إسلام ويب

تفسير سورة النور [27-31]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أدب الله تعالى المؤمنين بآداب الاستئذان: من حيث دخول البيوت، والسلام على أهلها، وعدم الكشف على عورات الأقارب من الأم والأب والأخت ونحوهم. ثم أدب الله تعالى المؤمنين بأن يغضوا أبصارهم فذلك أزكى لهم ذكوراً وإناثاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم...)

    بعد ذكر أحكام الزناة وما أمر الله به من جلدهم مائة جلدة، وتغريب عام إن كانوا أبكاراً، وبالرجم حتى الموت إن كانوا محصنين رجالاً ونساء، وبعد أن أصدر حكمه جل جلاله على القذفة بثمانين جلدة ، وأن يحضر عذاب الجميع طائفة من المؤمنين، وبعد ذكر حكم اللعان فيما إذا وقع الاتهام من الرجل لزوجته وليس هناك شهود، فيلاعنها وتلاعنه، ويدرأ اللعانُ الحدَّ عن الرجل وعن المرأة، ثم ذكر بعد سلسلة من الآيات في تقريع الله لمن قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، ثم تأتي هذه الآيات التي يعلم الله فيها المسلمين ويؤدبهم بآداب المنازل ودخولها: فكيف يستأنسون؟ وكيف يُسَلِّمون؟ وكيف يكونون بشراً لهم خلق وحضارة، ولهم نبل، فلا يكونون كالحيوانات يدخل هذا على هذا، فقد يجد في الدار زوجته أو أمه أو أخته وهي على حالة لا تريد أن يراها عليها ابنها ولا أخوها ولا أي قريب لها، فقال جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].

    قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:27] الخطاب للمؤمنين، وعلى عادة كتاب الله أن فروع الشريعة يخاطب بها المؤمنون، لأن الأصل وهو من الإيمان قد تم، وبعد الأصول تأتي الفروع، فإذا كان الخطاب في الأصول هو في الدعوة للتوحيد وللإيمان بالله ورسله وكتابه فإنه يقال: يا أيها الناس، لكن الخطاب هنا للمؤمنين بعد أن آمنوا بنبيهم، وامتثلوا ما أمر به من أركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج.

    وهنا يعلمهم الله الآداب والرقائق، ويعلمهم كيف يتصلون ويتعاشرون ويتآخون ويتعارفون، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] أي: إذا دخلتم بيوتاً -جمع بيت ومسكن- ليست ببيوت لكم فلا تدخلوها بلا إذن ولا استئذان ولا سلام ولا كلام؛ فهذا ليس من آداب المسلمين، وليس ذلك خلقاً لائقاً بهم، ولا يعرف هذا الخلق إلا اليهود ورعاع الناس، فتجد الرجل منهم يدخل على بيت الرجل وعلى عياله، حاضراً كان أو غائباً بلا استئذان ولا سلام، ولا يفعل هذا مؤمن، ولا يفعله ذوو خلق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27].

    ومعناه: إذا كانت البيوت بيوتكم فلا حاجة إلى الاستئذان، وإن كان هذا بالغالب الأعم، ولكن مع ذلك أمروا إذا دخلوا بيوتهم أن يقولوا كلمة تشعر بدخولهم، كالتكبير والنحنحة أو كلمة تشعر بدخوله؛ لأنه قد تكون في البيت أمه أو أخته أو ابنته على حالة لا يليق بالأب أن يراها ولا بالولد ولا بالأخ، أيريد أن يرى الولد أمه عريانة؟ أيريد أن يرى الأخ أخته عريانة؟ أيليق ذلك في دين المسلمين وفي أخلاقهم؟! إذاً: الأذن والاستئذان لا بد منه.

    بل أكثر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في بيته كان إذا غاب في غزاة أو معركة أو سفر أو حج أو عمرة، ورجع في تلك الليلة فإنه لا يدخل البيت، بل يبقى في ضاحية البلدة، ويأمر من معه ألا يطرقوا نساءهم ليلاً، ويقول: ليعلموا ذلك ولكي لا تتخونوهن.

    وقد يخطر بالبال أنه جاء مفتشاً ليرى ماذا صنعت، فإذا حصل سوء الظن بين الزوج والزوجة شقيت الحياة وما سعدت.

    وكان يقول (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة).

    فقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] أي: تستأذنوا، ثم بعد الإذن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وبّين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه مرة طارق يريد الدخول للبيت دون سلام، وإذا بالنبي يأمر خادمه أن يقول له: استأنس أولاً، قل: أأدخل؟ ثم بعد أن يؤذن لك قل: السلام عليكم، فعمل ذلك فأذن له، ودخل وقال: السلام عليكم.

    استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة

    واستأذن صلى الله عليه وسلم مرة على سعد فقال (السلام عليكم، فلم يسمع جواباً ثم ثانية، ثم ثالثة فرجع) .

    وإذا بـسعد خرج مسرعاً، وقال: يا رسول الله! سمعت سلامك، وأجبتك خفيةً ولم أسمعك؛ لأنني أريد أن تبلغني سلامك مرة وثانية وثالثة، لعل ذلك يدخل علي البركة واليمن والسلام والأمن، وإذا به يأذن له ويدخل بيته معززاً مكرماً.

    استئذان أبي موسى الأشعري على عمر

    استأذن أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه ثلاث مرات فلم يؤذن له، فرجع، فإذا بـعمر -وكان منشغلاً بأمور المسلمين- يقول لمن حضر: ألم أسمع صوت أبي موسى ؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: وما باله؟ قالوا: سلم مرات ثم رجع، فأرسل عليه فقال له: لم ذهبت؟ قال: استأذنتك بالدخول وسلمت ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من استأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع).

    فإذا بـعمر يقول له: لتأتيني بشاهدي عدل وإلا أوجعتك ضرباً، وكان عمر شديداً فيما يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بـأبي موسى يذهب منزعجاً إلى المهاجرين والأنصار ويقول لهم: لقد لقيت اليوم بلاءً من أمير المؤمنين: استأذنته ثلاثاً فلم يأذن فذهبت، ثم أرسل خلفي، فقال: لم ذهبت؟ فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع).

    فقال لي: إما أن تأتي بشاهدي عدل أو جلدتك، فقال له جماعة -وكلهم كانوا قد سمعوا هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم-: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، فذهب شابان وقد سمعا هذا الحديث، فقالا: يا أمير المؤمنين! نحن نشهد، والأنصار يشهدون والمهاجرون يشهدون، حينئذٍ انبسط عمر له، وأظهر بشره له وترحيبه وأدخله.

    فقوله: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27].

    أي: حتى تسأذنوا، وفي قراءة: (تستأذنوا) هكذا، ولكنها ليست سبعية، وتستأنسوا من الأنس، وهذه كلمه يقولها أهل مكة، آنسكم فلانٌ وأنستم فلاناً، أي: رأيتموه ورآكم وسلمتم عليه وسلم عليكم، ووقع الأذن بينكم زائرين ومزورين، وعندما يحصل الأذن يحصل الأنس والتأنس والمؤانسة.

    ثم قال: وَتُسَلِّمُوا [النور:27].

    أي: بعد أن تقول: أنا فلان، أألج: أأدخل؟ فإن قيل: نعم، فادخل وقل: السلام عليكم.

    ذكر بعض آداب الاستئذان

    طرق النبي صلى الله عليه وسلم مرة طارق، فقال من؟ وإذا بالرجل يقول: أنا، وإذا بالنبي عليه الصلاة السلام يعيد عليه كلمة أنا أنا، أي: كره قوله: أنا، صلى الله عليه وسلم.

    فكان ينبغي له أن يقول: أنا فلان، فيجب أن يعرف بنفسه، وقد يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان دون إنسان، ولا لوم ولا عتاب في ذلك، إذ أصبح من الواجب والأدب الاتصال والمعاشرة والمصادقة.

    ومرة طرق طارق عليه الباب، وإذا به عليه الصلاة السلام ينتبه والرجل ينظر من شق الباب، وعندما علم الطارق أن النبي صلى الله عليه وسلم يراه ابتعد برأسه، فقال: (لو بقيت في مكانك لجئت بما يفقأ عينك، وهل جعل الإذن إلا للنظر؟).

    لماذا الاستئذان؟ لكي لا يرى الإنسان عورة البيت ومن فيه، فإذا استمر هكذا يسرق النظر فإنه يكون بذلك قد خان وخرج عن العهد، وتلصص على أعراض المسلمين، فكيف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون فاعل ذلك مغفلاً من أمثال هؤلاء الذين قذفوا عن غفلة، وإما أن يكون منافقاً، بل قال النبي عليه الصلاة السلام: (من رأى إنساناً يسترق النظر لداخل بيته ففقأ عينيه فلا جناح عليه).

    فقد أهدر تلك العين بفقئها، وهذا مذهب الظاهرية والكثير من السلف.

    قال تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ [النور:27].

    أي: هذا الفعل منكم والاستئناس والاستئذان والسلام خير لكم؛ لدوام المحبة والأخوة، ولصيانة الأعراض.

    قوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27] أي: لعلكم تتذكرون فيما يجب أن تقوموا به من آداب ورقائق في دوام الأخوة بين هؤلاء المسلمين، فقد آخى الله بينهم فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

    فلو جاء هذا الزائر فدخل ولم يستأذن فقد يطرد، وقد يضرب، وقد تفقأ عينه كذلك، وقد يتهم باللصوصية، وبأنه جاء للفاحشة، وقد يتعرض للرصاص، والفقهاء يعتبرون من دخل البيت بلا إذن صائلاً، والصائل يقتل.

    وما جعلت الأبواب إلا لذلك، وما جعلت الستور إلا لذلك، وهذا أدب الله الذي أدب به المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].

    تتذكرون أن هذا في صالحكم، وتتذكرون أن هذا من آداب نبيكم وآداب دينكم، والآداب التي أعلنها الله وأمركم بها في كتابه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحداً...)

    قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28].

    إذا أردت دخول بيت غيرك فاطرق الباب، فإن لم يجب أحد صحت بالصوت: أنا فلان، فإن لم يجب سلمت، فإن لم يجبك أحد فمعناه: أنه لا أحد في البيت، فإياك أن تدخل بيتاً وأصحابه ليسوا فيه فيكون هذا مما يفسد الأخوة، ومما يؤدي بالفاعل إلى التهمة، وقد يكون في البيت نساء، فلا يليق أن يفتح من بالباب الباب للرجال.

    فإذا كان البيت لا رجل فيه فلا ينبغي ولا يجوز بحال من الأحوال أن يدخله أجنبي، ولذلك لا تجيب المرأة التي في البيت، وإذا دخل فإنه يكون قد دخل في مكان غير مكانه، وتسور حرمة ليست حرمته، وفضح عرضاً ليس عرضه، فينتقل الأمر من فقء العين إلى الاتهام بالفاحشة، وإلى السرقة واللصوصية، وقد يكون الرجل في البيت ولم يرد الفتح له، فالأمر أمره والشأن شأنه.

    وقد يخرج له في هذه الحالة ويقتله، وقد يضربه، لذلك قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا [النور:28] أي: لا تدخلوا هذا البيت حتى يؤذن لكم، فإذا لم يكن في البيت من يأذن فلا تدخلوا، قال تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28] أي: إذا لم يأذن لكم من في البيت وقيل لك: ارجع فارجع ولا تغضب، هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] أي: أطهر لقلوبكم ولنفوسكم، وأزكى لأخوتكم، فقد يكون للرجل مانع من الموانع، أو سبب من الأسباب، فقد يقوله وقد لا يجد مصلحة في قوله.

    فلا تدخل ولا تغضب فالحرم حرمه، والمكان مكانه، وقد يكون له عذر وأنت تلومه، ولكل صاحب بيت الحق في ذلك، وأما في هذه الأيام فإنك تجد الأجراس التي تكون في البيوت وهي نوع من الاستئناس والاستئذان، فإذا فتح الباب فهذا إذن، وقل: السلام عليكم، فإن قيل لك: ادخل فهو إذن بالدخول، وإن لم يقل لك ذلك فمعناه: أنه لم يأذن، وقد لا يستطيع أن يخرج حتى يقول لك: ارجع؛ فقد يكون له مانع من الموانع أو سبب من الأسباب، والمؤمن يقبل عذر إخوانه المؤمنين.

    قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28] أي: والله عليم بأعمالكم، وبمن يتخلق بأخلاق المؤمنين منكم، فامتثلوا لما تؤمرون به، فهو عليم بالصالح من أعمالكم، وبالطالح منها، ولذلك اعلموا وتيقنوا أنه يعلم السر وأخفى.

    فما أمركم به من أمر فامتثلوه وقوموا به، فلا يأمركم إلا بما يعود عليكم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ولا ينهاكم إلا عما يضركم في الدنيا والآخرة، فامتثلوا واسمعوا وأطيعوا، فهو عليم بكم، وعليم بمطيعكم، عليم بمسيئكم وعاصيكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة ...)

    قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].

    هذا نوع آخر: فهي بيوت غير مسكونة فيها متاع لكم، مثل فنادق النزول والدكاكين والمتاجر والمكاتب والإدارات، وفي كل هذا متاع، أي: شيء تستمتعون به بيعاً أو شراء، أو نزولاً أو أخذاً وعطاء، وهي ليست مسكونة، وليس فيها نساء، وعادة تكون الأبواب مشرعة ومفتوحة، ومجرد فتح الأبواب إذن بالدخول، خاصة وأنت تعلم أنه ليس هناك نساء، فإذا كان المكان فتح للتجارة أو الفندق فتح للنزول، أو فتح المكان لعمل من الأعمال كمصنع أو معمل أو متجر أو أي شيء من هذا القبيل فـ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا، وكلمة (بيت) تشمل كل ما تقيم فيه وتجلس، (غير مسكونة) أي: ليست للسكنى وإنما أعدت لشيء آخر غير السكنى، كأن تكون أعدت للصناعة أو التجارة أو المتاع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم...)

    قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

    لا تنظر إلى شيء لا يجوز لك أن تنظر إليه، فغض بصرك عنه، وغضّ البصر يكون بإبعاد بصرك عما رأيته فجاءً أو من أول مرة فلا تنظر إليه البتة، وغض البصر ليس معناه: أن تغمض عينك، ولكن أبعد بصرك عما لا يجوز لك النظر إليه من العورات، فقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ [النور:30] يدخل فيه النساء والرجال، ولكن خص النساء بآيتين.

    قوله: (من أبصارهم) (من) قال البعض: هي صلة وزائدة، أي: غضوا أبصاركم. وقال بعض المفسرين: (من) للتبعيض، أي: غضوا بعض أبصاركم.

    فالله تعالى لم يقل: واحفظوا من فروجكم؛ لأن حفظ الفرج ليس فيه تبعيض إلا على الأزواج، وقد مضى ذلك في أول سورة المؤمنون، قال النبي عليه الصلاة السلام: (يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة؛ فلك الأولى وعليك الثانية).

    أي: إذا وقع بصرك على امرأة لا تحل لك فأبعد نظرك عنها، ولا تعد النظرة الثانية؛ لأن النظرة الأولى نظرة فجاء معفو عنها؛ لأنك لم تقصدها، ولكن النظرة الثانية إذا أعدتها وقد علمتها من قبل فإنك تكون آثماً، ومن هنا قال: (يغضوا من أبصاركم).

    فالنظرة الثانية محاسب عليها، وتزداد المحاسبة بكثرة الازدياد، فقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] أي: لا ينظر إلى عورات النساء: لا وجهاً ولا جسداً فضلاً عن بقية المحاسن.

    قوله: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] الفرج في الأصل: الشق، ولكنه صار يطلق على قبل الذكر والأنثى، ومع كثرة الاستعمال أصبح علماً بالغلبة، فأمر الله المؤمنين أن يحفظوا فروجهم نظراً ورؤيةً وجماعاً واحتكاكاً وأي نوع من أنواع الحفظ.

    وقد وصف الله المؤمنين بأنهم يحفظون فروجهم فقال: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6]، فلا ينظر إلى الفرج ويتصل به إلا الزوج مع زوجته فقط، أو ملك اليمين مع سيدها ومولاها.

    فمن آداب المؤمنين ومن الواجب عليهم أن يحفظوا أبصارهم عن رؤية ما لا يحل لهم من غير المحارم، فلا ينظرون إلى أي شيء من محاسن المرأة، كذلك عليهم أن يحفظوا فروجهم في أنفسهم فلا يراها منهم أحد، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الناظر والمنظور إليه)، وهذا إن كان ذلك بعلم منه ومطاوعة،

    فبمجرد أن ينظر الرجل إلى فرج غير الزوجة فهو ملعون، وملعون من وافق على أن ينظر في ذلك، واللعن: هو الطرد من رحمة الله، ولا يقبل هذا مسلم.

    قال تعالى: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أي: أطهر لدينهم ولأخلاقهم ولصلاتهم، وأحفظ لعشرتهم وإسلامهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، فالله خبير بعمل كل الخلق: هل سيحفظون ذلك أم لا؟ فهو خبير بالصادق منهم والكاذب، خبير بمن نظر عن قصد وأعاد النظرة ثانية، وبمن نظر فجاءً ثم غض بصره وأبعده، خبير بالمطيع من المؤمنين وبالعاصي منهم، فهو خبير بما يصنعونه من شر أو خير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن...)

    قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].

    قل للمؤمنات كذلك يغضضن من أبصارهن، فلا ينظرن لعورة رجل لا وجهاً ولا غير وجه، فإن رأين النظرة الأولى الفجائية غير المقصودة فلا يعدن الثانية.

    وقد دخل مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم ، وكان ضريراً لا يبصر، وكان بمجلسه صلى الله عليه وسلم زوجتان من أمهات المؤمنين، فبقيتا جالستين، فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالخروج، فقالتا: أليس هو أعمى يا رسول الله؟! قال (أوعمياوان أنتما؟!).

    أي: كما لا يجوز له أن ينظر إليكما فلا يجوز لكما أن تنظرا إليه.

    فكما حرم الله نظر الرجل إلى المرأة حرم نظر المرأة إلى الرجل، وكما يتمتع الرجل بالمرأة تتمتع المرأة بالرجل، فالعمل واحد، والحسنى واحدة، والجريمة واحدة، وكما أمر الرجل بغض البصر أمرت المرأة بغض البصر، وكما أمر الرجل بحفظ فرجه أمرت المرأة بحفظ فرجها، وألا يراه منها أحد قط إلا زوجها.

    ومن هنا كان دخول الحمامات حيث كشف العورات شيء نهى عنه السلف، وشددوا فيه ولعنوا فاعله، لأن الشأن في الحمامات أن يدخلن للحمامات كاشفات عوراتهن لبعضهن، وهذا مما حرمه الإسلام وعده كبيرة من الكبائر، وفجوراً من الفجور.

    قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31].

    أي: لا يظهرن من زينتهن إلا ما ظهر، وزينة النساء: ما عفا الله عما ظهر منها، وأذن في بدوها، قال ابن عباس رضي الله عنه: زينة المرأة وجهها وكفاها، وقال بقول ابن عباس جمهور من المؤمنين: صحابةً وتابعين وأئمةً مجتهدين.

    وقال ابن مسعود : زينة المرأة ثيابها الخارجة، وإلا فكل بدنها عورة، فلا يجوز لها أن تظهر إلا عيناً واحدة لتنظر الطريق.

    والنظر بعين واحدة لا يزال إلى الآن في بلاد المغرب، فالكثيرات على هذه الحالة، وبعضهن ينظرن بعينين معاً.

    كذلك كل بلاد الإسلام ما زالت على هذه الطريقة: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31].

    قال ابن مسعود : الذي ظهر منها هي الثياب الخارجية، فهذا لا مانع من أن يظهر، واستدل عليه بقوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

    ومعناه: البسوا أحسن ثيابكم عندما تكونون ذاهبين للمساجد؛ خاصة يوم الجمعة، فالله أطلق في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

    فالزينة الثياب، وبهذه الآية احتج ابن مسعود أن المرأة كلها عورة، فلا يجوز أن يظهر منها إلا عينها أو عيناها بما ترى به الطريق، وقال غيرهما: زينة المرأة الكحل والقرط والسوار والخلخال إذا ظهرت من غير قصد، كأن مدت يدها لشراء أو بيع وظهر الخاتم أو السوار، أو جاءت لتصلح شيئاً فظهر القرط، فهذا عفا الله عنه وسمح.

    وجمهور الفقهاء: على أن الوجه واليدين ليسا بعورة، ولكنهم قالوا: إذا خافت على نفسها الفتنة في عصر كثر فيه الفساد، وكثر فيه الفجار والفساق؛ ففي هذه الحالة يجب الرجوع لمذهب ابن مسعود ولكثير من السلف في أن المرأة كلها عورة، وذلك من باب سد الذرائع، ونحن نرى الفجور قد عم وطم، واليوم يكشف المسلمات النحر والصدر والفخذ والساق والشعر، فترى اليهودية والنصرانية والمسلمة لا فرق بينهن قط، ولا تستطيع أن تميز المسلمة من الكافرة.

    وعلى هذا فإن الله جل جلاله ستراً وحفظاً للأنساب ومحافظة على الأعراض أمر النساء كما أمر الرجال بغض الأبصار، وبحفظ الفروج، وألا يظهر النساء من زينتهن إلا الوجه واليدين، فإن لم تأمن الفتنة، فلتستر بدنها جميعاً، وكم من نساء اليوم يلبسن الثياب الفضفاضة الحريرية، ويلبسن فوقها شيئاً لا يكاد يذكر، أو يلبسن ألبسةً قصيرة يظهر بها الساق والفخذ، وهذا مالا يجوز بحال من الأحوال، فقد حرمه الشارع في كتابه الكريم.

    دخلت مرة أسماء على أختها عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر، وإذا به يخرج، فقالت عائشة لأختها أسماء : (ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى عليك ما يكره، وإذا بالنبي يعود ويقول لها: يا أسماء! المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يظهر منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) واعتمد ابن عباس هذا الحديث، وقال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي عليه الجمهور من المسلمين.

    وليت المسلمين اقتصروا على هذا، فإنه لا ينبغي للمرأة أن تتزين بكحل ولا حمرة ولا تطيب ولا تفعل أي شيء يلفت الأنظار، ومن خرجت من بيتها متطيبة لعنتها الملائكة حتى تعود.

    فقد رأى أبو هريرة رضي الله عنه مرة امرأة آتية فقال لها: أين كنت يا أمة الجبار؟! قالت: جئت من المسجد، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: اذهبي لبيتك واغسلي بدنك غسل الجنابة، وإلا فلا صلاة لك، والملائكة تلعنك ما دمت في هذه الحالة حتى تعودي.

    وهذا هو الواجب على الزوج مع زوجته، والأب مع بناته، والأخ مع أخواته، وكبير القوم مع قومه، فإذا لم يقم الزوج بالواجب عليه، ولم يقم الأب بالواجب عليه، ولم يقم الأخ بالواجب عليه، ولم يقم المدرس بواجب تدريسه، والداعية إلى الله سكت أثم الجميع، ويوشك إذا اتفق الناس على الباطل أن يعاقب الله البر والفاجر معاً، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].

    والله تعالى لعن اليهود، قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]؛ لأن من جملة أفعالهم: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].

    فكان هؤلاء اليهود لا يأتمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، وكان بعضهم يأمر بالمعروف كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم ولكنه يصبح الصباح وهو مع أولئك الذين نهاهم يؤاكلهم ويشاربهم ويجالسهم، فيكون كمن لم يأمر، فلا بد للآمر إذا أمر بالمعروف ولم يُطع فيه أن يهجر في الله؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان.

    وقد هجر عبد الله بن عمر ولده مدة حياته، لأنه قال له: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)، فأجابه: والله لنمنعنها ، وإذا به يلعنه ويشتمه ويهجره إلى الأبد، ولم يعد لكلامه البتة.

    وأما هجر المسلم أخاه ثلاثة أيام في شئون الدنيا فهو المقصود بالحديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) لكن عندما تكون خصومة لله وفي دين الله، فإن الواجب أن يهجره إلى الأبد كما فعل ابن عمر ما لم يرجع عما كان عليه من مخالفة لدين الله.

    ويقول النبي عليه الصلاة والسلام (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله) فكان من السبعة: (رجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه وافترقا عليه).

    فهما أخوان في الله تآخيا يأتمران بالمعروف، ويتناهيان عن المنكر، ويتعاونان على طاعة الله ومدارسة دين الله، فإذا أحدهما أمر الآخر فعصاه، ولم يمتثل لما أمر الله به ورسوله، فارقه لله وقاطعه، وهي مشروعة أبداً.

    قال تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].

    الخُمُر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، أمر الله تعالى أن يُغطى الشعر بهذا الخمار، ويضرب به على الجيوب، والجيوب: هي الشقوق في ثياب الإنسان، والمرأة تزيده إلى أسفل، فيظهر نحرها وعنقها وصدرها وقرطاها، فالله أمرهن بأن يضربن بالخمر التي تستر الرءوس ليسترن العنق، فلا يظهر العنق ولا الأقراط ولا الصدر ولا النحر بحال من الأحوال.

    (وليضربن بخمرهن) أي: وليضعن خمرهن.

    والجيوب: جمع جيب، فيقال للشق: جيب، وقد يكون للنساء جيوب للساق فإذا تحركت ظهر لحم الساق، وقد يظهر لحم الفخذ، وقد يكون لها جيوب في الظهر فيظهر ظهرها.

    وهذه الجيوب جميعاً أمر الله بسترها وتغطيتها، وحرم كشفها إلا لمن سيذكره من الزوج والمحارم.

    قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إن نساء الأنصار كن من أطوع المؤمنين لأوامر الله، فعندما نزل قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] قالت أصبحن وقد صلين الفجر مع المؤمنين والمؤمنات، وإذا بهن وكأنما على رءوسهن الغربان؛ من تخمير رءوسهن وأعناقهن وجيوبهن وما يظهر من أبدانهن.

    والآية تدل في ظاهرها على أن الخمار يضرب على الجيوب لا على الوجه، ومن هنا كان فهم ابن عباس وفهم الجمهور، ولكن ذلك إذا أمنت الفتنة، وأنى لها أن تأمن الفتنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755936595