إسلام ويب

رؤية الله في الجنةللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قرر الشيخ في هذه المحاضرة عقيدة أهل السنة والجماعة المدعمة بالأدلة الصريحة، الواضحة الصحيحة، التي تثبت أن الله عز وجل سوف يُرى في الجنة، وفي يوم القيامة، ومن أنكر ذلك فقد توعده الله بحرمانه من هذا المشهد العظيم يوم القيامة وفي الجنة، وأبدله برؤية وجه ملائكة العذاب.

    1.   

    شوق العباد إلى رؤية ربهم

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي بحلاله وجماله وكماله، اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لنعمة النظر إلى وجهك في جنات النعيم، حمداً لا ينبغي لأحد غيرك، ولا يجزي عليه أحدٌ سواك، لك الحمد كما ينبغي ليوم الزيادة والمزيد، يوم ينظر العباد إلى رب العباد في جنات النعيم فيزدادون جمالاً وبهاءً وإيماناً ونوراً.

    وأصلي وأسلم على قرة عيني ومعلمي محمد بن عبد الله حبيب القلوب، ونور العيون، صاحب المقام المحمود والشفاعة الكبرى، والحوض المورود الذي أكوابه بعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أصحاب النور واليقين والدين، خير القرون والدعاة والمجاهدين، والشهداء، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واجمعنا وإياهم بحبهم يا أرحم الراحمين! في ظل عرشك، فقد بشرنا رسولك صلى الله عليه وسلم فقال: (المرء يحشر مع من أحب)، فنشهدك اللهم على حبهم في الدنيا والآخرة، وعلى حب كل مسلمٍ مؤمنٍ موحدٍ مخلصٍ إلى يوم الدين.

    أحبتي في الله: حديثي هذه الليلة عن غاية الغايات، وأقصى الأماني، وأطيب الآمال التي لا تنقطع.. عن حديث تهدأ به النفوس، وتطمئن به القلوب، وتنتعش به الأرواح، وينظف الفكر، ويُنَضَّر به الوجه، ألا وهو رؤية الله في جنات النعيم.

    أحبتي في الله: وهل هناك أجمل من الله؟

    لا إله إلا الله، له الكمال والجلال والجمال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    أحبتي في الله: إننا نشاهد في الدنيا منظراً جميلاً في فصل الربيع يوم أن تكتسي الأرض بأعشابها الخضراء وتخرج الأنوار والأزهار، ويتدفق ماء الغدير أزرقاً رقراقاً تتراكض حوله الفراشات والعصافير، وينظر الإنسان إلى بلاد الجمال والطبيعة فيرى الشلالات المتحدرة من قمم الجبال يتخللها ضياء الشمس، فتنبعث الألوان وأطيافها على الكائنات، فتستقي كل مخلوقةٍ وزهرةٍ ووردةٍ لونها من ضياء الشمس، وينعكس هذا الجمال المتدفق على وجه الناظر وبصره، فإذا نظرت إلى وجهه ترى السعادة والبهاء والأنس يتفجر في وجه الناظر إلى جمال الكون، فكيف بالذي نظر إلى وجه المكوِّن سبحانه؟

    أحبتي في الله: هذا أمرٌ معروفٌ في حياتنا الدنيا، عندما يكون لك حبيبٌ بعيد تشتاق إلى رؤياه، وكلما جاء مسافرٌ من محلته وأخبرك عن أخلاقه وصفاته وأفعاله وكماله، وجوده وكرمه، وتفوقه في دارسته، ونجاحه وصعوده درجة درجة، كلما زاد حبك له، وازداد شوقك إليه، وتتمنى اليوم الذي يأتي فتلتقي بهذا الحبيب الذي له مكانةٌ في قلبك من خلال صفاته التي سمعتها، وأفعاله الطيبة، ويزداد الشوق كلما زاد موعد اللقاء، يكون ابناً أو أخاً، أو جاراً أو صاحباً، يزداد الشوق في قمته كلما قالوا لك: بعد غدٍ سيصل. فتبدأ تحسب الدقائق والساعات، ويقول الشاعر:

    وأكثر ما يكون الشوق يوماً     إذا دنت الديار من الديار

    أنت إذا سافرت وأنت مشتاق إلى أهلك وزوجتك وأولادك، كلما قربت من الديار كلما زاد الشوق، حتى ترى نفسك تسرع وتنجز أعمالك بسرعة، وتجري في تخليص الجوازات، ما الذي يجعلك هكذا بهذه الحالة العجيبة الغريبة؟! إنه الشوق، لماذا زاد الشوق هنا؟! زاد الشوق لأن قرب اللقاء بدأ يتحقق إلى أن تتم المشاهدة، فإذا تمت المشاهدة تولد شيءٌ فوق نار الشوق وهو الحب، المحبة التي تزداد درجاتها عند الرؤية، فإذا أنت شاهدت هذا الحبيب الذي طال غيابه وأصبح له مثل أعلى في قلبك، إذا شاهدته بعد هذا الانقطاع فرأيت كماله وجماله، وأخلاقه وصفاته، وإذا الذي حدثك عنه ما وفّاك ماله، وما وفَّى صفته، بل لما عايشته وكلمته وجالسته وتعاملت معه وجدته قمةً في الأخلاق والصفات الطيبة، فازداد حبك على حب، وشوقك على شوق، وودك على ود.

    أحبتي في الله: نشاهد هذا في دنيانا فكيف لا يكون هذا عند لقاء الله رب العالمين، والله سبحانه وتعالى أخبرنا أن له تسعة وتسعين اسماً، كلها حسنى ونحن نشتاق إلى رؤية إنسان وله اسم واحد، فكيف لا نشتاق إلى رب الإنسان وله تسعة وتسعين اسم كلها حسنى؟

    نحن نشتاق إلى رؤية الإنسان المخلوق وله صفات معدودات مهما زادت لا تزيد على عشر صفات، والله سبحانه صفاته لا تعد ولا تحصى، فكيف لا نراه ولا نشتاق إلى لقياه، ولا نردد قول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك).

    كيف لا نردد في اللحظات الأخيرة ما ردده الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم وجبريل يخيره بين لقاء الله وبين الخلود في الدنيا فيقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) أرأيتم! ومن التي بجواره وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى) أحب مخلوقة له على وجه الأرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، في مرض موته يسأل جميع زوجاته: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) يريد بيت عائشة حتى يستقر فيه، سابقها في البر، وسابقها في البيت، ويشرب مكان ما تشرب، ويأكل مكان ما تأكل، ويسميها الحميراء؛ لأن لونها أحمر جميل، ويقول: (فضلت عائشة على النساء كما فضل الثريد على الطعام) وبشرها بالجنة، ونزل جبريل بصورتها مرسومة على حرير وقال: (هذه زوجتك في الدنيا والآخرة) ومع هذا لما نزل جبريل وهي بجواره ورأسه على صدرها بين سحرها ونحرها قال: (ماذا تريد يا محمد وما تختار: الخلود في الأرض وكنوزها والجنة؟ أو لقاء الله والجنة، فقال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى).

    فالرفيق الأعلى -أحبتي في الله- أمره عظيم، ولكن هناك بعض المحجوبين والمحرومين ينكرون رؤية الله يوم القيامة وجنات النعيم، ووالله لو أن عقيدة أهل السنة والجماعة فيها أن الله لا يرونه ولا يشاهدونه؛ لتفطرت قلوبهم هماً وحزناً وغماً، وأصبحوا لا يقر لهم قرار.

    يا أخي! أنا لا أدري كيف يعيش هؤلاء الذي ينكرون رؤية الله.. على أي أملٍ تنعقد آمالهم؟ وعلى أي حب تنعقد قلوبهم؟! وعلى أي شوقٍ تتدفق أرواحهم؟!

    أنت عندما يذهب ابنك إلى المدرسة يوماً واحداً، فإذا جاء وقت خروجه وقالوا لك: إن ابنك ما حضر؛ فإن قلبك يشتعل ولا يقر لك قرار حتى تأخذه وتقبله، بنتك الصغيرة وابنك الصغير إن غاب عنك لحظات أو ساعات قليلة يداخلك القلق.. كيف وقد قطعت عمراً طويلاً من ولادتك إلى مماتك وأنت تردد: يا الله، اللهم الرحمن الرحيم الرءوف اللطيف العزيز الحكيم الكريم... وتردد هذه الأسماء، له تسجد وتركع، ومن أجله تقاتل وتضحي، وله تنفق، ومن أجله تجوع، وتصوم، وتهدر دمك، ثم يقال لك: ستعيش طول عمرك ولا تراه.

    كيف يكون ذلك يا إخوان؟ أنا لا أدري كيف يعيش هؤلاء؟!

    لهذا أنا أرى أن حياتهم كئيبة حزينة، وما كانت عقيدتهم هذه التي تنكر رؤية الله إلا بسبب حجاب الذنوب والمعاصي ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وأنا تتبعت عقائد هؤلاء الناس فوجدت أنهم انحرفوا انحرافاً كبيراً في العقيدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    إما أنهم يكفرون المؤمنين بالذنب الواحد، إذا ارتكب المسلم خطيئة قالوا: كافر، فهو في النار خالداً مخلداً، لا حول ولا قوة إلا بالله.

    أو أنهم يشركون بالله رب العالمين، فيذبحون لغير الله, ويحلفون بغير الله، ويستعينون بغير الله.

    فهاتان فرقتان موجودتان تحكمان في العالم، دولتين إحداهن تشرك بالله تعالى شرك عقيدياً، والأخرى تنكر رؤية الله سبحانه وتعالى، وتكفر المسلم بالذنب والخطيئة، بسبب هذه الذنوب حجب الله عنهم الرؤية، إيماناً في الدنيا وعقيدةً ومشاهدة يوم القيامة: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] نسأل الله تبارك وتعالى العافية.

    1.   

    أدلة أهل السنة في إثبات رؤية الله من القرآن

    أحبتي في الله: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون في يوم القيامة في أرض المحشر، ويراه المؤمنون في جنات النعيم، والآيات والأحاديث تشهد بذلك، وسنناقش هذا عما قريب.

    قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة)

    إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21] وهنا يذكر الله الدنيا ويذكر الآخرة، ويبين أن الدنيا لها عباد يحبونها، وأن الآخرة لها عباد يحبونها ويشتاقون إليها، وعباد الله سبحانه وتعالى هم الذين يريدون الآخرة، أما الذين يريدون الدنيا فقد أعطى بعضهم أقصى غايته في الدنيا.

    وعندما يذكر الله الآخرة لا بد أن يبين لك أقصى الغايات، وكما أن أقصى عابد الدنيا أن يعود للدنيا.

    فإن أقصى من يريد الآخرة أن يرى الله رب العالمين، أي: عندما يضع الله الدنيا في كفة والآخرة في كفة، ويجعل الغاية في الدنيا حيازتها، والغاية في الآخرة هي النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، انظروا إلى الآيات الكريمة: كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21] لماذا تذرون الآخرة وفيها رؤية الله؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فجاءت الآيات متناسقة، حيث رغب الله في الآخرة بأحسن وأجمل وأكمل وأبهى ما فيها، وهو النظر إلى الله رب العلمين.

    ثم أحبتي في الله: لنستمع ماذا يقول الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء المحرومين: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وهذا الحجاب واقع عليه والآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ لأن الله يقول: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء) فإذا ظننت في الله أنك تراه حسب ما يذكر القرآن والحديث حقق الله لك ظنك يوم القيامة، وإذا ظننت في الله أنك ما تراه حقق الله ظنك يوم القيامة، فأنت على ما تظن في ربك؛ لهذا الله سبحانه وتعالى قال عن هؤلاء الذين يعتقدون هذه العقيدة: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

    أحوال الناظرين إلى وجه ربهم

    والله سبحانه وتعالى عندما ذكر هذه النعمة ذكر بعض أحوالها في القرآن فقال: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22-24]، من يطيق إنكار هذه؟

    الآن أريد أن أمتحنك، أنت كإنسان لك عواطف ومشاعر وأحاسيس، لو أني خبأت بيدي اليمين شيء، وفي يدي الشمال شيء آخر، ثم كان في يدي اليمين وردة حمراء، وفي يدي الشمال جمجمة إنسان، ثم أخرجت الوردة الحمراء، كيف يكون وجهك؟ سوف تبستسم وتقول: يا سلام وتأخذها وتشمها، وإذا أخرجت الجمجمة سوف تفزع وتخاف.

    هذا إحساس موجود عند كل المخلوقين، الله سبحانه وتعالى جعل فيهم الإحساس، لهذا الله سبحانه وتعالى ذكر هذا حتى يبين هذا النعيم العظيم، جعل الإحساس في الدنيا ويكون هذا الإحساس في قمته وأعلاه عندما ننظر إلى وجه ربنا ومولانا، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وقال: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [المطففين:22-25].

    فهناك فرق بين من ينظر إلى وجه الله، ومن ينظر إلى وجه مالك خازن جهنم الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام وفزع منه، فرد عليه بصوت خشن، وما يضحك ومعبس، فسأل فقال: (من هذا يا جبريل، قال: هذا مالك خازن جهنم ما ابتسم لأحد) وجه مخيف، وجه مرعب، وهكذا جزاء من ظن أنه سيرى الله إذا كانت عقيدته سليمة، ومن يظن أنه لا يرى الله لا بد أن يريه وجهاً آخراً وهو وجه مالك خازن جهنم، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية، ونعوذ بالله من جهنم وأصحاب جهنم.

    الرد على احتجاجهم بآية: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)

    لنعود إلى الأحاديث النبوية الصحيحة التي لا يملكون إنكارها، ومع هذا هم لا ينكرونها، نعم. الإباضية وغيرهم من الرافضة لا ينكرون هذه الأحاديث ولكن يؤولونها، يقولون وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] الآية القرآنية تعني: تنتظر ثواب الله، لا أنها تنتظر رؤيته.

    فنقول لهم: لماذا أولتوها؟

    قالوا: لأنه مذكور في القرآن: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، فكيف تقولون: إننا نراه بأبصارنا في الجنة، والقرآن يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]؟

    نقول صحيح القرآن يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] ولكن لم يقل: (لا تراه الأبصار)، ولا (لا تنظره الأبصار) فالإدراك شيء والإحاطة شيء آخر، فأنت مثلاً لو مر عليك إنسان من بعيد، وسألتك: هل رأيته؟ تقول: نعم رأيته، لكن إذا قلت لك: هل أدركته؟ تقول: لا ما أدركته؛ لأنه ذهب ولم أدركه، لكن لو قلت لك: أدركه، هل معنى أدركه يعني أنظره أبصره، لا. أدركه يعني: اجري خلفه حتى تصل عنده وتمسكه وتقول له: يا فلان! يا ولد! فلان يريدك، هذا معنى أدركه، فهذا يقول: أنا أدركت الرجل.

    فعندما يقول القرآن: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] يعني: لا تحيط به الأبصار سبحانه وتعالى، الأبصار تراه وتنظر إليه، وتستلذ بالنظر إلى وجهه، ولكن لا تدركه ولا تحيط به سبحانه وتعالى، بل إن حملة العرش لا تدرك أبصارها ربها لا إله إلا هو، وما بين شحمة أذن الواحد منهم وعاتقه مسيرة سبعمائة عام، فماذا نقول نحن بعيوننا الصغيرة هذه؟ ولو صنعت لنا عيون أخرى في الجنة أكبر وأوسع وأقوى؛ فإنها لا تدرك الله، فلا يعلم، ولا يحيط، ولا يعلم صفات الله، ومحاسنه، وجماله وأسمائه وأفعاله، إلا هو سبحانه وتعالى.

    1.   

    أدلة أهل السنة في إثبات رؤية الله من السنة

    الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ضرب المثل للناس، وهذا المثل عجيب يا إخوان! مثل قمة في البلاغة والوضوح، فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]) الحديث رواه مسلم والترمذي وهو حديث صحيح.

    ويقول ابن المبارك: نبأنا أبو تميمة ، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب الناس في جامع البصرة، ويقول: (إن الله يبعث يوم القيامة ملكاً إلى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة! هل أنجزكم الله ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحلي والحلل والأنهار، والأزواج المطهرة، فيقولون: نعم. قد أنجزنا الله ما وعدنا، ثم يقول الملك: هل أنجزكم الله ما وعدكم ثلاث مرات؟ فلا يفقدون شيئاً مما وعدهم في كتابه وسنة نبيه، فيقولون: نعم. فيقول: قد بقي لكم شيء إن الله عز وجل يقول: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى) وهذا الحديث في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لـابن القيم رحمة الله عليه.

    وقيل لـابن عباس رضي الله عنهما: [كل من دخل الجنة يرى الله عز وجل؟ قال: نعم.]

    وعن عمارة بن عبيد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: [من تمام نعمة دخول الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنته] كل ذلك في كتاب حادي الأرواح .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن أناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله!...) انظر إلى شوق الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكثر منا شوقاً، نحن نادر ما يأتي واحد إلى عالم أو إلى إنسان ويسأله هذا السؤال، ولكن الصحابة ما يصبرون، لهذا الله سبحانه وتعالى علم الشوق الذي في قلوبهم فضرب بيننا وبينهم موعداً فقال سبحانه: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت:5] اصبروا كل واحد له أجل وموعد وينتهي، ثم تلقى الله سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:5-6]، فسألوا: ( يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اسمع المثل العجيب الذي يضربه الحبيب المحبوب-: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله!) يعني: القمر ليلة أربعة عشر أو خمسة عشر والسماء صافية بالليل، هل هناك ضرر وحجاب بينك وبينه حتى ما تراه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله! قال: فإنكم ترونه كذلك ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح.

    وهذا الحديث احتج به المنكرون للرؤية، قالوا: وإن كان الحديث صحيحاً لكنه غير متواتر، لهذا نحن لا نأخذ في أمور العقيدة إلا الأحاديث المتواترة.

    سبحان الله! لماذا هذه اللفة الطويلة؟ هل اشترط محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت في وصاياه فقال: يا أمتي! إذا جاءكم الحديث يرويه الواحد لا تأخذونه، وإذا جاءكم الحديث ترويه الجماعة خذوه، هيا نحن نناديكم أعطونا الدليل على عدم الأخذ بأحاديث بالآحاد.

    ويقولون: إن هذا الحديث يشَّبه الرب بالقمر والرب يقول سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فكيف تقولون: مثل القمر ومثل الشمس؟

    نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم ما شبه الرب بالقمر والشمس، ولكن شبه الرؤيا بالرؤيا لا المرئي بالمرئي، أنت عندما تنظر إلى القمر تدرك القمر أو تنظر إليه فقط؟

    أنت تنظر إليه، بل إنك ما تنظر إلى ذات القمر نفسه، يعني: الحجر والتراب، والجبال والوديان، لكن تنظر إلى النور المتحدر إليك من القمر، والذي في الشمال، يرى القمر، والذي في الجنوب يرى القمر، والذي في الشرق يرى القمر، والذي في الغرب يرى القمر، أينما كان موقعه يرى القمر، فالله سبحانه وتعالى أينما يكون الإنسان في الجنة فإنه يرى الله سبحانه وتعالى، ولكن الذي يرى القمر في الدنيا هل أدرك القمر؟

    مستحيل لا يوجد عاقل يقول: إنني أدركت القمر بعيني المجردة هذه، إنما أنت ترى صورة القمر الحقيقية التي تناسب عينك، وتليق بعينك كإنسان، لكن القمر أعظم من ذلك وأكبر مساحة من الذي تراه أنت، القمر فيه ظلام وجبال ووديان وحفر وله وجه وله خلف، وهو مدور وفيه أعاصير ورياح، فأنت عندما تبصر هذا القمر ما أبصرت من هذا القمر إلا الذي يناسب بصرك في الدنيا.

    فلهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما ضرب المثل لله في القمر أو الشمس حتى تحتجون بهذا الحديث الصحيح، ولكن قال بالمثل كما تقول الآية: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] فالأبصار تنظر إلى القمر ولا تدرك القمر، وتنظر إلى الشمس ولكن لا تدرك كل الشمس ولا تحيط بكل الشمس، كذلك الله يوم القيامة سبحانه وتعالى وفي الجنة تنظر إليه الأبصار وتراه ولكن لا تحيط به ولا تدركه، فأصبح هذا المثل النبوي من أصح وأبلغ الأدلة على تحقيق رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وفي الجنة.

    حديث: (إنكم سترون ربكم)

    قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس -يعني: صلاة الفجر- وقبل غروبها -يعني: صلاة العصر- فافعلوا) ما معنى هذا الحديث؟

    معناه: أن المرشحين لرؤية الله يوم القيامة هم الذين يحافظون على صلاة الفجر في جماعة في المسجد، وعلى صلاة العصر في جماعة في المسجد، لماذا؟!

    لأن هاتين الصلاتين تتبدل فيها الملائكة الكتبة والحفظة، فملائكة الليل تذهب في صلاة الفجر تصلي وراء الإمام مع المصلين، يصفون في الصفوف، وتنزل ملائكة النهار وتذهب ملائكة الليل وتبقى ملائكة النهار إلى العصر، بعد ذلك تنزل ملائكة الليل، فربهم يسألهم يقول لهم وهو أعلم: (على ماذا تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون) يشهدون له أنه يصلي الفجر والعصر، فماذا تنتظر من إله تشهد الملائكة في الليل والنهار، في صلاة الفجر والعصر، تشهد له بأعظم وسام وأكبر تشريف، تشهد له بأن هذا لقلب الصغير المحدود في الأرض انفتح للخالق، فعبر هذا القلب الصغير إلى خالقه في السماوات العلا؟

    أنت متعجب من المكوك الأمريكي الذي وصل إلى القمر ويرصد لك هذا المذنب، فإن هؤلاء قلوبهم أقصى ما وصلت عند عتبة الكرة الأرضية، الكرة الأرضية لها غلاف جوي يحفظها من النيازك والمجرات وتنصهر فيه عندما تحتك به وتصير رماداً، هذا الغلاف الجوي بالنسبة للكرة الأرضية شيء قريب جداً، وهم حتى الآن عند الغلاف الجوي أو يتعدونه قليلاً، ودخلوا في المكان الذي ليس فيه جاذبية، هذا أقصى ما توصل إليه أكبر مخترعيهم، لهذا الله سبحانه وتعالى يقول: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، أكثر من هذا الظاهر لا يعرفون، لكن أنت لما تأتي في الصلاة، وتقول: الله أكبر.. قلبك يصل أبعد من المكوك الأمريكي.. يصل عند العرش فوق العرش، عندما تقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أين قلبك وصل؟ فوق سبع سماوات، وفوق الكرسي، وفوق العرش، فوق العرش لا إله إلا هو فلا تقول لي: إن العلم تقدم أو أمريكا…و… لكن أنت أين وصلت؟ أنت وصلت للرحمن الرحيم، لا إله إلا هو.

    فلهذا أخي الكريم! انتبه إلى خطورة هذه العقيدة العظيمة التي تحلق بك في السماوات السبع، وتوصلك إلى الجنة مرة، وإلى النار مرة، وإلى العرش مرة، وإلى الله سبحانه وتعالى مرة بأسمائه وصفاته العلا في قلبك: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27].

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) هذا الحديث الصحيح أخرجه البخاري ومسلم والترمذي .

    حديث عمار في إثبات الرؤية

    ومن الأدلة: دعاؤه صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلمه الصحابة: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) أخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما.

    وهذا الحديث صلىَّ به عمار بن ياسر ركعتين خفيفتين، يعني: قرأ الفاتحة، وقرأ الآية، وبعد ذلك ركع وبعدها سجد وبعد التشهد قبل أن يسلم دعا بهذا الدعاء وقام، فالصحابة قالوا: يا عمار ! أنت الذي شهد لك الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان وقال: (بلغ الإيمان إلى مشاشه) يعني: أطراف عظامه، وأطراف أصابعه، يعني: مملوء بالإيمان تصلي ركعتين خفيفتين فقط، قال: لقد دعوت فيهما دعاء علمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حسبي، يعني: حسبي هذا الدعاء فإذا استجابه الله فقد بلغت الخير كله، ثم قرأ هذا الدعاء.

    فأنت يا أخي المسلم إذا صليت ركعتين قبل أن تسلم ادع بهذا الدعاء العظيم المبارك الذي أعظم ما فيه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).

    أنا أقول للإباضية وللرافضة والمعتزلة وغيرهم ممن ينكرون رؤية الله سبحانه وتعالى، أقول لهم: كيف تؤولون هذا الحديث؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) وهو واضح بيِّن صريح: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك)، يعني: هناك نظر إلى وجهك له لذة، أسألك هذا النظر ولذة هذا النظر، ليس لهم حجة فالرسول صلى الله عليه وسلم أفصح ولد آدم، يعني: لو أنك أتيت بكل خبراء وفصحاء اللغة، وأصحاب المعلقات، والمستشرقين، ووضعتهم في كفة، وجئت من كلام محمد صلى الله عليه وسلم بأربع أو خمس كلمات، ثم جمعت كل هذا اللغو الذي يقوله أولئك الناس من نفايات العقول، وزبالات الألفاظ والأقوال، لوجدت أن أربع كلمات من كلمات محمد ترجح على لغو البشرية كلها، كيف لا ترجح وهو الذي يقول: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام) أنت عليك بالميزان، اسمع الكلمات الحلوة، هل موجود بينكم الآن -حتى الطفل الصغير- من لم يفهم هذا الكلام؟ لا شك فكل يفهمه، شيء سهل بسيط؛ لأن الذي قاله فصيح وهو يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك).

    اللهم حقق دعاءه واجعلنا ممن يتحقق فيه هذا الدعاء أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    حديث زيد بن ثابت في الرؤية

    عن زيد بن ثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه دعاء وأمره أن يتعاهده به، وأن يتعاهد به أهله كل يوم، وزيد بن ثابت من حفظة القرآن، والذي جمع القرآن كله من صدره هو، وطبقه على الحفاظ من الصحابة، ثم إنه زكاه أعظم خليفتين على وجه الأرض: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم المبشرون بالجنة.

    زيد بن ثابت الذي جمع القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيه هذه الهدية ويأمره أن يحفظها هو وأهله وأن يدعو بها حين يصبح: (لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك ومنك وإليك، اللهم وما قلت من قول أو نذرت من نذر، أو حلفت من حلف فمشيئتك بين يديك، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير، اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت، وما لعنة من لعنة فعلى من لعنت، أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، أعوذ بك من أن أظلم أو أظُلم أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ، أو أكسب خطيئة محيطة، أو ذنباً لا تغفره، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ذي الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهد وكفى بك شهيداً، إني أشهد أنك لا إله إلا أنت لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، وأن لقاءك حق، والجنة حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، أشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنبي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب عليَّ إنك أن التواب الرحيم) رواه أبو داود في سننه.

    يوم الجمعة في الجنة

    أحبتي في الله: هذا حديث -أيضاً- يشهد برؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة.

    وعن أنس بن مالك قال : سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (آتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء يحمل فيها كالنكتة السوداء -أي: هذه المرآة البيضاء فيها نقطة سوداء- فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟! قال: هذه الجمعة، قلت: وما الجمعة؟ قال: لكم فيها خيرٌ كثير، قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: يكون عيداً لك ولقومك من بعدك ويكون اليهود والنصارى تبعاً لك، قلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل عبدٌ الله فيها شيئاً هو له قسمٌ إلا أعطاه إياه، قلت: وما هي النكتة التي فيها -أي النقطة-؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد، قلت: وما ذاك يا جبريل؟! قال: إن ربك اتخذ في الجنة وادياً فيه كثبان من مسكٍ أبيض -وادي في الجنة فيه كثبان مثل الرمال، ولكن من مسك أبيض- فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، فيحف الكرسي بكراسي من نور، فيجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، ويحف الكراسي بمنابر من نور، ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء، حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم، حتى يجلسوا على تلك الكثبان، ثم يتجلى الله عز وجل، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك بمقدار منصرفكم من الجمعة، -أي: مدة صلاة الجمعة وخطبتها تقريبا-ً ثم يرتفع على كرسيه عز وجل، ويرتفع معه النبيون والصديقون، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، وهي لؤلؤة بيضاء وزبرجدة خضراء وياقوتة حمراء، وغرفها وأبوابها وأنهارها مضطردة، فيها أزواجها وخدمها وثمارها متدليات فيها فليسوا بشيءٍ بأحوج منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا منه نظراً إلى ربهم، ويزدادوا منه كرامة).

    هذا ذكر في كتاب حادي الأرواح لـابن القيم صفحة (252) يقول عنه ابن القيم رحمة الله عليه: هذا حديث كبير عظيم الشأن رواه أئمة السنة، وتلقوه بالقبول، وجمل به الشافعي مسنده ، فرواه عن إبراهيم بن محمد ، وذكر نحو هذا الحديث، ثم قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم، قال: حدثنا أبو عمران إبراهيم بن الجعد عن أنس شبيهاً به -أي: بهذا الحديث- وزاد فيه أشياء، ورواه محمد بن إسحاق عن أنس وذكر فيه زيادة: (ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل حتى ينظرون إلى وجهه الكريم) وقد رواه عدد من الأئمة، وقد جمع ابن أبي دؤاد جميع طرقه.

    أحبتي في الله: هذا الحديث يبين فضل يوم الجمعة؛ لأن يوم الجمعة فرضه الله على أمة النصارى فضيعوه، فأخذوا يوم الأحد، مع أن يوم الأحد الذي يعتبرونه يوم عيد وفيه إجازة، واسم يوم الجمعة في لغة النصارى: (friday) يوم العطلة أو الإجازة، ومع هذا لا يتخذونه عيداً، خالفوا الله وخالفوا الإنجيل، وأخذوا يوم الأحد فضيعوه، واليهود أخذوا يوم السبت، مع أن الله سبحانه وتعالى اختار لهم يوم الجمعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو يوم السبت الذي اختاروه وتركوا يوم الجمعة عاقبهم الله فيه؛ لأن الله حرم فيه العمل، كما حرمه يوم الجمعة وقت الصلاة: وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، وقال سبحانه: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] فتبين بأن يوم الجمعة عند الخطبة وعند الصلاة وقت لا يجوز فيه فتح المحلات، ولا يجوز العمل فيها، فلماذا نتشبه باليهود؟ لماذا نتشبه بالنصارى الذين خالفوا الله سبحانه وتعالى فتركوا يوم الجمعة، وأخذوا يوم السبت ويوم الأحد؟

    أحبتي في الله: هذا اليوم العظيم خلق فيه آدم وفيه أنزل إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وهو يوم من أيام الجنة، الذي يتحدث عنه الحديث، فهذا اليوم الذي هو من أيام الجنة المباركة تكون فيه رؤية الله، وفيه سوق الجنة، سوق الجمعة، وسوق الجمعة ليس كيومنا هنا كل من له بضاعة جاءوا يطردوه وبهذلوه، وكل واحد من له مجمع اشتكى من وحرم المساكين والفقراء من أجل لا يضعون بضائعهم أمامه، حسد! الله يكفينا الشر، يوم الجمعة هناك في الجنة لا يوجد حسد كله حب يجلسون على منابر من نور، وكراسي من نور، وعلى كثبان من مسك، وينظرون إلى وجهه سبحانه وتعالى ويعطيهم التحف، وفي أحاديث كثيرة غير هذا الحديث فيزيد جمالهم ويتولد وتتغير ألوانهم، ويعودون إلى زوجاتهم فتقول الزوجات: إنا نعجب منكم نراكم أجمل مما كنتم، فيقولون: ونحن كذلك نعجب منكن نراكن أجمل مما كنتن؛ لأن في هذا اليوم تهب ريح اسمها ريح الرحمة وهذه الريح تحرك ريح المسك، وهذه ريح المسك تهب على كثبان المسك فتطير على ملابسهم داخل أجسامهم وعلى وجوههم، فيصير جمالهم أحسن مما كانوا، ففي كل يوم جمعة يتجدد الجمال، ويتجدد البهاء، والزوجة كذلك تهب عليها ريح في الجنة تسمى ريح الشمال، وريح الشمال هذه التي تأتينا كلها غبار ودخان لكن ريح الشمال هناك تأتي فتحرك المسك فيدخل داخل قصر من زبرجد وقصر من لؤلؤة وقصر من ياقوتة خضراء وياقوتة حمراء ويمسح هذا المسك على وجوه النساء والحور فتجد كما يقول الناس:

    تأمل الناس فيها      محاسناً ليس تنفد

    الحسن في كل جـزءٍ     منها معاد مردد

    فبعضه بانتهاء     وبعضه يتولد

    وكل ما عدت فيه     يكون في العود أحمد

    كلما نظرت إليها وجدتها أجمل وأجمل مما كانت، هذا كله ببركة يوم الجمعة يا إخوان! فلهذا من حرص على يوم الجمعة في الدنيا جزاه الله يوم الجمعة في الآخرة، ومن ضيع يوم الجمعة في الدنيا ضيع الله عليه يوم الجمعة في الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    اللهم اجعلنا من أهل هذا اليوم المبارك من المقبولين فيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    أحبتي في الله: وقد شارف الوقت على الانتهاء والأحاديث كثيرة وهذا موضوع عظيم، ولكن أقرأ عليكم بعض ما ذكره العلماء في صفة هذا اليوم العظيم.

    يقول: فلما أكلوا وشربوا شخصت أبصارهم وتعلقت قلوبهم، ثم رفع ربنا الحجاب عن وجهه، فبينما هم في ذلك إذ رفع لهم الحجاب، فبدا لهم ربهم بكماله، فلما نظروا إليه وإلى ما يحسنوا أن يتوهموه ولا يحسنوا ذلك أبداً؛ لأنه سبحانه الأول الذي لا يشبهه شيء من خلقه، فلما نظروا إليه نادهم حبيبهم ربهم بالترحيب فيهم، وقال لهم: مرحباً بعبادي، فلما سمعوا كلام الله بجلاله، وحسنه، وأنتم في الدنيا تسمعون القرآن من أفواه القراء، فيطير قلبكم شوقاً وجمالاً، وخشوعاً وخضوعاً، فلا تملك القلوب إلا أن تنتفض، والعيون إلا أن تدمع، فكيف إذا سمعتم كلام الله من الله؟!

    أحبتي في الله: هذا أمر عظيم.

    اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار وجحيمها، لنا ولوالدينا ووالديكم وأمواتنا وأموات المسلمين، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، ونسألك رفقة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونسألك يوم المزيد، ونسألك اللهم أن تعقد لنا وليمة الجنة؛ فإن الله يعقد للمؤمنين وليمة في الجنة، يطعمهم من زيادة كبد الحوت، يطعم فيها كل أهل جنته سبحانه وتعالى، وذلك من جوده وكرمه وفضله.

    اللهم أنت رب الخير، وأنت رب الجود، فامنن فإن الخير عندك أجمع.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767181749