إسلام ويب

شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [7]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للقرآن ظاهر وباطن عند أهل السنة على غير طريقة المبتدعة الذين يخالفون بين ظاهر القرآن وباطنه، فظاهر القرآن عند أهل السنة فهم معانيه وظاهر التلاوة، إضافة إلى بلاغته وبيانه، أما باطنه فهو تطبيق الأوامر والتزامها، واجتناب النواهي، ويكون في ذلك الباطن موافقاً للظاهر ومتلائماً معه دون تناقض.

    1.   

    ما يدخل تحت ظاهر القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    المسائل البيانية والمنازع البلاغية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل:

    فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها؛ فهو داخل تحت الظاهر.

    فالمسائل البيانية، والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الفرق بين (ضيِّق) في قوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]، وبين ضائق في قوله: وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:12]، والفرق بين النداء بـــ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، أو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم:7]، وبين النداء بـــ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، أو بـــ: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26].

    والفرق بين ترك العطف في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6]، والعطف في قوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6]، وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين.

    والفرق بين تركه أيضاً في قوله: مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا [الشعراء:154]، وبين الآية الأخرى: وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا [الشعراء:186].

    والفرق بين الرفع في قوله: قَالَ سَلامٌ [هود:69]، والنصب فيما قبله من قوله: قَالُوا سَلاماً [هود:69].

    والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف:201]، وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله: فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

    أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى: فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:131]، وبين (جاءتهم) و(تصبهم) بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن.

    وكذلك قوله: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36]، مع إتيانه بقوله: (فرحوا) بعد إذا و (يقنطون) بعد إن، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي؛ فقد حصل فهم ظاهر القرآن ].

    يتكلم المؤلف في قضية المسائل البيانية، والمنازع البلاغية، يقول: (لا معدل بها عن ظاهر القرآن)؛ فجعل علم البلاغة القرآنية من ظاهر القرآن، فصار عندنا في ظاهر القرآن أمران: ظاهر التلاوة من جهة المعنى، وكذلك ظاهره من جهة المنازع البلاغية.

    أمثلة على المنازع البلاغية

    وذكر المصنف أمثلة يمكن الرجوع إلى تفصيلاتها في تحقيق الدكتور عبد الله دراز رحمه الله تعالى فقد بين وجه استشهاد المؤلف بها؛ فنأخذ بعض هذه الأمثلة:

    مثلاً هنا لما ذكر الفرق بين: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً [الأنعام:125]، وبين (ضائق)؛ فالأول، الذي هو ضيق يخالف في الصيغة (ضائق)، فالأول كما ذكر الدكتور دراز صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام، ومعروف أن العلماء يرون في الصفة المشبهة أنها تدل على صفة ثابتة في الشخص، واسم الفاعل لضائق يدل على الحدوث والتجدد، هكذا ذكر، وإن كان هذا فيه نزاع، لكن المقصد أنه لا شك أن هناك فرقاً بين استخدام ضيق، وبين استخدام ضائق.

    كذلك الخلاف في النداء في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم:7]، وكذا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، و: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26]، من جهة أن قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، كما يقول دراز مدني خاص، و: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم:7] مكي خاص، و: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، قال: للناس كافة، و: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26]، للناس كافة.

    ويمكن أن ينظر إلى قضية أخرى، أنه عندما يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، غير أن يقال: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26]؛ فالثاني فيه التنبيه على أصل هؤلاء البشر، وأنهم من أصل واحد؛ بخلاف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فإنه لا يلزم منه الإشارة إلى هذا الأصل.

    ومن الأمثلة التي ذكرها وهي مشهورة قوله تعالى: قَالَ سَلامٌ [هود:69]، وهم: قَالُوا سَلاماً [هود:69]، والإتيان بقوله: (قَالَ سَلامٌ) يدل على الثبوت، وقولهم: (سَلاماً)، يدل على التجدد، فقالوا: إن الثبوت أبلغ من التجدد.

    كل هذه القضايا التي ذكرها في المنازع البلاغية من ظاهر القرآن؛ فظاهر القرآن يشمل عنده بيان المعنى، وكذلك يشمل المعاني الثانوية، وهي المعاني البلاغية التي ذكرها؛ ولهذا قال: فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي؛ فقد حصل فهم ظاهر القرآن.

    الإعجاز في القرآن الكريم من جهة الفصاحة

    ثم قال رحمه الله: [ ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة؛ فقال الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23].. الآية.

    وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود:13]، وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها؛ إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة، ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله، فإذا عرفوا عجزهم عنه؛ عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان، وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى.

    وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية، والإقرار لله بالربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله ].

    بعد أن ذكر هذه المنازع البلاغية ذكر أنه من هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة.

    وهنا ملحوظة: فقد استخدام العلماء مصطلحات عدة مرتبطة بهذا النوع من الإعجاز، مثل: الإعجاز باللسان العربي، أو الإعجاز بالنظم العربي، أو الإعجاز بالبلاغة، أو الإعجاز بالفصاحة، والمراد بها في النهاية واحد، وهو الإعجاز بهذا النظم العربي من حيث هو كلام عربي، لكن قد تختلف تعبيرات العلماء عن هذا النوع من الإعجاز.

    الجانب المتحدى به من القرآن

    الإمام هنا يذكر في قوله: (لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة) قضية مهمة في تحديد ما الذي وقع به التحدي؛ لأن الأصل أن تكون الأداة موجودة عند المتحدى، ثم يقع التحدي، فالأداة معه إلا أنه لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا الشيء، فهذه قاعدة التحدي.

    وقد تكلمنا عن قضية تمايز معاني كلام العرب، فأفضل ما تكلم به العرب إما أن يكون في خطبة وإما أن يكون في مثل وإما أن يكون في شعر؛ فلو جمعنا كلامهم في خطبهم وأمثالهم وشعرهم، ونظرنا إلى الموضوعات التي تطرقوا لها، ثم نظرنا إلى القرآن وإلى الموضوعات التي تطرق لها؛ فإنا سنجد هنا تمايزاً واضحاً بين هذه الموضوعات، وأن القرآن جاء بموضوعات لم تكن معهودة عند العرب.

    فإذا قلنا: بأن الإعجاز أو التحدي أيضاً كائن بمثل هذه الموضوعات؛ فكأننا نقول: إن العرب قد طولبوا بهذه المعاني، وهذا أصلاً ليس في مقدورهم ألبتة؛ لأن مثل هذه المعاني لا يتصور أن تطلب منهم، وهذا شبيه بما لو قلت لرجل مقعد: أتحداك أن تسبقني من كذا إلى كذا! هذا لا يصلح؛ لأنه لا يتصور منه المشي؛ فإذا كانت هذه موضوعات العرب ولا يعرفون إلا هذا؛ فكيف يتحدوا بما لا يستطيعون إدراكه أصلاً؟! والصواب أنهم تحدوا بهذا النظم العربي من حيث هو نظم عربي؛ فهذا الكلام العربي بين أيديكم ولا تستطيعون الإتيان بمثله؛ فإذا قلنا بهذا فإنه لا يعني نفي أوجه الإعجاز الأخرى؛ ولهذا بعض من يقرأ أو يسمع مثل هذا الكلام يفهم أن القرآن ليس بمعجز إلا بنظمه، وهذا ليس بصحيح.

    نحن نقول: يجب أن نفرق بين أمرين: بين موضوع ما تحدي به العرب، والموضوع الآخر: وجوه الإعجاز الأخرى؛ فلابد أن نفصل بين الأمرين لواقع الحال؛ لأنه لا يتحدى الإنسان إلا بما لا تكون أداته معه، والذي كانت أداته موجودة عند العرب هو ذلك الكلام العربي والنظم العربي، لكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن؛ ولهذا أذعنوا له وسلموا، فما سمع بأن أحداً من العرب قبل هذا التحدي وقال: أنا آتي بمثله، ما سمع بهذا أبداً.

    فلما انقضى هذا الجيل، الذي هو جيل الفصاحة البالغة، ولم ينقض التحدي؛ فمن باب أولى أن يكون التحدي قد ثبت على جميع الجن والإنس؛ لأنه لن يأتي أحد بعد العرب فيكون أفقه بلغتهم، فالعقل يؤدي هذا قطعاً؛ فما نسمعه اليوم من بعض الترهات من معارضة القرآن أو ما سمعناه بعد ذلك؛ فكل هذا يدل على قمة الجهل، فأنه لا يمكن أن تتصور معارضته، فهؤلاء الفصحاء، الذين كان اللسان هو أبرع ما عندهم تركوا هذا وأذعنوا إجماعاً منهم على عدم قدرتهم وحاربوا؛ مع أنهم كانوا يستطيعون أن يجتمعوا ويأتوا بمثل سورة منه، ومع ذلك لم يفعلوا وحاربوا، فدل على أنهم أذعنوا للعجز، وأعلموا كل الخلق أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وهم أصحاب هذا اللسان؛ فمن باب أولى من جاء بعدهم؛ فإذاً: هذه قضية مهمة للتفريق بين ما تحدي به ووجوه الإعجاز الآخر.

    مقصود التحدي ونتيجته

    وهذه قضية أخرى في الإعجاز وهي أيضاً مهمة، وهي: ما هو المقصود من التحدي، وما هي النتيجة التي يسعى إليها من ناقش وجوه الإعجاز، يعني لماذا يتكلم العلماء مثلاً عما يسمى بالإعجاز العلمي؟ وما هي النتيجة التي يريدون التوصل إليها؟ وما هي النتيجة التي يؤول إليها التحدي؟ هل هي مختلفة أو واحدة؟ لو تأملنا نجد أن النتيجة واحدة، وهي الدلالة على صدق القرآن وأنه من عند الله سبحانه وتعالى؛ فكونهم تحدوا به ولم يؤتوا بمثله؛ فالنتيجة أن هذا آية من آيات الله؛ دال على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه يأتي فيه أشياء من الإخبار بالغيب، ما يسمى مثلاً بالإعجاز الغيبي، وتقع هذه الغيبيات إما في السابق يكتشف ما يصدقها وإما في اللاحق فتقع؛ فهذا أيضاً دلالة على أنه من عند الله سبحانه وتعالى، كذلك تناسق التشريع ويسميه بعضهم بالإعجاز التشريعي وهذا كذلك راجع إلى هذا المعنى.

    إذاً كل وجوه الإعجاز التي يبحث فيها حتى هذا الوجه الذي وقع فيه التحدي مآله ونتيجته هو الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن ربه، وأن هذا الكتاب منزل من عند الله، وأن الله سبحانه وتعالى قد تكلم به حقيقة.

    هذا المآل الذي تؤول إليه جميع هذه الوجوه يحسن التنبه له ونحن نناقش قضايا الإعجاز، بحيث لا ندخل في قضايا الإعجاز ما يمكن أن يقع فيه الإنخرام من جهة.

    الجهة الثانية: أننا لا نفتعل في قضية من قضايا الإعجاز ما يمكن أن يقع فيه لبس أو خطأ، وهذا المثال لكي تتضح مسألة الإعجاز التاريخي:

    فيوسف عليه السلام حكم مصر، وأيضاً وقع في عهده قضية شهدها العالم ويمكن أن يؤرخ بها، التي هي السبع السنين العجاف، وجاءه الناس من جميع أقطار الأرض المعمورة في وقته؛ لكي يأخذوا مؤنهم؛ فمثل هذا الحدث نجده في التاريخ المدون لمصر.

    ولو تأملنا سنجد أن بعض من ناقش هذه المسألة ينكر هذا الحدث، فبعض من يدرس التاريخ دراسة خارج إطار الأديان، طبعاً نحن لا ننكر هذا؛ لأنه واضح عندنا في الكتاب أن الأمر انتهى، وليس الآن النقاش في هذه المسألة؛ لأنه هناك مسألة يجب أن ننتبه لها ونحن نناقش في هذا، وهي هل يلزم في كل حدث تاريخي أن يكون له واقع مكتوب؟. نقول: لا يلزم؛ لأنه كم من القضايا التاريخية التي تركت وهي أهم من ذلك؛ فالمقصد من ذلك أنه عندما نأتي إلى مثل هذا لا نتمحل في البحث في التاريخ المصري؛ لإثبات وقوع سبع سنين عجاف وقبلها سبع سنين من الخصب، لا يلزم؛ لأن هذا ثابت عندنا من كتاب ربنا ولا نحتاج نحن المسلمين إلى إثباته في الواقع وفي التاريخ، فالذي ينكر مثل هذا الحدث ليس المقام مقام طمع في إيمانه لو أثبت له وقوع ذلك، وأنه توجد شواهد تاريخية على الأرض تدل على ذلك؛ فالمسألة بالنسبة له مسألة محاجة ومخاصمة ومسألة علمية ليس إلا، وإذا ثبت له ذلك؛ ما يعدو أن يكون الأمر عنده سيان، وهذا قد وقع من بعض الذين يقع بينهم وبين المخالفين من اليهود أو النصارى أو بعض الملاحدة في بعض القضايا المرتبطة بالإعجاز العلمي أو غيره، يقع مثل هذا؛ فهو إنما أراد الاحتجاج والاختصام ليس إلا.

    1.   

    المقصود بباطن القرآن

    قال رحمه الله: [ وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد، والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله.

    ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفاً، ومن ذلك أنه لما نزل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245]، قال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا، هذا معنى الحديث، وقالت اليهود: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]؛ ففهم أبي الدحداح هو الفقه، وهو الباطن المراد، وفي رواية: قال أبو الدحداح : ( يستقرضنا وهو غني؟! فقال عليه الصلاة والسلام: نعم؛ ليدخلكم الجنة )، وفي الحديث قصة، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير، عافانا الله من ذلك ].

    بهذا المثال رجع المصنف إلى تقرير الفرق بين الظاهر والباطن على رأيه؛ فالباطن عنده الذي يقتضي تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، التي هي مقام التطبيق.

    قوله سبحانه وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245]، القصة مشهورة عن أبي الدحداح، وهذه الآية خبر، لكن أبا الدحداح فهم منها الباطن، وهذا الباطن هو أن الله سبحانه وتعالى وهو الغني ما دام استقرض؛ فإن ذلك لأجل مصلحة العبد، فخرج أبو الدحداح عن نخله لله سبحانه وتعالى؛ فإذاً هذا التطبيق يعتبر هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً)، أمام فهم المعنى فهذا هو الظاهر، أي: أن الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى الإنفاق، وأننا إذا أنفقنا في سبيله؛ فإنه يضاعف ما أنفقنا أضعافاً كثيرة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تصل إلى سبعمائة ضعف وإلى أزيد من ذلك، هذا هو الظاهر، لكن علمنا بهذا، وأن المراد منه أن نطبق؛ فهذا هو الباطن عند المؤلف.

    وجميل منه أنه نبه على مقابل ذلك، وهو الوقوف عند ظاهر الألفاظ؛ لأن اليهود لما سمعوا هذا قالوا: إن الله فقير، والعياذ بالله! نظروا إلى أن المستقرض إنما يكون في نظرهم صاحب الحاجة؛ فنسبوا لله سبحانه وتعالى هذا، وقد كذبوا، عليهم من الله ما يستحقون؛ فهذا وقوف عند الظاهر، ولا شك أنه أيضاً منهم من باب المماحكة والخصام، وإلا فهم يعرفون من شريعتهم مثل ما عرف أبو الدحداح ، لكنهم قد صرفوا عن الفقه، كما أخبر في قضية أنه إذا نفي الفقه عن قوم؛ فإنه قد نفي عنهم علم الباطن.

    تطبيق الأمر والنهي

    قال رحمه الله: [ ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكراً لما أنعم الله به عليه، ألا ترى قوله: وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وفي الأخرى: قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].

    والشكر ضد الكفر؛ فالإيمان وفروعه هو الشكر، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد؛ فهو الذي فهم المراد من الخطاب، وحصل باطنه على التمام، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط؛ فهذا خارج عن المقصود، وواقف مع ظاهر الخطاب؛ فإن الله قال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، ثم قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]؛ فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم؛ فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره؛ فمن دخلها عرياً من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول؛ فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير، عوداً عليه بالمزيد؛ فوهبه عند رأس الحول فراراً من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرا للنعمة؟! ].

    نلاحظ أنه أدخل جميع المأمورات والمنهيات التي في القرآن عند تطبيقها في الباطن، يعني: أنه هو المقصود من الظاهر، الذي هو ظاهر التلاوة، لما قال هذا، قال: إنما طلب بها العبد شكراً لما أنعم الله به عليه، كقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وفي الآية الأخرى قال: قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، فشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم يكون بالإيمان، وبدخول المكلف في أعباء التكليف، الذي هو التطبيق.

    فإذاً: عمل العبد بالمأمورات وتركه للمنهيات يعد شكراً على النعم؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يقوم الليل في آخر حياته، وقالت له عائشة : ( .. وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً )، والله تعالى قال أيضاً: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً [سبأ:13]، فالعمل هو الشكر، يعني أن يعمل العبد الطاعة هو مقام الشكر، وهذا هو المراد.

    المنافقون الآن يعملون مثل ما يعمل المؤمنون، لكنهم وقفوا على الظاهر، وإنما يعملون لكي يقوا أنفسهم من الحدود، وتركوا الباطن الذي هو ما يؤول إلى الآخرة، والعمل واحد؛ فهذا يصلي وهذا يصلي، لكن هذا منافق وهذا مؤمن، فمآل صلاة المنافق غير مآل صلاة المؤمن، فما دمت أيها المنافق تعبت، فلابد وأن تخرج الزكاة وستحج مع هؤلاء القوم؛ فلماذا لا تحسن إيمانك وينتهي الموضوع؛ فهذا يدل على عدم الفقه؛ ولذا نفى الله عنهم الفقه، كما أخبر الإمام في موطن سابق.

    فالمقصد من هذا واضح، وهو أن الإمام يوجه إلى أن تطبيق العبادات هو المراد من الظاهر، وهو الباطن؛ فإذاً هناك توافق كما سبق بين الباطن والظاهر.

    ترك الحيل عند فهم باطن القرآن

    قال رحمه الله: [ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملاً بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] حتى يجري على معنى قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4].

    وتجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى؛ لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود؛ اقتحم هذه المتاهات البعيدة ].

    يتكلم المصنف عن قضية مضارة الزوجة، لتنفك عن مالها على غير طيب نفس، وعده من عدم الفقه؛ لأنه لم يعمل بقوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، ولو عمل بقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4]؛ لدخل في الباطن وكان مطبقاً للحدود.

    والحيل -كما نعلم- نوعان:

    فهناك حيل يكون فيها تبديل وتغيير لحكم الله، فمن فعل هذا النوع من الحيل؛ فهو قد وقف مع مجرد الظاهر ولذلك كأنه ينبهنا على قاعدة: أن أي حيلة تسقط شيئاً من التكليف؛ فإنها من الحيل المذمومة، أما إذا لم يكن فيها إسقاط لشيء من التكليف، وكان فيها مصلحة؛ فهي من الحيل المباحة، فمن فعلها فهو داخل في العمل بالباطن، فالحيل على قسمين حيل مسقطة لشيء من التكليف، وهذه مذمومة.

    وحيل لا تسقط شيئاً من التكليف، وإنما تنقل المكلف من عمل إلى عمل؛ فهذه تعتبر من الحيل المباحة.

    وقوف المبتدعة على ظاهر النص

    قال رحمه الله: [ وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضاً، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ كما قال الخوارج لـعلي : إنه حكم الخلق في دين الله، والله يقول: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]، وقالوا: إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين؛ فهو إذاً أمير الكافرين.

    وقالوا لـابن عباس : لا تناظروه؛ فإنه ممن قال الله فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وقوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71]، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين؛ فأسرفوا ما شاءوا.

    فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، وقوله: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]، لعلموا أن قوله: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57] غير مناف لما فعله علي ، وأنه من جملة حكم الله؛ فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي .

    ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده؛ لما قالوا: إنه أمير الكافرين، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين.

    وعلى الجملة؛ فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم؛ فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهماً وعلماً، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب؛ فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه ].

    ذكر المصنف ما يقع من المبتدعة في فهم القرآن، فمثل بالخوارج حين اعترضوا على علي رضي الله عنه في قضية تحكيم الرجال، واستدلوا بقوله: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]، فالذي وقع عندهم هنا أنهم أخذوا بجزء من الآيات وبظاهرها، والإمام رحمه الله تعالى نبه على أن تحكيم الرجال جزء من تحكيم أمر الله؛ ولو استقرءوا آيات التحكيم؛ لعلموا أن الله سبحانه وتعالى أيضاً حكم الرجال؛ فتحكيمه الرجال في كتابه دليل على أن تحكيم الرجال من شرعه؛ فليس مخالفاً لقوله: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]، وإلا لاضطررنا إلى ضرب الآيات بعضها ببعض؛ فيقع اللبس مثل ما وقع عند هؤلاء الخوارج.

    ولما قالوا عن ابن عباس : بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] أيضاً هم وقفوا على ظواهر هذا المعنى، وحكموا على مثل ابن عباس بأنه رجل مخاصم مجادل، مع أنه رضي الله عنه معروف بالتحقيق في العلم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن.

    وأما ما ذكره عن أهل التشبيه، فهذا فيه جانبان:

    جانب يعتبر حق، وهو ما وقع من الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بصفات خلقه تشبيهاً تاماً؛ فزعموا أن له مثلما للبشر تماماً، وهذا مذهب يكاد يكون منقرضاً.

    موافقة الظاهر والباطن في الصفات الإلهية

    والجانب الآخر وهو المشكل، والمؤلف رحمه الله تعالى يريده، وهو: إثبات الصفات للباري سبحانه وتعالى، وهذه مسألة لا تكاد تخفى على مثلكم، أن إثبات الصفات كما أثبتها الله سبحانه وتعالى ليس من باب التشبيه الذي ذهب إليه المؤلف، بل في الحقيقة هو الباطن المراد، فعلى منهج المؤلف المفترض أن يكون هو الباطن المراد؛ فلما قال سبحانه وتعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وقال: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71]، وقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقال: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]؛ فلا يمكن أن يخالف الظاهر الباطن، فعلى طريقته لو سار على التأويل؛ فإنه سيكون هناك مخالفة بين الظاهر والباطن، أما إثباتها كما جاءت عن الله سبحانه وتعالى فهو الذي يكون فيه موافقة بين الظاهر والباطن، ونصوص الكتاب ونصوص السنة تشهد لذلك؛ فليس هناك إشكالية إلا عند من وقع عنده المشكلة العقلية المعروفة؛ والمقدمات العقلية التي اعتمدها بعض المتكلمين هي التي أثرت في تأويل مثل هذه الآيات؛ فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد تكلم بهذا الكلام، عربياً بيناً، وقال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]؛ فما الذي يجعلنا نصرف إثبات العين إلى أن المراد الكلأ أو الحفظ ولا نثبت العين فهذه إشكالية العقل الذي عندهم، حيث زعم أن هذا يلزم منه التشبيه وأن التشبيه لا يجوز؛ وبناءً عليه ننفي هذا المعنى المشبه، وهذا خروج عن الظاهر وخروج عن الباطن.

    وكذلك لما قال: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71]؛ فأثبت لنفسه اليد في أكثر من موطن، وكذلك لما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]؛ وضع الإبهام على أذنه والخنصر على عينه )؛ إشارة إلى السمع والبصر، وهذا عند المتكلمين وعند المتأولين، يرونه من المنكرات؛ وقد فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن كما قلنا سابقاً وقررنا متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكون الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا؛ فإنه يدل على جوازه، وليس فيه ما يزعمه بعضهم من أن هذا يلزم منه التلبيس على العامة وغير ذلك من الكلام الذي يدل على أن مآل قائله كأنه يقول: أنا أكثر حرصاً على العامة من الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد فعله أمام العامة، وهو يخطب.

    وكذلك لما جاءه اليهود كما في الحديث: وقال الحبر: ( إن الله يضع الأرضين على ذه والسماوات على ذه، ثم قبض يده وبسط، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويسمع، ثم ضحك تصديقاً للحبر )، لم يعارضه في أي شيء؛ فدل على أن ما فعله صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقره وهو لا يقر الباطل، ولكن المتأول لإشكالية التأويل عنده يقول: إن قوله سبحانه وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يرد قول اليهود في قضية القبض والبسط، وهذا تأول وتمحا لرد مثل هذا الأمر.

    فالإمام رحمه الله تعالى في هذا الموطن خالف منهجه بسبب القضية العقلية المعروفة عند بعض المتكلمين من رد صفات الله سبحانه وتعالى بدعوى أن فيها تشبيهاً؛ فيؤولونها إلى معان أخرى.

    القاعدة التي ذكرها في الأخير: أن كل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم؛ فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهماً وعلماً، هذه قاعدة، ثم قال: وكل من أصاب الحق وصادف الصواب؛ فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه.

    الجانب الأهم في القرآن من حيث الظاهر والباطن

    وهنا نختم بمسألة لطيفة في مثل هذا الجانب، وهو لأن هذا الموضوع هو موضوع قضية الظاهر والباطن إذا تأملناه جيداً فسنجد أن الباطن هو المقصود، وأنه لا يتوصل إلى الباطن إلا بفهم الظاهر، وأن من يقف على فهم الظاهر؛ فإنه يكون ناقصاً، ويشبه وقوفه على الظاهر وقوف المنافقين وغيرهم، أما من ينتقل من الظاهر الصحيح إلى الباطن الصحيح ويعمل به؛ فهذا الذي قد حقق تمام الفقه.

    فالذي ينقصنا بناءً على كلام المؤلف، هو جانب الباطن، وليس جانب الظاهر، وتأمل أنت الحياة التي تعيشها مع من حولك، سواء حياتك الخاصة أو حياتك مع من تعيش معه وتتعامل معه؛ ستجد أننا كثيراً ما نقصر في الباطن المقصود؛ فمثلاً على سبيل المثال في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، قضية الخشوع في الصلاة، الآن هل أحد منا لا يفهم معنى هذا الظاهر؟ لا أحد يجهل هذا الظاهر، لكن الذي يطبق الباطن المأخوذ من هذا الظاهر قليل، فمن رحمه الله فإنه يطبق هذا.

    فهذا النوع من السلوك الذي هو الباطن تركه وعدم العمل به هو شبيه بوقوف المنافقين على الظاهر، حيث أجروا هذه العبادات لأجل أن يتخلصوا من الحدود، ونحن نجري هذه العبادات من أجل أن نتخلص من ربقة التكليف، أقول: والله أنا مكلف فأصلي، لكن كيف أصلي؟ الذي هو الباطن، هذه قل من ينتبه إليها.

    قس على ذلك معاملاتنا نحن في قضية الغيبة مثلاً، نتحدث كثيراً في المجالس، ويغتاب بعض طلبة العلم وبعض العلماء، ويغتاب بعض الأساتذة ويغتاب بعض الطلاب، هذا وقوف بلا شك عند الظاهر، الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12]، ويقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10]، لا تطعه، ثم يقول عنه: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، ويقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، ونحن حين نقرأ: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) نقول: إنه المغتاب؛ ومع ذلك نغتاب؛ إذاً هذا منا وقوف على الظاهر وعدم عمل بالباطن، فنحن منهيون عن هذا العمل ومع ذلك نجد أننا نفعله؛ فلم نحقق المقصود والمراد.

    قس ذلك على علم السلوك عندنا، فالذي يتحقق من السلوك؛ هو عمل بالباطن، والذي يتخلف من السلوك ومن التعبد؛ فإنه وقوف على الظاهر؛ ولهذا لما سئلت عائشة عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان خلقه القرآن )، وهذا الكلام جامع؛ إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم فعل الباطن، وهو المقصود الأسمى الذي نزل من أجله القرآن، وكما أشار المؤلف في بداية الأمر، فإن المقصود الأول -وهو الباطن- هو: تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى؛ لقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؛ فانظر إلى مقدار ما تعمل من تحقيق معنى هذه الآية، وهو مقام الباطن.

    1.   

    الأسئلة

    السبب في استخدام مصطلح الظاهر والباطن عند أهل البدع أكثر من أهل السنة

    السؤال: لماذا استخدام الباطن عند أهل البدع أكثر منه عند أهل السنة؟

    الجواب: الظاهر والباطن استخدم عند أهل البدع أكثر من استخدامه عند أهل السنة، والمؤلف في بداية الكلام نبه على هذا وأشار إليه، وذكرنا قاعدة في هذا الموضوع، في قضية الظاهر والباطن.

    نحن قلنا: أي باطن خالف الظاهر؛ فهو مردود، وأي باطن خالف الشريعة فهو مردود، وذكرنا مثالاً لذلك، والذي يفسر الظاهر والباطن، هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلاً حين يأتي بعض الإسماعلية ويقولون في الحج مثلاً هو القصد إلى مشايخهم، هذا هو الحج عندهم، والحج إلى مكة لا يعملونه، نأتي إلى مثل هذا الأمر، ونقول: هذا الظاهر الذي جعلتم هذا باطنه، الظاهر هو القصد إلى مكة؛ فأنتم ألغيتم هذا الظاهر وذهبتم إلى باطن لا دليل عليه، فهل فعل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأنه المستند في النهاية عندنا وعندهم، فإذا خالفوا في أن المستند غير الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى الموضوع من الأصل، فمن أين جاءوا بأن المقصود بالحج هو القصد إلى مشايخهم؟ من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً.

    والكلام عن الظاهر والباطن، أو الأحاديث الواردة فيها ليس فيها شيء يصح، لكن لو استخدم فعلى ما استخدمه المؤلف من أن الظاهر هو ظاهر التلاوة وفهم المعنى، والباطن هو تحقيق ما فيه من الأوامر والنواهي.

    اشتراط التحدي في المعجزة

    السؤال: هل يلزم أن تكون المعجزة مقرونة بالتحدي؟

    الجواب: لا يلزم؛ إذا تكلمنا عن عموم المعجزة فلا يلزم أن تكون المعجزة مقرونة بالتحدي، والذي جعل العلماء ينصون على التحدي هو أنهم ضيقوا النظر في المعجزات بالقرآن بالذات، يعني ضيقوا النظر في المعجزات بالقرآن فقط، والقرآن هو الذي وقع فيه التحدي، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان له مجموعة من المعجزات، ولم يقع فيها التحدي، وهي معجزات حسية كثيرة، سواءً ظهرت أمام الكفار مثل انشقاق القمر، أو ظهرت أمام المؤمنين مثل تسبيح الحصى بيديه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

    كذلك الأنبياء السابقون ظهر عندهم معجزات، في نظري أنه لم يكن واحدة من هذه المعجزات مقرونة بالتحدي أبداً، فمثلاً ناقة صالح، ما هو وجه التحدي فيها؟ يد موسى عليه السلام وعصاه، ما هو وجه التحدي فيها؟

    وأيضاً: المعجزات الأخرى التي ظهرت مثل الضفادع والقمل.. وغيرها، ليس فيها وجه تحد، لم يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بمثل ما عنده، والذي وقع فيه الطلب للإتيان بمثله هو القرآن، وهذا أيضاً من القضايا المهمة في دراسة ما يتعلق بالمعجزة؛ لأنه قد يغفل القارئ حينما يقرأ في الإعجاز وهو يأخذ هذا التعريف، فيكاد يكون أطبق في كتب الإعجاز على أن المعجزة: الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي، وهذا ليس بدقيق، مع أنه قد سار، لكن هذا لأنهم أخذوه فقط من واقع القرآن.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755996393