إسلام ويب

تفسير سورة القصص [1-3]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة القصص من السور العظيمة التي ابتدأت بالحروف المقطعة (طسم)، وفيها يتلو رب العزة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من نبأ موسى وفرعون بالتفصيل منذ ولادة موسى عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (طسم)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص:1-3] .

    هذه السورة مكية إلا آيتين أو ثلاثاً وعدد آياتها (88) آية.

    وهناك آية واحدة نزلت بين مكة والمدينة عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مهاجراً من مكة مسقط رأسه وبلد قومه وعشيرته، عندما اضطره كفارها إلى تركها والخروج عنها خروجاً أبدياً إلى يوم القيامة، فحُرموا بركته ورسالته، ولكن الله بعد ذلك أكرم كثيراً منهم بالإيمان، فتم الشرف لأهل مكة والمدينة بالإيمان برسول الله ثم حرّمها على الكافرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] .

    خرج الكفر منها خروجاً أبدياً، ولن يعود بحكم الله، على أن يكون له الشأن ما دامت الدنيا ودام الإسلام، أما في أُخريات الزمان وعند قيام الساعة فتلك لها حكم، وتأتي في كتاب الله، وقد أتت مرة.

    أما الآية التي نزلت في الطريق بين مكة والمدينة فإنها نزلت في الجحفة ميقات أهل المغرب، وهي ما تسمى اليوم (رابغ)، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [القصص:85] فكانت هذه الآية وحدها تُعتبر مدنية مكية، لا مكية خالصة، ولا مدنية خالصة، ولكن تُعتبر بينهما، فقد نزلت في الطريق بين مكة والمدينة.

    قال تعالى: طسم [القصص:1] أي: طاء سين ميم، هذه الأحرف الهجائية التي طالما تحدثنا عنها وقلنا: إن المفسرين قديماً وحديثاً تنازعوا واختلفوا في معناها؟ فقال البعض: هي أرقام حسابية، ولا دليل لهم، وقال البعض: هي أسماء إلهية ورموز، ولا دليل لهم إلى غير ذلك من الأقوال.

    والأقرب للحق والصواب ما قاله الزمخشري في كشافه وسانده وأيده مفسِّر مُعاصر - أعني الشيخ الشنقيطي ، وتفسيره بين التفاسير المعاصرة من أحسنها ومن أكملها دليلاً وبرهاناً - حيث قالوا: القرآن مُعجز.. وهذا معلوم من الدين بالضرورة علمناه علماً واقعاً تحدى الله البشر والخلق أيام نزول القرآن على سيد البشر وسيد العرب صلى الله عليه وسلم وعلى أقوامه، وكانوا الفصحاء والبلغاء، وكانوا أمراء الكلام شعراً ونثراً، وكان القرآن قد نزل بلغتهم.

    فالقرآن تحداهم وأعجزهم على بلاغتهم أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أو يأتوا بآية من مثله.

    نبي الله أُعطي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، وهو أفصح العرب على الإطلاق، ومع ذلك إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم من قِبل نفسه قلت: هذا كلام بليغ فصيح؛ ولكنك إذا قرأت القرآن تجد الكلام المعجز، والكلام الأبلغ والأفصح.

    فهو عندما يتكلم بالقرآن يكون في رتبة المتكلم بكلام الله والتالي لكلام الله؛ فإذا تكلم وتحدث عن نفسه وبقوله ينزل رتبة عن ذلك، ومعناه أن القرآن فيه تعجيز للخلق أنبياء ورسلاً وملائكة وبلغاء.

    ومعنى معجز: أي: أعجز البشر، ومسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة في الحياة النبوية ذهب يقول: أنا كذلك أوحي إلي، وأخذ يتلو على الناس كلاماً يقول هو قرآنه، وكان من الهراء والسخف، ومما يضحك الثكلى ما كان يقول: أوحي إليّ، فتارة كان يقول: قسمت الأرض بيني وبين قريش، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون، الطاووس وما الطاووس؟! والذبابة وما الذبابة؟! لها شعر ولها ريش! وأخذ يهذي هذا الهذيان؛ ولا يزال ذلك مسجلاً في الكتب ليضحك به الثكلى.

    وقالوا عن المعري الشامي أنه حاول كذلك في اللزوميات أن يعارض القرآن، وقد دافع عنه قومه، وعلى كل اعتبار قصد ذلك أو لم يقصده أين اللزوميات في فصاحتها وبلاغتها، وأين فصاحة النبي عليه الصلاة والسلام؟ بل أين فصاحة القرآن وبلاغة كلام الله المعجز؟ وهنا سيقول قائل: القرآن نزل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى الإعجاز؟

    فإن الله زيادة في التحدي ابتدأ الكثير من السور: الر [الحجر:1] الم [البقرة:1] حم [غافر:1] يس [يس:1] طسم [القصص:1] الأحرف هي أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، وكأن الله يقول: هذا القرآن حروفه المتكونة منه، القائمة على جمله وتعابيره، هذه هي الحروف العربية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف:2] لكن أتستطيعون أن تفعلوا ذلك، والحروف أمامكم واللغة طوع يدكم؟ ولذلك لا تكاد تجد هذه الأحرف إلا وذُكر القرآن بعدها: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2] وهنا: طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [القصص:1-2].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين)

    قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [القصص:2].

    معناه: الله تعالى تكلم بالقرآن وأنزله على نبيه بواسطة الروح الأمين جبريل عليه وعلى نبينا السلام، كان هذا من هذه الأحرف، أتستطيعون أن تأتوا بمثلها؟ هيهات لا مؤمن ولا كافر! طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [القصص:1-2].

    الإشارة إلى هذه الأحرف، وهذه الأحرف منها كان القرآن، ومنها كانت جمله ومفرداته وتعابيره، ومع ذلك أتستطيعون أن تفعلوا مثل ذلك؟ هيهات هيهات! التحدي كان منذ (1400) عام، وكان في عصرنا منذ عشرين سنة أو أكثر بقليل رجل لم يمض له مثيل في البلاغة والفصاحة منذ (1000) عام في العرب، وأعني به مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه الذي جمع بعد ذلك ومقالاته، وسميت: وحي القلم مع بلاغته وفصاحته، عندما تقرؤها تقول: فصاحة وبلاغة! ولكن عندما تقرأ الفصاحة النبوية تجد بين كلامه والفصاحة النبوية ما بين السماء والأرض، أما إذا وازنت بينه وبين بلاغة القرآن وإعجازه فالفرق هو ما بين الخالق والمخلوق؛ هذا على أنه لا نظير له ليس في عصره فقط بل من قبل عصره بأكثر من ألف عام، مع أنه عمر مقالاته وكلامه بروح الإسلام، وأخلاقه وآدابه في أبلغ عبارة وكلمة ومفردة، ولكن الإعجاز للقرآن يبقى دائماً الصفة الكاشفة المفردة المعرّفة.

    تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [القصص:2] تلك: هذا الكلام أكّده صاحب الكشاف الزمخشري وأيده بتحمس وبأدلة أخذها من الاستقراء في كتاب الله، كما فعل الزمخشري وكذلك صديقنا المرحوم الشيخ الشنقيطي في كتابه أضواء البيان.

    تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [القصص:2] (تلك) أي: وهذه الأحرف منها، (آيات الكتاب المبين) أي: القرآن المبين الواضح، البيّن المنير المشرق، الذي مهما لم يفهمه زيد من الناس أو عمرو من الناس فقد فهمه آخرون، فلا بد من بيانه ومعرفته إذا لم يفهمه الكل لعدم دراستهم ولجهلهم بلغة العرب، وبشريعة الإسلام، فمن أكرمه الله باللغة العربية والإمامة فيها ودراسة الشريعة الإسلامية فالقرآن له بيّن، بل هو بيّن لعموم من يعرف العربية حتى الدارجة، يستطيع أن يفهم من ذلك الدعوة إلى عبادة الله، وترك الحرام والمنكرات على قدر لغته الدارجة، أما الذي لا يعرف من العربية شيئاً فهذا أصم وأبكم، فيجب عليه تعلم العربية؛ ليعلم كتاب ربه وسنة نبيه.

    والإسلام فريضة على كل مسلم، ولا يتوصل إلى ذلك إلا باللغة التي أنزل بها، وما أُنزل القرآن إلا بلغة العرب، وما أُنزل إلا على سيد العرب بلغته صلى الله عليه وسلم وفصاحته وبيانه.

    (المبين) أي: النير الواضح الذي يفهمه كل من أكرمه الله للتعلم من العربية والشريعة ما يدرك به المعنى والأحكام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق ...)

    قوله: نَتْلُوا عَلَيْكَ [القصص:3] كان هذا كالديباج؛ لما في داخل السورة من أحكام وفصول.

    يقول تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص:3] أي: نتلو عليك يا محمد، ونقرأ عليك وننزل عليك ونبيّن لك.

    (مِنْ نَبَإِ) (من) للتبعيض أي: بعض أنباء وأخبار موسى نبي الله، أحد أولي العزم من الرسل، المنزلة عليه التوراة، من أنبياء بني إسرائيل.

    (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) أي: تلك الأكاذيب والأضاليل التي يقصها اليهود والنصارى في كتبهم المحرفة وتوراتهم بعد تبديلها وتغييرها، وفي إنجيلهم بعد تبديله وتغييره، وفي كلام علمائهم وهم أكذب وأفجر الخلق، ومن أضلهم الله على علم، نحن سنتلو ونقص عليك ونملي عليك من أنباء هؤلاء وأخبارهم (بالحق) أي: بالصدق البيّن الذي لا شك فيه، ولا مين ولا تردد ولا احتمال.

    لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[القصص:3].

    أي: الذي آمن بالقرآن وآمن بالمرسل إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي سيؤمن بما يتلو ويقص القرآن، أما أولئك الكفرة الفجرة الذين لم يؤمنوا بالله في الأصل ولا بكتابه ولا بنبيه هؤلاء لا يؤمنون لا بقصص القرآن، ولا بأحكام القرآن، فهم كفروا بالأصل فكيف بما جاء بعد ذلك؟!

    ولذلك يخاطب الله هنا المؤمنين الذين سيصدقون ما يُقال لهم إذا آمنوا، فهو يتلو علينا ذلك لنأخذ الحكمة والعبرة والفائدة لما يستقبل حياتنا ومجتمعنا وأحكامنا، وقد ذُكرت قصة موسى وبني إسرائيل في القرآن كثيراً من المرات، فما الحكمة في ذلك؟

    سبقنا في الديانة عيسى، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام ستة قرون وثلث قرن وسنوات، وليس بينه وبين نبينا رسالة ولا نبوة، وقبله سبق موسى وكان من أولي العزم، وهو الذي أُنزلت عليه التوراة، ثم أُنزل الإنجيل على عيسى، فالله يذكر لنا قصص بني إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى، وهو قد فضّلهم يوماً على العالمين، ومكّنهم في الأرض، وأرى فرعون وهامان منهما ما أراهم، ثم لُعنوا بعد ذلك وغُضب عليهم، وذلوا واستعبدوا، وأصبحوا أذل من شسع النعل، لم ذلك؟

    لأنهم خرجوا عن أمر الله، وقتلوا الأنبياء، ونشروا الفواحش والفساد، وكانوا قساة القلوب.

    ولا تغتر أيها المسلم بما يجري اليوم فليس هو إلا استدراجاً، فعن قريب وعن قليل تقشّع، فيعودون إلى السحق بالأقدام، وإلى الطرد من جميع ديار المسلمين، ولن تقوم لهم بعد ذلك قائمة؛ لأن القرآن الكريم حدثنا بذلك، وأعطاهم فرصتين وزمنين للإفساد في الأرض، وبعد الإفساد الثاني لن تقوم لهم قائمة، وسيكون هذا الإفساد استدراجاً للقضاء عليهم وتشريدهم وطردهم.

    ولكن القرآن عندما يقص علينا أخبارهم يقول لنا: يا هؤلاء المسلمون الذين فضّلهم الله على كل البشر من اليهود والنصارى وغيرهم، وجميع الأمم السابقة، وجعل نبيهم أفضل وأكرم الأنبياء، ولا نبي بعده، ولا رسول بعده ودينه عالمي لكل الخلق في حين أن نبوة عيسى قومية مقصورة على بني إسرائيل.

    قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اختصصت بخمس: كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وبعثت إلى الناس عامّة) فالإسلام وحده هو الدين العالمي، وقد قلت: وأكّد هذا ما وجد في الإنجيل من قول الله تعالى نقلاً عن عيسى: إنما أُرسلت إلى بني إسرائيل خاصة، عيسى نفسه يقول: جئت إلى كباش هؤلاء اليهود ولم يرسل لغيرهم.

    أكّد ذلك القرآن الكريم فقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6] ليس رسولاً إلا لنبي إسرائيل، لم يرسل لعرب ولا أوروبيين، ولا لأمريكيين، ولا لأحد من الخلق إلا لبني إسرائيل، فلم يؤمر غيرهم بأن يكونوا أتباعه ولا أن يؤمنوا به، ولكن عندما جاء الإسلام نُسخت هذه الأديان، وانتهت نبوءات رسلهم، ثم هي كانت قد نُسخت وبدّلت وغيرت، بعد ذلك نسخت للإسلام، وأصبح بعد ذلك من لم يدخل الإسلام ولم يدن بالإسلام لا دين له؛ ولذلك يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

    وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

    وعيسى سينزل في آخر الدنيا من السماء، وسيكون من أتباع نبينا عليهما الصلاة والسلام، وما فعله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه ليلة الإسراء في المسجد الأقصى أعاده الله للمسلمين، وطرد منه القردة والخنازير وعبد الطاغوت من اليهود، حيث صلى إماماً بالأنبياء بأرواحهم، وما كانت تلك الإمامة إلا إشارة إلى أنه سيدهم وكبيرهم، والذين أُخذ عليهم العهد أن من أدرك الحياة المحمدية ليؤمنن به وليدينن بدينه ولينصرنه، ذاك أمر الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755777324