إسلام ويب

تفسير سورة فصلت [9-14]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله السماوات والأرض وما بينهما بقدرته، وقدر فيهما الأقوات والأرزاق والأعمار وما يصلحان به؛ كل ذلك في أيام معدودات، وهو الذي إذا أراد الشيء قال له (كن) فيكون، فحقه أن يعبد وحده لا شريك له، ولا نعرض كما أعرض قبلنا عاد وثمود فأخذتهم الصاعقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها...)

    قال ربنا جل جلاله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10].

    الله جل جلاله خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ فقد خلق الأرض يوم الأحد، وشق الجبال والبحار يوم الإثنين، وجعل فيها أقواتها وأرزاقها وما تحتاجه إليه يوم الثلاثاء، وخلق فيها دوابها وطيورها وأنعامها في يوم الأربعاء، وخلق السماوات يوم الخميس، وأوحى يوم الجمعة في كل سماء أمرها من الملائكة ومن البحار ومن الأقمار ومن الشموس ومن خلق الله الذي في كل سماء مما لا يعلمه إلا هو جل جلاله وعزّ مقامه، وذاك معنى قوله في غير آية من الآيات: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، وقوله: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33].

    وقد جاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام سائلين: متى خلقت السماوات والأرض؟ ومن خلق أولاً هل السماء أم الأرض؟ فقال لهم ما قاله ربنا ثم سكت.

    فقالوا له: أتمم يا أبا القاسم! خلقها في ستة أيام ثم استراح، فغضب صلى الله عليه وسلم منهم، فأنزل الله قوله: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33] وقوله: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، أي: لم يحصل له إعياء ولا تعب، وكل ذلك لم يكلف أكثر من أن يقول: كن فيكون، فلم يكن في ذلك لغوب ولا تعب ولا إعياء ولا مشقة.

    وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ابتدأ الخلق يوم السبت، فخلق التربة)، ولكن هذا الحديث من أحاديث مسلم المطعون فيها؛ إذ الأحاديث كلها مجمعة على أن بدأ الخلق كان يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وقد قال البخاري : روي هذا الحديث عن أبي هريرة عن كعب الأحبار ، فعده البخاري من الإسرائيليات.

    واليوم من هذه الأيام كما قال الإمام مجاهد : هو ألف سنة، وهو من أيام الآخرة التي يقول الله فيها: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].

    فقال مجاهد : خلق الله السماوات والأرض في ستة آلاف عام، وبيان ذلك مفصلاً في قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]:

    فالله خلق الأرض في يومين، فقد خلقها يومي الأحد والإثنين، خلق فيهما الأرض والجبال والبحار والمياه، ثم قال بعد ذلك مفصلاً: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، أي: خلق الأرض في يومين، ثم خلق في اليومين الآخرين -الثلاثاء والأربعاء- الجبال على الأرض وجعلها لا تميد، فعندما خُلقت خُلقت بلا جبال، فأخذت تميد وتتأرجح، فأمر جبريل أن يُقيمها حتى لا تميل، فذهب جبريل لذلك، فقال: يا رب! لقد أعجزتني عن أن أقيم أودها، فخلق عليها فوقها الجبال فأرستها وثبتتها من الميلان ومن الميدان، فلم تتحرك بعد ذلك.

    قال تعالى: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ، أي: جبالاً راسيات تُرسيها وتثبتها.

    قوله: وَبَارَكَ فِيهَا ، أي: بارك فيها بالمياه وبالأرزاق وبالنباتات وبالفواكه وبالطير وبما عليها مما خلقه للإنسان، فقد خلق شيئاً في قطر وآخر في قطر آخر؛ ليذهب الناس بعضهم إلى بعض ويتجّر بعضهم من بعض ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ويأتون بما ليس عندهم؛ وهكذا يتبادل الخلق المنافع.

    قال تعالى: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فقد كان خلق الأرض والجبال والأقوات وكل ما ينفع الإنسان على هذه الأرض في أربعة أيام، فهذه مع قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12] ستة أيام كما قال ربنا جل جلاله.

    وإذا علمنا بأن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدون كان خلق ذلك من أعداد الأرض وأيامها ستة آلاف عام، وهذا يزيل إشكال الكافر والمتشكك والذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات وخاصة ممن يسمون أنفسهم علماء الأرض والجيولوجيا وطبقات الأرض، فهم يقولون: إننا عند حفر الأرض والبحث في أغمارها وأعماقها وجدنا أن هذه الأرض تكونت طبقاتها في آلاف السنين.

    نقول: وهكذا قال الله، فهي قد خُلقت في ستة أيام من أيام الآخرة، أي: في ستة آلاف عام من أعوام الأرض وأعدادها وقد اتفق الناس على ذلك، كما خلق الله السنة اثني عشر شهراً، وخلق الشهر تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، وخلق اليوم أربعة وعشرين ساعة، فهذه الأعداد في الأرض في مجملها وفي عمومها، وإن كان في بعض الأرض شذوذ كالأرض المتجمدة في أراضي الصين وتايلاند، ففيها ستة أشهر ليل متصل وستة أشهر نهار متصل، وفيها دول متحضّرة لها جيوش وإدارات يعيشون بالتوقيت، فهم يوقتون العمل ثمان ساعات والنوم ثمان ساعات الأكل والشراب وما إليهما ثمان ساعات، فهي أربع وعشرون ساعة في اليوم، حسب ما يوجد في مجموع الأرض.

    ثم قال تعالى: سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، أي: خلق الأرض في أربعة أيام سواء أي: أيام تامة بلياليها ونهارها.

    للسائلين أي: هذا جواب من يسأل إن سأل، وإن لم يسأل فقد أُجيب، والكثيرون قد سألوا قبل وبعد، ولا يزالون يتساءلون كيف خلق كوكبنا الذي نقيم عليه؟ وكيف خُلقت السماء التي تظلنا؟ وكيف خُلق ما على الأرض وما في باطنها؟ وكيف خُلقت السماوات وما بينها؟ ومتى خُلق ذلك؟ وما الحكمة في خلق ذلك؟ ومن خلق ذلك؟ والمؤمن الذي وفّقه الله للهداية والمعرفة في كل ذلك يقول: الله الخالق المدبّر، ومنه الأمر والتدبير جل جلاله، وله الأمر والخلق جل جلاله، ثم بعد ذلك استوى إلى السماء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان...)

    قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، أي: عمد إليها وقصد لخلقها بعد أن كانت دخاناً ومياهاً وسحباً من بخار البحار ومن أبخرة مياه الأرض، كما نرى السحب الآن، نرى منها الداكنة البيضاء ومنها السوداء ومنها ما بين الأبيض والأسود، فقد كانت من سُحب الأرض ومياهها التي تفور وتتجمع وتصعد إلى الأعالي، فكانت السماء كأنها العهن المنفوش وكأنها دخان في بياض مكبوب في جبال فوقها جبال.

    وهذا المنظر نراه من الأرض ونحس به أكثر ونحن في أعلى أجواء الفضاء بالطائرات الضخمة الكبيرة، ويستمر هذا أحياناً ساعات متواصلة، فقد نقطع الست الساعات والسبع وليس فوقنا إلا هذا النوع في السماء، وندخل فيها وهي عن أيماننا وشمائلنا وكأننا نعيش ونطير ونحلق في الدخان، وليست إلا السحب الداكنة المكثفة والماء وبخاره المتصاعد من البحار ومن الأنهار وخاصة عند القيظ وشدة الحر وفي الصحاري.

    قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا ، أي: للسماء، وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أمر الله السماء فقال لها: أظهري أقمارك وشموسك ونجومكِ وكواكبكِ، وأظهري خلقكِ في كل سماء من بحار ومما خلق الله مما لا يعلمه إلا الله.

    وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) ومعنى ذلك: أن السماء بكل بقاعها وزواياها وأركانها فيها ملك ساجد أو قائم يعبد الله، فلم يبق بعد ذلك مكان لخلق آخرين، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما ينطق عن الهوى، ولكنه قال هذا عن السماء الدنيا التي فوقنا، وهذه فوقها كذلك سماء ثانية وثالثة ورابعة إلى السابعة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، ولا ندري هل هي من أعوام الأرض أو من أعوام الآخرة، والسماء لا يُصعد إليها ولا يوصل لها.

    وفي الأحاديث المتواترة المستفيضة في ليلة إسراء النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما عرج إلى السماوات على البراق ومعه جبريل وقف جبريل في باب السماء يطرق باب السماء كما يطرق أحدنا باب دار صديقه وأخيه، فقيل: من؟ -أي: أجابه الحرس من ملائكة السماء- قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُذن له؟ قال: نعم. ففتحت له الأبواب ودخل.

    فإذاً: السماء ليست فضاء وفراغاً كما يزعم الملاحدة والجهلة والمرتدون، وما نراه فوقنا من الفضاء هو الذي يقول الله عنه: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [فصلت:12] والسقف هو: ما فوق المصابيح، والمصابيح هي هذه النجوم المنيرة المضيئة.

    فالسماء هي السقف، وهذه المصابيح هي النجوم، وليست النجوم هي السماء، كما أنه ليست المصابيح هي السقف، وما بين النجم والسماء مئات السنين، ولا ندري هل هي من سنوات الآخرة أو الدنيا، ويكفي أن تكون من أعداد الأرض؛ فإن الخمسمائة السنة ليست بالشيء القليل، فإذا قال زيد أو عمر: وصلنا إلى القمر أو الفلك الفلاني فليس معنى ذلك أنهم وصلوا إلى السماء، هيهات هيهات! فما هذه الكواكب التي نرى إلا ككوكب الأرض، وهي جزء منها، والوصول إليها -إن صح التعبير- ليس إلا كالوصول إلى قارة من القارات.

    ومما يدل على أن ما قاله هؤلاء حقيقة: أنهم أنزلوا معهم أحجاراً وتراباً وحللوه، فوجدوا أن عناصر تراب الأرض وصخورها ورمالها وجبالها هي نفس العناصر التي تكون منها القمر. وهذا من معجزات القرآن التي شاهدناها وعاصرناها وعشنا في واقعها، فقد قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، أي: ألم ير هؤلاء الكفار؟ ولم يقل: المؤمنين؛ لأن المؤمنين يعلمون ذلك؛ تصديقاً لربهم ولكتابه ولحديث نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والذي ينكر الحقائق ويتنكر لها ويجحدها هم الكافرون بالله وبكتبه وبرسله.

    أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنبياء:30]، أي: ما بينهما من هذه الكواكب والمصابيح، كَانَتَا رَتْقًا [الأنبياء:30] أي: كانت متصلة قطعة واحدة فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، ففتق الله تلك الكواكب التي نراها عن الأرض، وهي جزء منها ومن عناصرها ومن طبائعها ففتتت وبعثرت كما نرى، وقد كان هذا في بداية الخلق.

    فالله الخالق القادر وحده على كل ما يشاء، كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11] والسماء هنا هي العلو والفضاء؛ لأنه لم يكن هناك إلا ماء؛ نتيجة بخار مياه الأرض، فقال للأرض وللسماء: ائتيا طوعاً أو كرهاً، فأمرهما بالإتيان فاستجابتا لما أراد الله منهما وقالتا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] فأخرجت الأرض بحارها وأنهارها وجبالها وبركاتها وكنوزها وأرزاقها وما يحتاج إليه الإنسان الذي سيُخلق بعد، وهو هذا الإنسان الذي خلقه الله بيده وأخبر بخلقه ملائكته، ثم نفخ فيه من روحه، فكان أبانا الأول آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فوجد الأرض قد خلقت له بما عليها وبما في باطنها؛ ليشكر الله جل جلاله في صباحه ومساه.

    وقد سئل الحسن البصري وقيل له: إن الله قال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11]، فإن لم يأتيا طوعاً فماذا يفعل بهن ربنا؟ قال: يسلط عليهن صاعقة تحرقهن أو وحشاً يفترسهن، قيل: أو يكون ذلك؟ قال: ولم لا يكون وقد خلق السماوات والأرض؟ فإذا عصتا عوقبتا كما يعاقب كل عاص، ولكنهما استجابتا، وهذه الاستجابة كانت إما بالقول ثم بالفعل، وإما بالقول فقط، وقوله: (ائتيا طوعاً) إما أن يكون بقول الله أو يكون بوحيه، فهو إذا أراد أمراً لا يحتاج أن يقول أكثر من: كن فيكون، وتكون كن إرادية، أي: كن التي يريد الله بها خلق شيء أو موته والقضاء عليه.

    فهما قد استجابتا لكل ما أمرهما الله به، وهما خلق من خلق الله وعبيد من عبيده، وهما تحت تدبيره وأمره، والذي أنطق هذا الإنسان أنطق ذاك الجماد، كما ينطق الجلود واللحوم وما لا ينطق يوم القيامة، والذي جعل النطق في اللسان قادر على أن يجعله في اليد والرجل، ونحن نرى اليوم من المستنبطات ومن المخترعات ما يزيد المؤمن إيماناً وهدى لو سبق في علم الله تعالى هدايته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين...)

    قال تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:12].

    قضى جل جلاله، أي: أمر وأتم وأكمل وأوحى وجعل، فكان قضاء الله وأمره أن جعل السماوات سبعاً كما جعل الأرضين سبعاً، قال تعالى: وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] وهذا ينكره من لا يؤمن بالقرآن، ولا يؤمن إلا بما يقوله اليهود والنصارى ومن ارتد عن دينه وكذب بالرسالات وبما أتت به كتب الله.

    وإذا قلنا: إن الأرض وما فيها وما عليها خُلقت في أربعة أيام والسماوات السبع خُلقت في يومين أصبحت ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض.

    فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12] أي: أتمهن وسواهن وأكملهن.

    وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12] أي: أمر وأوحى إليها، والمقصود هنا: إرادته.

    وأمر السماء: ملائكتها وحرسها وبحورها وثلوجها ومياهها والخلق الذي فيها والذي لا يعلمه إلا الله.

    وفي كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي فيه كل شيء كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] ما يؤكد هذه المعاني، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، أي: ومن دلائل قدرة الله خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا [الشورى:29]، أي: في السماوات وفي الأرض وفي الأفلاك العلوية التي سماها مصابيح، فقد خلق فيها ما يدب عليها، والذي يدب عليها ليس الملائكة، فالملك خلقه الله ذا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، والذي يدب على الأرض هو من يمشي على رجلين أو على أربع أو يمشي زحفاً، وهو الذي تمس بشرته الأرض، والذي يطير في الآفاق وفي الفضاء والأجواء لا يقال له: يدب، وإنما يقال له: يطير، والملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فبعضهم ذو جناحين، وبعضهم ذو ثلاثة، وبعضهم ذو أربعة، وهكذا.

    وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين قد غطى الأفق بأجنحته وبذاته، فعندما ظهر في الفضاء لم يبق ظاهراً غيره، فقد غطى الكواكب والسماء والأرض، أي: صورة مفزعة مُرعبة، فهؤلاء الذين يطلبون أن تكون الملائكة رسلاً إليهم لو جاءهم الملك بهذه الحالة لرعبوا وفزعوا وما استطاعوا نظراً ولا سمعاً ولا استفادة منه.

    فقوله تعالى: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12]، أي: حاجتها من الحرس ومن الملائكة، ومن جند الله ومما فيها من بحار ومن خلق لا يعلمه إلا الله؛ قال تعالى: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا [فصلت:12] وهي السماء الأولى الدانية الأقرب إلينا، وهي سماؤنا هذه، زينها وجمّلها بمصابيح.

    ومعنى ذلك: أن ما نراه من هذه النجوم والكواكب النيرات ليست هي السماء، ولكنها هذه المصابيح المنيرة المشرقة المضيئة، التي زيّن الله بها السماء الدنيا القريبة من الأرض والقريبة من الخلق والبشر.

    والمصابيح: جمع مصباح، وهي الزجاجة.

    وَحِفْظًا [فصلت:12]، أي: زيّنها بذلك حال كونها منيرة، وحال كونها حفظاً يحفظ بها السماء من تجسس الشياطين عندما يركب بعضهم على بعض؛ ليسترقوا السمع من الملائكة، وينزلوا إلى الدجّالين والكهنة والسحرة، وقد يصدقون في كلمة ويزيدون عليها تسعاً وتسعين كذبة، والكلمة التي يقولها لا يعلم صدقها من كذبها، ولكنه يتلقفها تلقفاً، ولا يكاد يركب بعضهم على بعض إلا ويأتيه شهاب فيحرقه ويحرق ما يحمله، وقد يفلت منهم واحد أو اثنان فيأتي إلى الكهنة والسحرة ويوحي إليه بكلمة لا يعلم صدقها من كذبها، ومن صدّق كاهناً وهو مسلم لا يقبل الله له صلاة مدة أربعين يوماً.

    فقوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا [فصلت:12]، أي: زيّنها بمصابيح وجعلها حفظاً تحفظ أسرار الملائكة ووحي الله لهم، فهم جند الله الذين لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون، وسينزل هذا للنبات، وهذا للأرواح، وهذا للأرحام، وهذا للدواب، وهذا للمياه، وكل واحد وفئة منهم لها عملها ووظيفتها، ولا يحصي عددهم ونوعهم إلا الله جل جلاله، فهم أشكال وألوان ورتب ومنازل، وأعظمهم الكروبيون الثمانية الذين يحملون عرش ربك، والملائكة الآخرون يطوفون بالعرش كما نطوف نحن بالكعبة المشرفة.

    وقد خلق سبحانه السماء في يومين وخلق الأرض في أربعة أيام، وخلق النجوم والكواكب مصابيح، وهي في الوقت نفسه؛ حرساً وحصناً من الشياطين المتجسسين على الملائكة؛ علّهم يسمعون كلمة، فيكون ذلك سبب رميهم بالشهب التي نراها بين حين وآخر، فيحترقون وكأنهم لم يكونوا.

    قوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:12]، أي: ذلك خلقه مقدراً بعصر وبوقت وبخلق لا يزيد ولا ينقص، أي: يحصل وقت كذا وسينتهي وقت كذا، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]. وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ [القصص:88].

    فتهلك السماوات والأرض ويفنى الملائكة والجن والإنس، ويبقى الله ملك الملوك، فيقول: أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أنا الجبار، أين الملوك؟ فلا يجيبه أحد، فيقول جل جلاله: أنا ملك الملوك، وأنا الجبار، جل جلاله وعزّ مقامه.

    ثم بعد ذلك تعود الحياة يوم البعث والنشور إلى الملائكة جند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإلى الجن والإنس في الآخرة؛ للحساب وللعرض على الله؛ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم...)

    قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] .

    قص الله علينا وهدانا وعلّمنا وعرّفنا كيف كان هذا الكون، وكيف خُلق هذا العالم فضلاً منه وكرماً، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لأولئك المعرضين عن الإيمان بالله وبكتبه وبرسله: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت:13].

    أي: أعرضوا عن طاعتي وعن طاعة الكتاب المنزل عليك وأدبروا عن الإيمان بالله ورسل الله.

    فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13].

    أي: قل لهم: أنذرتكم وتهددتكم وتوعدتكم وخوفتكم صاعقة ومصيبة وبلاء سينزل بكم ويدمركم ويهلككم ويزلزل الأرض تحت أقدامكم كالصواعق والبلاء والمصائب التي نزلت على عاد وثمود عندما كفروا ربهم وكذّبوا نبيهم وأعرضوا عن كتبهم وعن رسالاتهم.

    وعندما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطمع بأن يسكته عن تزييف آلهتهم وعيب آبائهم ودعوتهم إلى الله وإلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن أنهى كلامه وهو يقول له: أأنت خير أم أبوك عبد الله؟ أنت خير أم جدك عبد المطلب؟

    وما فعل عبد الله أو عبد المطلب حتى يكونا خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهما لم يكونا نبيين ولا يفعل هذا إلا نبي، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6] أي: لا أزيد عليكم إلا بالوحي وبالرسالة ولو لم يوح الله إلي بشيء لما سمعتم مني كلمة، ولقد عشت فيكم عمراً ودهراً وزمناً فما الذي سمعتموه مني؟

    فلما انتهى كلام عتبة قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أفرغت يا أبا الوليد! قال: نعم، قال: اسمع، قال: كلي سمع، فابتدأ وقال: بسم الله الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:1-3] إلى أن وصل إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]) وإذا بـعتبة يضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا أبا القاسم! حسبك نحن رحمك وأقرباؤك، وقطع الحديث وذهب.

    وعندما اجتمعت عليه قريش قالوا: ما الذي أجابك به محمد؟ وقد لاحظوا من ملامحه وتقاطيعه أنه تغيّر عن الحالة التي ذهب إليه فيها، فقال لهم: اسمعوا مني وأطيعوه، فلقد هددكم وأنذركم، وأنتم تعلمون أن محمداً إذا قال صدق ولم يكذب في حياته قط، فهو إذا أنذركم بالصاعقة نزلت بكم لا محالة، فتضاحكوا عليه، وقالوا له: سحرك محمد بلسانه وأعجبك طعامه.

    فإذا به من جهالته ووثنيته يقسم أن لا يجتمع بمحمد مرة ثانية بدلاً عن أن يتحداهم ويقول لهم: سأفعل ما فعل عمر وحمزة ، بل ازداد كفراً وعناداً وأقسم لهم بما يريدون بأن لا يعود إلى الاجتماع بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    ومن بلاغة القرآن وفصاحته وإعجاز نظمه وترتيبه أنه لفت الأنظار -كالديباجة- لما فعلت عاد وثمود، فلفت الأنظار ونبه الآذان، وكأن الناس تتساءل ما بال عاد وثمود؟ وما جريمتهم وصنعهم؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم...)

    قال تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14].

    أي: أجابوا رسلهم وقالوا: فإنا بما أرسلتم به كافرون. فهنا يقص الله علينا خبر عاد وثمود، فقال عنهم: إنهم نزلت بهم الصواعق والبلاء المدمّر والمهلك؛ لأنهم لما جاءتهم الرسل -هود صالح- بقولهم: لا إله إلا الله، وجاءوهم من بين أيديهم وقد سمعوا خبرهم من قبل، فقد كان قبل هود وصالح نوح وشيث وإدريس وآدم عليهم السلام، ثم جاء من بعدهم رسل آخرون، فكان جوابهم عندما دعوهم إلى الله الواحد الأحد أن قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5].

    ثم عادوا فقالوا: لستم رسلاً، وأنتم تكذبون، قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:14]، أي: لو شاء ربنا الرسالة وشاء هدايتنا لأنزل إلينا ملائكة لا بشراً مثلنا! أفتريدون أن نخضع لكم ونطيعكم ونجعلكم أئمة وقادة، هيهات هيهات! لن يكون ذلك، ولو كان هذا حقيقة لما أرسلكم وأنتم بشر مثلنا، بل لأنزل علينا ملائكة من السماء.

    ثم عادوا فتحدوا وقالوا: فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14]. فكفروا قولاً وعملاً برسالة هود وبرسالة صالح عليهما السلام، وبقوا على وثنيتهم وعلى طغيانهم وعلى جرائمهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755973614