إسلام ويب

تفسير سورة الزمر [6-9]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله تعالى خلق بني آدم من نفس واحدة حتى صاروا إلى هذه الكثرة، فهو المتفضل عليهم بالخلق، كما أنه المتفضل عليهم بالرزق، فقد خلق لهم من الأنعام ثمانية أزواج، وأنعم عليهم بنعمه التي لا تحصى، ومع هذا فالكثيرون يكفرون نعمة الله، والله تعالى غني عنهم لا يضره كفرهم، ولكن من رحمته أنه لا يرضى لهم الكفر، بل يحب أن يؤمنوا به وبرسله ويشكروه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ...)

    معنى قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها)

    قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6].

    يشير الله سبحانه إلى قدرته، ويعلمنا كيف نوحده ونصفه ونعرفه، وأن هذه الصفات لن تكون لأحد سواه جل جلاله.

    قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر:6] خلقنا جميعاً من نفس واحدة هي: أبونا آدم، خلقه من تراب، خلقه بيده، وصوره بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم أسجد له ملائكته.

    فكل هؤلاء الخلق كانوا من نفس واحدة، ولذلك لا حاجة للتعاظم والتفاخر في الأنساب، فسواء كنا بيضاً أو سوداً أو صفراً أو سمراً فأبونا واحد، وأبونا من تراب، وليست الأفضلية إلا بالتقوى لا بأبيه ولا بأمه، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] .

    قال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر:6] ثم خلق وصير من النفس الواحدة زوجة، خلقها وفرعها من النفس الأولى وهي أمنا حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (خلقت من ضلع أعوج، إن أنت أقمتها كسرتها، وإن أنت استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج) .

    فمن كان أصل خلقته عوجاء لا تقبل الاستقامة وإلا كسرت. إذاً: فاقبلها على علاتها ما لم يصل ذلك العوج إلى الدين وإلى الخلق وإلى الفضائل، فعند ذلك لا يصبر على هذا.

    قال الإمام مالك: إن ترضية الزوجة منسأة في العمر، مصحة في الحياة، تزيد في الأجل، بمعنى: أنه يستريح الإنسان ويصح، وإذا صح تمتع بحياته، وإلا فإن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكنه يكون كمن عاش زمناً طويلاً.

    فقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر:6] كما قال تعالى في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1] .

    خلقنا من نفس واحد هو آدم، خلق منه أمنا حواء وهي الأم الأولى، ثم بث منهما نساء كثيراً ورجالاً كثيرين، حذفت الثانية لدلالة الأولى عليها وذاك من البلاغة والفصاحة.

    معنى قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)

    قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6].

    خلقكم وخلق معكم أرزاقكم وأمتعتكم باللحوم، كما قال في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143-144].

    فهي ثمانية: الضأن الذكر والأنثى، الماعز الذكر والأنثى، البقر البقرة والثور، الإبل الناقة والجمل، وبلا أنثى لا يكون ذكر، وبلا ذكر لا تكون أنثى، خلقنا الله من زوجين اثنين، وكل الخلق كذلك إلا الملائكة.

    قال: وَأَنْزَلَ لَكُمْ [الزمر:6] قالوا: أنزل المطر فارتوت الأرض واهتزت وأنبتت، ما عليها من مراعيها، فأكلت الأنعام وشربت، ولو لم ينزل المطر لما كان شيء من ذلك، وبالتالي لا تكون هناك أنعام ثمانية.

    فقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6] هذه الثمانية من الضأن ومن المعز ومن البقر ومن الإبل.

    معنى قوله تعالى: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق)

    قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6] قص علينا سبحانه قصة آدم وكيف خلقه من تراب، وكيف نفخ فيه من روحه وكيف أسجد له ملائكته، ثم هنا أكد لنا كيف خلق زوجته وأنها خلقت منه، ثم كيف خلقنا نحن.

    فقوله: يَخْلُقُكُمْ [الزمر:6] أي: خلقنا من مني كما خلق جميع الخلق من البشر سوى آدم وحواء.

    قوله: (خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي: في أطوار، خلقنا نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم خلق العظام ثم كساها اللحم، ثم نفخ فيها الروح ثم خرج الإنسان في هذا الوجود وليداً ضعيفاً.

    واستمر الإنسان منتقلاً من طور إلى طور: الرضاع ثم الطفولة والتمييز، ثم الفتوة واليفوعة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الموت.

    فهو إلى قوة ثم إلى ضعف، أتى بنا من العدم وسننتهي بالعدم، وهو عدم مؤقت، إذ لا نسميه عدماً إلى الأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار، فنحن كنا عدماً لا وجود لنا، وإن كنا في صلب أبينا آدم ولكننا لا ندري.

    ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام عندما أسري به صعد السماء الأولى وقال له جبريل: هذا أبوك آدم، فسلم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد أبانا آدم إذا التفت يميناً ضحك، وإذا التفت يساراً بكى، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام قال: ما هذا؟ قال: إذا التفت يميناً رأى ذريته وأولاده المنعمين في الجنة فسره ذلك وأضحكه، فإذا التفت يساراً رأى المعذبين من أولاده وسلالته في النار فساءه ذلك وبكى.

    فنحن كنا في أصلاب آبائنا الأولين وأمرنا بعبادته سبحانه ونحن في أصلابهم، فقال: ألست بربكم؟ فأجاب الجميع: بلى.

    قالها من سيكون مؤمناً ومن سيكون كافراً، قالها المؤمن عن رضاً وقالها الكافر عن كراهية، ولكنه قهر على أن يقول: بلى.

    فقوله: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [الزمر:6] خلقنا في البطون، وآدم خلق من التراب، وحواء خلقت من ضلع آدم، وعيسى خلق من بطن أمه ولكن بلا أب.

    قوله: خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر:6] أي: أطواراً من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى إلى، إلى أن يكون الفرد منا بشراً سوياً في هذا الوجود ذكراً أو أنثى، شقياً أو سعيداً. ما الرزق؟ ما الحياة؟ ما الأجل؟ كل ذلك يكون مسجلاً قبل خروج الجنين من رحم أمه.

    قال تعالى: فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6] أي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.

    والمشيمة هي تلك الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الجنين وهو في رحم أمه، فتلك ظلمات، وخرجنا من الظلمات إلى النور.

    وكنا نجهل كل شيء ولا نعلم شيئاً.

    معنى قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم له الملك ...)

    قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [الزمر:6].

    (ذلكم): اسم الإشارة (ذا) و(كم) مضافة، وهي تكون بحسب المخاطب، فإذا خاطبت المفرد المذكر قلت: ذاك، وإذا خاطبت المفردة المؤنثة قلت: ذاك، وإذا خاطبت المثنى قلت: ذاكما، وإذا خاطبت جماعة الذكور قلت: ذاكم، وإذا خاطبت جماعة الإناث قلت: ذاكن.

    والإشارة هنا إشارة بعيدة أي: ذلكم يا أيها السامعون! هذا الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق أمنا من آدم ثم خلقنا جميعاً من أبينا وأمنا، وخلقنا أطواراً حتى خرجنا إلى هذا الوجود؛ ذلكم الذي فعل ذلك هو الله.

    فقوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [الزمر:6] أي: خالقنا ورازقنا ومنشئنا، القائم علينا جل جلاله بأمره وبنهيه.

    قوله: لَهُ الْمُلْكُ [الزمر:6] له ملك السماوات والأرض وما بينهما، له الكون كله، وهو الدائم الذي لا يفنى، وكل ملك سواه فان، وفي الحقيقة إنما هي أسماء زمنية تنتهي بزمنها، لا نملك مع الله شيئاً لا ولداً ولا عقاراً، ولا رزقاً ولا مالاً، ولكن الله المالك لكل شيء، وإنما ذلك عارية في أيدينا في الحياة الدنيا.

    قال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6] معنى ذلك: هل هذه الصفات، وأن الله هو الخالق الرازق تجعل الناس يصرفون العبادة إلى غيره؟ هل الأولياء الذين اتخذوا أوثاناً من دون الله يقدرون على ذلك؟

    الجواب: الله وحده القادر على كل شيء، وهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص.

    إذاً: الجواب دوماً: الله ربنا لا إله لنا غيره ولا إله للخلق كلهم غيره.

    فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6] أي: إلى أين تصرف وجوهكم؟ ألا ترون أنكم تصرفون وتدفعون عن الإيمان بالله، وعن تصديق أنبيائكم، وعن عبادة ربكم مدة حياتكم إلى لقائه.

    فقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6] أي: فكيف تصرفون عن عبادته ويلعب بكم أئمة الضلال والشرك والوثنية؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ...)

    معنى قوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم)

    قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر:7] .

    الله جل جلاله يعلمنا ويهدينا ويرسل لنا رسله لنعرف كيف نؤمن به، وكيف نمجده ونعبده وندعوه، وكيف نقيم الدين في أنفسنا وندعو غيرنا إلى الإيمان به وعبادته.

    ويقول مع ذلك: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر:7] أي: إنما هذا لخيركم وصلاحكم في الدنيا والآخرة، وإلا فكفركم لا يضر ملكي شيئاً.

    وهذا معنى الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .

    فيا هؤلاء الوثنيون، ويا هؤلاء المشركون الكافرون بالله، يقول الله لكم: إِنْ تَكْفُرُوا [الزمر:7] أي: إن تجحدوا دين الله فإن الله غني عنكم، ليس بحاجة إلى عبادتكم.

    وقال تعالى في سورة الحج: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] ما نقدمه صدقة وما نريق دماً في سبيل الله أيام منى وأيام المناسك، لم ينل الله من تلك الدماء ولا من تلك اللحوم شيء، ولكن ذلك ينفعنا نحن، ونكون به قد امتثلنا أمر ربنا، ويعود ذلك على فقرائنا ومساكيننا، وهذه هي العبادة، إن أحسن الإنسان أحسن لنفسه، وإن أساء فعليها.

    فقال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] أي: الله غني عن إيماننا لا يضره كفرنا، ومع ذلك لا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر به، فهو يكره الكفر والكافرين.

    قال تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].

    أي: إن تذكروا الله وتقولوا: الحمد لله -ولا يقولها إلا مؤمن- يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] أي: يرضى لنا الإيمان إن نحن آمنا بربنا وشكرنا نعمه وقلنا: الحمد لله، وكما كان الخلق في البداية بحمد الله رب العالمين، وفي النهاية كذلك: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].

    ولا يحمد ربه ويشكره إلا مؤمن، ولذلك من يشكر الله يرض الله منه ذلك ويجازه عليه.

    معنى قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

    قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الزمر:7] من عدل الله جل جلاله وكرمه أنه لا يعاقب أحداً بذنب أحد، والوازرة: مرتكب الوزر، والوزر: الإثم نفسه.

    فلا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل من أذنب فذنبه على نفسه، لا يذنب الولد بذنب أبيه ولا بذنب ابنه، ولا الصاحب بصاحبته، ولا الصاحبة بصاحبها، فكل مسئول عن نفسه، وهذه قاعدة عامة في دستور الإسلام.

    فأولاد المشركين إيمانهم لهم، وكفرهم لهم، وكفر آبائهم وشرك آبائهم لا يضرهم.

    وقد أمرنا الله بأن نربي أولادنا على الإيمان والتوحيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) .

    فإذا مات الأبوان ولم يربيا وليدهما على الصلاة وهو ابن سبع، ولم يضرباه عليها وهو ابن عشر، ثم شبَّ على ترك الصلاة يكون الذنب عليه، إذ يعذب تارك الصلاة من الولد والبنت، ويعذب الأبوان، ولا يعذب الأبوان بذنب ولديهما ولكنهما أمرا أن يعلماه الصلاة ويضرباه عليها فلم يفعلا، وبذلك يكون قد جنيا على أنفسهما حيث تركا ما أمرهما الله بأن يفعلاه مع أولادهما.

    وكذلك العلماء إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، سئلوا عن ذلك وحوسبوا، لا لأنهم يتحملون أوزار غيرهم ولكنهم أمروا بأن يفعلوا ذلك تهديداً للناس وتعليماً فلم يفعلوا.

    وقد ذم الله اليهود من قبل فقال عنهم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

    جعل الله عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ذنباً في حد ذاته، فلعنهم بذلك وعاقبهم، فالله سبحانه يقص علينا قصص بني إسرائيل لنحذر أن نسير على منهجهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.

    فإذا وقعنا عوقبنا عقوبتهم، وهذا الذي حدث، إذ خرجنا عن أمر الله وخالفناه، وخرجنا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فسلط الله علينا هؤلاء الأعداء عقوبة منه، لأننا تركنا الله وكتابه وتركنا نبيه وسنته، خاصة ونحن أخذنا ندعو بدعوة الفلاسفة واليهود والملاحدة أمثال ماركس ولينين ، والبهائية والوجودية والاشتراكية، وجميع الفرق الضالة المضلة.

    فنحن عندما نترك الاقتداء برسول الله وخلفائه الراشدين وأئمتنا الهادين المهديين، ونسعى لطاعة اليهود وللعمل على أديانهم ومذاهبهم نكون قد استحققنا العقوبة من الله، وتزداد العقوبة عندما يظهر بعضنا العبودية لهم والتعلق بهم والتفاخر باتباعهم والعمل على ألوهيتهم وعلى طاعتهم أكثر من طاعة الله ورسوله، وتلك لعنة لعن الله بها من فعلها وسعى لها ورضيها وعمل لها ودعا إليها.

    فالراضي بالمنكر والساكت سواء، والساكت عن الحق شيطان.

    معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم ...)

    قال تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر:7].

    وبعد هذه الحياة وأوامر الله لنا ونواهيه، وأوامر رسول الله لنا ونواهيه؛ يكون الموت، وبعد الموت نعرض على الله فيحاسبنا وينبئنا بما عملت أيدينا، يوم تشهد على الإنسان يده وفخذه ولسانه، حتى إذا أنكر أو كذب شهدت عليه أعضاء الجسد بأنه فعل كذا وكذا.

    فقوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ)، أي: نرجع إلى ربنا يوم القيامة، يوم العرض على الله.

    قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: فيخبرنا بأعمالنا، وقد كلف الله بنا ملكين: ملكاً عن اليمين يكتب الحسنات، وملكاً عن اليسار يكتب السيئات، ويعطى الإنسان كتابه، فأما الصالح فبيمينه، وأما الضال فبيساره، وفي تلك الساعة يعلم هل هو من أهل الجحيم أو من أهل الجنة.

    قال تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: عليم بما خفي من أعمالنا ونياتنا وأقوالنا وخواطر نفوسنا، فما تحدث به نفسك وما يخطر ببالك من خواطر ولم ينطق بها لسانك ولم يكتبها منك قلم، فالله عليم بها.

    فما في صدورنا مما انطوت عليه وأخفته، من الخواطر والضمائر والأسرار يعلمها الله، يعلم من أضمر خيراً ومن أضمر شراً، ولكن الله جل جلاله لا يعاقب الإنسان إلا بما صنع وقال، إلا أن يكون منافقاً يظهر الكفر ولا ينطق بالإيمان، فإن نفاق العقيدة هو الشرك، بل هو أقبح من الشرك، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ...)

    قال تعالى:

    وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].

    يقول الله جل جلاله: ومنكم أيها الناس من يدعو الله قائماً إذا أصابه الضر أو البلاء من فقر ومرض وغيره، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس:12] .

    فمن الناس من إذا أصابه ضر في نفس أو روح أو ما يتعلق به أخذ في الدعاء والضراعة إلى الله، حتى إذا استجاب الله له إذا به يغير ويبدل.

    قال تعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8].

    أي: إذا جعل الله له ما يتخوله ويتملكه ويتصرف فيه بأن أكرمه وعافاه؛ بادر بالكفر والجحود والعصيان، ونسي ما كان يقوله من قبل من دعاء وضراعة.

    وهذا المعنى يقول عنه عليه الصلاة والسلام مفسراً: (اعرف الله تعالى في الرخاء يعرفك في الشدة) .

    من عرف الله في الرخاء أي: عبده ودعاه وخافه ورجاه وهو في رخاء وعافية، وهذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء يعرفه الله في الشدة، أي: إذا أصابته شدة من ضر أو حادث أو مرض فإن الله يتعرف إليه عندما يقول: رب أزل ما بي، لا باب إلا بابك ولا رب إلا أنت، ولا كاشف للداء إلا أنت يا رب، هذا الذي تعرف إلى الله في الرخاء كان حقاً على الله أن يتعرف إليه في الشدة.

    فقوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8] أي: حتى إذا خوله وملكه وأنعم عليه بنعمة نسي دعاءه الأول ورجاءه الأول وضراعته الأولى، وهذا عمل المنافق الكاذب الذي يؤمن على حرف.

    فإذا هو رزق قال: أنا مؤمن، وإذا هو امتحن نسي الله ودعاءه والعبادة له، وما أكثر الناس في هذا.

    في هذه الآيات أسباب نزول ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    وقد حدث هذا من أشخاص ونزلت الآيات بسببهم؛ ولكنها عامة في لفظها.

    ولذلك من أراد أن يستجيب الله دعاءه ويكشف ما به من ضر، فليذكر الله وهو صحيح البدن، حتى إذا ابتلي وفتن بقي على دعائه وضراعته فيوشك أن يقبل الله دعاءه، ويوشك أن يستجيب الله لضراعته ورجائه.

    قال تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر:8] هذا قد اتخذ مع الله أنداداً، والأنداد: جمع ند، أي: شركاء، وهم عنده في رتبة الله ومنزلته، وهو تمام الشرك وقبيح الوثنية.

    ويقول الله لهذا المشرك: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].

    فهؤلاء وهم في حال الضر والمرض يدعون ويرجون، حتى إذا كشف عنهم الغم والهم نسوا الضراعة والعبادة واتخذوا مع الله أنداداً وشركاء.

    يقول الله: قل له يا محمد: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر:8] وماذا عساك أن تعيش؟ فقد عاش نوح مئات السنين وجاء بعده آلاف السنين، ومع ذلك كأنه لم يعش ساعة.

    قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر:8] فالحياة الدنيا كلها متاع قليل.

    قال تعالى: إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8] ولو لم يمت بعد ولم يدخلها، ولكن المتوقع كالواقع، أليس الصبح بقريب؟ بلى، قريب.

    وهكذا يقال لهذا الكافر: مهما كفرت وأصررت على الكفر، فأنت من أصحاب النار ولم تتمتع بالحياة إلا قليلاً، وهيهات هيهات أن ينفعك هذا القليل، فهو في مرض متصل وذل متسلسل وبعد ذلك النار، فهو يمشي على رجليه في دار الدنيا، ومع ذلك هو محسوب من أهل النار.

    1.   

    جزاء القانتين لله في الآخرة

    يضرب الله الأمثال فيقول: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] .

    يقول تعالى: أَمَّنْ [الزمر:9] وهي قراءة حفص وقراءة ورش: (أَمَنْ).

    آناء الليل: جمع آن، أي: ساعات الليل من أوله ومن وسطه ومن آخره.

    فقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا [الزمر:9] أي: أمن هو مطيع لله خاشع له، متهجد في وقت النوم والراحة، والناس نيام وهو بين سجود وقيام، وبين ذكر وتلاوة وتكبير وتهليل، يفعل ذلك خوفاً من عذاب الله، يرجو رحمة ربه، أهذا خير وأفضل أم ذاك الذي يكون ساجداً ولا قائماً؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755954012