إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (14)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوم القيامة يدخل الله عز وجل المؤمنين في رحمته ويورثهم جنته، ويدخل الكافرين المكذبين النار خالدين فيها، ثم يجعل بين الجنة والنار حجاب، فلا نعيم الجنة يصل إلى الكافرين، ولا عذاب النار وسمومها يكدر عيش المؤمنين، وهذا الحاجز الذي بين الجنة والنار عليه أناس من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم فحبسوا هناك حتى يقضى بين أهل الموقف، فيرون ما عليه أهل الجنة من السعادة، وما عليه أهل النار من الشقاوة، ثم بعد ذلك يأمر الله بهم إلى الجنة برحمته الواسعة سبحانه وتعالى.

    1.   

    تأكيد تقرير القضايا العقدية في سورة الأعراف

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، والحمد لله على آلائه وإفضاله.

    وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وهي تعالج أعظم القضايا وأهمها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر والتقنين والتشريع، لا تخرج غالباً عن هذه، التوحيد بألا يعبد في الكون إلا الله، لا بدعاء ولا باستغاثة ولا بنداء ولا بانحناء ولا بسجود أبداً.

    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية، وأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني رسول الله، وهذه الآيات كلها أدلة وبراهين على نبوته ورسالته، ولو آمن العرب والعجم برسالته لدخلوا في رحمة الله أجمعين، فنسبة الذين آمنوا كلا شيء.

    ثالثاً: البعث الآخر، الحياة بعد الموت والجزاء على الكسب في هذه الدنيا، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، ثم الجزاء إما في دار السلام أو في دار البوار، أي: إما في الجنة أو في النار.

    رابعاً: التشريع، فليس من حق أحد أن يشرع للبشرية ولو كلمة يقول: من قالها ظفر بكذا أو فاز بكذا، أو حركة يقول: من تحرك كذا فله كذا، هذا من شأن الله وحده العليم الخبير الرءوف الرحيم بعباده، فكل البدع اضرب بها عرض الحائط ولا تجزيك شيئاً، وصاحبها نازع الله في سلطانه، اتخذ نفسه مشرعاً يشرع، فلهذا يقول أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).

    والآن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نصغي نستمع إليها مرتلة مجودة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في دراستها وفهم مراد الله تعالى منها إن شاء ربنا.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:44-47]. الله أكبر، الله أكبر!

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أولاً: أهنئكم وأحمد الله تعالى إليكم أن كنتم من المؤمنين الذين يتدارسون كتاب الله بينهم، فإليكم هذا العرض العجيب الذي يقرر عقيدة البعث والجزاء على أكمل صورة وأتمها، ولم يترك مجالاً للشك أو الريب.

    1.   

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله لنا وله ولكم ولسائر المؤمنين:

    [ معنى الآيات:

    مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا أصحاب النار قائلين لهم: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به من الجنة ونعيمها حقاً ]، نادى أصحاب الجنة وهم في الجنة أصحاب النار وهم في النار، وكيف يتم هذا؟ كما بينا، الآن ما بقي من يشك أو يرتاب، وعما قريب ستصدر آلة تشاهد فيها من تكلمه بالهاتف، هو في نيويورك وأنت في اليابان وتشاهده وتتحدث معه، وسيقع هذا؛ لآن الآخرة تقترب منا وتزحف حتى ما يبقى شيء للإيمان، كل شيء واقع.

    قال: [ قائلين لهم: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به من الجنة ونعيمها حقاً، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقاً؟ فأجابوهم: نعم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ]، والآية هكذا تقول: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] نادوهم ليقولوا لهم ماذا؟ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44] وجدناه حقاً كما أخبرتنا رسل الله، وكما نزل به كتاب الله حقاً واقعاً ثابتاً.

    إعلان لعنة الله على الظالمين

    قال: [ وهنا أذن مؤذن قائلاً ] المؤذن ملك من الملائكة موكل بهذا ومكلف، والأذان والتأذين إعلاء الصوت ليسمعه القريب والبعيد، وهنا أذن مؤذن قائلاً ماذا؟ [ لعنة الله على الظالمين ]، ونحن نقول: لعنة الله على الظالمين، من هم هؤلاء الظالمون؟ فبين تعالى ولم يترك لنا لنتساءل: [ الذين يصدون عن سبيل الله ]، يصدون أنفسهم، ما يقبل على صيام ولا صلاة ولا ذكر لله، ويصدون غيرهم بالحيل والمكر وتزيين الباطل، هذا أبشع ظلم وأفظعه، يصد عن سبيل الله ويعرض عنها ويعطيها ظهره ولا يقبل أبداً عليها ثم لا يكتفي بهذا، يصرف الناس ويصدهم عن عبادة الله وطاعته والإيمان به، الذين يصدون عن سبيل الله بأن يبعدوا الناس عن الإيمان والإسلام والعمل الصالح.

    ثانياً: [ ويبغونها عوجاً ]، يريدون أن تكون سبيل الله معوجة، فيبيحون بعض الحرام ويحرمون بعض الحلال ويشرعون بعض العبادات ويصرفون عن بعض العبادات، وهذا النوع معروف، ما يريدونها مستقيمة، لا بد أن يريدوا فيها الاعوجاج، والعَوَج في الآلات وفي الأدوات، والعِوَج في المعاني.

    كيف يبغون الدين عوجاً؟ ليحلوا ما أرادوا أن يحلوا وهو حرام، أو يبتدعوا ما أرادوا من البدع وهي بدع محرمة، وهم يدعون الناس إليها ويصرفونهم عن سبيل الله الحق ويصدونهم عنه، وصدق الله العظيم، فقد وجد هذا النوع.

    وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف:45]، لو تتصل بقس من القسس أو براهب من رهبان اليهود والنصارى وحدثك لأراك كيف يصرفك عن الحق، ويبين لك أن هذا الدين فيه عوج وكذا وكذا حتى يزهدك فيه، وأرباب البدع والخرافات والضلالات أيضاً يبغون الدين كما يريدون، كما يحبون أن يكون للحفاظ على مراكزهم ومالهم ومنصبهم، فلنحذر هذا، فلنحذر الصد عن سبيل الله ولو عن صلاة في المسجد، ولو عن قلم الأظافر، ونحذر أيضاً أن نحرف دين الله ونبيح ما لم يبح الله، أو نشرع ما لم يشرع الله حتى يصبح الطريق معوجاً لا يصل بأصحابه إلى دار السلام.

    قال: [ وهنا أذن مؤذن قائلاً: لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل ] بالسالكين [ إلى رضا الله تعالى والجنة.

    وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف:45] أي: يريدون سبيل الله معوجة، تدور معهم حيث داروا في شرورهم ومفاسدهم، وشهواتهم وأهوائهم ]، يريدون أن يكون الإسلام كما يريدون، وهذه الفتنة ظاهرة كالشمس بين المسلمين.

    وزيادة: [ وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف:45] أيضاً ]، زيادة أخرى: أنهم بالآخرة كافرون، لا يؤمنون بلقاء الله ولا الوقوف بين يديه ولا سؤال ولا جواب ولا ميزان ولا صراط ولا جنة ولا نار، كل هذا يعدونه خيالات فقط، وهم بالآخرة هم كافرون.

    وقد علمتم -وزادكم الله علماً- أن الإيمان بالله وباليوم الآخر هما قوة الإيمان، من ضعف إيمانه في واحدة منهما هبط، انتهى شأنه، الإيمان بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه ولا يعبد إلا هو، والإيمان بالدار الآخرة وما يتم فيها من جزاء على الكسب في هذه الدنيا.

    وقد ذكر من ذنوبهم ثلاثة:

    أولاً: يصدون عن سبيل الله أنفسهم وغيرهم.

    الثاني: يبغونها عوجاً، يريدون الدين أن يمشي كما يريدون على أهوائهم وشهواتهم.

    ثالثاً: وهم بالآخرة -والعياذ بالله- هم كافرون.

    قال: [ فهؤلاء يلعنونهم: لعنة الله على الظالمين الذين تلك صفاتهم ]، من الذي يلعنهم؟ قال: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44]، وبين لنا من هم هؤلاء الملعونون المبعدون من رحمة الله التي هي الجنة ورضاه.

    موقف أصحاب الأعراف وحالهم

    ثم قال تعالى: [ وَبَيْنَهُمَا [الأعراف:46]، أي: بين أهل الجنة وأهل النار حِجَابٌ [الأعراف:46] فاصل، أي: حاجز، وهو مكان على مرتفع ]، وهذا في عرصات القيامة، في ساحة فصل القضاء.

    [ وعليه ] أي: على ذلك المكان المرتفع [ رجال من بني آدم ] منا، لماذا ذكر الرجال فقط؟ كعادة القرآن لا يذكر النساء، فقال: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46].

    [ وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم ]، اعتدلت الحسنات على مقدار السيئات، كفة الميزان ما رجحت بالحسنات ولا بالسيئات، فلو رجحت بالحسنات لكانوا من أهل النور ودخول الجنة، لو رجحت السيئات لكانوا من أهل النار والسقوط فيها، لكن استوت حسناتهم مع سيئاتهم، هنا عبد الله بن مسعود يلعن هذا الإنسان ويقول: الحسنة بعشر والسيئة بمثلها، فإذا كانت آحادك غلبت عشراتك فلا خير فيك، السيئات السيئة بسيئة، والحسنات الحسنة بعشر، فالذي تغلب آحاده عشراته لا خير فيه، ما له وجود ولا بصيرة، يعني: يعجب من إنسان تغلب سيئاته حسناته مع أن السيئة بسيئة فقط لا تتضاعف والحسنة تتضاعف إلى عشر وإلى أكثر، فكيف -إذاً- يهلك الآدمي؟

    قال: [ وَبَيْنَهُمَا [الأعراف:46]، أي: بين أهل الجنة وأهل النار حِجَابٌ [الأعراف:46] فاصل، أي: حاجز، وهو مكان على مرتفع، وعليه رجال ]، وهو الأعراف، مأخوذ من عرف الديك، فكل ما ارتفع هو عَرْف أو عُرْف، حتى المشهور من أعمال الناس يقال فيه: عرف أيضاً لظهوره وبيانه.

    قال: [ وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم فحبسوا هناك حتى يقضى بين أهل الموقف، فيحكم فيهم بدخولهم الجنة إن شاء الله تعالى ]، فهؤلاء الموقوفون المحبسون لأن لهم حسنات ولهم سيئات، ولكن ما رجح جانب من الجانبين، لا الحسنات رجحت ولا السيئات، إذاً: أخروهم إلى أن ينتهي الموقف، فإذا انتهى الحساب ودخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار يغفر الله لهم ويدخلهم الجنة.

    معرفة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار بسيماهم

    وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46]، ما هي السيما التي يعرفونها؟ يعرفون أهل الجنة بنظرة الوجوه وإشراقها، ويعرفون أهل النار بزرقة العيون واسوداد الوجوه، هم واقفون على هذا المرتفع ويشاهدون أهل الجنة وأهل النار ويعرفون أهل الجنة من أهل النار، واقرأ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:38-42].

    يعرفونهم بسيماهم أي: بعلاماتهم الدالة عليهم، أهل السعادة وجوههم مشرقة مستنيرة، وأهل الشقاء وجوههم مسودة وأعينهم زُرق.

    قال: [ وقوله: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46] أي: يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهو بياض الوجوه ونضرة النعيم ]، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] نضرة، الوجوه المبيضة، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، أهل الجنة وجوههم مبيضة، وأهل النار وجوههم مسودة، أصحاب الأعراف يعرفون هؤلاء وهؤلاء بوجوههم، بعلاماتهم، بسيماهم، إذ قال تعالى وقوله الحق: يَعْرِفُونَ كُلًّا [الأعراف:46] من الطرفين، أي: من أهل الجنة وأهل النار، يعرفونهم بماذا؟ بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46]، [ أي: يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون ]، أهل النار أعينهم زرق ووجوههم مسودة.

    حال أصحاب الأعراف عند رؤية أهل الجنة وأهل النار

    قال تعالى: [ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:46]، أي: نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة ]، أصحاب الأعراف يتملقون، يطمعون، نادوا أصحاب الجنة وهم يشاهدونهم.

    [ نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين: سلام عليكم يتطمعون بذلك، كما قال تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46] ]، لم يسلمون على أهل الجنة؟ يتطمعون بذلك عسى أن يقال لهم: تعالوا إذاً والتحقوا بهم.

    [ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] ] هم في مكان عال ينظرون عن يمين وعن شمال، [ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] ] أي: جهة أصحاب النار. [ أي: نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم، زرق أعينهم، يكتنفهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، رفعوا أصواتهم قائلين: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47] ]، والظلم في هذه الآية الصد عن سبيل الله، صرف الناس عن بيوت الله، عن دراسة كتاب الله، عن طاعة الله وطاعة رسول الله بأساليب متنوعة، صدوا أنفسهم كذلك وابتعدوا، لا يجتمعون مع أولياء الله ولا يدرسون علماً ولا يعرفون ديناً، ويستوردون المحرمات ويبيعون الباطل، والذين يبغونها عوجاً يريدون الإسلام كما يحبون، يحرمون أو يحللون ما يريدون، يبغونها معوجة تمشي مع أهوائهم وأطماعهم، وأعظم من ذلك ظلماً الكفر بالدار الآخرة، هذا الظلم الذي لا ظلم بعده.

    قال: [ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] أي: نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم، زرق أعينهم، يكتنفهم ] أي: يحوط بهم [ العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، رفعوا أصواتهم قائلين: رَبَّنَا [الأعراف:47] ] أي: يا ربنا [ لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47] أي: أهل النار لأنهم دخلوها بظلمهم والعياذ بالله تعالى ].

    وعظ طاوس لهشام بن عبد الملك بيوم الأذان

    إليكم هذه الرواية: يروى أن طاوساً -من سادات التابعين- دخل على هشام بن عبد الملك الملك السلطان، فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان. يا هشام بن عبد الملك ! اتق الله واحذر يوم الأذان. قال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44]، قال: فصعق هشام ووقع على الأرض! هذا مؤمن، والله! إنه لمؤمن حق الإيمان، كأنه يرى الموقف أمامه فخر صعقاً، والذي يسمع هذا ولا يبكي ولا يتحرك ولا ينوي أن يتوب فقط من زلاته فما هو مؤمن، ما هو بمؤمن، إيمان صوري لا وجود له.

    قال: فقال طاوس : هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة؟ أي: أنت الآن أذلك الله بالصفة فقط، فكيف لو عاينت الجنة والنار؟

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    معاشر المستمعين! أعيد التلاوة للآيات فتأملوا:

    قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الأعراف:44] من هم أصحاب الجنة؟ قولوا: نحن إن شاء الله، أهل الإيمان والعمل الصالح بيضاً كانوا أو سوداً، عرباً أو عجماً، لماذا؟ لأن أرواحهم زكية طاهرة ما تلوثت بالظلم والشرك والكفر، وإن عصى أحدهم يوماً وزلت قدمه محا ذلك الأثر على الفور بصلاة ركعتين، بصدقة دينارين ولم يبق ذلك الوسخ على نفسه.

    وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] يا أهل النار! أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44]، وقد تقدم أنهم يشاهدونهم ويتكلمون معهم، وجاء في القرآن القصة التي تكلم فيها صاحب الجنة مع قرينه صاحب النار، وقلنا: الآن ما بقي في هذا شك أبداً ولا ريب، اكتشفت هذه الأشياء كلها وظهرت، في عنان السماء في الطائرة يتكلم المرء مع غيره، في البحر أو في السجن.

    فماذا قالوا؟ قالوا: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثابتاً وها نحن فيه من نعيم الجنة، فهل وجدتم أنتم ما وعد ربكم حقاً؟ فماذا قالوا؟ قالوا: أي نعم. وهم فيه في الخزي والعذاب.

    قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44] إذاً: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الأعراف:44] أي: بين أهل الجنة وأهل النار بأعلى صوته، ملك يسمع صوته كل موجود، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الأعراف:44] ماذا قال؟ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44]، ولعنة الله معناها: البعد من رحمة الله ونعيم الجنة بعد حصوله على غضب الله وسخطه.

    قال: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44] من هم هؤلاء الظالمون؟ الله تعالى بين، قال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأعراف:45]، ما هي سبيل الله هذه؟ إنها الإسلام بواجباته ومحرماته، بهدايته وهي عقيدته والسير في طريق ذلك الصراط إلى باب الجنة، الإسلام هو الصراط، هو سبيل الله، أليست السبيل هي الطريق؟ طريق سابلة، إذاً: والإسلام -والله- كأنه طريق ونحن ماشون إلى الموت، هذا واجب نفعله، هذا حرام نتركه، ماشين إلى باب الجنة إلى أن نموت ونلفظ أنفاسنا.

    قال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأعراف:45] أبشر أبا لهب ويا أبا جهل ويا أيها النضر بن الحارث ، وهي فيهم نازلة وهم يعرفون، وإن كانت الآيات عامة لكل من صد عن سبيل الله وابتغاها عوجاً.

    قال: وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ [الأعراف:45] زيادة على هذا بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف:45] والعياذ بالله، فما معنى أنهم كافرون بالآخرة؟ لا يؤمنون بها، غير مصدقين بوجود الدار الآخرة وما فيها من نعيم أو عذاب، لا يرون إلا هذه الحفرة التي هم فيها وما وراءها وما فوقها، إنه الجهل والعياذ بالله.

    قال: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف:46] حاجز بين أهل الجنة وأهل النار، وفي آية سورة الحديد: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] في عرصات القيامة فجأة يضرب هذا السور، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15]، كانوا كلهم في النور وفجأة ينطفئ نور المنافقين والمشركين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12]، والشاهد عندنا: أن هذا يتم في عرصات القيامة.

    قال: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46]، يعرفون أهل الجنة بعلاماتهم، ويعرفون أهل النار بعلاماتهم، فما علامات أهل النار؟ اسوداد الوجوه وزرقة العيون، لم لا نتكلم بهذا حتى يفهم الناس؟ ما نريد أن ينتشر العلم.

    وما صفة أهل الجنة؟ نضرة الوجوه وإشراقها وبياضها، وفي آية سورة عبس: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:38-42].

    قال: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:46] من الذي نادى أصحاب الجنة؟ أصحاب الأعراف، أهل القمة التي وقفوا عليها والحساب يجري هنا وهنا وهم يشاهدون، موقوفون لأن حسناتهم مستوية مع سيئاتهم حتى يفرغ من الحساب ويغفر الله لهم.

    قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:46] ماذا قالوا لهم؟ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأعراف:46]، ثم قال تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46] وهؤلاء أصحاب الأعراف، سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأعراف:46] يريدون أن يقولوا لهم: ادخلوا، تعالوا معنا، يطمعون.

    قال: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ [الأعراف:47] أبصارهم ما هي كأبصارنا هذه المحدودة، فهم يشاهدون الموقف كاملاً، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47]، في الأولى نظروا إلى أهل الجنة وطمعوا، والآن ينظرون إلى أهل النار، قال: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47] الذين يصدون عن سبيلك ويبغونها عوجاً ولا يؤمنون بالآخرة ولقائك.

    1.   

    تابع قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    والآن مع هداية الآيات، هذه الآيات تحمل هدايات ربانية لا يحرمها إلا شقي.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك، بحيث إذا أراد من في الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك ]، هذه قدرة العظيم، أما قلنا الآن سيأتي ذلك الهاتف؟ وقد ذكر هذا الشيخ رشيد رضا في أيامه قال: أوشك أن يأتي، والآن قالوا: وجد، تتكلم معه وتشاهد وجهه وأنت في اليابان وهو في أمريكا.

    من أين عرفنا هذا؟ كيف استنبطنا هذه الهداية: وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار، مع أن أولئك في عالم وهؤلاء في عالم، هابط وعال ويتم الاتصال الكامل بينهما؟

    [ ثانياً: يجوز إطلاق لفظ الوعد على الوعيد للمشاركة أو للتهكم كما في هذه الآيات ]، لقول أهل الجنة لأهل النار: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44]، وفي الحقيقة: ما أوعدكم من العذاب، فأطلق الوعد وأريد به الوعيد، ويجوز إطلاق الوعيد على الوعد، إذا وجدت حالات تدل على أنه وعد أو على أنه وعيد.

    [ ثالثاً: التنديد ] التنديد من: ندد به إذا قبحه وشانه وقال فيه ما قال، [ التنديد بالصد عن سبيل الله والظلم والكفر بالآخرة، وهي أسباب الشقاء في الدار الآخرة ]، ندد الآيات بهم: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف:45]، وهو أعظم تنديد.

    [ رابعاً: تقرير مبدأ: ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي ]، ما معنى: تنجي؟ أي: من عذاب الله. وما معنى: تردي؟ تهلك. وقد عرفتم المفلس ذاك الذي تغلب سيئاته حسناته مع أن الحسنة مضاعفة له بعشر والسيئة ما تكتب إلا سيئة واحدة.

    قال: [ تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي، ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من ينجو من دخول النار ] ويدخل الجنة، وهم أصحاب الأعراف، الذين في المكان المرتفع يشاهدون؛ لأنهم مؤجلون.

    [ خامساً: مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجوداً ]، جماعة يوزعون الفلوس، فهل يجوز تطمع أم لا؟ يجوز، كن ذا عدل، فأصحاب الأعراف طامعون وهم يشاهدون، ففيه مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجوداً، أما أن تطمع فيما لا شيء فما هو بمعقول، تطمع أن تكون ملكاً هذا عبث، يطمع صعلوك مثلي أن يكون مفتي المملكة هذا خطأ، لكن إذا كانت هناك مجالات لأن تطمع فيجوز الطمع ولا حرج.

    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما نقرأ ونسمع.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755928335