ثم اطلعت على قلوب عبادك فوجدت قلوب أصحابه خير القلوب، فهديتهم واجتبيتهم: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78].
اللهم لك الحمد خلقتنا من عدم، وأسبغت علينا وافر النعم، صورتنا في الأرحام، وأنشأتنا في ظلمات ثلاث، وكتبت في الأرحام أرزاقنا وأعمارنا وسعادتنا وشقوتنا، فأنت ربنا لا إله إلا أنت، لا إله غيرك ولا معبود سواك، فإن نظرت إلى ذنوبنا وخطايانا فهي كثيرة، وإن حاسبتنا بحقك فنحن مقصرون، وليس لنا بعد الذنب الكبير إلا الرب الكبير.
يا واسع الرحمة، وكبير المغفرة، اغفر لنا أجمعين، واجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوما، ولا تجعل من بيننا شقياً ولا محروما، نسألك بنورك الذي ملأت به عرشك يا غفور يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد، لا إله إلا أنت، اجعل موتنا شهادة، ودماءنا مسكاً، وخير أعمالنا الخاتمة، وخير أيامنا يوم لقياك، واجعل قلتنا كثرة، وذلتنا عزاً، وضعفنا قوة، وفقرنا غنى، ومرضنا شفاء، وضلالتنا هداية، وجهالتنا علماً ودراية، أنت ربنا ثبتنا يوم الفتنة، وأطعمنا يوم الجوع، واسقنا يوم الظمأ، واسترنا يوم العورة، وثبتنا يوم الفزع، وأمِّنا يوم الجزع، لا إله إلا أنت، نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك.
أما بعد: عباد الله.. إني أحبكم في الله.
ودرس اليوم في العقيدة، ويجب أن نعتقد عقيدة أهل السنة والجماعة: بأن محمداً خاتم النبيين وسيد المرسلين، ولا معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الدرس سنفصل القول حول ذلك إن شاء الله.
والسبب الذي دعاني لهذا الدرس: أن هناك فئة من الناس يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم تختم بموته العصمة؛ وأن بعده اثني عشر إماماً لهم العصمة مثله، يشرعون زيادة على شرعه، وهؤلاء قال عنهم علماؤهم -عن هؤلاء الأئمة-: إنهم خلقوا من مادة نورانية ليست كمادة البشر تخضع لها جميع ذرات الكون. وهذا كفر وضلال، إنما كل مولود من بني آدم خلق من ماء مهين، كما خلق آدم من طين بأمر رب العالمين.
ولا يوجد بشر -لا نبي ولا رسول- مخلوق من غير ذلك، فالذي يقول: إن الأئمة خلقوا من نور تخضع له ذرات الكون، فذرات الكون تخضع لنور الله لا لنور أحد، ذرات السماوات وذرات الأرض وذرات كل المخلوقات تخضع لله الذي من أسمائه الحسنى "النور" سبحانه، فتبطل تلك الدعوى التي يروج لها اليوم.
يقول الإمام الطحاوي رحمة الله عليه: وأنه خاتم الأنبياء - أي محمد صلوات الله وسلامه عليه - ودليله في ذلك قوله تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ومن أعاجيب ما قرأت -وكلكم ستعجبون!- عن مسيلمة، وكلنا سمع عن مسيلمة ، هل هناك مخلوق على وجه الأرض -يحب الإسلام أو يعادي الإسلام- عندما يذكر مسيلمة لا يذكر معه الكذاب؟ حتى الكفار من اليهود والنصارى، والمستشرقين الذين يكتبون ضد الإسلام، إذا قالوا: مسيلمة ، قالوا: مسيلمة الكذاب، أليس هذا صحيحاً؟
كلكم سمعتم مسيلمة الكذاب، وسبب تسميته بالكذاب؛ أنه كذب على الله، فقال: أنا نبي مع محمد، نصف الأرض له، ونصف الأرض لي، وكما نزل عليه وحي فقد نزل عليَّ وحي، فسماه السلف الصالح بالكذاب، أما هو فقد تسمى باسم يحرم أن يتسمى به المخلوقون وهو اسم (الرحمن) فقال: أنا رحمان اليمامة . فكذب كذبتين:
الكذبة الأولى: ادعاء النبوة.
والكذبة الثانية: أنه رحمان .
فلصق به هذا الاسم إلى يوم القيامة، فلا يذكرون اسم مسيلمة إلا وتذكر صفته: مسيلمة الكذاب ، إلا فرقة واحدة، هذه الفرقة التي تزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم المرسلين والأنبياء والمعصومين، منهم من يعتقد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين لكن كلهم يعتقدون أنه ليس خاتم المعصومين، فبعده اثنا عشر إماماً، أحد عشر إماماً ظهروا أمام الناس بتشريعات لم يأت بها محمد صلى الله عليه وسلم، والإمام الثاني عشر لا يزال مختفياً منذ ألف عام وهو الملقب "بالقائم" وينتظرون خروجه؛ لكي يخرج القرآن الصحيح الذي أخذه معه في ساعة اختفائه.
هذه الجماعة الوحيدة التي تعتقد أن مسيلمة ليس كذاباً بل هو مجاهد مؤمن صادق، وأن أبا بكر الصديق هو الكذاب، فقلنا لهم: لماذا؟ قالوا: لأن أبا بكر الصديق اغتصب الإمامة والخلافة من علي بن أبي طالب، فلما علم بذلك مسيلمة، ثار للحق وانتصر للحق؛ لأنه يعلم أنه لا خليفة بعد الرسول إلا علي، فحارب مسيلمة بأربعين ألفاً من قبيلته أبا بكر والصحابة الكافرين حتى يسترد الخلافة المغتصبة من أبي بكر إلى علي، فهم يعتبرون مسيلمة مجاهداً وبطلاً يترحمون عليه.
وقد ذكر الإمام ابن تيمية في كتابه منهاج الاعتدال الذي لخصه الإمام الذهبي في كتابه العظيم: المنتقى، ذكر النص الذي يترحم به أولئك الناس على مسيلمة الكذاب!! ويعتبرونه صادقاً مجاهداً قاتل من أجل الحق، ونصرته، ضد أبي بكر وعمر والصحابة أجمعين لأنهم اغتصبوا الخلافة والإمامة من علي بن أبي طالب .
هل يخطر ببال أحدكم يوماً من الأيام أن إنساناً يجرؤ على أن يقول مثل هذا؟
قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية) هذا الرجل الذي بنى البيت جمله وحسنه؛ لكن في إحدى زواياه وجدت حفرة مسودة مظلمة مكان لبنة، ومن البديهي أن أي إنسان يمر ويرى هذا الجمال في هذا البناء، ويرى في زاويته حفرة سوداء، إلا يسأل ويقول: ما هذه الحفرة التي تشوه الجدار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال صلى الله عليه وسلم: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) رواه البخاري.
هذه هي النتيجة التي أراد أن يتوصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأنا خاتم النبيين) ضرب المثل بالبناء الناقص من تلك اللبنة، فكانت اللبنة هي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن البلاغة والفصاحة والإعجاز ليس في هذا فقط وإنما هو في عدة أمور:
أولاً: شبَّه الرسالات كلها من آدم ثم نوح إلى محمد كبناء واحد متماسك، (فالمونة) التي تمسك اللبنة بجانب اللبنة (والطابوقة بجانب الطابوقة) بهذا البناء، أتعرفون (المونة والحشو) الذي يجعل اللبنة تمسك باللبنة ويتماسك البناء حتى يصير صرحاً ما هي؟ لا إله إلا الله، كل الأنبياء جاءوا بها، قال تعالى : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
ثم انظر كيف جعل الرسالات بناء ولم يجعلها هدماً، جعلها بناء كالمبنى البارز والشيء الواضح لكل إنسان يراه، والطفل الصغير لو سألته: ما هذا؟ لقال: هذا بناء! هذا بيت! والمرأة والكبير والصغير والأعرابي، وذلك لوضوح الرسالات؛ فإنها لا تخفى كما لا يخفى البناء، انظر إلى الفصاحة والبلاغة!
ثم إن هذا البناء اتخذ للسكن والطمأنينة، كذلك الرسالات لا يسكن القلب ولا يطمئن إلا إذا اتبع الأنبياء وآمن بالله رب العالمين، والرسالات والنبوات يأوي إليها كل شارد وحائر وخائف، وكل جائع ومرعوب، كما يأوي الإنسان إلى السكن، فيجد فيه الطعام والشراب والمنام، والظل والدفء، يا له من تصوير عجيب اختاره صلى الله عليه وسلم وهو يمثل لرسالته ونبوته، عليه الصلاة والسلام!
ثم أخذ يتكلم عن أسماء الله سبحانه وتعالى وكل ثمين وغالٍ عند العرب تتعدد أسماؤه، العرب لما أحبوا الحصان الأصيل وضعوا له عشرات الأسماء، ولما أحبوا الناقة المفيدة النافعة وضعوا لها عشرات الأسماء، لما خافوا من الأسد وضعوا له عشرات الأسماء، ولأن الله أعظم من كل عظيم فله تسعة وتسعون اسماً كلها حسنى، أنزلها على البشر، واختص لنفسه أسماءً أخرى حسنى لا يعلمها البشر وأمرهم أن يدعوا ربهم بما علموا من هذه الأسماء وبما لم يعلموا، لكي ينزل عليهم الخير والرضوان.
فقال صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور الذي علمه أبا أمامة المهموم المديون: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي).
فكان عليه الصلاة والسلام يخبر أمته عن بعض صفاته هو حتى لا يختلط على الناس، لا يستوي النبي والرسول وعامة الناس، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري : (لي خمسة أسماء: أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) العاقب هو الذي ليس بعده نبي ولا رسول ولا معصوم إذاً: أصبحت هذه الآيات وهذه الأحاديث تبين بكل وضوح أنه لا نبي ولا رسول ولا معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء، وهو سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) رواه مسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة) يصعقون: يموتون بنفخة إسرافيل، الملك الذي التقم البوق، والبوق آلة النفخ، والصوت المنبثق من ذلك البوق يقطع نياط القلوب في أجوافها، ويخر السامعون لصوته ميتين، أشد من جميع القنابل الذرية والنيترونية والإلكترونية والنووية، وكلها لو انفجرت في وقت واحد بالنسبة لنفخة البوق كأنها همس..!
وهذه القنابل الذرية لو انفجرت تكتسح سطح الأرض، العمارات التي على سطح الأرض، والنباتات التي على سطح الأرض تحترق، لكن نفخة إسرافيل الأولى ونفخة الصعق تفجر السماوات السبع والأرضين السبع، قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1] لماذا تنشق؟ بالنفخة.
نفخة الانتباه واليقظة، وأشد منها نفخة الصعق، وأشد منهما نفخة البعث، فإن كانت نفخة الصعق أماتت الأحياء؛ فإن نفخة البعث بإذن الله أحيت الأموات، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فأكون أول من يفيق) أي: أول من يبعث بعد نفخة البعث محمد صلى الله عليه وسلم، يبعث من قبره في المدينة المنورة، وقبره صلى الله عليه وسلم ليس في المسجد ولا تظنوا أنه في المسجد؛ فإنه لا يجوز وضع قبور الأنبياء في المساجد، وقد نهى صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تجعلوا قبري مسجدا) هو في بيته، وقد كان البيت ملتصقاً بجدار المسجد، لكن بعد أن ضاق المسجد على المصلين وكثرت أمة محمد -ما شاء الله وتبارك الله!- في عهد الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، وسَّع المسجد من يمين ومن شمال، فأدخل البيت داخل المسجد، ولا يجوز أن نقول: إن قبر محمد صلى الله عليه وسلم في مسجده، وانتبهوا يا أمة محمد! فلا يجوز دفن الأنبياء في المساجد، فكل مسجد على وجه الأرض فيه ضريح أو فيه قبر لابد أن يحجز بين القبر وبين المسجد بجدار، وإلا فصلاة المصلين ودعاء الداعين تجاه ذلك القبر يأثمون عليها أجمعين.
يبعث صلى الله عليه وسلم من قبره في بيته عند نفخة البعث ولا شك أن الذي يبعث معه أو بعده بقليل صاحبيه: أبو بكر وعمر رضوان الله عنهما، لقربهما من قلبه وقبره، وقربهما من ربه، نشهد الله على حبهما إلى أن نلقى الله على ذلك، وحب جميع أصحابه.
يقول: (فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذاً بقوائم العرش) أي: عندما يبعث محمد يجد موسى عليه السلام على ساق العرش قد تمسك وتشبث بيديه الاثنتين، وهذا دليل على الذل والخضوع، والاستسلام والعبودية، والرجاء والتوبة والمحبة، والمسكة هذه لها عدة معان من معاني العبودية العظيمة.
انظر إلى الإنسان أمام السلطان إذا كان هذا الإنسان ضعيفاً والسلطان قوياً، تجد السلطان واقفاً وهذا راكعاً تحت رجله، ماسكاً برجله أو بردائه.. يا مولاي أنا مسكين أنا فقير أنا...، وهذا يرفسه وهذا يتمسك به أكثر، وكلما تذلل هذا كلما تكبر ذاك..
وهذا مقام من مقامات العبودية لا يُجعل للبشر إنما يجعل لرب البشر، لهذا موسى لم يتمسك بعرش فرعون، وإنما تمسك بعرش رب السماوات العلى!! وعلينا نحن أن نسبح باسم رب العرش العظيم، عندما يتولى كل متولٍ، وينهزم كل مهزوم، ويخون كل خائن، حادينا قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] هذا شعاري وشعارك وشعار موسى الذي سيراه محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن يبعث، آخذاً بقوائم العرش.
وكم من قلوب العباد اليوم تدور حول عرش ربها تسبح وهي في الدنيا! لا تدور دوراناً حقيقياً فتخرج من صدر الإنسان وتطير حتى تخترق السماوات السبع وتطوف حول العرش، لكنها تدور دوراناً معنوياً، فالذي يقول: (سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) فإن التسابيح هذه تدور حول العرش ويسمعها حملة العرش، فتقول: صوت معروف، صوت معروف. أما ذلك الساهي اللاهي، فقلبه يدور حول عرش إبليس في الملاهي والخمارات، والعياذ بالله، ونسأل الله العافية.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله) لأن الله قال عن العباد بعد نفخة الصعقة: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] إلا من شاء ربك، وإلا من شاء الله، فهذا الاستثناء يقول: (لعل موسى ممن استثناهم الله) وهذا الحديث أخرجاه في الصحيحين.
إذاً كيف نجمع بين قوله: (أنا سيد ولد آدم) وبين هذا الحديث الذي يقول: (لا تفضلوني على موسى)؟
الجواب: إن هذا كان له سبب وذلك لأن يهودياً قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمع أحد المسلمين اليهودي فلطمه، لأنه يفضل موسى على كل البشر ويقول: لا والذي اصطفى موسى على البشر؛ فاغتاظ هذا المسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم فلطم اليهودي على وجهه، وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من ذلك المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله).
قال: لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية فهو تفضيل هوى، ولا يجوز شرعاً، بل الجهاد نفسه إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان الجهاد مذموماً ورياءً؛ فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر أو على وجه الانتقاص للمفضول.
ومع هذا يقول: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ثم يقول في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ويقول: (من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب).
أيها الأحباب: هذه الأحاديث تنهى أن نفاضل بين الأنبياء إما بسبب تحقيرهم وانتقاصهم، أو بسبب التفاخر عن هوى، هذا منهي عنه، وإلا فمحمد صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم ولا فخر، وإمام المرسلين، وشفيع رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقد ذكر الله يونس بن متى فقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] ومعنى: نقدر عليه: ليس من المقدرة، فلا يوجد نبي على وجه الأرض يظن أن الله سبحانه وتعالى لا يقدر عليه، ولا يتمكن منه، ومعنى: لا يقدر عليه: أي لا يضيق عليه، أي ظن أنه إذا خرج من بلده أن الله سيوسع له وسيعطيه أمة ثانية، ويعطيه الأجر على هذه الهجرة، وسيعذره ربه، وما ظن أن ربه يضيق عليه، لكن ربه ضيق عليه من الأرض الوسيعة إلى البحر، والبحر ضيق بالنسبة للأرض فالذي يركبه يبقى خائفاً، ثم ضيق عليه داخل البحر بالريح فأصبحت الأمواج ترفعه مع السفينة إلى أعلى وتنزله إلى أسفل، ثم ضيق عليه بعد الأرض وبعد البحر وبعد الريح وبعد الأمواج في بطن الحوت! إذاً .. لا فرج إلا من الله: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] والتسبيح والاعتراف بالظلم من أعظم طرق النجاة، وهي الكلمات التي ألهمها الله آدم وحواء، فقبل توبتهما واجتباهما وهداهما بعد الخطيئة: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] فتاب الله عليه وتقبله، ووعده ليس هو وزوجته فقط بالجنة، بل وعده هو وذريته الصالحة المؤمنة بالجنة.
أحبتي في الله: محمد صلى الله عليه وسلم علمنا هذا الصنف من الدعاء فيقول: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا حديث صحيح، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي على أحد).
فالله سبحانه وتعالى نهى المؤمنين أن يفخر بعضهم على بعض، فكيف على نبي كريم مثل يونس ومثل موسى عليهما السلام؟!
وحديث تأدب النبي مع إخوانه الأنبياء يعتبر موضوعاً متكاملاً، وليس موضوعه الآن، لكن لو تتبعتم السيرة وتتبعتم الآيات لوجدتم كمال الأخلاق في أدب محمد صلى الله عليه وسلم مع إخوانه الأنبياء.
ومنها أنه كان يوماً من الأيام يصلي، فجاءه شيطان بيده شعلة نار، وهو مغتاظ من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن صلاته أكمل صلاة، فهجم عليه في الصلاة يريد أن يحرق وجهه، وكما أن الإنس يعادونه فالجن يعادونه، وهكذا في كل من كان من أتباعه، فعلى قدر علو منزلته في التقوى والإيمان يكثر ما يأتيه من العدوان.
هل تظن أنك إذا أسلمت وتدينت والتزمت، وصارت عقيدتك عقيدة طيبة، بأن الناس يقولون لك:
"سلام سلام
على بئر زمزم نصبنا الخيام"
لا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنعام:123] ويقول تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] الله أكبر!، الهادي هو الله، لا يضرك المجرمون أبداً، لا يضعونك في الزنزانة، ويضعونك في السجن، ويقطعون راتبك، ويطردونك من وظيفتك، ويصنعون بك ما صنعوا.. فالإيمان في قلبك.
وابن تيمية لما تسلط عليه المجرمون من السلاطين قال: إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن جنتي معي، إن جنتي في قلبي، وأنَّى لهم أن يصلوا إلى قلبي؟؟ الله أكبر!!
إذاً: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] كل الجبابرة والطغاة الذين عذبوا المسلمين واضطهدوهم وسجنوهم، في النهاية كان المسلمون يخرجون من السجن، والجبابرة ماتوا وذهبوا: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58].
يقول: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت
وحبيب رب العالمين، يقول الله في القرآن العظيم: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] وإمام التوابين محمد، وإمام المتطهرين محمد صلى الله عليه وسلم.
كل دعوى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم غي وهوى، الآن وجد في أمريكا رجل يدعي النبوة وهو شخص أسود، وكان من قبله غيره وقد هلك اسمه أليجا محمد ، وولده - إن شاء الله - رجل طيب درس في السعودية وتعلم التوحيد وتمسك بالجماعة، لكن أباه ادعى النبوة، وهناك الآن -الله أعلم- إما في أفريقيا أو في بلدان شرق آسيا هناك شخص الآن يدعي النبوة!
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي من بعده ثلاثون كذاباً يدعون النبوة، وقد ظهر في عهده اثنان: مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي وكلاهما هلكا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهذه من بركات أبي بكر، دمر الله به الكذابين لأنه صديق، ويأتي ذلك في ميزانه يوم القيامة إذا جاء الناس بالأعمال.
وكان في يد النبي جريدة سعف نخل خضراء قال: (لو سألني
هو بنفسه فسر الحلم فتحققت نبوءته فهلكا، وجلكم يعرف قصة هلاك مسيلمة والأسود العنسي ، وعندما نأتي إلى دروس السيرة قد نتطرق إلى قصة كل واحد منهما، وما فيها من العبر والعظات والحكم العظيمة، الشاهد هو قوله: وكل دعوى النبوة فغيٌّ وهوى.
أين يذهب؟ الأرض لا تحميه، أمة الإسلام إذا فر منها المجرم تأتي به ولو في القطب المتجمد، لم يكن عندهم حكومة فيدرالية، وما كان عندهم مؤتمر جنيف للأسرى، وما كان عندهم جواسيس ومباحث، ولكن كان عندهم هيبة الإسلام وعظمة الإسلام، والحكم بما أنزل الله.
ذهب ودار ودار ثم رجع قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ليس لي إلا الإسلام، فأرسله عمر بن الخطاب يقاتل في الجبهة الفارسية فكان من أبطال القادسية وسقوط المدائن رضي الله عنه وأرضاه، ومن تاب تاب الله عليه.
لكن عمر الفاروق يعطي الناس درجات ومراتب، لم يكن يعطي الإمارة والقيادة اللذين ارتدوا ثم عادوا، قد يجعل عليهم من دونهم تأديباً لهم، وكان ممن يستحق القيادة قيس بن مسطوح المرادي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي ، وطليحة بن خويلد الأسدي هؤلاء كلهم ارتدوا ثم عادوا مرة ثانية لكن لم يعطهم القيادة والإمارة تأديباً لهم، ليس عنده وساطة، وليس عنده محسوبية، وليس عنده محاباة رضي الله عنه.
قال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة، كيف يقال بتكذيبه؟ نقول: هذا لا يتصور أن يوجد وهو من باب ضرب المحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين، فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا يظهر كذبه بعد ذلك أبداً، وكل من ادعاها ظهر كذبه، وبعض المشعوذين ظهر واحد منهم في عهد المأمون ، قال: أنا نبي.
فقالوا له: وما دليل نبوتك؟ وبأي رسالة بعثت؟ قال: جئت بدين كدين موسى.
فقيل له: وما دليل ذلك؟
قال: موسى أرسل إلى فرعون، وقال فرعون: أنا ربكم الأعلى، فإذا أردتم آيتي ومعجزتي، فقل يا أمير المؤمنين: أنا ربكم الأعلى وتظهر معجزتي، فعلم أنه مجنون، ويظهر بعض المجانين الذين يدعون ذلك.
وجيء يوم من الأيام بامرأة إلى الأوقاف هنا في الكويت تتوهم أنها نبية، وأجلسها العالم جزاه الله خيراً في الأوقاف، وأخذ يكلمها ويكلمها فعلم أن فيها شيطاناً، فلقنها بعض الأذكار وقرأ عليها ونفث عليها فشفيت بإذن الله رب العالمين.
وبعض المجَّان الفسَّاق جيء به إلى أحد السلاطين وهو يزعم النبوة، فقالوا له: وما دليلك؟ كل نبي يأتي بمعجزة ما هي معجزتك أنت؟
قال: معجزتي لو أن القاضي أعطاني ابنته تحمل الليلة! فالقاضي أخذ يضرب على رأسه: حسبي الله عليك، وكان يقول للسلطان: ما تقضي فيه؟ فقال: يقتل هذه الليلة، فوضعوا رأسه وقطعوه.
فبمثل هذه الخزعبلات والخرافات يفضح الله كل من يدعي النبوة، ودمرتهم كلمة واحدة في كتاب الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وكل من جاء يزعم ذلك الزعم يفضحه الله فضيحة مخزية كهذه التي ذكرتها لكم، وخاتمته بئست الخاتمة.
ومحمد صلى الله عليه وسلم المبعوث عامة إلى الجن والإنس وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء صلى الله عليه وسلم.
اللهم لا تفتنا بعده، ولا تحرمنا أجره، اللهم أوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة باردة لا نظمأ بعدها أبداً، واحشرنا تحت لوائه، واجعلنا رفقائه في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر