وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، حيث أمرنا في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] وأعطانا الأمان النفسي والمعيشي في التقوى، فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] وأعطانا الضمان لذريتنا من بعدنا في التقوى والدعوة إلى الله، فقال سبحانه: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
اللهم لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وكفيتنا، وآويتنا، وهديتنا، وعلَّمتنا، وفرَّجت عنا.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن.
لك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتَّ عدونا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، وبسطت رزقنا، وأحسنت معافاتنا، ومِن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً.
لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو شاهد أو غائب، أو حي أو ميت.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد على الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك.
اللهم لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
أما بعد:
أيها المسلمون! ونحن في اليوم الأخير من رمضان نودع شهر الصيام، نسأل الله أن يجعل لنا في أوله رحمة، وفي أوسطه مغفرة، وفي آخره عتقاً من النار.
رحل رمضان بما فيه، ولا ندري أي العمل قُبِل، وأي العمل رُدَّ، ولكن ظننا بالله حسن، فما فرض علينا وكتب علينا إلا ليجزينا.
اللهم إنا صمناه إيماناً واحتساباً، فتقبله منا يا أرحم الراحمين! ولا تقطعنا ولا تمنعنا عن صيام غيره، وأعدنا على كل رمضان باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام.
اللهم اجعل هذا الشهر شاهداً لنا لا علينا، ثقِّل به ميزاننا، وحقق به إيماننا، واخسأ به شيطاننا، واغفر به خطايانا، واقبل حسناتنا يا أرحم الرحمين!
اللهم أنت ذو الفضل العظيم، بقوتك وتثبيتك وحولك استطعنا أن نصوم، واستطعنا أن نقوم، ولولاك ما فعلنا.
واللهِِ لولا اللهُ ما اهتدينا وما تصدَّقنا وما صلينا |
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقَينا |
وداعاً يا شهر الصيام! وداعاً أيها الحبيب القريب! إن القلب ليحزن على فراقك، والعين تدمع!
كيف لا! وفيك صُفِّدت الشياطين، وفُتِّحت أبواب الجنان، وغُلِّقت أبواب النيران؟!
كيف لا نحزن على فراقك وقد أحيي الليل بالقرآن؛ خشعت العيون، واقشعرت الأبدان، وكأننا نسمع الملائكة ونحس بهم وبالسكينة والرحمة تغشانا بين الحين والحين؟!
كيف لا نحزن على فراقك وفيك ليلة لو عاش أحدنا عمره كله في طاعة أو عبادة دون أن يصيب فضل هذه الليلة، فإنها تفوق على العمر كله مهما كان طويلاً، إنها ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.
أيها الأحبة: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتمشياً مع روح رمضان المشبَّع بالمغفرة والرحمة من الله، سأقف معكم ومع الرحمة في كتاب الله؛ لنعلم أن الله سبحانه أول ما خلق خلق القلم، فقال له: (كتب، قال: ماذا أكتب يا رب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب القلم بإذن ربه في كتاب، وكتب الله أول ما كتب بيده في هذا الكتاب: أن سبقت رحمتي غضبي) فالكتاب عنده على العرش، ولولا أن رحمته سبقت غضبه لما بقيت دابة على وجه الأرض.
مَن الذي سترنا في خطاينا؟!
من الذي سترنا في دنيانا، ويسترنا في أخرانا؟!
إنه الله.
نداءٌ إلى العاصين والخاطئين: عودوا إلى الله، إن البشر هم الذين يحقدون، إن البشر إذا تخاصمتَ معهم هم الذين يقولون: إن الذي يدخل في قلبي لا يخرج منه حتى أنتقم، أما الله فهو يقول لمن يصرون على الذنب بالليل والنهار ويسرفون دائماً وأبداً يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
ويفوِّت الله على الشيطان حيله بقوله: جَمِيعاً [الزمر:53] حتى لا يأتيك الشيطان فيقول: أيها العاصي المسرف! مِن أي ذنـب تتوب؟! فقـد فعلتَ.. وفعلتَ.. وفعلتَ، الله يقـول: لا إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحسن استقبال الخاطئين، وعندما يوجَّه الأمر إلى القيادة الإسلامية المتمثلة بشخص الحبيب صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن يلتزم بهذا الأمر كلُّ قائد وحاكم ووالٍ بعده؛ لأنه معصوم، فالتَزَم بهذا الأمر، فغير المعصومين أولى بهذا الالتزام، ماذا يقول الله لرسوله؟
اجتمع نفر من الصحابة في مكة وقد كان لهم ماض أسود، فهذا وأَدَ بنته، وهذا قَطَع رَحِمه، وهذا سفك دماً، وهذا أَكَلَ مالاً، فاجتمعوا وخافوا من معاصيهم، وجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دامعي العيون، مكسوري القلوب، فماذا قال الله فيهم؟ استمعوا!
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:54-55].
نُفَصِّلُ الْآياتِ [الأنعام:55]: آيات الرحمة، حتى لا يأتي المجرمون من الطواغيت والمرجفون في المدينة، فيشيرون إلى الدعاة: إنهم متعصبون وإرهابيون، إنهم يكفِّرون أصحاب الذنوب والمعاصي، الله يقول: لا. إنهم لا يكفِّرون أصحاب الذنوب والمعاصي، بل يسلمون عليهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54] فيتعرى المجرمون المرجفون في المدينة : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
ويلتقي دعاء المؤمنين في الأرض ودعاء الملائكة في السماء، لمن؟
للخاطئين؟!
اسمعوا دعاء الملائكة وحملة العرش ومَن حول العرش، الذين لا يعلم عددهم إلا الله؛ لأن السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في أرض فلاة، والسماوات والأرض والكرسي كحلقة في فلاة بالنسبة للعرش، والله قد استوى على العرش.
هؤلاء حملة العرش اسمعوا ماذا يقولون عن العاصين والخاطئين والمذنبين!
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].
وينبعث الدعاء من الصالحين في الدنيا ليلتقي بدعاء الملائكة، وذلك في قول الله الذي يعلِّمنا أن ندعو: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
أتظنون أن الله يعذب التائبين والمؤمنين وإن تكرر منهم الخطأ وهو الذي يعلِّمهم دعاء التوبة والمغفرة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]؟!
أتظنون أن الذي يقول: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70] يُعذِّب من تاب وأناب وأقبل على الله بما معه من ذنوب؟!
فالحديث القدسي يقول: (ابن آدم، لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنـي لا تشرك بي شيئاً جئتك بقرابها مغفرة، ولو بَلَغَت ذنوبُك عنان السماء) وفي رواية: (ولو بلغت ذنوبك الأرض والسماوات لغفرتُها لك ولا أبالي ما استغفرتني) ما قلت: أستغفر الله، من قالها غفر الله ذنوبه وخطاياه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا هذا الدعاء المبارك: (من قال في يوم الجمعة ثلاث مرات: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفِرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن تولى من الزحف) والتولي من الزحف كبيرة عظيمة ومع هذا يغفرها الاستغفار يوم الجمعة.
أما دفاع السماء، أما دفاع الله فاستمعوا ماذا يقول: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَـا صَبَـرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:109-114].
أيها الأحباب: هذا هو ربنا يدافع عنا يوم القيامة، بل يعلمنا في آخر آية من سورة المؤمنون: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118] فمن دعا بهذا الدعاء دافع الله عنه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109] دعاء يرشحك لكي يدافع الله عنك مَلِك الملوك يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
الإنصات إلى القرآن نتيجته رحمة الله:
قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
الإصلاح بين الإخوة نتيجته رحمة الله:
قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
الصبر على البلية والمصيبة نتيجته رحمة الله:
قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
والاعتصام بالله وبمنهجه وبحكمه نتيجته الرحمة:
قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ [النساء:175] نعم أيها الأحباب: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [النساء:175].
ثم لنستمع إلى هذه الآية العظيمة في رحمة الآخرة:
أتدرون ما رحمة الآخرة؟!
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة على الأرض تتراحم بها الخلائق، حتى إن الدابة ترفع حافرها حتى لا تطأ وليدها، وادَّخر لعباده تسعة وتسعين رحمة يرحمهم بها يوم القيامة) ماذا يقول الله عن هذه الرحمة؟!
يقول سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12].
والقرآن يصدِّق هذا الحديث: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:19-21].
اللهم إنا نسألك هذه العيشة الراضية.
وتندفع الرحمة بين الزوج وزوجته، ولم يقل سبحانه: وجعل فيكم مودة ورحمة، وإنما قال: بينكم، وكأن الرحمة والمودة شخص ماثل بين الزوج وزوجته، يرى الرحمة في عينيها وابتسامتها، وفي كلامها وجمالها، وترى الرحمة في رجولته ووفائه وصدقه.
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]: لو جعل الله مودة فقط لما استمرت الحياة الزوجية؛ لأن المودة هي: الحب، والمودة هي: العشق.
ولكن الرحمة تأتي بعد أن تصبح الحياة الزوجية حياة روتينية عادية، مرت لحظات المجاملة، مرت لحظات الغزل والهيام، وبدأ الوالد والوالدة يعتركان في الحياة من أجل تربية الأولاد وكسب الرزق، ماذا يبقى لهم؟
المودة كانت أيام الشباب وشهر العسل، ولكن الله برحمته دفع الرحمة إليهم، فبدأ يخاف الله فيها وتخاف الله فيه، ويفي لها إلى آخر لحظة من عمرها، إنها رحمة الله المفقودة في الغرب، المفقودة في أوروبا وأمريكا وروسيا ، قد تكون بينهم مودة حب ومجاملة، ولكن تنتهي في لحظات، فيبدأ هو يبحث عن خليلات، وتبدأ هي تبحث عن عشاق؛ لأن الرحمة غير موجودة، ولا تأتي الرحمة إلا بالإيمان والقرآن، كما يقول الله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82].
اللهم إنا نسألك رحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين!
فهذا رسولك صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إن الله لا ينزل رحمته إلا على رحيم، فقالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، بل الناس جميعاً).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
ويقول صلى الله عليه وسلم، وهو ينظر إلى امرأة فقدت طفلها، فلما وجدته جلست تحت ظل شجرة، ألقمته الثدي بحنان، قال: (أتظنون أن هذه مُلقية ولدها في النار وهي تقدر؟ قالوا: لا يا رسول الله! ما نظن أنها تلقي ولدها في النار وهي تقدر، قال: فاعلموا أن رحمة الله بعباده أعظم من رحمة هذه بولدها).
اللهم إن الذنب كبير، والعمل قليل، ولا نثق إلا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تتغمد موتانا وموتى المسلمين برحمتك الواسعة.
اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم، واغفر زلتهم، واقبل حسنتهم، وثقل ميزانهم، وإذا صرنا إلى ما صاروا إليه فتغمدنا برحمتك الواسعة، واجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، أمدنا فيها بالرَّوح والريحان، والنور والإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
اللهم لا تفتنا بعده، ولا تحرمنا أجره، وأوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة باردة لا نظمأ بعدها أبداً.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر ، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحباب الكرام: ومن مآسي هذه الأمة وفي العشر الأواخر من رمضان يذهب اليهود الملاعين في وضح النهار والمسلمون صائمون ويأتون إلى مرقد الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيسكبون حوله الخمور، ويشربونها ويأكلون الطعام، ويُرْغِمون الناس على الإفطار في شهر رمضان.
هذا حَدَثَ في وضح النهار في العشر الأواخر، فما بكت عين! وما ارتجف قلب! وما تألَّم قائد، نعم!
إن إبراهيم اليوم في زماننا غريب، وقد كان في زمانه أمَّة في التوحيد، أمة في البراء والولاء، أمة في تحدي الطاغوت.
كان إبراهيم وحيداً على وجه الأرض؛ ولكنه كان بثباته وصبره وتحديه لطواغيت زمانه، إن تراب قدميه ليعلو رءوس طواغيت هذا الزمان الذين يركعون لـأمريكا وروسيا ، ويتملقون العدو اليهودي.
إن إبراهيم وقف أمام النمرود وأخبره أن الله يحيي ويميت.
وقال التافه: أنا أحيي وأميت.
فماذا قال له إبراهيم؟ قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258].
وتجبر الطاغوت وتكبر، وأشعل لإبراهيم النهار وقذفه فيها، فماذا فعل الله؟
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
فالذي سلب خاصية الإحراق من النار هو الله، وهو حي لا يموت، وهو قادر على أن يسلب خاصية القوى من أمريكا ومن روسيا بكلمة (كن) لقد جاء يوماً أبرهة الصليبي الحاقد لكي يهدم بيت الله، ولم يكن هناك مسلم على وجه الأرض يدافع عن بيت الله، فانبرى الله يدافع عن بيته، دافع عنه بكلمة (كُنْ)، فانطلقت الطير الأبابيل من قاعدة (كُنْ) الربانية، وليست من قاعدة كيب كيندي الأمريكية التي يركع لها العرب، ولا من قاعدة برجنيف الروسية التي يخضع لها العرب؛ ولكن من قاعدة (كُنْ) فيكون.
جاءت الطيور الأبابيل بإذن ربها فدمرت الطاغوت الصليبي إبرهة، وصدق الله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5].
واليوم يتآمر أعداء هذا الدين من اليهود وأشياعهم على مرقد الخليل إبراهيم، وعلى المسجد الأقصى، ومَن تآمر على المسجد الأقصى لا شك أنه يتآمر على الكعبة ويتآمر على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسجد الأقصى تُشَدُّ إليه الرحال، ومسجد الله الحرام ومسجد نبيه تُشَدُّ إليهما الرحال، فمن تآمر على هذا تآمر على غيره سواءً بسواء.
أيها الإخوة! أيها الأحبة! إن الطغاة اليوم في زماننا لو كان إبراهيم بين أيديهم لشاركوا أمريكا وروسيا في تحطيم البيت وفي قتل إبراهيم وذبحه، لكي يأخذوا أجرهم من أصحاب الفيل، ومن دِين البيت الأبيض، نعم إنهم يتآمرون ويسكتون، وبسكوتهم تُحاك مؤامرة الصمت أمام هذا التدمير؛ تدمير العقائد والمقدسات الإسلامية.
إبراهيم عليه السلام في مرقده يشكو إلى الله رب العالمين، وهو الذي دعا دعوة صالحة لكي يبعث الله فينا رجلاً، فاستجاب الله دعوته وبعث الله فينا محمداً صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه تفضل علينا بدعوة هذا النبي الصالح.
وإبراهيم هـو الذي يدعـو لنا وللمؤمنين إلى يوم القيامة: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40-41].
أهذا جزاؤه؟! أهذا نصيبه؟! أهذا حظه منا؟! في مرقده يُسكب عليه الخمر! في مرقده يُشرب عنده الخمر! في وضح رمضان والناس صيام! فلا يتحرك أحد، حتى مذكرات احتجاج واستنكار التي كنا نسمعها في الماضي أصبحت الآن مذكرات صمت عند جدار الصامتين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إنها مأساة وكربة لا يفرجها إلا الله رب العالمين، وما بقي لأمتنا إلا خطبٌ وشعارات ولا يقولها إلا القليل.
نعم، أسماء قادة، ووضع نساء، بل النساء أرجل منهم في الصبر على الملمات.
فهذه تماضر قدمت أبناءها لله، ثم قالت: [الحمد لله الذي شرفني في استشهادهم].
فماذا يقول زعماء العرب في زماننا هذا، واليهود يتآمرون علينا وعلى أرضنا وعرضنا ومقدساتنا؟!
نشكو إلى الله، نشكو إلى الله، نشكو إلى الله في اليوم الأخير من رمضان.
اللهم إنا نشكو إليك ذل الطواغيت.
اللهم إنا نشكو إليك مؤامرة الطواغيت.
اللهم إنا نسألك أن تحرر المسجد الأقصى مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ومهبط عيسى عليه السلام، ونسألك أن تحرر مرقد الخليل إبراهيم، وأرض فلسطين المباركة، وأن تنصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان بقائد رباني يسمع كلام الله ويسمعنا، وينقاد إلى الله ويقودنا، ويحكم بكتاب الله وتحرسه، لا يخضع للبيت الأبيض، ولا يركع للبيت الأحمر، إنما قلبه في البيت العتيق، وقدوته في مسجد رسول الله، وقيادته في المسجد الأقصى، شعاره الوحيد:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا |
فإذا هددوه وتوعدوه صاح بهم صيحة خبيب :
ولستُ أبالي حين أُقْتَل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشاء يبارك على أجزاء شلو ممزعِ |
وإذا تفاخر الطواغيت بعروشهم وجيوشهم وقروشهم وكروشهم اعتز عليهم بدينه، فصاح صيحة سلمان الفارسي :
أبي الإسلام لا أب لي سـواهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ |
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءاً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا عدواً إلا قصمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم نسألك أن تصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأن تصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأن تجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، وأن تجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم من أراد بنا وهذا البلد وسائر بلاد المسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدميره في تدبيره.
اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك وبرك وإحسانك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا أرحم الراحمين!
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَـدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَـاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْـهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر