إسلام ويب

عجائب الجنانللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله جل وعلا قد أعد لعباده الصالحين جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولقد تحدث الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن بعض الأشياء الموجودة في الجنة، فذكر صفة بابٍ من أبوابها، وكذلك صفات الطيور والأشجار والثمار في الجنة، كما ذكر أن الذي يدخل الجنة يحيا فلا يموت، وينعم فلا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ابن ثلاث وثلاثين سنة.

    1.   

    صفة باب من أبواب الجنة

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله بالإيمان والإسلام والقرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعـد:

    أيها الأحباب الكرام: إني أحبكم في الله، وأسأل الله لي ولكم الفردوس الأعلى.

    اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وفي أفغانستان وفي كل مكان، وأكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين من إخواننا المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.

    أحبابنا الكرام: حديث اليوم عما أعد الرحمن من عجائب الجنان لأهل الإيمان، ونقف وقفات مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة، فإذا كل وصف فيها عجيب، لم يألفه البشر، ولم يروا مثله، ولم يسمعوا به من قبل.

    ولماذا كل هذا؟

    هل هذه هي الحقيقة بعينها كما قربها محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نتخيلها عندما نسمع الوصف أم هي أعظم؟

    لا شك أنها أعظم بكثير؛ لأن عقولنا ومداركنا أحست وسمعت وعقلت ماديات محسوسات بقطعة اسمها: الأرض، ولكن نكتشف في هذه الأحاديث أن جوهرة واحدة على تاج حورية واحدة خير من الأرض وما عليها، أو قطعة منديل موجود على رأسها خير من الأرض وما عليها، إذاً: مهما حاولنا أن نتخيل الوصف النبوي لهذه الجنة فإننا نصل في النهاية إلى أن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

    وليس فيها مما ذكر مما في الدنيا إلا الأسماء للتقريب إلى الأفهام، أما حقائق ذلك النعيم فلا يعلمه على حقيقته إلا الله، ثم الذين دخلوا الجنة، فماذا قال عليه الصلاة والسلام عن عجائب الجنان؟

    قال عن سعتها: (والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير ) الآن بدأ وصف الباب، أي باب؟ أدنى باب، بدأ من الأدنى وبعد ذلك يصعد إلى الأعلى، أبواب الجنة ثمانية خصص للصائمين منها باب اسمه: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق.

    وهنا الحديث عن باب من هذه الأبواب الثمانية؛ المسافة بين مصراعي الباب كما بين مكة وحمير أو ما بين مكة وبصرى، وهذا أدنى باب؛ لأن أبواب الجنة بعضها فوق بعض، فبناؤها من أعلى أوسع من الأدنى، الدرجات العلى أوسع الدرجات، الدنيا على العكس بناء الناس، فأنت لو قلت: تعال معي في بناية عجيبة، شكلها أشبه ما يكون بالوتد، من تحت مدببة ومن أعلى عريضة كيف يكون هذا؟

    الناس تعودوا البناء أن تتساوى القاعدة مع القمة على شكل مربع مثلاً، أو القاعدة أعرض من القمة، أما أن تكون القمة أعرض من القاعدة فهذا لا يعرفه الناس، ولا يستطيعونه؛ لأن البناء يختل، لا بد أن يكون هناك أركان ثابتة تتناسق وتتناغم بين القاعدة والقمة، أما الجنة فأعلاها أوسع من أسفلها، إبداع في الخلق؛ لأن الله بديع.

    جعل سقف الجنة العرش، والعرش وسع السماوات ووسع الكرسي ووسع الأرض، لهذا الباب الذي في أدنى الدرجات أضيق من الباب الذي في أعلى الدرجات، وسنجد أن الباب الذي في أعلى الدرجات السعة ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، وعندما يقول: أربعين عاماً هل هو العام في زمنه على ناقة أو حصان، أم العام في زمن اختراع السيارة، أم العام في زمن الصاروخ، أم سرعة الضوء، أم هناك سرعات لم يكتشفها الإنسان؟

    لم يحدد، أربعين عاماً سعة الباب.

    قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى أنتم موفون سبعين أمة) موفون: تزيدون وتكملون سبعين أمة تأتي يوم القيامة تريد أن تدخل الجنة، من الأمم العظيمة التي أرسل الله فيها الرسل والأنبياء: (أنتم موفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله عز وجل، وما بين مصراعين من مصاريع الجنة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ) أي: مزدحم من كثرة الداخلين منه، مع أن سعته أربعين سنة، يأتي عليه يوم دخول المؤمنين وهو كظيظ يحتكون بالأجساد وهم يدخلون، إذاً: كم عبد الله من الموحدين؟

    لهذا عندما تقول: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83] هذه كلمة ليست سهلة، يا أخي! عندما تدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) في التشهد ودعاء القرآن: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83] كما يقول إبراهيم عليه السلام في دعائه.

    إذاً: أنت في أمة التوحيد كثير، وربنا عظيم، عبده خلق لا يعلمهم إلا هو، فأنت تركع وتسجد لإله عباده الذين يدخلهم الجنة، وضيوفه يزدحمون على باب ليس باب قصر ملك ولا حاكم ولا سلطان يطردك (البوليس)، ولا المباحث ولا يركضونك، ولا إلى آخره... أو لا تصل له إلا عن طريق مدير مكتب أو بلاوي، لا. وإنما خلائق تزدحم على باب المسافة بين مصراعي أربعون سنة.

    ما إمكانيات خدم وحشم ذلك الباب، والذين يستقبلون هؤلاء الصالحين المؤمنين ويرتبون شئونهم، وأنت في هذا القصر، والحورية تعرف زوجها، وهذه تعرف حبيبها؟

    أطفال المدرسة عندما يخرجون من صف واحد مرة واحدة يحتار المدرس، وإذا خرج طلاب المدرسة من باب واحد صارت هناك ضحايا وتكتب في الصحف، فكيف بهذا الجمع الغفير؟

    يوم واحد من أيام الدخول قال: وإنه لكظيظ، من يدبرهم؟ من يطعمهم؟ من يحليهم؟ من يلبسهم؟ من يضيفهم؟ من يكرمهم؟ إنه الله، هذه إمكانيات ملك الملوك.

    إذاً: هذه عجيبة أم ليست عجيبة؟ هذه لا تخطر على بال.

    الناس يسافرون تركيا لكي يشاهدون باب قصر دولما باتشا الخليفة العثماني التركي الذي اسمه سليم الذي سقف القبة (مالتة) بخمسة وعشرين طناً من ذهب، والعالم تسافر لكي تنظر قصر دولما باتشا، وما تهنأ فيه بناه .. بناه .. وفي آخره مات ما تهنأ فيه مات:

    يا بني النقص والعبـر     وبني العجز والخور

    أين من كان قبلكـم     من ذوي البأس والخطر

    سائلوا عنهم الديـار     واستبحثوا الخبر

    سبقوكم إلى الرحيـل     وأنتم على الأثر

    إن للموت أخذة     تسبق اللمح بالبصر

    فكأني أراهم     في ثياب من المدر

    قد نقلتم من القصور     إلى ظلمة الحفر

    حيث لا تضرب القباب     عليكم ولا الحجر

    حيث لا تخرجون فيها     للهو ولا سمر

    رحم الله مسلماً     ذكر الله فانزجر

    غفر الله ذنب من     خاف واستشعر الحذر

    1.   

    صفات درجات الجنان

    يقول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) أي سماء؟ هل هي السماء بالمصطلح اللغوي العربي: كل ما هو فوقك من الغيم سماء، واللون الأزرق سماء، وسقف البيت سماء؟ أم السماء بما توصل إليه علماء الفضاء وهي طبقة الأوزون التي يبكون ويصيحون ويولولون لحدوث ثقب فيها بسبب الغازات الكيماوية والدنيا بخطر والناس بخطر لتوسع ثقب الأوزون؟

    أم هي سماء الشمس وكويكباتها؛ الأرض، والقمر، وعطارد، وزحل، إلى آخره... في هذه المجرة الصغيرة؟

    أم هي سماء المجرة التي فيها مجرتنا؟

    أم هي سماء مجرتنا حول الملايين من المجرات؟

    أم هي السماء التي لا تزال تقاس مسافات نجومها التي ماتت منذ ملايين السنين ولا يزال ضوؤها ينحدر بسرعة الضوء منذ ملايين السنين ولم يصل إلينا حتى الآن، نراها كأنها حية وفي مواقعها ميتة .. فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:75-76]؟ أم هو ما وراء ذلك ولم يتوصل إليه الإنسان لا بالمجهر الإلكتروني، ولا بالعابرات والناقلات، وفوقها سبع سماوات لا يعلمها إلا الله؟ أي سماء؟

    بأي ميزان ومقياس نقيس هذه الكلمة؟

    إنها من العجائب والغرائب، ولا يحيط بها إلا عالم الغيب والشهادة، وهذه السماء الدنيا وفوقها ست سماوات وهي السابعة، الله أكبر! ثم يقول: درجة واحدة للمجاهدين كما بين السماء والأرض.

    هذه الدرجة ما بين السماء والأرض والمائة أعدت للمجاهدين، على حسب درجة استشهادهم وجهادهم، فماذا نقول لمن حاز الدرجة المائة؟

    ماذا يملأ هذه الدرجة من قصور وأشجار وأنهار؟ الواحد هنا يعطونه قسيمة ألف متر يبني له بيتاً ويجعل له حديقة وحماماً والباقي لا يدري ماذا يعمل به؟ قال: أزرع نخلاً أو شيئاً آخر، ما عنده إمكانيات يغطي ألف متر ولا ألفين، وبعضهم يفرحون عندما يركبون سيارة أيام الغفلة ويخطون أربعين أو خمسين كيلو لا حسيب ولا رقيب، أو يعطون شخصاً قسيمة ويأخذ من قسيمة جاره متراً أو مترين اضربها في الطول والعرض يخرج خمسة عشر متراً يقول له: يا بن الحلال! هذه قسيمتي اتق الله، فيرد عليه هذا المغتصب ويقول: اذهب طالب في المحاكم، وهو يدري أن المحاكم لا تنفعه شيئاً مسكين بيته يوقف وعمارته توقف (من أخذ شبراً ظلماً طوق به إلى سابع أرضين في عنقه).

    وهذا المجاهد لا يطوق إلى سابع أرضين، وإنما يعطيه الله درجة من مائة درجة، ولا تعلم الدرجة التي يحوزها أهي الثانية .. الثالثة .. العاشرة .. التسعين .. المائة؟ لا تدري، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، ليس متراً عن يميني ولا متراً عن شمالي وهذه أرضي: (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

    الصحابة إذا رأوا الدور والقصور، قالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، حتى جاء ربعي بن عامر إلى أكبر إيوان في ذلك الزمان -إيوان كسرى- وربط حصانه وخرم سجاجيده ووسائده احتقاراً لدنياهم.

    فاحمد الله على هذا الفضل؛ إن حبب إليك صلاة العصر وجلست تستمع في بيت الرحمن .. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] كم من إنسان الآن مفطر، ورمضان عليه ثقيل، لا يتهنأ لا بطعامه ولا بإفطاره ولا بحياته ولا بملايينه، شقاء في شقاء، نعم. فالمؤمن سعيد في الدنيا سعيد في الآخرة، صدره وسيع بالإيمان ودرجاته وسيعة عند ربه سبحانه وتعالى.

    الخسران من خسر الآخرة وليس من خسر الدنيا انتبهوا يا إخوان: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].

    1.   

    الحرص على سؤال الله الفردوس الأعلى

    قال عليه الصلاة والسلام (ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) إذا: الحبيب المحبوب عليه الصلاة والسلام يوصينا وصية إذا سألناه أ، نسأله الفردوس الأعلى. شخص إذا دخل على مائدة فيها جميع الأنواع، ثم أكل خبزاً وبصلاً، قال له: تعال تناول كذا وتناول كذا يعلمه يفهمه، فهو عليه الصلاة والسلام لا يكفيه أن نقول: اللهم إنا نسألك الجنة، يقول: تعالوا أعلمكم شيئاً أحسن وأعظم، أختار لكم أجمل وأزين، أنا حبيبكم وحريص عليكم أعرف بمصلحتكم أكثر من آبائكم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) يعلمنا الأحسن عليه الصلاة والسلام لماذا؟ قال: (لأنها أعلى وأوسط الجنة).

    هل هناك نبي علم أمته مثلما علمنا صلى الله عليه وسلم؟ فهو في الفردوس الأعلى عليه الصلاة والسلام، فهو حريص دائماً على أن يرى أمته ويرافق أمته: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]، وقال أيضاً: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151-152].

    قال: (فاسألوا الله الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) هذه كلها أحاديث صحيحة يا أحباب منتقاة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم) لا إله إلا الله! انظر نجمة الصبح عندما تأتي من المشرق وأنت خارج من المسجد تنظرها تبرق من بعيد، فمثلما ترى هذه النجمة أهل الجنة يتراءون منازلهم وغرفهم، فيقول بعضهم لبعض: هذه الغرفة التي تلمع من بعيد عبر الأفق غرفة من؟ أي ملك حازها، أي سلطان، أي زعيم؟ يرد عليه شخص: ما تعرف غرفة من هذه! هذه غرفة التقي النقي الخفي الذي كان يحرص على الصف الأول، وينفق فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وإذا ذكر الله خالياً فاضت عيناه، هذا المغمور المدفوع الذي لا يكتبون عنه في الجرائد ولا في الصحف، لا هو إمام المحسنين ولا كبير المتصدقين، ولا العالم بأمر الدنيا والدين، مسكين لا أحد يدري عنه، انتفض قلبه انتفاضة لربه فرفعه الله في عليين.

    1.   

    الجنة وما فيها من النعيم

    القضية ليست قضية أشكال ومظاهر، ولكن: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:12-14] .. قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاء ُ آل عمران:26].

    من يدخل الجنة يحيا ولا يموت

    قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن الجنة، قال: (من يدخل الجنة يحيا فلا يموت، وينعم فلا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، قيل: يا رسول الله! بناؤها؟ -يسألونه عن البناء- قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر -خالص المسك- وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك) نريد أن نقف عند هذا الحديث حتى نرى العجائب والغرائب.

    الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجنة، فقال: (من يدخل الجنة يحيا فلا يموت، وينعم فلا يبأس) هذه من أعظم العجائب.

    نحن اعتدنا في الدنيا أن نسمع كل ليلة: انتقل إلى رحمة الله فلان بن فلان عن عمر يناهز كذا وكذا، وغداً يواري جثمانه التراب، إنا لله وإنا إليه راجعون! لهذا القرآن يربي: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] .. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] .. وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35] أما هناك فهي المفاجأة، وهي من قرة العيون أن ينادي منادٍ: يا أهل الجنة! حياة فلا موت، الله أكبر! إذاً هذا الإنسان ما خلق ليفنى، لا يوجد هناك شيء اسمه إعدام، وليس هناك مظالم لإنسان محكوم عليه بالإعدام، إنما هي مراحل من العمر، وعوالم ينتقل إليها الإنسان.

    خلق الإنسان ليخلد، العمر الأول في الدنيا ثم يموت عن عالم الدنيا وينتقل إلى عالم البرزخ، هذا هو العمر الثاني، ثم ينتهي من عالم البرزخ ويبدأ في عالم المحشر، ثم ينتهي من عالم المحشر، ويكون عالم البرزخ، وعالم المحشر بالنسبة للمؤمن كصلاة ظهر أو صلاة عصر، وبالنسبة للكافر خمسون ألف سنة: يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] فاصبر.

    ثم بعد ذلك العمر الأخير الأبدي الذي يتكلم عنه هذا الحديث، وهو عمر القرار، وسمي القرار لأنه يستقر فيه صاحبه إما إلى جنة وإما إلى نار؛ حياة ولا موت، وهذه لو جلست طول عمرك تتخيلها لا تستطيع في الحقيقة أن تصل إلى تلك الصورة الكاملة لواقعها، الواحد بينه وبين الموت ربع ساعة، وخياله أوسع من الأرض، وأمله أبعد من الأرض، وبينه وبين الموت ربع ساعة، يقول له أولاده، قل: لا إله إلا الله، يقول: شقة (24) إيجارها ما أخذته قل: لا إله إلا الله، لا يقول؛ من كثرة ما أتعب الناس المستأجرين، ما بينه وبين الموت إلا لحظة وأمله طويل، ومعظم أهل القبور ماتوا مشغولين، منهم الذي لم يكمل بيته، والذي ما زوج ولده، والذي ما جمع مالاً إلا من رحم الله.

    اللهم إنا نسألك أن تجعل حظنا الأوفر والأكبر يوم أن نلقاك، وأن نبيت كل ليلة وهمنا هم الآخرة. آمين.

    من يدخل الجنة الجنة ينعم ولا يبأس

    قال عليه الصلاة والسلام (من يدخل الجنة يحيا لا يموت، وينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه) يعطيك تصويراً عجيباً لهذا الثوب الذي مهما تأنقت فيه فإن مصيره البلى، وكم أبلينا من ثياب منذ الصغر؟ لكن ثوب الجنة لا يبلى، إنما يتجدد، والجمال والبهاء لا يبلى، إنما يتجدد عند الحور:

    وذات حسن مجـدد     فتانة المتجرد

    تأمل الناس فيها     محاسناً ليس تنفد

    الحسن في كل جـزء     منها مُعاد مردد

    فبعضه بانتهاء     وبعضه يتولد

    وكل ما عدت فيـه     يعود بالعود أحمد

    الله أكبر! يعني: كلما رجعت وطالعت أو زرت القصر مرة ثانية ألقاه أجمل، وكذلك أنت قال: (لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه).

    قضية الشباب الآن مشكلة -خاصة- عند عالم الفنانين، الذي يحرص على تلوين وجهه بالمكياج، وجر الجلد، ويجري عملية تجميل، والذي يغير أنفه كل سنة يروحون يقصرونه ويطولونه! مساكين! وسيظلون يعانون وينظر أحدهم في المرآة مائة مرة ولن يجد وجهه الحقيقي إلا عند الله، ما دام أنه فنان بالفن الرخيص الذي اسمه: (العفن الفني) مسرحية: "صادوه" إعلانها في الشارع موجود، أول ما أعلنت في الكويت وضعوا لكبير الممثلين فيها ذيلاً يطلعه مرة من ورائه ومرة من قدامه، ومملوءة شتائم، كما أن تمثيلية: "طماعون" التي تأتي عند الإفطار وأولادنا يجلسون وكل ليلة يحصلون خزينة من الشتائم شاهدوها الليلة، وخذ لك ورقة وقلماً واكتب الشتائم التي حفظها ابنك كل ليلة، نحن نربي ونهذب ماذا تفعل؟

    تغلق التفاز يصيحون، يلونونهم ويدوخونهم ويضعون ألواناً وفسفوراً وشيئاً يغري، والله لو أخرجت لهم عشر دنانير وقلت لهم: لا تشاهدوا (الطماعين) فلن يطيعوا.

    فالنعيم الباقي عند ربي سبحانه وتعالى، في الدنيا نكد ما دام الرويبضة يسيطرون، ووسد الأمر إلى غير أهله فلا بد أن تعيش في هم إلى أن تلقى الله، يوم أن تسمع المنادي: حياة بلا موت، نعيم، ثياب لا يبلى، شباب لا يفنى.

    صفة بناء الجنة وملاطها وحصبائها

    (قيل: يا رسول الله! بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب) كيف كان شعور الصحابة وهم يجلسون حول الحبيب المحبوب ويحدثهم؟ الله أكبر! نطير قلوبهم من الفرح، وكان أحدهم إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، ويستشعر أن الجنة أقرب إليه من شراك نعله، ليس مثل الناس اليوم أين.. الجنة اتركنا نستأنس في الدنيا آخر الحياة موت، والناس في التعزية حاضرون وشخص واضع رجلاً على رجل وفي فمه السيجارة ويقول: يا شيخ! حدثنا بالله عن الآخرة، الآخرة بعث ونار، نريد بنات الآخرة فيها بنات أم ليس فيها؟ ويضحك الملأ الموجود، عز الآخرة صارت مضحكة عنده: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] ليأتين عليهم يوم وهم حفاة عراة يتمنى أحدهم أن يتكلم بكلمة فلا يأذن له الله .. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105].

    قال: (لبنة من ذهب) من يستطيع أن يبني له قصراً لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ما بين اللبنتين مسك، لو أن شخصاً يبني له لبنة واحدة من ذهب، يحتاج من الحراس والمنظمات التي تأتي بمسدساتها ورشاشاتها لكي تحرس أكثر من قيمة القصر؛ لأن الناس لا تتركه وشأنه؛ لأنهم في بيوت شعبية، لهذا يصف عليه الصلاة والسلام هذا الوصف للصحابة وهم ليسوا جالسين في قصور، يقول سلمان : إذا وقفت مس السقف رأسي، وإذا مددت يدي مس الجدار قدمي، هذه بيوتهم، مساكين! لكن ادخر الله لهم كل شيء. (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها مسك أذفر، وحصباؤها .. ) -الحصباء: هي الحصى، وهناك نوع من الحصى لو تصب عليه مادة معينة يتكسر ويتفتت، لو تذهب الآن لكي تأتي لك (بمقاول) ولجنة إشراف ومهندس وتصرف أموالك، وتكتشف أن السقف الذي سقفت به بيتك مغشوش، إما فيه غش أو كانت مادة الإسمنت أو الحصى مغشوشة، المهم أن يربح من ورائك حتى ولو انهدم البيت على رأسك، أليس هذا حال الناس اليوم؟

    أين ذاك (المقاول) الذي يراقب الله سبحانه وتعالى؟ ولا تجد واحداً يبني إلا ويشتكي.

    الله سبحانه وتعالى ينثر الحصباء في الجنة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً، البعض إذا كان عنده صبة السقف، يترك الدوام في عمله خوفاً من الغش، أي صبة يا مسكين! لو عشت في عهد الصحابة فلن تخاف؛ لأن هناك الضمير الإيماني الذي رباهم عليه القرآن.

    يأتي أحد الصحابة بعد أن جاهد طويلاً ورابط، له جوهرة من كنوز كسرى، وعمر واقف بالمسجد ينثرون الذهب من الغنائم فيفكها ثم يرميها، فيندهش الناس! قدروا قيمتها ثمانين ألف دينار في ذاك الوقت، قالوا: من أنت؟ وهو ملثم قال: لا أخبركم فيعلم أصحابي فيلوموني ويعلم أعدائي فيعنفوني، إنما أبتغي أجرها عند الله، أخشى أن أمدح فيضيع ثوابها، قالوا: أعندك غيرها؟ قال: والله لولا الله ما جئت بها، فقال عمر: إن قوماً أدوا هذا لأمناء! فرد عليه عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب، قالوا: [يا أمير المؤمنين! عففت فعفت الرعية ولو رتعت لرتعوا] لأن الناس على دين ملوكها، فالملك الذي همه الشهوة والجنس الشعب كله يغازل في الشوارع، والذي همه المزيد من الأموال الناس كلهم ارتفع السهم ونزل السهم، الناس على دين ملوكهم، والحاكم الذي همه الانقلابات والقمع والإرهاب مصيره أن يصل إليه القمع والإرهاب طال الزمان أم قصر، وهذه الأنظمة العسكرية تتساقط وتعيش في قلق ولو كانت في بروج مشيدة أو تحت الأرض، والناس على دين ملوكهم .. إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم:7] اعمل ما شئت كما تدين تدان.

    بعض صفات أهل الجنة

    قال عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين) جرداً، يعني: ما في أجسادهم شعر كالذي يظهر في الساقين والذراعين وفي الصدر إلى آخره، مرداً، يعني: ما يظهر في وجوههم شعر كالشارب واللحية ما عدا شعر الرأس والحاجبين والأهداب والرموش، فكأنهم مكحلون من سواد أهدابهم ورموشهم، ولا شعرة في وجوههم مرداً، ما في أحد يقول لك: والله قانون الجيش لازم تحسن لحيتك، تقول له: يا بن الحلال! هذه سنة، هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: القانون فوق النبي يا بن الحلال!

    اتق الله! خاف ربك! قال: أعجبك وإلا خرجت، إذا خرجت أنا من سيكون في الجيش (عوير) (وزوير) والذي ما فيه خير؟

    أنا رجل صالح أخاف ربي أحمي ديني ووطني وعرضي، الجندي في الجيش البريطاني لابس عمامته العفنة ومربي لحيته القذرة ويحترمونه؛ لأنه احترم دينه، وأنتم احترموه.

    أهينت المرأة في الغرب لدرجة أن صورتها تظهر في أجهزة الإعلام العالمية كلها بجوار الحالق لحيته وهي واقفة جنبه تقول: إنه ناعم الملمس، استخدموا أمواس (جليت) ناعمة الملمس، فأهينت المرأة في الغرب إهانة ليس لها مثيل! لهذا ما أعز دين كما أعز الإسلام المرأة يوم أن قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] واعتبرها كنـزاً محفوظاً: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] أذى، قال: هناك أذى تعال (بروفة) أولى، (بروفة) ثانية (أكشن) (بروفة) أولى على موس، وطوال النهار يلمعونها ويمكيجونها حتى يكون لها لقطة؛ هذا يحسن لحيته وهي تقول: ناعم الملمس.

    الذي عنده منظور إيماني وإسلامي يحتقر مثل هذه المجتمعات ويزدريها، ويرى الإسلام وجمال الإسلام، ولهذا أولادنا عندما نرسلهم إلى أمريكا وأوروبا ويرجعون متدينين، لماذا؟ لأنهم شاهدوا الحقائق، عرفوا قيمة القرآن والإسلام والإيمان.

    نكمل الحديث، قال: (كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين) الأعمار، ما في واحد تقول له: كم عمرك؟ يقول: خمس وأربعون، فالكل عمرهم ثلاث وثلاثون.

    في الجنة خيول من ياقوت

    وهذا صحابي اسمه عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه يحب الخيل كثيراً فقال: (يا رسول الله! إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فكان الجواب: إن أدخلك الله الجنة يا عبد الرحمن كان لك فرس فيها من ياقوت، له جناحان يطير بك حيث شئت).

    نحن نعلم ما الياقوت؟ تلك الجوهرة الشفافة صفراء أو خضراء، لو كان فيها سلك لظهر من ورائها، لهذا من صفات نساء الجنة الشفافية: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ [الرحمن:58] أي: بالشفافية (وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] أي: بالاحمرار، وردية شفافة، نسأل الله أن يبلغنا ذلك.

    قال: (حصان من ياقوت) والياقوت نتعهد أنه جماد، لكن هذا ياقوت حي متحرك، فيه روح وله جناحان يطير حيث يشاء، فوق الجبال، على الأشجار، في الحدائق، على الأنهار، عند الأطيار، عند الأزهار، عند الثمار، فوق كثبان النور، كثبان المسك، حيث شئت: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الحاقة:22-24] يطير على حصان من يا قوت له جناحان:

    أذلك خير أم القاصرات     تخال مباسمهن البروقا

    قصرن على حب أزواجهـن     فمشتاقة تتلقى مشوقا

    وترفلن في سرقات الحرير     فتبصر عيناك مرأىً أنيقا

    إذا جرت الريح فوق الكثيـب     أثارت على القوم مسكاً سحيقا

    ويوم زيارتهم يركبون     من الخيل والنور نجباً ونوقا

    كلوا واشربوا فلقد طالما     أقمتم بدار الغرور الحقوقا

    لذلك أول من يظلهم من السبعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إمام عادل).

    خبز رغيف واحد     تأكله في زاويه

    وكوز ماء بارد     تشربه من راويه

    وغرفة نظيفة     نفسك فيها هانيه

    وزوجة مطيعة     عينك عنها راضيه

    وطفلة صغيرة     محفوفة بالعافيه

    ومورد للرزق لا     تعرفه الحراميه

    ومسجد بمعزل     عن الأذى في ناحيه

    تدرس فيه مصحفـاً     مستنداً بساريه

    خير من الساعات في     ظل القصور العاليه

    تعقبها عقوبة     تصلى بنار حاميه

    اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، وارزقنا منها ما تقينا فيها فتنتها، واجعل حظنا الأوفر والأفضل يوم لقائك، اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحداً غيرك.

    اللهم اجعل جمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، ولا تجعل من بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل قبورنا وقبور والدينا ووالديكم والمسلمين روضة من رياض الجنة، أمدنا فيها بالروح والريحان، والنور والإيمان، والبر والرضوان، وأعنا على قيام العشر الأواخر من رمضان، ويسر لنا فيها قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً إنك على ذلك قدير.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

    صفة عنب أهل الجنة

    الحمد لله بالإيمان والإسلام والقرآن، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ربنا تقبل صيامنا وقيامنا واغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين!

    أيها الأحباب الكرام: ومع عجائب الجنان فيما أعده الرحمن لأهل الإيمان، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الكثيرة وهو يصف جنات النعيم، فقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الجنة فذهبت أتناول منها قطفاً أريكموه فحيل بيني وبينه، فقال رجل: يا رسول الله! ما مثل الحبة من العنب، قال: كأعظم دلو فرت أمك قط).

    هذا الحديث يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو في صلاته أظهر الله له جنة على الجدار، كشف الله له صورة من عالم الغيب، فأراد أن يأخذ عنقوداً من عنب؛ ليري أصحابه بعض ثمار الجنة، حتى يتحول إيمانهم من علم اليقين إلى حق اليقين وعين اليقين، لكن الله حال دون ذلك، حتى يظلوا على إيمانهم وهو العلم بالغيب، وخشية الله سبحانه وتعالى بهذا العلم الذي أثنى عليهم فيه .. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] وهو إيمان عظيم أن تؤمن بشيء ولم تره.

    والإيمان بالغيب يزداد، فإيمانكم أنتم بالغيب فيه زيادة على إيمان الصحابة بالغيب، فمن هذه الزيادة إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم حيث كان عندهم يصافحونه .. يكلمونه .. يجالسونه .. يجاهدون معه .. يسمعون الوحي .. ينزل عليه ويتلوه من فمه الطهور، وأصبح بالنسبة إليكم غيباً لا يرى، لهذا أخبر عليه الصلاة والسلام أنه يأتي من أمته ممن آمن به ولم يره، عمل أحدهم كعمل خمسين من الصحابة -وظن بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق لسانه، لعله كان يظن خمسين من الذين سيأتون وليس من الصحابة- فرد عليه أحدهم وقال: خمسين منهم يا رسول الله! قال: بل خمسين منكم.

    فلما استدار إليهم أخبرهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة التي غابت عنهم، وأنه ما بينهم وبين قطف العنب إلا لحظات، أن يقول الله: كن فيكون، لكنه حيل بينهم وبين هذا، فبادر الصحابة يستفسرون، فسأل أحدهم عن حجم حبة العنب، فقال: بحجم أكبر دلو نزعته أمك وهي تنـزع الماء من البئر، هذه الحبة الواحدة، فما بالك بالعنقود! وما بالك بالشجرة! وهذا يتناسب مع حجم الإنسان في الجنة حيث أن طوله ستون ذراعاً، فتصير هذه الحبة مناسبة لطوله وسعة فمه، فخلق الجنة ليس كخلق الأرض.

    والمتفكر في هذا الحديث فيه فوائد كثيرة كثيرة منها:

    تجلي رحمة الله سبحانه، حيث أنه كان يكفي المؤمنين أن يؤمنوا بأن هناك جنة فيها أشجار، لكن ما أنواع هذه الأشجار؟ فيأتي التفصيل من الله، بينما هم في عبادة وطاعة ولا ندري ذلك اليوم الذي حدث فيه هذا الخبر الصادق لعله يوماً جوعاً وما أكثر جوع الصحابة! حيث إن أحدهم يمص تمرة من أول النهار إلى آخره، وتضيع تمرته فلا يعطى بدلها إلا بشاهدين من الفقر، أم لعله يوماً يظمأ فيحتاج الإنسان فيه إلى عصير العنب وحلاوته، فتأتي هذه اللطيفة الإلهية تمسح على قلوبهم فيذهب الجوع والظمأ، يا رسول الله عنقود العنب قريب منك ما بيننا وبينه إلا أن تمد يدك وتتناوله؟ كنا نظن أن الجنة بعيدة بعيدة بعيدة وإذا هي في متناول يديك ونحن خلفك، إذاً نظل على جوعنا في سبيل الله، نظل على عطشنا في سبيل الله، نظل على جهادنا في سبيل الله ما دامت بهذا القرب، فكان هذا عزاؤهم، ما كانوا يتساقطون على موائد الطغاة، وما كانت اللقمة والشهوة والشربة تعصف بدينهم كما تعصف بدين كثير من الناس اليوم: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل).

    وصف طلح الجنة

    والحديث الثاني أحبابنا الكرام: عن عقبة قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم أكثر شوكاً منها) يعني: الطلح، أعرابي معذب في الصحراء لكثرة ما يشاك بأشواك هذه الشجرة، وشجرة الطلح معروفة عند العرب، وموجودة واحدة منها في الكويت مسورة على طريق الصبية ، والمنطقة اسمها طلحة على اسم هذا الشجرة، هذه الشجرة يعرفها البدو في صحراء الجزيرة ، مملوءة بالأشواك، وأشواك حادة ومؤذية، وكأن الأعرابي يقول: يا رسول الله! لما ذكرت اسم هذه الشجرة في حديثك، وفي قرآن ربك، ونحن نصوم ونجاهد ونبذل الأرواح والدماء ثم نهرب من شقاء هذه الدنيا وأشواك هذه الأشجار التي لا ظل لها، ولا تستفيد منها دابة ولا هامة، فإن وقفنا خطفت أشواكها عيوننا، وخدشت جلودنا، ومزقت ثيابنا، أيضاً هي وراءنا في الآخرة نسمعك تذكر هذه الشجرة فما حقيقتها يا رسول الله؟ يستفسر عن طبيعة بيئة الجنة.

    وهذا يبين لك الصدق الذي كان عليه الناس في ذلك اليوم، أما الصحابة الذين من غير الأعراب فكانوا يتأدبون فلا يسألون هذه الأسئلة، وكانوا يتمنون لو يأتي أعرابي مثل هذا عنده هذه الجرأة ويسأل حتى يزدادوا علماً، فجاء هذا الأعرابي فطرح هذا السؤال: (أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم أكثر شوكاً منها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يجعل مكان كل شوكة منها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لوناً آخر) ثمرة مكان كل شوكة، وتكون هذه الثمار على عدد الأشواك، ولكل ثمرة طعام ولون وذوق، لأن الله جعل المنغصات في الدنيا حتى تشتاق الأرواح إلى الجنة، لو جعل الدنيا مثل الجنة لركن الناس إليها، لكن مهما كنت في منتجعات الدنيا وطيب هوائها، واخضرار نباتها، وعذوبة فواكهها، يجعل الله فيها منغصات، إما بعوض، أو ذباب، أو نحل يلدغ، أو رطوبة أو حر، فإذاً هذا كله ليس موجوداً، ينـزع الألم، تكون موجوداً في الغابة، لكن قلبك ليس مرتاحاً، لماذا؟! حتى تشتاق إلى ما عند الله.

    قال الله عن هذه الثمار المتشابهة المتنوعة بروائحها وطعومها: وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].

    وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى) هذه أيضاً من عجائب الجنان، فالقضية ليست قضية طعام وشراب فقط، فأهل الجنة لا يصيبهم ألم الجوع فيضطرون للأكل، ولا يصيبهم العطش فيضطر للماء، إنما شربهم وأكلهم تنعم، وانتقال من لذيذ إلى ألذ، ومن شهي إلى أشهى، وتمتزج اللذة بالأنس والبهجة، هل هناك آنس ممن يقطف ثمرة ثم ينظر بعينه ثمرة ثانية تبدأ صغيرة ثم تكبر وتكبر وهو ينظر، فيخلعها مرة ثانية فتظهر ثالثة، فيخلعها فتظهر رابعة، ولا ينتهي ثمر الله وعطاؤه؟!

    فإن كان الناس يأكلون الثمار في المواسم، فإن موسم الجنة دائم لا يحول ولا يزول، وبينما العبد يقتلع الثمار وإذا بالثمار تخرج من جديد فلا ينقص من الجنة شيء.

    وأحوال الناس في الدنيا تراهم يتخاصمون ويتقاطعون ويتدابرون في قليل من الثمار، لهذا من أسمائه الحسنى: الجواد الكريم، لا إله إلا هو كيف لا يكون هكذا؟! ثمرها متجدد، وعروقها ضاربة في طين من المسك، تشرب من نهر عسل، ونهر خمر لذة للشاربين، ونهر كوثر، ونهر ماء غير آسن، ونهر من حليب من لبن لم يتغير طعمه، والجذع الذي تجري به تلك المياه المنوعة الخمسة، الجذع من ذهب حي وليس ذهباً ميتاً، الذهب الذي عندنا ذهب ميت، ذهب لو رتبته في عالم الكائنات تضعه في عالم الجمادات الميتة، لكن ذهب الجنة كما أخبر عليه الصلاة والسلام عن أشجارها أن جذوعها من ذهب حي، وهذه عجيبة من العجائب، كيف يكون ذهباً وكيف يكون حياً تجري فيه عروق وتجري فيه مياه، وتجري فيه هذه الأمور كلها حتى تشرب الثمرة؟ وهذا جذع الذهب يخرج أوراقاً وأزهاراً وثماراً، ويخرج ملابس للرجال وللنساء تتدلى من تلك الأشجار، ألا إنها عجائب الجنان فيما أعد الرحمن لأهل الإيمان!

    وصف طيور الجنة

    ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة)، البخت: هي الجمال الخراسانية ناعمة الوبر، لذيذة اللحم، يضرب بها المثل في اللذة اسمها: البخت، قال: (كأمثال البخت) وأنت لا تستكثر هذا الحجم فتقول: كيف نصيدها وكبرها مثل كبر البعير؟ هذه لا تصاد، أنت طولك أكبر من المنارة، أي: تصير عندك مثل العصفور الصغير، فلهذا يذكر الحبيب المحبوب هذا النوع من الطيور وأبو بكر رضي الله عنه يسمع، فيقول: (يا رسول الله! إن هذه لطير ناعمة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة، يا رسول الله! إن هذه لطير ناعمة، قال: أكلتها أنعم منها) نعم وفي رواية: (آكلها أنعم منها) الذي يأكلها أنعم من النعيم، وأنعم من النعومة، انظر الأعرابي البدوي إذا صار عنده جمل أو فصيل أو حوار عليه وبر ناعم يمسح عليه وهو فرحان، يخبر عليه الصلاة والسلام أن هذه الطيور الناعمة المتربية في الجنة آكلها أنعم منها، وأكلتها أنعم منها، أي: ألذ.

    هذه الطيور وكما نعلم نحن في عالم الطيور أنه ليس ما في الجنة مما في الأرض إلا الأسماء، والذي شاهد عالم الطيور في الأرض يرى العجائب، أذكر أنني في سفري إلى أفريقيا وأنا في الطائرة ذات المحرك الواحد الصغيرة فوق الغابات نطير، وإذا بأحد الإخوة يشير بإصبعه يقول: انظر إلى هذه الأرض الوردية، وإذا أرض مثل الورد لونها وردي أحمر، فقال الدكتور: صميط جزاه الله خيراً، قال: هذه ليست أرضاً هذه بحيرة، قلنا: بحيرة حمراء! قال: نعم. لأنها مغطاة بطيور حمراء، فلون الطيور نراه من فوق أحمر فتعجبنا من هذا الخلق، بحيرة زرقاء صارت حمراء لكثرة الطيور الحمراء عليها، هذا في الدنيا.

    وكما نعلم من ألوان الطواويس والببغاوات وألوان العصافير، فكيف في الجنة التي شجرة من أشجارها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه؛ كم تحمل من الطيور والعصافير التي خلقها الله؟ والطيور ثابتة في القرآن: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21] وثابتة في الحديث.

    والواحد منا يشتهي أن يصيد حماماً برياً؛ لأن القوانين صدرت بمنع الاصطياد؛ لأن بعض الشباب المتهور أخذ يرمي الناس ويزعجهم، والطيور تهاجر لموسمها والإنسان يراها تطير حتى لا يستطيع أن يصيدها، يشتهيها ولكن هناك في الجنة .. لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ [النحل:31] وكما أخبر الله في القرآن: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35].

    اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، ونسألك فيها رفقة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصديقين والصحابة أجمعين، وأن تجعل أرواحنا في عليين، اللهم اجعل دماءنا مسكاً، اللهم اجعل موتنا شهادة، بعد طول عمر وحسن عمل، مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767194995