إسلام ويب

تفسير سورة المائدة (36)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اليهود هم من أكثر البشر خسة ولؤماً، يجحدون آيات الله ويكذبون رسله، وينعتونهم بأسوأ النعوت ويصفونهم بأشنع الأوصاف، وهم علاوة على ذلك لا يتناهون فيما بينهم عن منكر أبداً، ولا يأمرون بمعروف دق أو كبر، يتولون أعداء الله من المشركين والمنافقين، ويحاربون أولياءه من المؤمنين، فكان جزاؤهم أن لعنهم الله وأنبياؤه والمؤمنون.

    1.   

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل ذلك اليوم إن شاء الله تعالى، وهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:77-81].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيات:

    مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ [المائدة:77] يا رسولنا: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:77]، والمراد بهم هنا النصارى: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعوا البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً، لا في المحدثات الباطلة، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ [المائدة:77]، وهم اليهود؛ إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم، فقالوا في عيسى: ساحر، وقالوا في أمه: بغي. وَأَضَلُّوا كَثِيرًا [المائدة:77] من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، وَضَلُّوا [المائدة:77]، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، هذا ما تضمنته الآية الأولى ]، وهي قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].

    [ أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية بأن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى ابن مريم في الإنجيل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ [المائدة:78]، فقد مسخ منهم طائفة قردة، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]، حيث مسخ منهم خنازير، كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، سببه ما ذكر تعالى بقوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[المائدة:78]، أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم.

    وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]، أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ) ] أي: يأكل معه ويشرب ويقعد [ ( فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:78] إلى قوله: فَاسِقُونَ [المائدة:81] ) ]، أي: تلا الآية كما هي: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81].

    [ ( ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا والله ) ]، معاشر المستمعين والمستمعات! هذه لنا، فتأملوها، اسمعوا رسول الله يحلف، اسمعوا رسول الله يبين، قال: [ ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) ]، هذه لنا، اسمعوا رسول الله بعدما تلا هذه الآيات الثلاث، قال: ( كلا والله )، هكذا يحلف صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن ) أيها المؤمنون المسلمون ( بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم )، أي: كما لعن اليهود والنصارى؛ إذ ما هناك فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، الكل عبيد الله، الكل عبيد الرحمن عز وجل، الكل يريد الله منهم أن يعبدوه؛ ليسلموا وينجوا وليسعدوا ويكملوا، فإذا لعن اليهود والنصارى لإتيانهم المنكر واستمرارهم عليه، وعدم رجوعهم عنه؛ فنحن إذا استمررنا على الباطل والمنكر والبدع والضلال ولم نتراجع فهل نسلم من لعنة الله؟ الجواب: لا والله، الكل عبيد الله عز وجل.

    ثم قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم ] قبح عمل أهل الكتاب [ فقال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: تَرَى [المائدة:80] ] بعينيك [ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ [المائدة:80]، أي: من اليهود في المدينة، يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:80]، يعني: من المشركين أو المنافقين في مكة والمدينة، يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ]، اليهود بالمدينة يوالون المشركين، وهم يعلمون أن المشركين كفار ملعونون، يعرفون أن المنافقين نافقوا وأظهروا الإيمان وهم يكرهون الدين ورسول الإسلام والمسلمين، واليهود يوالونهم، فكيف يوالي المؤمن الكافر؟ لو كانوا صادقين في دعوهم الإيمان ما كانوا يوالون الكافرين والمنافقين.

    [ ثم قبح تعالى عملهم فقال: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ [المائدة:80]، نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى ما لا نهاية له ] في دار القيامة [ فقال تعالى: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، لا يخرجون منه أبداً.

    ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [المائدة:81] كما يجب الإيمان به وَالنَّبِيِّ [المائدة:81] محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى ودين الحق وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ [المائدة:81] من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار والمشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ] أفراد قلائل فقط، [ والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً. هذا معنى قوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] ].

    هداية الآيات

    معاشر المستمعين! نضع أيدينا على هداية هذه الآيات، فتأملوا.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء ]، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا [المائدة:77]، ومعنى هذا: أنه يحرم على المسلم أن يبتدع في دين الله، أو أن يغالي فيه، أو يتبع أصحاب الأهواء في دين الله، ومن هنا عرفنا ما حدث في هذه الأمة بعد القرون الذهبية الثلاثة، انتشرت البدع والضلالات والخرافات وتقسمت الأمة وتجزأت؛ بسبب اتباع الأهواء، وتقليد أرباب الأهواء واتباعهم والتعصب لهم، حتى أصبحنا في أسوأ الأحوال، سبب ذلك أننا ما أخذنا بوصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما قال: ( عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، وقد بين لنا الطريق وقد أعلنها واضحة صريحة عندما قال: ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )، ستفترق هذه الأمة كما افترق اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة، وكما افترق النصارى إلى إحدى وسبعين فرقة، والله! لتفترقن هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ووالله! لقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق وطوائف ومذاهب، وكلها في النار، لم يا رسول الله في النار؟ لأنها ما عبدت الله بما شرع، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تزكي النفس وتطهرها، أما ما ابتدعه المبتدعة فالعمل به لا يزكي النفس ولا يطيبها ولا يطهرها.

    فقام رجل من أصحابه في ذلك المجلس المقدس الطاهر وقال: من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ وهذا السؤال يقع لكل المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم -واحفظوا واعملوا وطبقوا واطلبوا النجاة لأنفسكم- قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فيجب أن تكون عقيدتنا عقيدة رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا نختلف معهم أبداً فيها، يجب أن تكون عباداتنا كما كان رسول الله يعبد الله بها وأصحابه، لا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، يجب أن تكون آدابنا وأخلاقنا كما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذا سبيل النجاة، هذا يتوقف على المعرفة، يجب أن نعرف كيف كان يعتقد رسول الله وأصحابه في الله وفي لقائه وفي الإيمان، وما أمر الله بالإيمان به، يجب أن نعرف كيف كان رسول الله يتوضأ ويغتسل ويصلي ويحج ويعتمر، ونفعل كما كان يفعل، يجب أن نعرف كيف كان الرسول يتعامل مع الناس، فنتعامل كما كان يتعامل مع الناس، في آدابنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، هذا -والله- طريق النجاة، العلم أولاً، كيف كان الرسول يعتقد في الله ولقائه والدار الآخرة والملائكة والأنبياء والرسل السابقين، نعتقد كما كان يعتقد، كيف كان الرسول يعبد الله من التيمم إلى الاغتسال، إلى الرباط، إلى الجهاد، إلى القضاء، إلى الحكم، فنقضي ونحكم ونعمل كما كان الرسول صلى الله وسلم يقضي ويعمل، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب أبداً، كل ما في الأمر أن نهيئ أنفسنا لأن نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتؤهلنا لرضا الله والسكن في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عنصرية ولا مذهبية ولا طريقة ولا حزب، إنما نحن مسلمون عباد الله، نعبد الله بما شرع، والحمد لله فقد حفظ الله لنا هذا الدين، حفظه بحفظه الخاص، وإلا لكان منذ مائة سنة فقط قد اختلط وما أصبح فيه ما يعبد به الله، لكن الله تعالى قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فحفظ لنا كلامه آية بعد آية في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وحفظ لنا سنة رسول الله وإن داخلها الزيادة والنقص والتبديل، ولكن هيأ الله لها في كل عصر من يصونها ويحفظها كما هي؛ لتقوم الحجة لله على الناس، وإلا لكان على الله أن يجدد الرسالة ويبعث برسول.

    معاشر المستمعين! في الآية الأولى: حرمة الغلو، والغلو: الزيادة، فلا تزد كلمة في دين الله، ما شأنك أن تزيد أنت وتنقص؟ لقد أنزل الله كتابه وبينه رسوله، الصلاة كما صلى الرسول، لو زدت سجدة في صلاة الصبح أو ركعة في صلاة المغرب بطلت صلاتك بالإجماع، ما هو شأنك أن تزيد، لو حاولت أن تنقص تكبيرة واحدة، فقلت: ما هناك حاجة إلى هذه التكبيرة في هذه الصلاة فصلاتك باطلة، ما معنى: باطلة؟ ما تزكي النفس، لماذا الآن نحن نسأل كيف نحج وكيف نعتمر؟ لعلمنا اليقيني أن هذه العبادة إذا لم نفعلها كما بينها الرسول فلن تؤثر على نفوسنا، أي: ما تزكي أرواحنا ولا تطيبها، وعلة العبادة تزكية النفس وتطهيرها، وطلبنا تزكية نفوسنا لعلمنا بحكم الله علينا، ألا وهو: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن أراد الفلاح -وهو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار- فليزك نفسه، أي: فليطيبها وليطهرها، وما هي مواد التطهير؟ الإيمان الصحيح كإيمان الرسول وأصحابه، والعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى، وهو هذه العبادات من الصلاة إلى الصدقات وغيرها.

    [ ثانياً: العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران ]، العصيان، أي: عصيان الله ورسوله بعدم فعل ما يأمران به وعدم ترك ما ينهيان عنه، هذا هو العصيان، والاعتداء: هو الظلم وتجاوز الحد، هذان ينتجان لصاحبهما الحرمان من رضا الله وجواره والخسران بالخلود في النار.

    فمن أين عرفنا هذا؟ أما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]، بسبب ماذا؟ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78]، عصوا رسل الله، عصوا الله ما عبدوه بما شرع لهم، وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] بالظلم والطغيان والشر والفساد.

    [ ثالثاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع ]، حرمة السكوت عن المنكر حين نراه ونسمعه ونسكت، ووخامة عاقبته على المجتمع بكامله، قال تعالى: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: كان الرجل منهم يرى أخاه على معصية، فينهاه: اتق الله واترك هذه، ومن الغد يراه يفعلها ويكون مؤاكله ومجالسه وقاعداً معه، فمن ثم ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم.

    وهذا بإجماع الأمة، فمن رأى منكراً يجب أن يغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه: يا عبد الله! لا تفعل، فإن لم يستطع بلسانه حيث خاف أن يؤذى في نفسه أو ماله أو أهله فليغيره بقلبه، أما أن نسكت عن المنكر ونرضى به فسوف يعمنا العقاب.

    وضربنا لذلك مثلاً: قرية أو حي من الأحياء يخرجون القمامة ويرمونها عند الباب، هذا يرمي وهذا يرمي وليس هناك من يقول: لا تفعل، وليس هناك من يبعد هذه الأوساخ والقاذورات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع تتحول تلك إلى بعوض وذباب وحشرات، ثم تتحول إلى أوبئة ويهلك أهل القرية كلهم، بسبب ماذا؟ لما رمى الرجل أو المرأة الوسخ عند الباب ما قال له أخوه: يا أخي! لا تفعل هذا، فهذا سبب مرضنا. لكن لما سكت وسكت الثاني والثالث وأصبحوا يرمون القمامة في الشوارع امتلأت الحارة أو الحي بالأوساخ والقاذورات وعمهم المرض، هذه هي الحقيقة، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].

    إذاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع، فالقرية دخلها رجل جاء بمعصية وأعلنها، فأهل القرية عليهم أن يقولوا: يا فلان! ما ينبغي هذا، لا تبع هذا الباطل في بلدنا، لا تفعل هذا. يقول ذلك الأول والثاني والثالث، فيستحي ويخرج أو يترك هذا، أما أن يشاهدوه ويسكتوا ويفعله الكبير والصغير والذكر والأنثى فإنه تعم الفتنة.

    [ رابعاً: حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد ]، الموالاة: هي المحبة والتعاون، حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد، فلا نحبهم ولا نمد أيدينا لعونهم ومعاونتهم، وبذلك نسلم، أما أن نوالي أهل الشر والكفر والفساد بحبنا لهم وتعاوننا معهم؛ فهذا -والله- هو الحالقة، هذا هو الدمار، دل هذا على قوله تعالى في الآية الكريمة: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80].

    حرمة موالاة أهل الكفر، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا ونساءنا وأولادنا، وحرمة موالاة أهل الشر والفساد بيننا، لا موالاة، أي: لا محبة ولا تعاون معهم، بل يجب هجرانهم وتركهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.

    [ خامساً: موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه ]، موالاة أهل الكفر بم تكون؟ بحبهم ونصرتهم على إخواننا المؤمنين، هذه هي آية الكفر، والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من أحب الكافر ونصره على إخوانه المؤمنين؛ لأن الله قال في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق وصدق: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، والمؤمنون بحق وصدق والمؤمنات بحق وصدق من هم؟ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، أي: يتحابون ويتعاونون ويتناصرون، فالذي لا يحب المؤمن -والله- ما هو بالمؤمن، والذي ينصر الكافر على المؤمن -والله- ما هو بمؤمن؛ إذاً لا بد من الموالاة بين المؤمنين والمؤمنات، وهي الحب من بعضهم لبعض، والنصرة من بعضهم لبعض، أما أننا نحب أعداء الله وننصرهم على أولياء الله فأعوذ بالله.. أعوذ بالله! هذا هو الكفر الذي ما بعده كفر، دل على هذا قوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81]، والفاسق: الخارج عن طاعة الله ورسوله، هو الذي يتحول إلى أن يحب أعداء الله ويكره أولياء الله، يتحول إلى أن يصبح ينصر الظلمة والمشركين والكافرين على المؤمنين والموحدين والمسلمين.

    هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.

    عباد الله! آخر ما نقول: ينبغي أن نعرف كيف نعبد الله؛ إذ لا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة كيف نعبده، ثم نعبده بما شرع، وعبادة فيها ضلالة وفيها خرافة، وعقيدة فيها الزيغ والزيادة كل هذا خسران كامل، لا بد من أن نعبد الله بما شرع، وبذلك تطهر أنفسنا وتزكو أرواحنا وندخل دار السلام بقضاء الله وحكمه، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها، وآتها تقواها أنت وليها وموالاها يا رب العالمين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756201198