إسلام ويب

تفسير سورة مريم [68-72]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يتوعد الله تعالى الكافرين والصادين عن سبيل الله تعالى بأن يحشرهم ويجمعهم مع الشياطين حول جهنم وهم جاثون على ركبهم من الخوف، ويذكر تعالى أن البشر كلهم واردون النار، وذلك هو المرور على الصراط، فينجو المؤمنون ويكب الكافرون في النار على وجوهم عمياً وبكماً وصماً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين)

    قال الله جل جلاله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:68-70].

    كنا مع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وما أعد الله لهم من جنان وخيرات ونعيم ورضوان، وهانحن أولاء مع من أنذروا بكفرهم وخروجهم عن أمر الله، وهكذا فإن الله جل جلاله في كتابه الكريم يقابل بين نذارة وبشارة، كما هي وظائف الأنبياء فإنهم يبشرون الصالحين بالجنة والرضا، وينذرون الطالحين بالسعير والغضب من الله.

    يقول جل جلاله عن هؤلاء الذين عصوا وتمردوا وكفروا وأشركوا ويقسم الله بذاته العلية: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ [مريم:68] أي: بعد أن يلعنهم ويبعثهم ويجدوا أنفسهم في يوم القيامة مع الشياطين الذين عبدوهم واتبعوهم في دار الدنيا، يحشرهم جميعاً إليه ويقذفهم في النار.

    قوله تعالى: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم:68] أي: ثم ليكونن حاضرين موجودين مقيمين حول جهنم جثياً، والجثي: جمع جاث، وهو الواقف على ركبتيه؛ زيادة في الذل والهوان مع الازدحام الشديد من أهل النار، فلا يكادون يجدون مكاناً للجلوس إلا ما كان من الوقوف على الركب.

    قال الله تعالى: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69].

    وبعد أن يحشر الله الكفرة الظالمين أئمةً وتابعين، يجمع الأئمة وينزعهم من بين أتباعهم، كما قال: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ [مريم:69]، أي: يزيل هؤلاء الأئمة الذين كانوا يصدون عن سبيل الله، وكانوا يدعون للشرك والضلال، وكانوا يصدون عن النبوءات والرسالات، فينزعهم من بين جموعهم وأتباعهم.

    قال: مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ [مريم:69] أي: من كل أمة، أو من كل طائفة أو جماعة.

    قال: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69]، (أيهم) هنا بمعنى: الذي، فهي تعامل معاملتها في أنها تبقى مبنية لا ترفع ولا تنصب ولا تجر، فتقول: رأيت أيُّهم أعلى مقاماً، ومررت بأيُّهم أحسن علماً، وجاء أيُّهم أرفع شأناً؛ حتى ضرب بها المثل فقيل في النحو: أي كذا خلقت، أي: خلقت مبنية على الضم أبداً، فلا تؤثر فيها المؤثرات من الإعراب.

    قوله: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69] أي: أكثرهم ظلماً وطغياناً وعتواً وفساداً في الأرض، فهؤلاء يجمعهم الله ليكون عذابهم أشد ومحنتهم أنكى، فيتحملون عذابهم وعذاب أتباعهم بحيث لا ينقص من عذاب أتباعهم شيء.

    فقوله تعالى: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69] أي: ثم يخلع الله وينزع من كان أشد عتواً وظلماً وكفراً وغلواً من بين أتباعه، ليكون مزيد العذاب له؛ جزاء كفره وإمامته في الكفر، قال تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12]، وهكذا نبه الله على قتالهم بالذات.

    قال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:70] أي: أعلم منك يا محمد! وأعلم من الخلق كلهم بمن يستحق العذاب والحريق والغضب واللعنة، قال: بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:70] أي: حريقاً، وصلي جمع: صالٍ، أي: محترق في النار، وهو من التصلية أي: التحرقة بالنار، إذ تصلى وتشتعل وتلتهب، ويكون هو وقودها وأعوادها وفحمها.

    فقوله: هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:70] أي: أولى بالنار من غيرهم؛ لشدة كفرهم وطغيانهم وتعديهم، ولشدة صدهم عن الله ورسالاته، فهؤلاء يكونون في قعر جهنم وينالون من العذاب ما لم ينله أحد، إذ يُزاد في عذابهم لإمامتهم وكفرهم، وبعدهم عن الله ورسالاته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها...)

    قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].

    قوله: (وإن منكم) أي: ليس منكم من أحد برٍ أو فاجر، مسلم أو كافر إلا ويرد على النار ويمر عليها، ثم ينجي الله كل واحد بعمله، قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فكان ورود هؤلاء أبراراً وفجاراً على ربك حتماً مقضياً، أي: أوجب ذلك على نفسه فأقسم عليه بذاته العلية، وكون كل إنسان سيدخل النار هي عقيدة المسلمين جميعاً، وينكرها الكثير من الطوائف المبتدعة من المسلمين، مثل نافع بن الأزرق وكان من الخوارج، وكان يسأل ابن عباس عن آيات القرآن وعن بيانها وتفسيرها من اللغة والسنة، فقال نافع : يا ابن عباس ! قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] من الوارد؟ قال: أنا وأنت، قال: لا؛ يردها الكافر، قال: أنا وأنت، أما أنا فسأخرج منها، وأما أنت فستبقى فيها لتكذيبك، فضحك نافع.

    ويعتقد هؤلاء أن الآية خاصة بالمشركين، ولكن الأحاديث الصحيحة المتظافرة تؤكد هذا المعنى، يقول عليه الصلاة والسلام: عندما يحشر الناس يوم القيامة: (يضرب ما بين الجنة وبين النار صراط، هو أحد من السيف، على جانبيه كلاليب تحملها الملائكة، وهذا الصراط مدحضة مزلة) أي: لا تكاد تقر عليه رجل الإنسان، فيجد نفسه أنه لا يستطيع أن يستقر عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فسأكون أسرعكم مروراً عنه، فسأمر عليه مرور الريح المرسلة، وتمر عليه الأنبياء كذلك، وسيمر عليه الصالحون وعباد الله المتقون: بعضهم كأجاويد الخيل، وبعضهم كالمسرع من الدواب، وبعضهم كالمسرع من الإنسان، وبعضهم يمشي عليه حبواً فيقف ويسقط، والبعض لا تكاد تقف رجلاه حتى يسقط في قعر جهنم، وتأخذه الملائكة بالكلاليب وتسحبه إلى النار، وتقول الملائكة والمؤمنون والأنبياء والصالحون والشهداء: اللهم سلم سلم) أي: يكون دعاء الملائكة ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يمشون على الصراط: اللهم سلم، اللهم سلم.

    فهذا الحديث متواتر، وقد تواترت الرواية فيه عن الجماهير من الصحابة، ومما يؤكد ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من إنسان يموت له ثلاثة من الولد إلا وأنجاه الله من النار إلا تحلة القسم) ، وتحلة القسم هي قسم الله أن يرد النار كل إنسان، ولتحليل يمينه جل جلاله يمر هؤلاء عليها مروراً لا تكاد تؤذيهم ولا تمسهم، ولكنهم مع ذلك يدخلونها ويمرون عليها.

    فقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] أي: سبق في علمه السابق أنه من الحتم المقضي القائم الواقع أن يدخل كل إنسان براً كان أو فاجراً إلى النار، كما قال تعالى بعد في الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] أي: واجباً وقائماً واقعاً.

    والآية الثانية تؤكد هذا المعنى، إذ يرد النار كل إنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً براً أو فاجراً، أما التقي الصالح فقال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، ولا تكون النجاة إلا من الوقوع في تهلكة، ثم تقع النجاة، فهم قد وردوا النار ولكن الله نجاهم لتقواهم وصلاحهم.

    فقوله تعالى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72] أي: نترك وندع الظالمين لأنفسهم بالكفر والشرك جاثين على ركبهم، إذ لا يكادون يجدون مستقراً زيادةً في النقمة والعذاب والآلام، ولما في النار من الزحام الشديد لا تكاد تحمل من فيها وهي مع ذلك تطلب المزيد، فيضع عليها الرحمان قدمه، فتقول: قطني.. قطني.

    وأما الجنة فيبقى فيها فراغ كثير، فيخلق الله لها خلقاً ليتمتعوا ويؤنسوا المؤمنين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755804387