إسلام ويب

تفسير سورة فاطر [40-45]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان العرب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يعيشون حياة وثنية، وإذا بهم يرون من حولهم من الشعوب ينتحلون أدياناً سماوية سواء كانت يهودية أو نصرانية، فأقسموا بالله أن لو بعث الله إليهم نبياً من أنفسهم ليكونن أهدى ممن سبقهم من الأمم، فلما جاءهم نبي منهم يعرفون نسبه وخلقه كفر به بعضهم وأبوا أن يتابعوه.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ...)

    قال الله جلت قدرته: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:40-41].

    هذه الآية تحدثنا عنها شارحين ومبينين ومفسرين بما جاء عن الله من آية شبيهة، وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتممها.

    بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر:40].

    يقول الله لنبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله: قل لهؤلاء الذين دعوا وعبدوا شركاء من دون الله زاعمين أنهم شركاء لله: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ [فاطر:40]، كيف ادعوا لهم هذه الألوهية وما دليلهم عليها؟ هل رأوا شيئاً قد خلقوه في الأرض أو صنعوه فيها؟ هل فعلوا فعلاً كفعل الله أو خلقوا كخلق الله؟ أم أنهم قد شاركوه في الخلق والتدبير؟ أم نزل عليهم منا كتاب يبين لهم عبادة الأوثان وعبادة الشركاء؟ كل هذا زعم خسيس لا واقع له، وإنما هي أضاليل وأكاذيب، والاستفهامات في الآية للتعجيز وللتقريع وللإذلال والهوان، وفضحهم بأنهم يقولون ما لا دليل عليه؟ بل غاية ما يفعلون أنهم يأتون للحقائق فيزيفونها بالأباطيل والأضاليل. (بل) إضراب عن كل ما مضى من كون الله له شركاء، ومن كون هؤلاء الشركاء المزيفين خلقوا من الأرض جزءاً أو أشركوا الله فيما عنده في سماواته، ومن كونهم قد أتوا كتاباً يبين لهم ضلالهم ويأمرهم به، والله لا يأمر بالفحشاء، بل كل ذلك لا أصل له.

    بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر:40]، أي: ليس لهؤلاء الظالمين لأنفسهم، المشركين بربهم، المؤمنين بما لم ينزل به سلطاناً، ليس لهؤلاء دليل ولا برهان، إن هم إلا يضل بعضهم بعضاً، ويتبعون ما غرهم من أوهامهم وأكاذيبهم وجهالاتهم، فليس شيء من ذلك قائماً ولا موجوداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ...)

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41].

    يذكر الله جل جلاله عباده بالآيات البينات الدالة على عظمته، فهذه السماوات التي تظلنا، وهذه الأرض التي تقلنا، أمسكهما الله وحده وهو الذي أوقفهما، وإلا فقد كادا يقعان.

    وعدد الله أوجه عظمته وقدرته في السماء لاستنكار ما زعموه من نسبة الشركاء لله، ومن نسبة الولد له.

    كادت أن تسقط السماوات على الأرض، ولكن الله تعالى هو الذي منع سقوطها، ومنع اضطرابها، ومنع أن تنطبق السماء على الأرض عقوبة لهؤلاء، واستفظاعاً لما قالوه عن رب العزة جل جلاله، وهو الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا معين ولا مساعد.

    إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41].

    فهو الذي أمسك السماوات والأرض بقدرته بقوله: (كن) هو الذي أمسكها بتقديره عن أن تقع على الأرض.

    أَنْ تَزُولا [فاطر:41] أن تهتد أو تضطرب حتى تلتقي بالأرض وتطبق على هؤلاء المشركين.

    وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41].

    وإن زالت السماوات وزالت الأرض فوقع بعضها على بعض استفظاعاً لما يشركون، لما وجدت غير الله يعيدها ويمسكها عن أن تسقط وعن أن تقع على الأرض، رحمة منه وحلماً بعباده ورجاء توبتهم وعودتهم إليه، فالله يغفر ذنوب من تاب وأناب، كما أنه يحلم بهم لعلهم يعودون إلى الدين يوماً، ويرجعون إلى الإيمان تاركين للشرك لما فيه من ضلالات وأباطيل، والله عندما يقول هذا يخبر عن الماضين ويظهر حالهم، ويضرب بهم الأمثال للحاضرين في العصر النبوي، ولمن جاء بعدهم وإلى عصرنا، ينذرنا يتوعدنا ويهدد الكافرين منا وممن جاء بعد ذلك وإلى يوم البعث والنشور بأن هذا الكفر وبأن هذا الشرك تكاد السماوات أن ينطبق بعضها على بعض غيظاً منه، وتكاد أن تقع على الأرض استفظاعاً واستعظاماً لما يقول هؤلاء الظالمون لأنفسهم المشركون بالله، ولكن الله لم يفعل إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41].

    والحلم هنا بالنسبة للكافرين: أنه أرجأهم وأمهلهم ولم يهملهم لعل العمر يطول بهم يوماً فيعودون للتوحيد، ويعودون للإيمان، وما ذاك إلا من حلم الله ورحمته حتى بالكافر، والكافر إن آمن والمشرك إن عاد للإيمان والإسلام فالله يغفر الذنوب، فالإسلام يجب ما قبله، فهو الحليم بعباده، وهو الغفور لذنوب من آمن منهم وتاب وأناب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم ...)

    قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا [فاطر:42].

    يقول ربنا جل جلاله: لقد كان هؤلاء قبل أن يرسل الله لهم عبده ونبيه وسيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم يقسمون فيما بينهم الأيمان المحرجة المغلظة بكل جهدهم وكل طاقتهم على أنواع الأيمان، فيقسمون بالله وبجميع صفاته وبجميع أسمائه الحسنى على أنه إذا أرسل الله لهم رسولاً منذراً كما سبق أن أرسل لغيرهم من أهل الكتاب -كموسى وعيسى اللذين أرسلا إلى اليهود والنصارى- أنهم سيهتدون ويؤمنون، وقد أكدوا ذلك أشد تأكيد، ولذا حكى الله عنهم هذا التأكيد فقال: لَيَكُونُنَّ [فاطر:42] فهم يقسمون ويؤكدون القسم بالله بالنون المؤكدة لهذه اليمين -النون المشددة- إن أرسل الله لهم رسولاً لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ [فاطر:42] أي: فسيكونون أكثر هداية وإيماناً وصلاحاً من إحدى الأمم، ويعنون بالأمم اليهود والنصارى. وهذا الإقسام بأنهم سيكونون إذا أرسل لهم رسول ينذرهم وأكثر هداية منهم قد ظهر منهم خلافه، إلا بعض من استجاب لله، وكان منهم موحدون كـورقة بن نوفل مثلاً الذي عندما جاء الوحي نبينا عليه الصلاة والسلام ذهبت به زوجته أم المؤمنين الأولى خديجة رضوان الله عليها إلى ورقة وقالت له: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقد كان ورقة موحداً، وكان من ضمن من يرجو أن يأتي الله بنبيه، ولكن ورقة عندما جاءه الرسول المبشر المنذر صلوات الله وسلامه عليه بادر وتمنى أن ينصره، وذلك قبل أن يدعو محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه صاحبه وزوجته وابن عمه، وقبل أن يدعو عشيرته الأقربين، قال ورقة : ليتني كنت فيها جذعاً -شاباً صغيراً- عندما تدعوهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان فيخرجونك لكنت حينها معك أنافح عنك، وأقاتل في سبيلك وفي سبيل تحقيق هذا الدين.

    ومن أجل ذلك ترجم لـورقة أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ورقة نادرة من النوادر، ونبذة من النبذ بين قومه المشركين، إذ الباقون عندما جاءهم النذير منهم كما كانوا يتمنون، وكان من أنفسهم يعرفون حسبه ونسبه، فلقد عاش بينهم وعلموا نشأته وتربيته، وعلموا أمه وأباه وجده، وكان الحفيد لسيد العرب وكبيرهم عبد المطلب ، ومع ذلك لما جاءهم ما زادهم النذير إلا نفوراً، فكفروا به، وخانوا العهد وحنثوا في الأيمان المجهدة المغلظة التي أقسموها.

    فهؤلاء عندما أقسموا جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [فاطر:42] فبذلوا الجهد من أنفسهم مقسمين وحالفين بالأيمان بأسماء الله الحسنى وبأيمانهم إن أكرمهم الله بنبيه -ولم يسبق أن أرسل إليهم نذيراً من قبل في تاريخهم الطويل العريض- لَيَكُونُنَّ [فاطر:42]، يؤكدون أنهم سيكونون أهدى من إحدى الأمم التي أنزلت عليها كتب كاليهود والنصارى وممن سمعوا بهم في رحلتهم، وكان لهم رحلتان في الصيف والشتاء، فكانوا يرونهم في الشام وهي أرض النصارى إذ ذاك، ويرونهم في العراق ويسمعونهم وهم يقولون: أنزل علينا كتاب اسمه التوراة وكتاب اسمه الإنجيل، على أنبيائنا موسى وعيسى، فتمنوا وأقسموا لأنفسهم ومع بعضهم إن جاء العرب رسول مبشر ومنذر ليكونن أهدى منهم، أي: أكثر هداية وأكثر طاعة وأكثر إيماناً، فلما جاءهم النذير إذا بهم يكفرون به، ويتحدونه ويصدون عن سبيله، وبذلك كأنه ما زادهم إلا نفوراً عن الحق وعن النذير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (استكباراً في الأرض ومكر السيئ ...)

    قال تعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ [فاطر:43]، قوله: (استكباراً) بدل عن النفور، أي: أنهم فعلوا ذلك عندما جاءهم النذير فاستكبروا على رسول الله أن يؤمنوا به، واستكبروا على الله أن يكونوا عباداً له، فكانوا عبدة للشيطان ومع ذلك لم يخرجوا عن عبادة الله مكرهين أو راضين، ولكن المكره وهو عبد رغم أنفه له النار، وله العذاب وله الخزي من الله.

    والعبد الراضي بعبوديته تكون عبوديته شرفاً له، وحرية له واستوجبت له الرحمة والرضا من الله ودخول الجنان.

    قوله: وَمَكْرَ السَّيِّئِ [فاطر:43].

    المكر: التحايل في الباطل، والتحايل في الضلال وظهوره، أو التحايل في الفساد والإفساد والصد عن الله ودينه ورسله، قال ربنا: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

    يحيق: يحيط، أي: لا يحيط مكر الماكر، ولا غدرة من يحاول أن يغدر وأن ينفر إلا بمن حاكه ودبره، فهم قد نكثوا العهد، وحنثوا في الأيمان، وتحايلوا بأن يشتموا النبي عليه الصلاة والسلام مكذبين جاحدين برسالته وبالكتاب المنزل إليه، فالله هددهم وأنذرهم وأخبر بحقيقة من الحقائق فأصبحت مثلاً بعد ذلك بين الناس.

    وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، فمن حفر حفرة وقع فيها، ومن نصب لأخيه شبكة سقط فيها، وهكذا هؤلاء حين أرادوا أن يمكروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعوا في دار ندوتهم يتواطئون ويتآمرون أيخرجونه من مكة؟ أيقتلونه؟ أيسجنونه؟ وهم يمكرون، فكانت النتيجة أنهم مكروا بأنفسهم فمكر الله بهم.

    وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

    فأوقعهم الله في يد من أرادوا أن يمكروا به، وسقطوا في اليد العادلة يد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فانتصر عليهم نصراً عزيزاً مؤزراً ودخل مكة فاتحاً، فأخذهم إليه وجمعهم بين يديه كما يجمع الصائد صيده في شبكة، وأخذ يتهددهم ويقول: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟ وذهب صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ودخل الكعبة فوجد فيها ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بيده قوس فأخذ يشير إلى كل صنم ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وهكذا بددت تلك الأصنام واختفت تحت الكعبة، ولعلهم في هذه الحفريات قد وجدوا بعض ذلك، وتمنى ضال من ضلال مصر المنسوبين للعلم وللأدب وللكتابة أن يحفر عن هذه الأصنام ليحتفظ بها على أنها من الآثار الضخمة. فهي آثار بالنسبة للذين يحنون إلى ذكر الوثنية وذكر الأصنام وذكر عبادة الشركاء وهكذا أماني المشركين، وأماني الضالين، يحنون إلى الكفر القديم والشرك القديم ليحولوا الناس إليه ويحيطوا به، فكان عاقبة مكر هؤلاء أن أحاط بهم، وكانت الحفرة التي أرادوا حفرها لنبي الله عليه الصلاة والسلام هي الحفرة التي سقطوا فيها فأصبحت مكة دار الإسلام من ذلك اليوم، وصدر أمر الله جل جلاله الذي لا يرد بأن لا يدخلها كافر بعد ذلك اليوم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].

    فأخبر الله عن المشركين أنهم عين النجاسة، وكما أن النجاسة لا يليق بالمسلم المصلي أن تكون مكان سجوده، أو أن تكون على ثيابه، أو أن تكون على بدنه، فإن مكة حرم وهي أم القرى ومحل البيت الحرام، ومسقط رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزل الوحي الأول، فيها مناسك الحج الواجبة، فوجب على كل إنسان أن يحج إليها مرة في العمر، يأتي إليها منسلخاً عن المحيط والمخيط، لا فرق بين صعلوك ولا ملك، ولا غني ولا فقير بإحرام أشبه بالأكفان، حاسر الرأس في نعال كأنه حاف، وهو يدعو ويقول: لبيك اللهم لبيك، ومنذ ذلك اليوم ومكة معقل الإسلام، وإن أخذوا يحاولون أن يحاربوا رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أن هاجموه في عقر داره بعد أن هاجر للمدينة المنورة فكانت معارك أحد، وكانت معارك الأحزاب، وقد خرج منها جميعها صلى الله عليه وسلم المظفر العزيز المنتصر.

    ثم كانت القاضية وكانت الفاصلة غزوة بدر، كتب الله فيها لنبيه النصر العزيز المؤزر فقتل من زعمائهم ثلاثة وسبعين وأسر ثلاثة وسبعين، وما رفعوا رأساً بعد ذلك، وكما قال ربنا: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

    وقد حاق بهم، وأحاط بهم، فأصبحوا بين شريد وطريد وميت هالك، ومنهم من جر إلى الجنة بالسلاسل، فآمن وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان كمن جر إلى الجنة بالسلاسل، جر أسيراً ثم بعد ذلك اهتدى وحسن إسلامه وقال: لا إله إلا الله وكانت سبب توبته، والإسلام يجب ما قبله.

    ثم قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].

    يقول الله عنهم في استفهام إنكاري توبيخي تقريعي: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) أي: هل يصبرون على كفرهم وشركهم إلى أن يأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر.

    فالأمم السابقة الذين أبوا إلا الكفر والشرك قد أحاطت بهم سيئاتهم، وحاق بهم مكرهم فذهبوا بين غريق، وبين ممسوخ، وبين مقتول، وبين من خسفت به الأرض، وبين من رجم من السماء بأنواع من الرجم ومن حجارة السماء، فهل هؤلاء ينتظرون مثل ذلك، فإن كان الأمر كذلك فلينتظروا فيما هم منتظرون، ولكل وقت ولكل عمل مدة وأجل مسمى.

    قوله: إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ [فاطر:43]، أي: طريقة الأولين ممن سبقهم من الأمم والشعوب التي أبت إلا الكفر والجحود، وأبت إلى التمرد على أنبيائها، ثم أخبر سبحانه أن سنته لا تتبدل فقال: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر:43].

    فسنة الله في المحسن والمسيء أن للمحسن الإحسان، وللمؤمن الجنة، وللمسيء النار وغضب الله، والخزي الدائم، فلن تجد لسنة الله تبديلاً، فسنة الله في خلقه -في المؤمنين والكافرين- لن تبدل ولن تغير، فلن يدخل كافر الجنة رحمة به، وقد حرم الله الجنة على الكافرين، ولن يخلد في النار مؤمن موحد، فسنة الله في الإحسان إلى المحسنين وعقوبة الكافرين كما فعل بالأولين من الشعوب والأمم السابقة كذلك، فهو الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، فمن تبع سنة أولئك ومن فعل فعلهم ستكون سنة الله فيه البطش، والغضب واللعن، والتدمير كأولئك الكافرين السابقين، وقد أكد الله ثبات هذه السنن فقال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، فلا يحول الله سنته بأن يحسن للكافرين ويسيء للمؤمنين، فالله جل جلاله خلق الدنيا دار عبور ومجاز للآخرة، وخلق في الآخرة جنة وناراً، فجعل الجنة للموحدين وجعل النار للكافرين المشركين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ...)

    قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].

    يوجه الله هؤلاء الجاحدين المعاندين إلى الضرب في الأرض والسير فيها بالتنقل بين البراري والجبال، بين الأقاليم والقارات لينظروا إلى آثار الله في الأرض، من الإحسان للمحسنين، ومن العقوبة للمسيئين الكافرين، ولهذا فإن هذه الحفريات التي تكون بحثاً عن الآثار القديمة تزيد المؤمن إيماناً ويقيناً وتعلقاً بكتاب ربه وبطاعة نبيه؛ لأن كل ما قال ربنا في كتابه وبينه نبينا صلى الله عليه وسلم في حكمته وسنته موجود ظاهر يراه من ضرب في الأرض رأي العين، منذ قريب جاء أحد من بعض أقطار أوروبا ممن يمت إلي بصلة القربى فأخبر أنه وجد هناك ما أخبر الله به من حجارة، كانوا أناسي فمسخوا، حين جاءتهم الصرعة فظلوا على حالهم فبعضهم كان منحنياً، وبعضهم كان ممتداً، وبعضهم كان يستقي، وبعضهم كان يخدم، وبعضهم يحاول الركوب، وبعضهم كان يجري، فجاءتهم الصعقة فبقي كل واحد منهم على تلك الحالة، ومع الأيام ارتطمت عليهم جبال بزلزال من الأرض فجمدوا وأصبحوا حجارة، فلما نبشت الآثار عنهم وجدوا أنهم قد تجمدوا فأصبحوا حجارة فنقلوهم إلى متاحفهم، وقد أخبرنا الله تعالى عن قوم ثمود وقوم صالح وما حل بهم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يسرع المشي عندما يمر في هذه الأرض، كما حدث في غزوة تبوك وقد مر جيشه على أرض أولئك وسقوا من هذه المياه فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فوجدهم قد خبزوا به، فأمرهم أن يرموا ذلك الخبز أو يطرحوه للدواب وقال: (من مر منكم على مثل هذه الأرض -أرض الهالكين.. أرض المشركين.. أرض المغضوب عليهم- فليتباكى، وليفر حتى لا يصيبه ما أصابهم).

    وكان من الله التنبيه على الاعتبار بحال أولئك فقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [فاطر:44]، أي: أولم يرحلوا، أولم يسيحوا، والاستفهام هنا استفهام تحريض، أي: فليسيحوا وليضربوا في الأرض لينظروا رأي العين آثار من مضى قبلهم، وآثار من هلك قبلهم، مع أن أولئك كانوا أشد قوة من العرب، ومن عجم اليوم من سكان الأرض على كثرة دعواهم في أنهم أكثر سلطاناً، وأكثر حضارة وأكثر قوة، إلا أن ما يقولونه ما هو إلا كذب وإضلال واغترار بأنفسهم، ومن مر منا فرأى أهرامات مصر وموميات مصر، ورأى خرائب أرض بابل في العراق، لا شك أن الإنسان يقف مذهولاً أمام هذه الحجارة العملاقة التي بنيت بها الأهرامات، إذ يصل حجم الواحدة منها ما يمكن به أن يملأ غرفتين أو ثلاث، وكيف أنها قطعت من جبال الطور، فتحدث عنده التساؤلات: كيف اقتطعت على شكل واحد؟ ثم كيف جرت؟ وكيف حملت إلى موضع البناء؟ ما هي هذه القوة التي صنعت ذلك؟ لابد من وجود آلات لفعل ذلك، ولابد من أدوات لكنها إلى الآن ليست عند أحد.

    ومن رأى موميات فرعون والفراعنة الذين معه، والأموات قبله وبعده وقد مضى عليهم آلاف السنين وهم بين العواصف والأمطار والشموس، وبين كر الليل والنهار، ولا تزال كما هي جلدة على عظم، لم تصبح رماداً، ولم تؤثر فيها عواصف ولا أمطار ولا شموس، من يرى هذه الحال لا شك أنه سيتساءل: ما هي المواد التي كانوا يصنعونها لتساعد في بقائهم هذه المدة من قرون، وكان زعماء الكفر في الفاتيكان يحتفظون بباواتهم في نواويس وصناديق من زجاج، وقد رأيت ذلك كما رأيت الأهرام وأبنية بابل، رأيت هذه النواويس في الفاتيكان تجد هذا البابا الضال ممدداً بلباسه وبشكله وبشعراته في لحيته، يقفل عليه في قطعة واحدة من الزجاج ويبقى على حاله قرنان أو ثلاثة أو أكثر، ولكن أحياناً ينكسر هذا الزجاج وإذا بهذه الجثة تصبح رماداً بمجرد ما يدخلها الهواء، فهم عاجزون عن أن يفعلوا ما فعله الأقدمون في مصر وأرض بابل.

    حكم بابل هارون الرشيد فساح مرة في ضواحي بغداد فوقف على هذه الخرائب فقال للبرامكة من وزرائه: أريد قصراً على هذه الخرائب، فقال له جعفر ويحيى: يا أمير المؤمنين! لو حاولنا هدم المتبقي من هذه الخرائب لما استطعنا ذلك في سنين، فضحك منه هارون وقال: خربها وسوها بالأرض وابن قصراً فيها، فامتثل، وبقي سنتين أو ثلاث وهو يضرب في هذه الخرائب ما استطاع أن يزيل منها ويخرب أكثر من ذراع أو ذراعين، فيا ترى ما هي هذه المواد التي أدخلوها في هذه الرمال وهذه الأتربة وهذه الحجارة حتى أصبح القصر قطعة واحدة، فلو كان حجارة لانفجر، بعد ذلك يئس هارون واعترف بأنه لا يستطيع، وحاولوا بكل قريب وبعيد وبكل أنواع المواد أن يصنعوا مثل ذلك فعجزوا وعجز من جاء بعدهم إلى عصرنا، فذلك قول الله: وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فاطر:44]، فإنهم ليسوا أكثر قوة من العرب فقط، بل ومن العجم ومن أوربا وأمريكا وغيرها من البلاد أيضاً.

    فالله حين أمرنا بقوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فاطر:44]، ذهبنا ونظرنا ونظر معاصرونا، ومن قبلنا فرجع الكل ذاهلاً متعجباً عاجزاً عن أن يصنع مثل ذلك، يقول الله لهؤلاء الكفرة المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن سيأتي بعدهم: انظروا إلى أولئك الأقوياء الذين نحتوا الجبال قصوراً، وكان قد منح الله الإنسان منهم طولاً وعرضاً، فآدم كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام (في طول أطول نخلة سحول)، عرضه أمتار وطوله أمتار، وكانوا يعيشون الألف عام أو أكثر أو أقل، وتأكيد ذلك من كتاب الله عن نوح إذ لبث في قومه كما أخبر الله عنه: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14]، ذلك مع القوة في الأيدي والصحة، وكانوا يتزوجون المئات، وقصة سليمان التي في الصحاح: أنه طاف ليلة على مائة جارية وقال: لآتين منهن بمائة فارس، ولم يقل إن شاء الله، فلم تأته المائة كلها، ولم تأت بأكثر من مثل وليد، فكان ذلك من الله تأديباً لسليمان حيث عامله بنقيض القصد، وقال لنبينا ولنا ضمناً: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

    فالإنسان في كل شيء يريد أن يفعله بعد الزمن الذي هو فيه لا بد أن يقول: إن شاء الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30].

    فالمشيئة بيده والخلق بيده، والأمر بيده، ولسنا إلا آلة بيده في الرقعة الإلهية يرفعنا كما شاء ويضعنا كما شاء.

    والله حين يحدثنا بأخبار من مضى أو حين يوجهنا إلى النظر في سيرهم كقوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فاطر:44].

    يبين كيف صنع بهم مع ما كانوا عليه، وأنه أهلكهم وأغرقهم وزلزل بهم الأرض ورجمهم بحجارة من السماء فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، أيعجزه هؤلاء الضعاف الذين لا يكادون يستطيعون دفع ضر عن أنفسهم، ولا جلب خير لهم إلا إذا أراد الله ذلك، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].

    فلا يعجز الله شيء، كيف وهو القادر على كل شيء، الذي قدر وخلق هذه السماوات العلى، وقدر فخلق هذه الأراضين السفلى، وخلق هذا الإنسان العجيب الغريب الذي ينظر بعينين، ويسمع بأذنين، ويبطش بيدين ويمشي على رجلين، ويفكر بذهن وقلب، من خلقه؟ من نفخ فيه من روحه؟ من قدر له قوته؟ من أحياه ومن ثم يميته؟ لا جواب عن كل ذلك إلا الله، فالله وحده القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه، قال عن نفسه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ [فاطر:44].

    إذا دخلت (من) على النكرة دلت على العموم، أي: ليس شيء من خلق الله في السماوات السبع وما فوقها وما تحتها، وفي الأرضين السبع وما عليها وما تحتها يعجز الله، فهو القادر على كل شيء، وكما أوجد هذا الكون بما فيه فإنه قادر على إفنائه والقضاء عليه، إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].

    كان عليماً بخلقه وما يصلحهم، وما يضرهم وما ينفعهم، فهو يعلم ما هو صلاحهم في مستقبل أيامهم، وما هو ضررهم في الحال وفي الاستقبال، غفور لمن استغفره وآمن به، وقال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ...)

    قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    يقول ربنا جل جلاله: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، الإنسان في هذا الكون مصدر السوء والذنب والعصيان والمخالفة، فلو عجل الله عقابه ومؤاخذته وعجل حسابه، مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61] الكناية على شيء غير مذكور وإنما سياق الكلام يدل عليه، أي: على الأرض، فالإنسان هو الذي على الأرض، فلو أن الله جل جلاله شاء أن يؤاخذ الناس بذنوبهم ومعاصيهم ومخالفاتهم، من شرك المشرك ومعصية المؤمن لما ترك على ظهرها دابة، أي: بسبب كسب الناس من ذنوب ومعاص وآثام لم يترك على ظهر الأرض دابة.

    والدابة: ما يدب على وجه الأرض، فهي تشمل الإنسان وغير الإنسان، والكلام على الإنسان، وإذا أردنا أن نفهم العموم فالأمر واحد، ولو أراد الله هلاك الناس لأفاض عليهم البحار والمياه كما أفاضها على قوم نوح أو كما أفاضها على فرعون وهامان وقومهما، ولو أراد الله هلاك الناس لأمسك القطر فما نزل مطر ولا غيث، فماتت الدواب والأنعام والمواشي، ومات كل حي على وجه الأرض، ولكن الله تعالى رحمة منه ترك لذلك أجلاً مسمى، قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45]، الأجل المسمى إما إلى يوم القيامة أو إلى أجل مسمى في الدنيا، فقد تكون العقوبة في الدنيا إلا أنها تكون خاصة، وقد تكون عامة في شعب أو أمة، كأن يذلهم بعد عز، أو يسلط أذل خلقه عليهم فيستعمرهم بعد استقلال وسيادة، أو يصيبهم بالجوع والقحط وشح المطر، أو يصيبهم بأنواع من الأمراض والأوبئة.. وعذاب الله منوع أعاذنا الله وحمانا من كل ذلك بفضله وكرمه، فلو شاء الله ذلك لما وقفت قوة في السماء ولا في الأرض دون ما يريده ودون مشيئته جل جلاله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، فما من قوة في السماوات ولا في الأرض تحول بينه وبين ما يريد، قال سبحانه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، ولكن لم يفعل ذلك فأخرهم حلماً منه ورحمة منه (إلى أجل مسمى)، أي: إلى زمن ووقت مسمى عنده، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وآخر الآجال المسماة عنده يوم القيامة.

    قوله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    لم يقل ربنا إذا جاء الأجل كان بعباده معذباً أو منتقماً، مع أنه لو شاء لعاقب المؤمن والكافر، فالمؤمن يعذب لبعض ذنوبه والكافر لشركه، ولكن كل ذلك أوقفه إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يقل إذا جاء الأجل أهلكهم وقضى عليهم؛ لأنه يعلم ويبصر أن بين هؤلاء موحد، وبينهم المشرك غير الموحد، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    فهو الذي يبصر أعمال عباده، فيغفر للمؤمن المستغفر، ويغفر للموحد وقد يغفر له الذنوب كاملة دون عذاب، وقد تقدم ذكر فئات الأمة المحمدية الثلاث: الظالم لنفسه وهو المرتكب للكبائر، والمقتصد المرتكب للصغائر، والسابق بالخيرات الذي لم يرتكب كبيرة، وإذا ارتكب صغيرة بادر إلى الاستغفار، وكلهم كما قال ربنا عنهم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد:23].

    ولذلك يقول ربنا هنا بعد أن أنذر وتوعد وهدد بأنه لولا حلمه وكرمه ورحمته بالمؤمن والكافر ما ترك على ظهر الدنيا من دابة.

    قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    فهو ينظر إلى عمل عباده، فمن كان مؤمناً ومات على الإيمان غفر له، ولربما يكون من السابقين ولم يدخل النار قط، وإن كان من المسرفين فقد يغفر الله له دون حساب ولا عقاب رحمة منه، وقد يحاسبه، ومع ذلك يعذب من شاء الله له أن يعذب، ومآله إلى الجنة، ولن يخلد مؤمن في جهنم أبداً، فجهنم هي في الأصل دار المشركين الكافرين، والجنة محرمة عليهم، والجنة هي في الأصل دار الموحدين، فمن دخلها من أول يوم فهي داره التي تنتظره، ومن تأخر عنها من عصاة المسلمين فمآله إليها لا محيد عنها، فالله قد جعلها الدار الثانية الدائمة ذات النعيم المقيم لكل من مات على التوحيد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974475