إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (6)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوجه الله نبيه صلى الله عليه وسلم في إطار تقوية موقفه من المعاندين له، والمعرضين عن دعوته، بأن ما يلحقه من ضرر ناتج عنهم أو عن غيرهم فإنه لا يكشفه إلا الله سبحانه، وأن ما يناله من خير فلن يمنعه عنه أحد من الخلق، وأن الله عز وجل شهيد بين نبيه وبين خصومه، على أنه صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وأقام الحجة على عباده، ثم إنهم رفضوها وأعرضوا عنها، فبرئت منهم ذمة الله وذمة رسوله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة -كما علمتم- ولا ننسى أنها تحقق المبادئ العظمى في الإسلام:

    المبدأ الأول: توحيد الله عز وجل، فلا يعبد غير الله في الملكوت الأعلى ولا الأسفل، إذ لا إله إلا الله، فلا يوجد كائن يستحق أن يعبد بعبادة الله قط، إذ العبادة لله.

    ثانياً: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأن ما جاء به هو دين الله الحق، والله لا يقبل ديناً غير الإسلام، وهو القائل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل تشريع لم يجئ من طريق الله والرسول فهو باطل.

    ثالثاً: تقرير البعث الآخر والحياة الثانية، والجزاء فيها على العمل في هذه الدار، الخير بالخير والشر بمثله.

    وها نحن مع هذه الآيات، فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء، ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:17-19].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17]، الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالكم بغير رسول الله؟ إذا مس الله عبداً من عباده بضر فهل تستطيع يد مخلوق أن تبعده عنه؟ والله ما كان، فلا يكشف الضر إلا هو، فلهذا كان اللجأ والفزع إلى غير الله عند نزول البلاء والإصابة بالشقاء من الخطأ الذي لا يقبل أبداً.

    المراد بالضر وبيان اختصاص الله تعالى بكشفه عن عباده وإمساسهم الخير

    وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ [الأنعام:17] يا رسولنا، يخاطبه الرب تبارك وتعالى، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قربه من الله وإلى الله وهو رسوله ومصطفاه لا يستطيع كائن أن يدفع عنه الضر؛ فكيف بغير رسول الله، وهذا اللفظ عام، من مسه ضر لا يكشفه عنه إلا الله، ولفظ الضر يتناول المرض، ويتناول ما هو شر، الضر كالشر، ما يكرب ويحزن ويؤلم الجسم والنفس معاً.

    معشر المستمعين والمستمعات! والله لكأننا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يخاطبه ونحن نسمع: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] فمن أصابه ضر: مرض، فقر، مضايقة، آلام، فلا مفزع له إلا الله، إذ لا يكشف ذلك الضر إلا هو، ولا مانع أن تستعمل العقاقير والأدوية المأذون فيها، تستعملها رجاء أن يشفيك الله بها لا أنها تشفيك بدون الله، هذا مستحيل.

    وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام:17]، فالضر الأول بمعنى الشر، والشر فيه الفقر، فيه المرض، فيه الإذلال والإهانة وكل أنواع البلاء، كلها شر، والخير يتناول ما يسعد به الجسم وتسعد به الروح.

    وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ [الأنعام:17] يا رسولنا بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] يمسس بالضر، ويمسس بالخير، إلا أن الخير له، وأما الشر فليس إليه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والشر ليس إليك ) في أحاديث كثيرة تدل على أن الشر ليس إلى الله، وإنما لله الخير: ( والخير بيديك، والشر ليس إليك )، فلهذا قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17] فالضر هو الشر، ما يضر، ما يؤذي، ما يوجع، من أي أنواع الأذى، والخير ما يسعد ويفرح ويسر من أنواع الخير، وهو تعالى على فعل كل شيء قدير، هو على كل ما يريد أن ينزله بعباده قدير، قدير على أن يكشف ضرهم، وقدير على أن يضرهم، قدير على أن يمسسهم بالخير، وقدير على أن يحرمهم الخير.

    إذاً: ما بقي لنا من نفزع إليه، ولا من نقبل عليه بوجوهنا ولا بقلوبنا ولا بألسنتنا طالبين الخير، طالبين البعد عن الأذى والشر إلا الله، فمن هداه الله وطلب الخير من الله نجا، ومن غفل أو جهل أو أعرض لكبريائه هلك فما فاز ولا سعد.

    هذه الآية الأولى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ [الأنعام:17] أي: لذلك الضر إِلَّا هُوَ [الأنعام:17]، والضمير عائد على الله تعالى، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وإن يمسسك بخير فمن يرده؟ من يصرفه عنك؟ والله لا أحد، كقوله: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].

    عموم قدرة الله تعالى وشمولها وأثر الإيمان بها في حياة المسلم

    وقوله: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17] كل شيء يريده فهو قادر عليه، بل قدير، لا يعجزه شيء، فهل هذا الذي يستحق أن يؤله أم الأصنام والأوثان والشهوات؟ هذا الذي يستحق أن يوالى ونطلب ولايته ونسأله أن يحققها لنا وإن عادانا الإنس والجن كلهم، أم غير الله؟ هذا هو ولي المؤمنين وولي المتقين، هذا الذي تطلب ولايته، لو قال: ولايتي لا تنال إلا بالبكاء طول الحياة لبكينا طول الحياة، لو قال: ولايتي لا تنال إلا بالجوع أبداً لطلبنا الجوع أبداً، ولكن رفق بنا ورحمنا وخفف الحمل عنا، وقال: ولايتي تنال فقط بشيئين: بالإيمان بي، وبما أمرتكم أن تؤمنوا به أولاً، وبتقواي ثانياً، أي: بعدم معصيتي والخروج عن طاعتي؛ وذلك بفعل المأمور وترك المنهي، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم -يا رب- أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ لو سألناه أجابنا؟ وقد علم أننا نسأل فأجابنا، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

    هؤلاء أولياء الله سواء كانوا عرباً أو عجماً، بيضاً أو سوداً، فقراء أو أغنياء، كل مؤمن تقي هو لله ولي، كل كافر هو لله عدو، كل فاجر هو لله عدو، أولياء الله المؤمنون المتقون، فعلينا أن نحقق الإيمان.

    وكثيراً ما أقول لكم: اعرض إيمانك على القرآن، فإن وجدته وافق عليه وأمضاه فهو الإيمان. فإن قلت: ما أعرف القرآن، قلنا: اطلب من يقرأ عليك وأنت تسمع حتى تعرف هل أنت مؤمن أم لا، وإن قلت: لا أستطيع، قلنا: اسأل أهل العلم، اعرض عليهم إيمانك، هل أنت مؤمن أم لا؟

    فإذا تحقق الإيمان -وهي الخطوة الأولى- فاتق الله، واعلم أن الله ما أمرك إلا بما فيه خيرك وكمالك وسعادتك، ولا نهاك -والله- إلا عما فيه شقاؤك وخسرانك وهلاكك.

    والتقوى: هي أن تفعل ما أمر الله به اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، وتتجنب ما نهى عنه وحرمه اعتقاداً كان أو قولاً أو عملاً، وبذلك أنت ولي الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)

    ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، القاهر الذي يذل من يشاء، ويكره على ما يريد من يشاء، ويعطي ويمنع ويحيي ويميت ويعز ويذل، وليس فوق قدرة الله قدرة.

    وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، سلطانه، هيمنته كاملة فوق عباده، يذل من يشاء ويعز من يشاء، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، وهو فوق عباده مستو على عرشه بائن من خلقه، القاهر الذي لا يعجزه شيء.

    لو اجتمعت جيوش العالم كلها لنسفها الله بكلمة (موتوا)، فهذا الذي يستحق أن يعبد أم غيره؟ إن الذي قهر الكون كله وأهله هو الذي ينبغي أن يطلب حبه، وأن يتعرف على ما يحب ليفعل، وعلى ما يكره ليترك، هذا شأن العقلاء.

    وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وصفة أخرى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، جبار عظيم قاهر، ولكن لو لم تكن له حكمة لكان يهلك المصلحين مع المفسدين، لو كان له جبروت وقوة وعظمة ويقول للشيء: كن فيكون بدون حكمة؛ إذاً سيهلك الأبرار الصالحين ويبقي على الفجار الفاسدين، لكنه الحكيم، الذي لا يضع شيئاً إلا في موضعه.

    كل ذرات الكون، وكل ما هو موجود في العالم العلوي والسفلي وكل شيء لم يوجد إلا لحكمة أرادها الله عز وجل.

    وثانياً: أنه الخبير، لأنه قد يكون المرء حكيماً لكن لا يعرف أين يضع هذه الحكمة، فأضاف تعالى إلى الحكمة الخبرة التي يعلم بها كل شيء ظاهراً وباطناً.

    فهذا الذي ينبغي أن نحبه، هذا الذي ينبغي أن نطلب محابه لنفعلها، هذا الذي ينبغي أن نبرأ ونتبرأ من كل معبود سواه، هذا الذي يجب أن نتحاب فيه، ونتباغض من أجله.

    أما تلك الأوثان، وتلك الأصنام، أما عيسى ومريم، أما العزير وفلان، أما عبد القادر وسيدي فلان؛ فكل هؤلاء ليسو بأهل لأن يعبدوا مع الله، ما هم بالقاهرين فوق العباد، ولا هم بالحكماء ولا بالخبراء، ولا بأهل القدرة على كل شيء، فكيف -إذاً- يعبدون مع الله؟ هذه الآيات مزقت قلوب المشركين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ...)

    الآية الثالثة: يقول تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، جاء المشركون يمثلهم وفد، وقالوا: يا محمد! إن أهل الكتاب لم يعترفوا لك بالنبوة، لم يشهدوا لك بها، إذاً: ما أنت بنبي، فمن يشهد لك؟ فعلمه الله كيف يحاجهم ويجادلهم ليبطل باطلهم، وليظهر أنوار الحق بين أعينهم علهم يتوبون إلى الله ويرجعون، فقال له: قل لهم: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19] دلونا: أي شيء أكبر شهادة؟ لن يستطيعوا أن يقولوا غير الله، هل سيقولون: أبو جهل ؟ سيسخر من ذلك، فسبقهم الله إلى الجواب، وعلم رسوله أن يقول: الله، لا يقولون إلا هذا، والآن ارفع رأسك إلى عنان السماء وقل: أي شيء أكبر شهادة، فمن يجيبك؟ هل هو ستالين الذي أكلته الأرض؟ من هو أكبر شهادة؟ هل الذي كان معدوماً ثم انعدم، كيف تكون له شهادة؟

    أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19] ما هناك جواب أبداً إلا كلمة: (الله)، ومن أراد أن يرد فليتفضل.

    معنى قوله تعالى: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ )

    قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19] ما قال: وأوحى إلي، قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وكلمة (ومن بلغ) قال ابن عباس : كل من يسمع القرآن كأنه يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل من يقرأ القرآن في العوالم كلها إلى يوم القيامة ويسمعه كأنما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتغير فيه لفظ ولا حرف واحد، ولهذا فالذي بلغه القرآن هو الذي يعذب أو يرحم، والذي ما بلغه قد يعذر، والذي بلغه فأبى أن يؤمن وآثر الدنيا وشرها وفسادها فهو هالك مع الهالكين.

    وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فلهذا يجب على المؤمنين أن يبلغوا القرآن للعرب والعجم، للأبيض والأسود في العالم، ولا يحل أبداً أن يتخلى جيل من أجيالنا في قرن كهذا عن أن يبلغ دعوة الله.

    وهنا أيضاً لطيفة أخرى: ما هناك ما هو أعظم من كتاب الله في هداية الخلق، لو حملت إليهم كتاباً من عندك وكلاماً من عندك لا يجزي ولا ينفع، لا بد من (قال الله) و(قال رسوله) حتى يعلموا أن هذا كلام الله وقول الله خالق السماوات والأرض والعالمين.

    قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19] أجب يا رسولنا لأن الجواب معلوم، هل يستطيعون أن يقولوا: غير الله؟ إذاً: اسبقهم: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، شهيد على دعوتي وعلى رفضكم إياها وإدباركم عنها، شهيد على من استجاب وقبل دعوة الحق ووحد الله وعبده وعلى من أنكر ذلك وأصر على شركه وكفره، وهذه الشهادة لها قيمتها.

    وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] من أوحى إليه هذا القرآن؟ الله جل جلاله. هل هناك من يقول: ليس الله؟ فمن أوحاه؟ وإلى الآن عجزت البشرية عن أن تدعي أن القرآن ليس بوحي الله ولا كلامه، سواء كانوا أهل كتاب أو كانوا مشركين، عجزوا، مثل هذا الكلام لا يمكن أبداً أن يصدر عن غير الرب عز وجل، لا سيما إذا سمعته من أوله إلى آخره، من يتكلم بهذا الكلام؟

    الوحي وطرقه

    والوحي والإيحاء فسرناه مرات، وطرق الوحي ثلاثة، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ [الشورى:51] أي إنسان، ذكر أو أنثى، لكن هنا المراد الذكر، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51] ما كان لبشر أن يكلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى:51]، إما أن يلقي في نفسه وروعه، وإما أن يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام في جبل الطور، كلمه كفاحاً وموسى يسمع كلام الله، وسمعه سبعون من بني إسرائيل مع موسى الذين ذهب بهم ليطلبوا التوبة، ومع هذا لما سمعوا كلام الله قالوا: نريد أن نراه، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.

    إذاً: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى:51] وهو جبريل عليه السلام، والقرآن الكريم جاء به جبريل آية بعد أخرى وسورة بعد أخرى حتى اكتمل، وراجع الرسول فيه كل سنة في رمضان يعرضه عليه، إلا في السنة الأخيرة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عارضه القرآن مرتين ليتأكد من حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    الإنذار بالقرآن غاية الإيحاء به

    وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ [الأنعام:19] هذا القرآن أمامنا الذي نقرؤه لم سمي قرآناً؟ لأنه يجمع حروفاً وآيات، من (قرأ) إذا جمع، ويقال فيه: الفرقان؛ لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، وهو كتاب الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ [الأنعام:19] لأي شيء؟ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19]، الإنذار ما هو؟ أن تصيح: يا أهل القرية! ادخلوا منازلكم، إن عدواً أحاط بكم، يا أهل البلاد! كفوا. هذا الإنذار.

    لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19] من أن ينزل بكم عذاب الله ونقمه في الدنيا والآخرة، لأنذركم به من الاستمرار على الشرك والباطل والجاهلية، فبالشرك لن تكملوا ولن تسعدوا ولن تعزوا أبداً ومآلكم الدمار والخسران. فالإنذار: التخويف بما يتوقع وقوعه ونزوله، ومن بلغه القرآن كذلك.

    فلهذا أعيد القول فأقول: أجمعوا على أن من لم يبلغه القرآن فهو غير مكلف، ومن هنا وجب على المؤمنين أن يبلغوا كتاب الله إلى الشرق والغرب، فالسلف الصالح أدى هذا الواجب، ثم بعد ذلك لما هبطت أمة الإسلام عجزت وهي قادرة على أن تبلغ القرآن للناس أجمعين.

    واجب المسلمين في إنذار العالم اليوم بالقرآن الكريم وذكر بعض المقترحات في ذلك

    وبالمناسبة أكرر القول والله يشهد: إننا في فرصة ونخشى أن تفوت، وإن فاتت فلن نعود ولن تعود، هذه الفرصة هي أن الله عز وجل أراحنا من أن نرسي سفننا على شواطئ بلاد الكفر ونقول لهم: ادخلوا في الإسلام، أو اسمحوا لنا أن ندخل لنعلم ونربي أفرادكم وإلا فسنقاتلكم، هذه الكلفة سقطت عنا بتدبير الله عز وجل، ما نحن في حاجة إلى هذا، هل نريد أن نغزو إيطاليا لنبلغهم الإسلام؟ إن إيطاليا فيها المؤذنون والقرآن يقرأ والمسلمون موجودون، وما قالوا لأحد: لا تقل: لا إله إلا الله. وهل نغزو فرنسا؟ إن فرنسا أذنت لمن أراد أن يسلم، القرآن يقرأ والسنة قائمة والمآذن و(لا إله إلا الله) تقال، إذاً: لأي حاجة نغزوهم؟ من دبر هذا التدبير؟ إنه الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    إذاً: الذي بقي أن على المسئولين مسئولية، ولنبدأ برابطة العالم الإسلامي وبما يسمى بالمؤتمر الإسلامي، فعلى الرابطة وعلى المؤتمر الإسلامي أن يكونا لجنة مؤمنة يشارك فيها كل بلد من بلاد المسلمين بعالم من علمائه، وهذه اللجنة حين تتكون تبعث إلى البلاد الكافرة فتزور المراكز الإسلامية والمساجد الإسلامية والمدارس الإسلامية من أمريكا إلى الصين أو اليابان، وتضع خريطة لتلك المساجد والمدارس والمجالس، وتصبح بين يديها كل تلك الجاليات الإسلامية، وتقدر حاجياتها كم تساوي، حاجيات الإمام والعالم المربي وبناء المسجد أو المدرسة، وتضع ميزانية تضربها على كل مؤمن بالغ في العالم الإسلامي، وتتولى نشر الإسلام بهذه الطريقة، وعليها أن توحد كلمة المسلمين فتختفي المذهبية نهائياً، مسلم فقط، وتعلم أولئك المسلمين الآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة والعقائد الربانية الصحيحة، فيصبحون كالأنوار في تلك الديار المظلمة، فلا يزال ذاك النور ينتشر والكفار يدخلون في الإسلام حتى تشتهر تلك البلاد بالإسلام، وعندنا وعد عن رسول الله أنها سوف يبلغها هذا النور، وهذا الطريق من أسلم الطرق، وبذلك تبرأ ذمتنا، إذ لو كان غير مسموح للإسلام أن يدخل أمريكا أو الصين واليابان فإنا نقول: ماذا نصنع؟ نحن عاجزون، ما نقوى على الجهاد، لا قدرة لنا، لكن هذا العذر باطل، فالبلاد مفتوحة لكل المؤمنين، فقط يجب أن تستعيد كلمتنا ويتحد الكتاب الذي نعلمه والمعلم المربي الذي يعلمه؛ لأن الفرقة والخلافات تزيد الطين بلة، ما نريد هذا.

    فعلى الرابطة والمؤتمر الإسلامي أن يعقدوا جلسة يتخذون فيها قراراً بإيجاد لجنة عليا للدعوة الإسلامية في العالم، هذه اللجنة ماذا تصنع؟

    أولاً: ترسم خريطة لكل الجاليات الموجودة في العالم الكافر، فتعرف عددها ومقدارها وحاجاتها، ثم تضرب على كل مؤمن بالغ كذا ريالاً في السنة أو في الشهر بحسب الميزانية العظمى التي تتخذ، وسراً وبلا تبجح ولا بكتاب في مجلة ولا على صحيفة، ثم تأتي بالمربي الذي يحسن التربية على حسابها يجلس في المسجد وتعطيه الكتاب الذي تتحد عليه كلمة المسلمين ولا يختلفون، وهكذا نكون -والله- قد أدينا واجب الجهاد، ولا يمضي ربع قرن إلا والإسلام قد انتشر في العالم.

    معنى قوله تعالى: (قل أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى)

    ثم قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19] ينكر عليهم، يعتب عليهم، يوبخهم: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19]، كيف نشهد أن مع الله آلهة أخرى؟ هذا يعبد اللات وهذا العزى وهذا مناة وهذا يعبد سيدي فلاناً وهذا يعبد فلاناً، هذه شهادة عملية، فكيف تشهد أن مع الله آلهة أخرى؟ بأي علم تشهد؟ أليست الشهادة تقوم على العلم؟ بالبصيرة والقلب معاً.

    أَئِنَّكُمْ [الأنعام:19] يا للأسف لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19]، والدليل أنكم تدعونها وتذبحون لها وتتقربون إليها، وأنت يا رسولنا قل: لا أشهد، وإن شهدت الدنيا كلها بآلهة غير الله فأنا لا أشهد، ونحن -والله- لا نشهد أبداً أن مع الله آلهة أخرى، والله لا يوجد من يستحق الإلهية والعبادة مع الله، ولهذا ننكر على كل من عبد غير الله ونبين له أنه أشرك بالله، وأنه عبد غير الله، وأنه شهد بالباطل ولم يشهد بالحق، وشهادة الحق هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    معنى قوله تعالى: (قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون)

    قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19]يا رسولنا، بعدما وبخهم وقرعهم بقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قال: قُلْ [الأنعام:19] أنت يا رسولنا: أنا لا أشهد أبداً أن هناك إلهاً مع الله، قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19]، وهذا تقرير عجيب:

    أولاً: وبخهم على شهادتهم بأنه يوجد مع الله آلهة.

    ثانياً قال لرسوله: قل: لا أشهد.

    ثالثاً قال: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19]، كيف نشهد؟ أين الاثنان أو الثلاثة أو الأربعة؟ ما هو إلا إله واحد، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]، وهذا الموقف يجب أن يقفه كل مؤمن ومؤمنة، لا نقر ولا نعترف أبداً بمن يُعبد مع الله بأية عبادة وبأية صورة من أنواع العبادة، لماذا؟ لأنه لا يستحق أن يعبد إلا الله، فلا إله إلا الله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    عرفتم هذه الآيات المكية ماذا تصنع؟ إنها تقضي على الشرك وأهله، واسمعوا الآيات بالشرح الذي في الكتاب:

    قال: [ ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم ] غيره من الأوثان والأصنام [ المشركين به، فيقول له ربه تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] أي: إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو ] جل جلاله، [ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام:17] أي: وإن يردك بخير فلا راد له فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، والخطاب وإن كان موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه عام في كل أحد، فلا كاشف للضر إلا هو، ولا راد لفضله أحد، ومع كل أحد.

    وقوله تعالى في الآية الثانية: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] تقرير لربوييته المستلزمة لألوهيته ]، هذا المعنى خفي على بعض الناس، فالربوبية مستلزمة للألوهية، ما دام رباً فيجب أن يكون إلهاً، ومن لم يكن رباً لا يكون إلهاً أبداً؛ لأن الرب معناه الخالق، الموجد، الكالئ، الحافظ، الرازق، المحيي، المميت، هذا هو الرب، ربوبيته تتستلزم أن يكون هو المعبود بحق، والذي ما كان رباً لا يخلق ولا يرزق ولا يميت ولا يحيي كيف يؤله؟ كيف يستحق الألوهية؟ فلهذا كانت الربوبية مستلزمة -ولا بد- للألوهية، ما كان رباً حقاً إلا كان إلهاً حقاً، وما لم يكن رباً حقاً فلن يكون إلهاً حقاً.

    قال: [ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] تقرير لربوبيته المستلزمة لألوهيته، فقهره لكل أحد، وسلطانه على كل أحد، مع علو كلمته، وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه.

    وقوله تعالى في الآية الثالثة: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن أهل الكتاب أنكروها ] ولم يعترفوا بها [ فأمره ربه تعالى أن يقول لهم رداً عليهم: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا: الله؛ أمره أن يجيب بنفسه: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، فشهادة الله تعالى لي بالنبوة إيحاؤه إلي بهذا القرآن الذي أنذركم به ] فهذه أكبر شهادة، أيوحي إليه كتابه ولا يكون رسوله؟ معقول هذا؟ أينزل عليه كتابه ويكون غير رسول؟ مستحيل هذا، فهذه وحدها شهادة كافية، المعجزات كافية، الكتب الإلهية متوافرة، التوراة والإنجيل كلها شاهدة، أهل الكتاب يشهدون ويعرفون.

    قال: [ وأنذر كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة.

    ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19]، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها، أما أنا فلا أعترف بها، بل أنكرها فضلاً عن أن أشهد بها.

    ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهية الله وحده وأن يتبرأ من آلهتهم المدعاة، فقال له: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]].

    هداية الآيات

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه، إذ لا يكشف الضر إلا هو.

    ثانياً: شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.

    ثالثاً: نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين ] إلى يوم القيامة.

    [ رابعاً: تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله، ووجوب البراءة من الشرك ] وأهله.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756170974