عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] وأوصيكم أن تجددوا إيمانكم، فإن الإيمان يخلَق كما يخلَق الثوب القديم، وتجديده بترديد لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين وأفغانستان وفي كل أرض يذكر فيها اسم الله، اللهم أكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين، واجبر كسر المكسورين.
اللهم إنا نسألك لأمة محمد خليفةً ربانياً، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ونعوذ بك اللهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسألك كما صنت جباهنا عن السجود لغيرك أن تحفظ أيدينا من أن تمتد لأحد سواك، اللهم أغننا برحمة من رحماتك المغنيات الغافرات المنجيات عن رحمة من سواك.
أحبتي في الله: ما أحوج المسلم يوم القيامة إلى الرفيق والصديق! في يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته أي: زوجته، وبنيه، ورفقاء المؤمنين في يوم القيامة خير الرفقاء، فما تقول برفقة آدم أبي البشر وكلنا يشتاق إلى صورته وإلى رؤيته؟!
كيف لا وهو أبونا أجمعين، وخلقه الله ستون ذراعاً في الفضاء عملاقاً، جمع في صلبه كل ذريته إلى يوم الدين؟! وكيف لا نشتاق إلى نوح النبي الرسول الصابر المحتسب الذي دعا من أجل ربه وتحمل أذى الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاما؟!
كيف لا نشتاق إلى إدريس؟! كيف لا نشتاق إلى موسى وعيسى والنبيين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم؟!
كيف لا والإنسان في أقصى الأرض ليس من لونه ولا لغته ولا أرضه إذا أسلم وسمع اسمه صلى عليه وسلم ارتجف قلبه، وفاضت عينه شوقاً إليه ولو برؤيا يراها في المنام، ثم يفقد بعدها أهله وماله وولده.
وهذه البشرى يعلن عنها القرآن يقول الله فيه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] كيف شعورك لو قبض محمد بيدك وأدخلك معه الجنة؛ لأنك كافل يتيم؟!
كيف شعورك لو دعاك الأنبياء إلى قصورهم وحدائقهم ودورهم وأنهارهم وأشجارهم، وجلست تأكل معهم وتشرب في نعيم الله ورضوانه؟!
يا تعاسة من فرط برفقة الصالحين! وأضاع محبة المؤمنين، وصار من المهرجين المطبلين المزمرين الذين يجرون خلف كل ناعق وزاعق! ويوم القيامة يصيح: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:100-102].
ومع هذه الرفقة المباركة هناك المليك، وأي مليك؟! مليك مقتدر، كل السلاطين والملوك غير مقتدرين، فهذا تبعٌ لـأمريكا، وهذا تبعٌ لـروسيا، وهذا تبعٌ للصين، تظن أن عند أحدهم اقتداراً، ولكنه لا يستطيع أبداً أن ينفذ قراراً حتى يستشير الأسياد، وتجده يوماً من الأيام يقول: لا أستطيع، أما الله فلا يقول: لا أستطيع، سلاطين الدنيا تمر عليهم لحظات يقولون: أيتها الشعوب! لا نقدر، البيت الأبيض يضغط، البيت الأحمر يهدد: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].
هذا المقعد المبارك مع هذه الرفقة الطيبة، وما يدريك لعلها لحظات، فلان نسمع به في الصباح معافى يخبط الأرض برجليه، وفي المساء يشيع: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] مقتدرٌ أن يريك وجهه الكريم، مقتدرٌ أن يعطيك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا تطالب غير المقتدر فتمد يدك إلى العبد الذليل، ولكن مد يدك إلى الله.
الله أنجح ما طلبت به والبر خير حقيبة الرحل |
فاطلب الله وحده، وقل: اللهم اجعل الدنيا بيدي ولا تجعلها في قلبي، وارزقني منها ما تكفيني فتنتها، واجعل حظي الأكبر والأوفر يوم لقائك.
عبد الله: دع الدنيا لعبيد الدنيا، لا تحسدن مؤمناً ولا كافراً على نعمة، كيف تحسد مؤمناً على نعمة والجنة أعظم منها؟ وكيف تحسد كافراً على نعمة وراءها النار؟!
وإن كان هناك حسد ففي اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله المال فسلطه على هلكته في سبيل الله، والمليك المقتدر يسلم، والزعماء والملوك والسلاطين لا يسلمون على الرعية، ينتظرون الرعية حتى يقومون لهم، ويقبلون أكتافهم وأيديهم وأقدامهم، وعارٌ عليه أن يقول للفقراء السلام، أما السلام فمنه السلام وهو السلام.
هناك الفرح الأبدي، الدنيا فرحها لا يدوم.
ولا تفرح ولا تحزن لشيء فإن الشيء ليس له بقاء |
وكن رجلاً على الأهوال جَلْداً وشيمتك السماحة والسخاء |
يغطي بالسماحة كل عيب وكم عيب يغطيه السخاء |
إذا ما كنت ذا قلب قنوعٍ فأنت ومالك الدنيا سواء |
الفرح الأبدي الذي لا حزن فيه هناك في الآخرة، في جنات عدن، يقول الله عنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35] لا نصب ولا تعب.
هذا النصب والتعب كله من أجل الله، ولقد كافأ الله خديجة رضي الله عنها بأن أنزل الله على نبيه جبريل يقول: (يا رسول الله! إن الله يقرئ
يقول الله تعالى عن مجلس الشراب في الجنة: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:49-52].
هل هناك أجمل من هذا المجلس؟ قاصرات الطرف، الحور، بنات الجنة معهم في مجلس الشراب، الأبواب مفتحة لا يُمنع أحد ولا يُصَدّ أحد، مجالس كلها أنس وبهجة وسرور، يرفلون في ظل ظليل وفي نعمة رب العالمين، حياة دائمة، نعيم مقيم، أمن لا يتزعزع، ومهما شرب الشاربون في الدنيا فهو التنغيص والمرض والسرطان الذي يطاردهم، وهَمُّ المعصية الذي يقلقهم ويكدر صفو عيشهم.
وما دعتني دواعي النفس معصيةً إلا وجدت لها في النفس ظلماء |
انظر إلى وجوههم تجد ظلمة الذنب تخيم عليه، فسبحان الذي طيب أهل الجنة! سبحان الذي جعل طعام أهل الدنيا ما نعلم وما لا نعلم.
ونحن في زمن زعزع فيه الأمن والأمان.
في الجنة ينـزع الله الغل من الصدور المؤمنة، في كل قلب مسلم غل أخفاه الله وطواه، لا ينزع إلا عند أبواب الجنان، قد يضغط عليه المسلم بمعاني الإيمان والأخوة فيقول: إني أحبك في الله، ولكن يخفي في صدره ما يعلمه مولاه؛ لأنه بشر، لهذا نجد بعض العلماء يتحاسدون وبعض الدعاة يتفرقون، وبعض الناس يغتاب بعضاً، كل ذلك من الغل الموجود في الصدور.
يقول الشاعر:
أمامك يا نومان دار سعـادة يدوم البقا فيها ودار شقاء |
وفي الناس شرٌ لو بدا ما تعاشروا ولكن كساه الله ثوب غطاء |
وهذا موجود، فمثلاً لو أنك دعوت رجلاً على أحسن وأفخر وليمة، والزوجة مسكينة تاعبة في المشويات والمقليات، ومن ثم عندما ينتهي من الوليمة يأتيه صاحبه يقول له: كيف وليمة فلان؟ يقول: والله جيدة لولا أن السلطة ليس فيها ملح، الله أكبر! وكل هذا الخير الذي أكلته سففته؟! وهكذا الإنسان إلا من رحم الله، حتى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تقاتلوا وكلٌّ يرى أنه على الحق، ويلتفت علي بن أبي طالب إلى طلحة بن عبيد الله وهو مجندل في ميدان القتال، فيقول: [عسى أن أكون أنا وهذا ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]].
فمن عفا هنا عُفي عنه هناك، ومن سامح هنا سومح هناك، ومن أعطى هنا أُعطِيَ هناك، ومن أطال الوقوف بين يدي مولاه خفف الله عليه الوقوف عنده، وفي الأثر: [لو تكاشفتم ما تدافنتم] أي: لو تكاشف الناس ما تدافنوا، ولألقيت الجثث من الحقد والغل في الطرقات، ولكن الله ستر ولطف بنا أن الخطايا لا تفوح.
اللهم إنا نسألك الرزق المعلوم، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاك، واقطع رجاءنا عمن سواك؛ حتى لا نرجو أحداً غيرك يا أرحم الرحمين! آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
أما بعد:
أحبتي في الله: الإنسان يملك الأموال، ويأتيه المسكين يقرع الباب، يُذكره الفقير بفقره إلى الله، وتقول له: يا مسكين! إذا البنك الفلاني خسر أما تحول أرصدتك وأموالك إلى بنك آخر أو إلى مؤسسة أخرى تربح من ورائها؟
إذا رأيت المؤسسة هبطت أسهمها ألا تشتري أو تشارك في مؤسسة أسهمها رابحة؟!
والإنسان في الدنيا يموت وأمواله لا تأكلها النيران من كثرتها فلا يحولها إلى هناك، لا يحولها إلى خزينة الرحمن لكي يلقاها، وابن المبارك يقول: الدينار ديناران: دينارٌ تحرسه ودينارٌ يحرسك، أما الذي في يدك أنت تحرسه، والذي في يد ربك هو يحرسك عند الله يوم القيامة.
استمع ماذا يقول الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] يستهزئون بالله ويستهزئون بالمسلمين، يقولون: لماذا أصبح هذا فقيراً، لو أن الله يريد له الخير لأطعمه، أنحن خرجنا من بطون أمهاتنا أغنياء؟ وهذه والله هي التي محقت أموال سوق المناخ والبورصة، وهذه التي أدخلت الناس السجن حتى الآن، أسر تهدم وتشرد، ورجال يمنعوا من الأسفار، ورجال يعلن إفلاسهم في الذل والعار، بسبب هذه الكلمة.
وهذه لا يشترط أن يقولها قائلها، فقد يكون لسان الحال أفصح من لسان المقال، ونحن لا ننسى البخور الذي كان يبخر به السوق في ليلة واحدة بثمانين ألف دينار، وكانت تعقد موائد الطعام بعد منتصف الليل يداس الرز والخبز بالأقدام، ولا ننسى الحفلات الصاخبة التي تصنع فيها تماثيل الكعك على أشكال النساء ويشربون منها الخمور من مكان عفتها، وتوضع دنانير الذهب في قوالب الثلج ويسكب فوقها الخمر لكي يشربوها.
الله رحمنا وتفضل علينا إذ أبقانا إلى هذه الساعة موحدين، وإنما أعظم انتقام لله أن يسحب المولى الدين والإيمان والتوحيد ويضرب قلوب الناس بعضهم ببعض: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] كل يوم يأتيني وافد مسكين مسجون أو مهدد بالحجز والطرد من الغارمين، الذي عنده مطحنة، والذي عنده بقالة، والذي عنده دكان، كلهم تورطوا، سحب المرابون أموالهم وهربوا بها في الخارج يفتحون بها الملاهي والبارات، وأُلقي هؤلاء في السجون والمعتقلات، ولا يوجد في الشرع الإسلامي أن يسجن الغارم، لماذا شرع الله الزكاة؟ الزكاة حق الفقير، يؤخذ من الغني ويرد على الفقير.
بيت الزكاة لا يجدي، من يزكي في بيت الزكاة إلا من رحم الله، ودائماً بيت الزكاة يعلن عجزه وفقره وهو بيت الزكاة، فبيت الزكاة فقير، الزكاة فريضة كفريضة الصلاة، وأبو بكر يقول: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو على عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله] أخرجوا المساكين من السجون، أخرجوا هؤلاء المساكين الوافدين الذين تورطوا، أخرجوهم وزكوا.
وفي عام (1970م) أحصينا زكاة واحد في الكويت فبلغ حق الفقير في أمواله سبعة وسبعين مليون دينار، الآن كم بلغ حق الفقير في أمواله؟! ويسجنونهم ويعتقلونهم ويحجرون عليهم، ويشردونهم، وإذا كان ذا وساطة ووجاهة فهو لا يتعرض له.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] أصبح المؤمنون في نظر هؤلاء في ضلال مبين، لأنهم قالوا لهم: أنفقوا وأعطوا المساكين: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يس:48] متى القيامة؟ ويأتي الجواب حاسماً بثلاث صيحات: صيحة موت، وصيحة بعث، وصيحة نار، وهم قائمون أمام الله رب العالمين للحساب السريع، ويكون الجواب أسرع من سؤالهم: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49] الصيحة تأخذهم وهم يتخاصمون ببيع وشراء، يتجادلون ويتناقشون، وإذا الكل خامدون حتى لا يستطيع أن يكتب الوصية.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:50-54] يا لها من حسرة! ويا لها من ندامة!
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:55-58].
من يجيبه بعد هذا النداء والحسرة؟
الله يجيبه: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59] يا له من جواب يرتجف له القلب، وتنفصم له الروح، وتنخلع له النفس!
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [إبراهيم:21] ضعيف، يركب خلفه، يفتح له باب السيارة ويسلم عليه، ويحب أنفه ورأسه ويلحقه إلى الباب، أنت الكبير، أنت الكل، أنت الأب، أين هو يوم القيامة؟ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم:21] اسمع الطلب، حتى يوم القيامة الذليل الحقير الذي كان تابعاً في الدنيا وهو يوم القيامة عند الله وعند الجنة وعند النار، وعندما يطالب المتكبر بأن يشاركه في العذاب، يطالبه وهو ذليل، انظر طول السؤال: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم:21] انظر آخر كلمة من شيء، قل: شاركنا في العذاب، لا يستطيع، ذليل في الدنيا، وذليل في الآخرة، أمام ملك الملوك يخاف من ملك الدنيا: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم:21] مسكين حقير، هكذا يجعله الله كما كان في الدنيا، اسمع جواب المتكبرين: قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ [إبراهيم:21] يلقون القضية على القضاء والقدر، الله جعلنا ضالين: قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].
ولأول مرة يعترف الشيطان بالحق، لأول مرة يكون الشيطان صادقاً، فهو كذاب دجال منافق طاغوت، وهناك يوم لا ينفع صدقه يكون صادقاً، يوم أن يقضى الأمر: أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة يكون الشيطان صادقاً، اسمع: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] الآن الشيطان يظهر ضعفه: ما لي عليكم من سلطان أبداً، لم أضع المسدس على رأسك وقلت لك: اسكر أو ازن: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. ويقول: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] سؤال من ثلاث كلمات، اسمع الجواب، جواب طويل لأنه لا يوجد أحد يكلمهم، كبت وإرهاق وتعب، يريدون من يسأل من أجل أن ينفسوا على أنفسهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42-47] من يعترض الآن؟
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48].
اللهم إنا نسألك شفاعة محمد في دخول الجنة، اللهم لا تحرمنا شفاعة الشافعين، ولا تحرم المشفوعين شفاعتنا يا رب العالمين!
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقياك.
اللهم إنا نسألك ألا تخزينا يوم يبعثون، اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها ونعوذ بك من النار وجحيمها.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهتدي من تشاء إلى صراط مستقيم، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى؛ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر