إسلام ويب

تفسير سورة فصلت [37-40]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من آيات الله الدالة على قدرته الموجبة لتوحيده والإخلاص له الليل والنهار والشمس والقمر وما يحصل للناس فيهما من منافع؛ لكن بعض الناس ضلوا فصاروا يعبدون الشمس والقمر وغيرهما من المخلوقات، وهؤلاء هم الملحدون الذين لا يعتبرون بآيات الله، وهم لا يخفون على الله وسيلقون جزاءهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار...)

    معنى قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر)

    قال الله جل جلاله: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37] .

    السجدة هنا في هذه الآية الكريمة مجمع عليها من جميع الأئمة، واختلفوا في محل السجود هل هو عند قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]، أو في الآية التالية في قوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]؟

    فعند الإمام مالك وهو قول الإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة، وهو مذهب الحسن البصري وابن سيرين: أن السجدة تكون عند تمام قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]؛ قالوا: لأن الأمر عندها، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ [فصلت:37].

    وقال ابن عباس وهو مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي وعبد الله بن وهب من أئمة المالكية وجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة: أن السجدة نهاية آية: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. قالوا: لأنه عند لا يسأمون يتم المعنى والكلام.

    قوله: (ومن آياته) أي: ومن دلائل قدرته ووحدانيته اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، أي: خلق الليل لنسكن فيه والنهار لنعمل فيه، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، أي: الشمس بضيائها وبشعاعها والقمر بنوره وبضيائه، والشمس والقمر والليل والنهار لمعرفة الأعداد والأزمان والجُمع والشهور والأعوام للعبادة ولقيام شهر رمضان حج بيت الله الحرام والتوقيت معاملات الناس في أزمانهم، وإحداد المرأة على زوجها والكفّارات وصيام شهرين متتابعين.

    فهذه الأزمان والأسماء التي سماها الله تعالى من أعظم خلقه وأجمله، ولو جعل الليل سرمداً أو النهار سرمداً لما استطاع الخلق العمل، ولما استطاع العامل الراحة والترتيب في الأعمال، ولو خلق الشمس دائماً لاحتاج الناس إلى القمر، ولو خلق القمر دائماً لاحتاج الناس إلى الشمس، وكل ذلك خلقه الله جل جلاله.

    ولفت الأنظار إلى حكمته وفوائده وإلى ما يجني الخلق من ذلك؛ لنزداد له عبادة وإيماناً ويقيناً بالأدلة القاطعة على أنه الواحد المنفرد بالعبادة، وأنه القادر على كل شيء، فقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، أي: ومن دلائل قدرته ووحدانيته خلقه الليل والنهار والشمس والقمر.

    معنى قوله تعالى: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ...)

    قال الله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37].

    أي: يا هؤلاء! الذين فقدوا عقولهم وأديانهم كيف تسجدون وتعبدون خلقاً مثلكم؟ وكيف تعبدون ما لا يضر ولا ينفع؟ أليس الأولى أن تعبدوا خالق الشمس والقمر، وخالق كل ما كبر في صدوركم وأعينكم.

    وقد وجد في القديم من يعبد الشمس، ولا يزال هناك إلى اليوم من يعبدها كذلك، فدولة اليابان التي عدد سكانها ما يزيد على مائة وعشرين مليوناً تعبد الشمس، وقد رأيناهم في سفنهم وبواخرهم يتحرون الشمس عند طلوعها وعند غروبها ونتفرج على ضياع عقولهم، وقد ركبنا معهم في أيام الطلب فكانوا يأتون عند طلوع الشمس ويتحركون حركات من ركوع ويتمتمون ويهمهمون ويتكلمون بكلام لا يُفهم، ويعودون لمثل ذلك عند غروبها، فازددنا حمداً لله وشكراً له على أن وفقنا لعبادته، فهو خالق الشمس والقمر.

    وقد قص الله علينا في كتابه في قصة الهدهد لما تفقده سليمان عليه السلام ثم حضر فقال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24].

    فقد كانت عبادة الشمس في جزيرة العرب في أرض اليمن، ولكن الله طهّر جزيرة العرب منذ أرسل لها سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فتركوا عبادة الأوثان وعبادة الخلق إلى عبادة الله الواحد، ثم نشروا دين الله خارج الجزيرة، فاهتدى من قضى الله في أزله هدايته وبقي في الضلال من لم يوفقه الله للهدى والإيمان.

    قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ، أي: فلتكن عبادتكم وسجودكم لله خالق الشمس والقمر.

    إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، أي: إن كنتم تريدون عبادته وكنتم مؤمنين به، أما إن كانوا وثنيين مشركين فليسجدوا لما شاءوا، فالعذاب خلفهم والحساب يتبعهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ...)

    قال تعالى: فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38].

    يقول الله جل جلاله: فإن تعاظموا واستكبروا على نبيهم في أمرهم بعبادة الله وبالسجود له فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38].

    والذين عند ربك هم الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهذه كقوله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].

    أي: إن يكفر بعض البشر وبعض الجن فالذين عند ربك من ملائكته المكرمين لا يستكبرون عن العبادة، فإنهم يدعون الله ويعبدونه في الليل والنهار، ويديمون عبادته ليلاً ونهاراً حال كونهم لا يسأمون، أي: لا يملون ولا يكلّون.

    وقالوا: العبادة للملك كالنفس للبشر، أي: كما أن البشر لا يعيشون بلا أنفاس وإذا انقطعت الأنفاس ماتوا فكذلك الملك نفسه ذكر الله، فهم في عبادة الله ما بين ساجد وقائم وعابد وذاكر، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام عنهم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، أي: صوتت السماء لما عليها من ثقل خلق الله وعباده من الملائكة كما يصوت السقف عندما يكثر الجالسون والقائمون فوقه (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد) فهم يعبدون الله في قيامهم وسجودهم وذكرهم وفي كل أحوالهم.

    وهذا بيان لقوله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، أي: إن كفر هؤلاء فلن يكفر عباد الله من الملائكة ومن الأتقياء ومن الصلحاء ومن الموحدين لله من أتباع الأنبياء السابقين ومن أتباع خاتمهم عليه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة...)

    قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].

    أي: وكذلك من آيات الله ودلائل قدرته وعلامات وحدانيته لمن ألقى السمع وهو شهيد وتدبّر كلام الله وفكّر في خلق الله ووعى عن الله هي كل ما تراه العين وتسمعه الأذن، ومن أعظمها الليل إذا أقبل بظلامه والنهار إذا أقبل بضيائه، كما قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61]، والشمس عند شروقها وغروبها، والقمر عند بزوغه منذ يكون هلالاً إلى أن يصبح قمراً إلى أن يختتم، فكل ذلك من قدرة الله ودلائل وحدانيته.

    ومن آيات قدرته ودلائل وحدانيته أنك ترى الأرض خاشعة: أي: هامدة ميتة، غبراء جدباء قاحلة لا نفس عليها ولا ماء، وليس فيها ما يفيد حياً.

    ومع ذلك فهذه الأرض الميتة الجدباء الخاشعة الهامدة إذا بالله الكريم يغيثها بالأمطار وينزل عليها الماء، فإذا بها بعد يوم أو يومين تهتز وتتحرك بما يدل على أن الحياة دخلت في باطنها وحركتها، كما قال تعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، أي: أخذت تتحرك وربت، أي: أخذت تربو وتعلو؛ نتيجة تلك النباتات التي سُقيت ونبتت وخرجت على ظاهر سطح الأرض بعد أن ربت وعلت، ومنه الربوة أي: الأرض العالية.

    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى .

    وهذا المثل ضربه الله لنا ليعرفنا ويعلمنا ويطلعنا كيف يحيي الموتى، فإن الناس يتساءلون ويعجبون منه، ومنهم من يستدل بالدلائل العقلية كما ذكرها القرآن وكما آمنت بها العقول السليمة، ومنهم من بقي على جهله وعلى ضلاله، يرى ما لا يفهم ويسمع ما لا يعقل، وكأنه ميت بين الأموات، فهو أصم وأعمى لا يستفيد بسمع ولا ببصر ولا بقلب ولا يهتدي بفهم هذه الآيات الواضحات البينات.

    فالله يقول لنا: يا هؤلاء الذين تريدون معرفة كيف الله يحيي الموتى! ويا هؤلاء الذين تنكرون الحياة بعد الموت وتنكرون البعث والنشور! انظروا لما يشبه ذلك، ومروا على الأرض وقت الشتاء والجدب والقحط فسترونها جدباء لا تنبت، ليس فيها زهرة ولا نبتة ولا خضرة ولا ماء، ثم إذا بالله الكريم يمطرها ويغيثها بالماء فإذا بها بعد يوم أو يومين أو أكثر قد أخذت تهتز وتتحرك؛ نتيجة الحياة التي دبّت فيها من الماء الذي جعل الله كل شيء منه حياً، ثم أخذت تربو وتعلو، نتيجة تلك الأغصان والنباتات والخضروات لما تحركت ونبتت وخرجت على سطح الأرض فرفعت معها التراب وشقّته وخرجت.

    إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا ، أي: الذي أحيا هذه الأرض الخاشعة الميتة الجدباء أليس بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى.

    وهذه النطفة التي تنزل من الذكر تراها نطفة ميتة لا حراك فيها، وإذا بها تأخذ طريقها إلى الأرحام، ثم بعد أشهر تجد البطن يتحرك، وبعد هذه الحركة تجده قد خرج مولوداً حياً ذا عينين وشفتين، طفلاً صغيراً من الخلق ومن البشر. فمن الذي أحيا هذه النطفة الميتة والأرض الميتة الجدباء حتى إذا دخلها الماء ونزل عليها المطر أخذت تهتز وتتحرك وتربو وتصعد؟ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا وهو الله جل جلاله لَمُحْييِ الْمَوْتَى إذ كيف يقدر على إحياء الأرض مع كبرها وسعتها وامتدادها في القارات ويعجز عن إحياء الناس؟!

    والله يرشدنا ونحن لا نزال أحياء؛ لنؤمن بعقولنا وبوعينا وبفهومنا على أن الله واحد، وأنه القادر على كل شيء والخالق لكل شيء، لا شريك معه في ذات ولا في صفة ولا في فعل.

    إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على إحياء الأرض فأحياها، وقادر على إحياء الإنسان بعد موته، وقادر على حياة كل ما كان ميتاً، فهو الذي أحياه أولاً وقد كان ميتاً، وهو الذي سيحييه ثانياً، كما قال تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، أي: أيكون قادراً على الإحياء من العدم وعلى الإيجاد من لا شيء ولا وجود ثم يعجز عن الإعادة؟! حاشا الله ومعاذ الله، فهو القادر على كل شيء، وهو المحيي المميت، ثم هو المميت المحيي جل جلاله وعز مقامه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا...)

    معنى قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] .

    هنا يتوعد الله ويتهدد وينذر الملاحدة والمشركين ويخوفهم عذابه ونقمته، فقال ربنا: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا .

    والإلحاد: الخروج عن الجادة وعن الطريق المستقيم والكفر بالله وتحريف الكلم عن مواضعه؛ كل هذا يدخل تحت هذه اللفظة من هذه الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا .

    أي: يكفرون بآيات الله وعلامات قدرته وأدلة وحدانيته ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويفسرون النهار بالليل والليل بالنهار بما لا يقره عقل ولا قرآن ولا سنة، شأن اليهود عندما حرفوا كتاب ربهم وتلاعبوا بآيات توراتهم، وهذا موجود في أدلة كل الفرق الضالة، فكل الفرق المبتدعة تستدل بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتستشهد على ذلك بكلام العرب، ويقولون: قال الشاعر وقال الخطيب وقال المتكلم، وفي كل ذلك تحريف للكلام عن مواضعه وتغيير لنصوص الكتاب.

    فحولوا الصلاة إلى الدعاء، وأنكروا الصلوات الخمس، وحرّفوا الحج، وقالوا: إنه القصد إلى الشيء، وتركوا الحج إلى بيت الله الحرام، وأولوا الزكاة بأنها: التنمية والزيادة، وأنكروا العطاء والصدقات، وأولوا الصيام بالإمساك عن القول وعن الجواب وعن الاستفسار، وفتحوا بطونهم لكل مأكول ومشروب شرهاً وإفساداً لكتاب الله، وأتوا بفهوم عوراء وآراء باطلة لا يقبلها طفل ولا من له أدنى مسكة من عقل.

    فهؤلاء بكل أشكالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويكفرون بآيات الله وأدلة وحدانيته وقدرته، وحادوا عن الطريق السوي الذي قال عنه نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا هالك)، وذهبوا إلى بنيات الطرق وإلى التلاعب بالنصوص، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً، وهيهات هيهات! ومن هنا يجب على المسلم سواء كان معلماً أو أباً أو مدرساً أو حاكماً أن يتحرى الكتب التي لا تغيير فيها ولا تبديل ولا تحريف، وينتقي المعلمين والعلماء الذين سلكوا الجادة ولم يتبعوا السبل وبنيات الطرق، وإلا فالطفل كالعجينة وكالقضيب من السكر يتلاعب به من بيده كيف شاء، فإن شاء جعل العجينة خبزاً وإن شاء جعلها حلوى، وإن شاء مربعة، وإن شاء مستطيلة، وهكذا قل عن قضيب السكر، فإنك تشكله في يدك بالشكل الذي تريده.

    وقد تنبه أعداء الله وأعداء المسلمين والإسلام إلى هذا فأفسدوا برامج التعليم في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية وأبعدوا أبناء المسلمين عن تعلم كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومعرفة دينهم، ونشروا الإلحاد والفسوق، وجهّلوا الناس بدينهم وبكتاب ربهم وبسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

    والتعليم هو أداة الصلاح والفساد، فإن تولاه مفسد ضل وأضل، وإن تولاه مصلح صلح وأصلح.

    والتعليم الموجود اليوم في العالم الإسلامي فيه الفساد والضلال، فقد أفسدوا جميع برامج التعليم دون استثناء، حتى أن الكثير ممن يزعمون الإسلام والغيرة عليه وفهم القرآن والسنة حرفوا الآيات بما أحلوا فيها من الربا ومن الرشوة، وأبطلوا الأعمال والأركان، وقالوا بعقولهم وبكفرهم وبإلحادهم ما لم ينزل الله به من سلطان.

    وقد أنذر الله جميع هؤلاء فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ، أي: نحن نعلمهم ونعلم أسماءهم ونرى أعمالهم، وسنحاسبهم على ذلك الحساب العسير والطويل، ويعذّبون عليه العذاب الشديد الأليم.

    وقوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا تهديد، أي: إنا قد علمناهم وعلمنا أعمالهم فإذا لم يتوبوا ويتداركوا حياتهم وشبابهم وفراغهم وصحتهم، فلينتظروا، فيوشك عن قريب أن يأتيهم ملك الموت فلا تفيدهم طاعة ولا توبة ولا ندم عما فات.

    معنى قوله تعالى: (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة)

    أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

    يقول الله لهؤلاء الملحدين المحرفين المتلاعبين بالنصوص كتاباً وسنة: أيهم خير: من يُلقى في النار لإلحاده وكفره، أم من يأتي يوم القيامة آمناً لا عذاب ولا حساب عليه، فهذا في الجنة وهذا في النار، فهل يستويان مثلاً؟

    وهل الكافر كالمؤمن؟ وهل المقيم في الجنة وفي وجوههم نظرة النعيم له فيها ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه، كالذي في النار يعذب فيها أبداً سرمداً، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]؟

    والله قال هذا ليلفت أنظارهم وليزيد وعيده لهم وتخويفه لهم بعد أن قال لهم: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ، أي: أهذا الملحد المحرف للكلام عن مواضعه العاصي الكافر بالله عندما يلقى على وجهه في النار ويسحب إليها سحباً؛ أهو خير وأكرم وأفضل وأصح أم ذاك الذي يأتي آمناً يوم القيامة؟ فالمؤمن يأتي يوم القيامة آمناً من غضب الله ومن دخول النار، ويكون آمناً لدخوله الجنان ولرحمة الله له ورضاه عنه.

    ثم قال تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بعد أن أعلمهم الله وبين لهم طريق الصلاح وطريق الضلال وخيّرهم هل الجنة خير أم النار، قال لهم: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، أي: اتبعوا عقولكم وكفركم، وهذا وعيد أكيد وتهديد مخيف مزعج.

    إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

    أي: إن الله جل جلاله بصير بعمل العاملين، إن عملوا خيراً جازاهم عنه خيراً، وإن عملوا شراً جازاهم عنه شراً، وهو البصير بكل شيء من أعمال العاملين، فمن عمل خيراً أبصره ومن عمل شراً أبصره، فللعامل بالخير الجنان والرضا، وللعامل بالشر النار والغضب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974549