إسلام ويب

تفسير سورة القصص [18-22]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان سيدنا موسى عليه السلام قد قتل قبطياً وجده يختصم مع أحد بني إسرائيل، ثم ندم على فعلته واستغفر ربه فغفر له؛ لكنه ظل خائفاً يترقب، ثم جاء في اليوم الثاني فوجد ذلك الإسرائيلي يختصم مع قبطي آخر فاستصرخه فهب لنصرته ففضحه، وخاف موسى على نفسه فخرج من مصر وتوجه تلقاء مدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب ...)

    قال الله جل جلاله: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص:18] .

    لا نزال مع موسى عليه السلام، حيث خرج إلى المدينة فاستغاثه إسرائيلي من قومه على قبطي من أعدائه فوكزه فقتله، وكان الوقت وقت غفلة وفراغ من الناس في الأزقة والدروب، حيث كان وقت القيلولة والزوال أو وقت المغرب والعشاء وما بينهما، وإذا بموسى يُصبح خائفاً مترقباً متوقعاً شيئاً من فرعون وملئه لإيذائه والبطش به: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) .

    وإذا باليوم التالي لم يرجع موسى إلى فرعون ولا إلى بيته، وأصبح الصباح وهو في خوف وترقب، وفي انتظار طلبه وكشف فعلته لقتله القبطي.

    قوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) أي: يجول في الأسواق ويقطع الدروب وهو وجل خائف من قوم فرعون الأقباط.

    (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) أي: وإذا بصاحبه الذي من أجله قتل النفس القبطية بالأمس يستصرخه ويناديه لينصره مرة أخرى على قبطي آخر: يا موسى أغثني! وإذا بموسى يقول له: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) .

    أي: فقال له موسى: إنك غوي تدعو للضلالة، وبسببك أزهقت روحاً بالأمس، إن ضلالتك وغوايتك بيّنة، فماذا تريد اليوم وأنا لا أزال أفكّر في فعلتي بالأمس، يا هذا! إنك ضال مضل، غوايتك وفسادك بيّن ظاهر.. فكلمة الأمس تعني أي يوم سابق ليومه، فإذا لم تدخلها الألف واللام فهي معرفة مبنية على الكسر وإذا دخلت عليها الألف واللام نكرت كما هنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما...)

    قال تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19] .

    أي: فلما أراد موسى أن يضرب قبطياً آخر نصرة لقومه ولهذا الإسرائيلي من جماعته وعشيرته، وإذا بالإسرائيلي يصيح في موسى ويقول له: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:19].

    هذا الإسرائيلي عندما رأى موسى مقبلاً عليه، هاجماً إليه وهو قد قابله بهذه الكلمة: إنك غاو مضل بيّن الغواية والضلالة، فعندما أقبل موسى ظن هذا الإسرائيلي أن موسى يريد البطش به لا بالقبطي، ففزع، وكما قال ربنا: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) والذي هو عدو لموسى ولهذا الإسرائيلي هو قبطي.

    (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى) قال ذلك الإسرائيلي ونادى موسى وسمّاه وكشفه أمام هذا القبطي: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْس) وناداه باسمه يا موسى، فكان بذلك قد أعلن جريمته في نظر القبطي، وكشف حادثته، وكان الأقباط مع فرعون يبحثون عن قاتل هذا القتيل الذي وجد ملقىً في الشوارع ولم يعرف من القاتل، ولم يوجد شاهد ولا دليل، إذ قتله في وقت غفلة من الناس ولم يكن في الشارع أحد إلا موسى وهذا الإسرائيلي والقبطي.

    ولكن هنا عندما كادت تتكرر الحادثة مع الإسرائيلي السابق نفسه ووبّخه موسى وقال: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ثم أراد البطش بالقبطي ظن الإسرائيلي أنه سيبطش به لا بالقبطي، فصاح فيه مسمياً له: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْس) وبهذا سمع القبطي الذي كان يريد موسى أن يبطش به مرة ثانية أن القاتل بالأمس هو موسى.

    قوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْض) أخذ يشتم موسى ويصفه بالجبروت والطغيان، وبالاستعلاء والظلم، والجبّار من الناس هو الظالم المتكبّر، وهو المؤذي، هو الذي إن قتل لا يبالي وإن شتم لا يبالي؛ فذهب هذا الإسرائيلي يشتم موسى بوصفه جبّاراً في الأرض.

    (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ) أي: لست تريد إلا أن تكون جبّاراً من الجبابرة.

    (وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ولا تريد الخير ولا الصلاح ولا الإحسان، فأنت ظالم بين الظالمين.

    وإذا بالقبطي يفر ويذهب مسرعاً إلى فرعون قائلاً: لقد اكتشفت قاتل القبطي بالأمس، إنه موسى الذي نشأ في بيتك وعلى فراشك، وتغذى بنعمتك، وكان موسى قد ترك قصر فرعون وقال عن نفسه: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17] فكان من ذلك أن ترك فرعون وقومه واستقل بنفسه على خوفه ووجله من أن يُحاسب بالقتيل ويُكشف أمره، وهذا ما حذر منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ...)

    وإذا باليوم الثاني، قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20].

    أي: بلغ الخبر فرعون ، وجاء رجل من قصر فرعون (يَسْعَى) أي: يهرول ويجري، ويبادر ليبلّغ موسى قبل حبسه وقتله وتوصل فرعون لإيذائه والبطش به.

    قالوا: هذا المبلّغ كان مؤمن آل فرعون، الذي أخبر الله جل جلاله عنه في سورة غافر، ويقال: اسمه شمعون، وقيل: شميع ، وهذه أسماء لا أصل لها ولم تُذكر في القرآن، ولم تثبت في السنة؛ وإنما هي أشبه بالإسرائيلية.

    (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي: من أبعد المدينة حيث يسكن فرعون على ثلاثة أميال من مصر كما قالوا، وأقصى المدينة تدل على ذلك، وسرعته وسعيه وجريه للوصول إليه يؤكّد ذلك.

    (قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي: يتآمرون عليك ويتباحثون في الانتقام منك جزاءً لما صنعت بالقبطي من قومهم وجماعتهم، ومن رجالهم.

    (فَاخْرُجْ) أي: اترك البلد واخرج منه (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أنا أنصحك يا موسى إن كنت تريد حياتك والحفاظ عليها، فإن القوم تجمّعت لهم عنك مؤاخذات في شتمك وتسفيهك لـفرعون ، وعدم اعتقادك بألوهيته، وبقتلك للقبطي، وبدفاعك عن قومك، هذا الذي يريد الآن فرعون أن يبطش بك وينتقم لجماعته منك ولنفسه.

    (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أمحضك النصح وأحثك على خير نفسك، وألا ينالك من الجماعة مكروه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب ...)

    فبلغ الخبر موسى وكان خائفاً مترقباً ينتظر ما يسمع وينتظر ما يبلغه، وإذا بما كان يخاف منه قد بلغه، قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].

    ترك المدينة.. ترك مصر، وخرج من الأرض هارباً بنفسه وبحياته من ظلم فرعون ، وحقد الأقباط وتآمرهم على قتله وعلى البطش به.

    فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21] خاف أن يُدركوه فأصبح بكل خلايا بدنه يسمع لعله يُصرخ عليه من هنا! لعله يلاحق من هنا! لعله لا يستطيع الخروج عن حدود مصر وحكم فرعون ! خرج هائماً لا يعرف طريقاً، ولا يعرف سبيلاً، ولكن فعل ما فعل اعتماداً على ربه أن يهديه سواء السبيل، وأن يُنجيه من فرعون وقومه.

    (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) نجّني منهم.. احفظني من بطشهم.. احفظ حياتي من إيذائهم ومن مكرهم وتآمرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين ...)

    قال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22].

    ترك مصر وأخذ الطريق إلى أرض مدين وهو لا يعرف طريقاً .. أقبل بوجهه سائراً إليها لا يعرف طريقاً، ولا يعرف مسلكاً، وهو خائف من أن يراه أحد يعرفه فيقبض عليه ويسلّمه لـفرعون، فهو مع هذا مترقّب ومتخوف ومتوجس شراً من هؤلاء.

    قوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) أي: تلقاء أرض مدين.

    (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) يرجو ربه ويدعو إلهه جل جلاله أن يهديه للطريق السواء المستقيم، حتى يصل إلى قبائل مدين وأرض مدين، وهي على بعد ثلاثة أيام من مصر بسير الإبل.

    فاستجاب ربه له، وقطع الطريق خلال أيام ليس معه إلا ربه، قالوا: خرج جائعاً عطشان في مثل هذه الصحاري، ما تجرأ أن يطلب طعاماً، وخاف من أن يتكلم، أو أن يطلب ماءً، والحذاء كذلك قد تآكل، فأخذ يمشي في هذه الصحاري مع شدة الحر، يصل الليل بالنهار.. إلى أن وصل إلى بئر يستقي منها الناس، قال تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) ولم مدين؟

    مدين أرض أجداده، ومدين هو ابن إبراهيم عليه السلام، وموسى من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أراد أن يذهب إلى أرض فيها آثار عشائره، وفيها آثار آبائه ليس فيها حكم فرعون ولا حكم الأقباط.. أخذ الطريق ودعا ربه أن يهديه الطريق المستقيم إلى مدين، ووصل مدين وهدي إلى الطريق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000721