجهين يتفقان ولا يختلفان، من فرق بين أعيننا وأنوفنا وآذاننا ووجودنا بهذه الطريقة؟ كيف يتم هذا؟ لا يسع المتذكر إلا أن يقول: آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله، فما هي هذه الطبيعة؟ هي هروب فقط، فقالوا: إذا قلنا: الله. قلتم: صلوا! فلا نقول: الله حتى لا نصلي.

    وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ [الأعراف:10]، من الذي يتكلم بهذا الكلام؟ الله موجود وإلا لا؟ هذا كلامه، هذا كتابه، ونحن نحكي كلامه.

    معنى قوله تعالى: (وجعلنا لكم فيها معايش)

    وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ [الأعراف:10]، معايش: جمع معيشة، العيش الذي به الحياة: الخبز والماء، والتمر واللبن، والفواكه والخضر، فمن أوجد هذه المعايش؟ هل صنعناها نحن؟ والله ما نستطيع أن نصنع تمرة واحدة، ولو اجتمعت البشرية كلها على أن تصنع حبة عنب لما استطاعت، فمن أوجد هذه المعايش المختلفة؟ الله هو الذي أوجدها.

    إذاً: كيف لا يرهب؟! وكيف لا يرغب فيه؟! وكيف لا يحب؟! وكيف لا يسأل عنه؟! وكيف لا يعبد؟! وكيف يعصي ويفسق عن أمره ويخرج عن طاعته؟! وهو المنعم بهذه الإنعامات؟! لأننا ما نتفكر ولا نتذكر، فالبشرية معرضة في جهالات وضلالات، وإلا فلنبك بين يدي الله، حتى يمتن علينا بالمنة.

    الشكر المتوجب لله على العباد

    فيقول: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، أي: ما تشكرون إلا قليل الشكر، وهذا من باب الاحتياط، وإلا توجد أمم لا تعرف الشكر أبداً.

    فما هو الشكر؟ وهل يجب أن نشكر أم لا؟ فالذي تكسوه ثوباً ويسبك هل ترضى به؟ والذي تقدم له طعامك ليأكل ومن ثم يضحك عليك ويسخر بك هل ترضى به؟ والذي تحمله بسيارتك أو طيارتك إلى بلاده، ثم يقول: لا نعترف بك. كيف ترضى عنه؟

    إذاً: ونحن نعيش في كنف الله، وفي فضل الله ورحمته ولا نشكره!

    والسؤال: من منكم يعرف الشكر وبما يكون؟ الشكر بيننا معروف مثل: جزاك الله خيراً .. أكرمتنا بجميلك .. أطعمتنا كذا، والعوام خاصة يجيدون الشكر.

    والله عز وجل يشكر بكلمة الحمد لله، وقد عجزنا عنها، فالواحد منا يأكل ويشرب، ولا يقول: الحمد لله، وإن قالها يقولها باردة، لا حرارة فيها ولا صدق، فما عرف هذه النعمة وما هي حتى يقول: الحمد لله .. الحمد لله.

    فالشكر يكون بالاعتراف بالنعمة للمنعم، فطعامنا وشرابنا ولباسنا وهوائنا وغذائنا كل هذه النعم من المنعم بها؟ أليس الله؟

    إذاً: إذا تنفست، فقل: الحمد لله، وإذا نظرت إلى الكون أمامك، فقل: الحمد لله، ولا سيما عند الأكل والشرب واللباس والركوب.

    والسؤال إذا سألت: كيف حالك؟ قل: الحمد لله!

    فالشكر أولاً: اعترافك بالمنعم والنعمة التي أنعم بها عليك.

    ثانياً: ثناؤك عليه ومدحك له بما استطعت من ألفاظ المدح والثناء.

    ثالثاً: صرف النعمة فيما يحب لا فيما يكره، فقد أنعم عليك بعقلك، فاحمده واشكره، فلا تعمل في عقلك ما هو ضد الله عز وجل وضد محابه، استخدمه فيما يرضي الله عز وجل، وبصرك استعمله فقط فيما يرضي الله لا فيما يغضبه، أما أمرك أن تغض بصرك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]؟ فغض بصرك طاعة لربك، فلا تنظر إلى امرأة لا يحل لك النظر إليها.

    كلامك .. نطقك .. منطقك، لا تنطق بكلمة إلا بما يرضي الله عز وجل، أما ما يسخطه ويغضبه كيف ينعم عليك بلسانك ومنطقك وتتكلم به ضده؟ أيعقل هذا؟!

    وهكذا الشكر -عباد الله- أن نعترف بهذه النعمة التي نتقلب فيها الليل والنهار للمنعم الذي هو الله عز وجل، ونشكره باللسان والأعمال، فالأعمال أن تقوم تصلي ركعتين شكراً لله عز وجل، وتتصدق شكراً لله تعالى، وترفع يديك إلى الله داعياً وسائلاً، ذلك هو الشكر لله عز وجل، فكل الصالحات هي شكر لله عز وجل، وكفر النعم هو استخدامها ضد من أنعم بها.

    اذكروا على الأقل: بسم الله عند الأكل أو الشرب، والحمد لله عند الفراغ منهما، وعند السؤال: كيف حالك؟ قل: الحمد لله، فنجعل دائماً ذكر الله على ألسنتنا وقلوبنا معه؛ إذ هو المنعم المتفضل المحسن.

    والله تعالى أسأل أن يثبتنا وإياكم على هذا النور.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755894285