إسلام ويب

سلسلة تأملات قرآنية تأملات في سورة يونس [2]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه المادة تجد الكلام على الولاية وكيف تكون، والفرق بين الولاية الرحمانية والولاية الشيطانية، وتجد أيضاً الكلام على البشرى وأنواعها. وكذلك قصة غرق فرعون، وسبب عدم قبول الله تعالى لإيمانه حال الغرق، وغير ذلك من التفريعات.

    1.   

    سبب تسمية سورة يونس بهذا الاسم والحالات التي ورد فيها ذكر النبي يونس

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا هو اللقاء الثاني المتعلق بتعليقنا وتأملاتنا على سورة يونس، وكنا كما سبق قد انتقينا في الأسبوع الماضي وتحدثنا عن هذه السورة، وقلنا: إنها سميت بهذا الاسم لما ورد فيها ذكر اسم النبي الكريم يونس بن متى عليه الصلاة والسلام في قوله جل شأنه: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98].

    ويونس بن متى أحد الأنبياء والمرسلين بنص القرآن، وقد ذكره الله جل وعلا في القرآن باسمه الصريح، وذكره في القرآن بكنيته أو بلقبه، ذكره باسمه الصريح في النساء والأنعام، وفي يونس وفي الصافات، وذكره جل وعلا بلقبه مرتين: في الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87].

    وفي القلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48].

    1.   

    السور التي سميت باسم نبي

    وسميت هذه السورة باسمه، وقلنا في الدرس الماضي: إنها أول سورة في القرآن -إذا التزمنا بترتيب المصحف- سميت باسم نبي، ثم تلتها سورة هود ، ثم يوسف ، ثم سورة إبراهيم، ثم سورة نوح.

    فهذه السورة مسماة بأسماء الأنبياء، وذكرنا أن من غير الأنبياء ممن سميت السور بأسمائهم من الصالحين ثلاثة: آل عمران، ومريم، ولقمان، فهذه جملة ما تكلمنا عنه إجمالاً حول تسمية السورة.

    1.   

    السور التي أمر الله نبيه فيها بأن يقسم

    ثم انتقلنا إلى أن هذه السورة هي أول سورة في القرآن أمر الله فيها نبيه أن يحلف، قال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]، وبقيت اثنتان: الأولى في سبأ، والثانية في التغابن، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7].

    1.   

    الولاية الرحمانية والولاية الشيطانية

    والآن ندخل على درس الليلة، وسنقف أولاً عند قول الله جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يونس:62-65].

    ومن المقرر شرعاً: أن الله جل وعلا أمر الخلق بعبادته، وحذر الناس من عبادة الشيطان، فمن عبد الله فهو بالجملة ولي من أولياء الله، ومن عبد الشيطان عياذاً بالله وكفر فهو ولي من وأولياء الشيطان، والشيطان يوم القيامة يتبرأ من أوليائه، كما ذكر الله عنه وعن إبليس أنه يقوم خطيباً يوم القيامة في أتباعه، قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] إلى آخر الآية في سورة إبراهيم.

    وأما أولياء الله فحتى لا يترك المجال للناس في تعريف الولي فقد فسر الله الولي في القرآن نفسه، وهذا من إيضاح القرآن بالقرآن، فيسألك إنسان ما الحطمة؟ وتجيب بالقرآن: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:5-6] إذاً فالحطمة: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6]، ولا يمكن أن يأتي أحد فيفسر الحطمة بأفضل من أن تقول نار الله الموقدة، وهنا قال الرب سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، ففسره الله جل وعلا بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

    فمن آمن بالله واتقى فهو ولي من أولياء الله، وهذه الولاية درجات ومنازل عدة، لكن بالجملة: كل من آمن واتقى الله فهو ولي بنص القرآن، وقد أغرق الناس في هذا الباب -أي: في باب الولاية- في شئون ومداخل ومخارج لا يعلمها إلا الله، فمنذ أن ظهرت الصوفية في القرن الثالث في الأمة إلى يومنا هذا والناس في قضية هذا ولي، وهذا غير ولي، فيركبون الصعب والذلول في إثبات أمور قد أثبتها الله من قبل، ولا حاجة لخوض الناس فيها كما يخوضون فيه اليوم، فالصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون اسماً للناس إلا مسلم أو مؤمن، أو اسم تاريخي فيقال: فلان بدري؛ لأنه شهد بدراً، أو يقال: فلان من أهل الشجرة؛ لأنه شهد البيعة، أو يقال: فلان تابعي؛ لأنه رأى الصحابة، فهي أمور تتعلق بأحداث تاريخية ولا تتعلق بأعمال القلوب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

    1.   

    عدم الافتتان بأحد من البشر مهما بلغ صلاحه

    ومن حسن إسلام المرء بناءً على هذا الحديث: ألا يدخل الإنسان في تصنيف الناس، وألا يفتن أحداً بأحد، ولا تفتتن بأي أحد من البشر مهما رأيت فيه من الدين، أو من البكاء والخشية، أو من حسن الصوت بالقرآن، أو من العلم، أو ما إلى ذلك، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء، وكما أنك لا تفتتن بأحد فلذلك تخشى الفتنة على نفسك، فلا يغرنك عملك، أو ثناء الناس عليك، أو أشياء كثيرة، لا تصل إلى بك، قد تصبح لك مشجعة كما سيأتي، لكن لا تصبح لك مهلكة، وتظن أنك أنت تستحق هذا، أو أنك قادر، أو أن تزكي نفسك قلبياً.

    1.   

    الفرق بين التزكية القلبية وبين التزكية لأعمال الجوارح

    وفرق جم ما بين أن يزكي الإنسان نفسه قلبياً، وبين أن يزكي الإنسان نفسه كموهبة أعطاه الله جل وعلا إياها.

    فتزكية القلوب لا تجوز قال الله: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، فلا يجوز لأحد أن يزكي نفسه قلبياً، وأما تزكية الصنعة التي تحسنها فهذا لا ضير فيه، ومنه قول نبي الله يوسف: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فهو هنا يتكلم عن أحوال الجوارح، يتكلم عن قدرته في إدارة شئون الدولة اقتصادياً، ولا يتكلم عن إيمانه وتقواه وقربه من الله، وإنما يتكلم عن أمر دنيوي محض، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

    فإذا كنت تريد أن تركب بأصاً تسافر به إلى مكة، وأمامك أربعون فرداً أنت مسئول عنهم، فمن حقك أن تسأل من يريد أن يقود: أيكم يحسن القيادة؟ فلو قام أحد الناس وقال: أنا أحسن، أو يتكلم عن خبرة سابقة، فهذا ليس تزكية للنفس، وإنما هذا إخبار بالعمل فلا يذم صاحبه؛ لأن فيه منجاة للناس، وإلا لو ترك الأمر على غير ذلك لهلك الناس، لكن التزكية المحرمة شرعاً: هي تزكية أعمال القلوب، فهذه اجعلها بينك وبين الله، ولا تكترث بمدح الناس ولا بذمهم، وسيأتي التفصيل أكثر من ذلك.

    قال الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

    قلت: من المهم جداً أن يخشى الإنسان على نفسه الفتنة، والعبد البصير السعيد من يتعظ بغيره، وقد ذكر الله جل وعلا نماذج في القرآن، وجاء في السنة، وفي أحوال الناس المعاصرة وغير المعاصرة نماذج فتن الناس بها، ثم انقلبت على أعقابها عياذاً بالله، والله جل وعلا يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] بعد أن منّ الله جل وعلا عليه بالعلم، وأصبح ذا قدرة وذا مكانة، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، كما قال الله جل وعلا، فعلى هذا فهناك أمران: أمر في نفسك يتعلق بغيرك، وأمر في نفسك يتعلق بنفسك.

    فأما أمرك الذي يتعلق بغيرك: ألا تفتن بأحد، والأمر الذي يتعلق بغيرك: أن تخشى على نفسك الفتنة، فإن الإنسان مطلوب منه أن يعبد الله حتى يلقى الله، قال الله لنبيه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: حتى يحل بك الموت، وتفارق الروح الجسد، وهناك ينتهي وقت التكليف وزمنه، وبعد ذلك لو مدحت شخصاً قد أفضى إلى ربه في حدود الشرع فلا ضير، وأما والإنسان حي فلا تبالغ في مدح أحد، ولا تفتن في مدح أحد.

    1.   

    مثال على افتتان الإنسان بنفسه وافتتان الناس به

    وقد كان هناك رجل -وهذا من باب العبرة- يقال له: عبد الله القصيمي ، وكان يسكن في القصيم، ثم سافر إلى الأزهر قديماً وعمر إلى التسعين، ومات قبل عدة سنوات في الأردن، وكتبت الصحافة عنه شيئاً كثيراً، لكن نتكلم هنا على الفتنة، فلما سافر من القصيم درس في الأزهر، فجاء أحد علماء الأزهر كتب كتاباً يقال له: الدَّوَجي، وهذا الكتاب في قضايا جواز التبرك بالأضرحة ودعاء الأولياء، فرد عليه هذا الشيخ آنذاك وهو طالب في الأزهر، فلما رد عليه قرر الأزهر فصله بعد جلسات علمية لمجلس الجامعة، وكان الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار حياً آنذاك فحاول أن يقف معه، وأن يعضده، لكنه لم يستطع أن يفعل له شيئاً، لكن الشاب آنذاك لم ييأس وألف كتباً جعلت له مكانة علمية آنذاك، ثم ظهرت سوريا رجل شيعي ألف كتاباً يخاصم فيه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فرد عليه صاحبنا بكتاب اسمه: (الصراع بين الإسلام والوثنية) في 2500 صفحة أظهر فيها قدرة علمية خارقة، وحججاً عقلية قلما يصنعها أحد من أهل زمانه، ففتن الناس بعلمه، حتى إنه في إحدى خطب الحرم المكي ذكره الإمام على المنبري يثني على الكتاب، وعلى صاحبه.

    صراع بين إسلام وكفر يقوم به القصيمي الشجاع

    إلى آخر القصيدة.

    وقال العلماء آنذاك للملك عبد العزيز رحمه الله وكان حياً: قالوا له: إن القصيم بكتابه هذا دفع مهر الجنة، بناءً على ما في الكتاب من قدرات في الرد على الوثنية، وإعلاء لشأن الإسلام، ففتن الناس به فترة ثم خابوا، فكأنه كان يرجو أن يكون له عند الناس مكانة أعظم مما تلقاها من الناس، فبعد ذلك رجع إلى مصر وسكن فيها وخالط قوماً من أهل الفساد: فساد الفكر، فألف كتاباً يتبرأ فيه نسبياً من كلامه الأول، ثم عياذاً بالله ارتد صراحة وألف كتاباً أسماه: (هذه هي الأغلال)، واتهم الدين كله بأنه غل، وتكلم حتى في الرب جل جلاله.

    وجلس ذات يوم أمام رئيس الوزراء المصري آنذاك وكان موجوداً الشيخ محمد متولي الشعراوي العالم المصري المعروف، وكان يومئذ في أول زمانه، فجلس يتناقشان فإذا بهذا القصيمي الذي ألف كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية، يسخر حتى من الله، فلم يستطع الشعراوي أن يرد عليه؛ لأن هذا الإنسان الذي أمامك لا يريد حق، فهو صاحب جدل، والله يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فإن لم تنفع فاخرج، فخرج الشعراوي رحمة الله عليه وهو يتلو: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140].

    ثم مكث هذا الرجل يؤلف كتباً كلها سب للدين، وسخرية بالله ورسوله بعد أن ألف كتاباً أثني عليه في حرم مكة، فأمر الملك عبد العزيز العلماء آنذاك في الصحافة أن يتبرءوا منه، وأصدر العلماء في ذلك العصر كثيراً من الكتب التي ترد عليه عياذاً بالله، ثم عاش في الأردن فترة حتى قبل عدة سنوات مات عن قرابة تسعين عاماً، فجاءت الصحف هنا للأسف تتكلم عنه، وقد كان له كتب في الروايات، فله رواية اسمها: مدن ملح، ممنوعة سياسياً، والصحفيون غالبهم ينشأ متأخراً، ولم يقرأ شيئاً من القديم ولم يطلع، وبعضهم -عفا الله عنا وعنهم- ليس لديه غيرة عن الدين، لعدم العلم، فالمقصود: أن هذه نظرة للإنسان في أن يتأمل ما حوله؛ حتى تستريح ولا تفتن نفسك بأي مخلوق، ولا تعلق قلبك بأي مخلوق؛ لأن الله لما ذكر أهل الولاية قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فنسب الولاية الشرعية إلى الإيمان به جل وعلا، وإلى تقواه سبحانه وتعالى.

    1.   

    تكفل الله بأوليائه بعدم خوفهم ولا حزنهم

    قال الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فالخوف يكون في أمور مستقبلية، والحزن يكون على الشيء الماضي، فالله كتب لأهل تقواه من أهل الولاية كتب لهم: ألا خوف يعتريهم على ما هو قادم، ولا حزن يعتريهم على ما فات، وهذا قد يقع في الدنيا، وقد يقع عند سكرات الموت، وقد يقع يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وقد يقع الثلاثة في عبد صالح، لكن أولياء الله يختلفون، وقد تكلم العلماء كيف يعرف الولي، ولا نتكلم فيه، لكن يكفي أن الله قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

    وجاء في الحديث القدسي : (ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي سمعه، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي عليها).

    والمقصود هنا: التوفيق من الله، التوفيق في السمع، والتوفيق في البصر، والتوفيق في الأخذ والعطاء، والتوفيق في الغدو والرواح، فالتوفيق من الرب جل وعلا، فيجعل الله له نوراً، ويجعل الله له بينة، يجعل الله له فرقاناً يميز به الأشياء؛ لأنه قريب من الله تبارك وتعالى، ومحبوب منه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].

    1.   

    البشرى وأنواعها

    قال الله عنهم بعد أن ذكر نعتهم بالجملة: قال: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] فلما قال ربنا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهمنا أن البشارة قسمان؛ لأن الله ذكر زمنين، وهذه البشرى تكلم العلماء فيها كثيراً، والأصل الذي نرى أنه لا يحسن ولا يجمل قصرها ولا حصرها على شيء واحد، وإنما تبقى البشرى مفتوحة في الحياة الدنيا، ومن أعظم البشرى الرؤيا الصالحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في البخاري - وهو لا ينطق عن الهوى قال: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن)، وفي زيادة: (أو ترى له) (يراها المؤمن أو ترى له)، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات الرؤيا الصالحة).

    الرؤيا الصالحة نوع من البشرى

    فالرؤيا نوع من البشارة، فقد يخرج الإنسان من موطن أو من مكان، أو من عمل كئيباً حزيناً على ما أصابه، ويكون له عند الله مقام وعمل صالح، فيراه أحد فيخبره أنه رأى له رؤيا يكون بهذه الرؤيا بشارة لنجاته، أو يكون هو قد غفا أو نام في ليل أو في نهار، فيرى رؤيا تدل على أمر حسن، وقد قلنا مراراً إن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال له بنوه وأخبروه أن يوسف هلك كان واثقاً أن يوسف لم يهلك، فقال كما قال الله جل وعلا عنه قال: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].

    والذي جعل يعقوب يطمئن على أن يوسف لم يهلك هي الرؤيا التي رآها يوسف من قبل، فلما قصها على أبيه فهم يعقوب أن هذا الابن سيكون له شأن، قال: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، وهذا يظهر علو مكانه؛ لأن خضوع الأب والأم والأبناء له يدل على ارتفاع قدره، فلما جاءه الإخوة وقالوا: إنه هلك لم يقبل يعقوب هذه الدعوة، لكن ضَعْفه آنذاك اجتماعياً هو الذي جعله يصبر ويحتسب عند الله، وقد تحقق له الأمر، ولذلك قال كما قال الله جل وعلا عنه: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96].

    الكلمة الطيبة يسمعها المرء من البشرى

    ومن البشارة الكلمة يسمعها الإنسان، من غير أن يبيّت حسباناً لها، يعني: من غير أن يبيّت أن يسمعها، فيلقاها في طريق أو حدث يراه بعينه، وهذه أمور دقيقة لا يمكن شرحها، لكن تراها في حياتك العامة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبل على خيبر، فلما صلى الفجر قريباً من خيبر ونظر إلى خيبر وكانت اليهود محمية لهم خيبر، ويخشى على المدينة منهم، رأى أهل خيبر بيدهم المساحيق، وهي أداة هدم، فلما رآها استبشر صلى الله عليه وسلم، فهذا من البشرى، ففرح وقال: (الله أكبر خربت خيبر)؛ لأن رأى في أيديهم أداة هدم، وهو جاء ليهدم خيبر، فتحققت تلك البشرى، فلما رآهم قال: (الله أكبر خربت خيبر)، فخربت خيبر كما قال عليه الصلاة والسلام.

    وقيل: إنه لما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة رأى قوماً لا يعرفهم، ومعه أبو بكر وهو هارب من مكة وخارج من قومه يريد الأمان في المدينة، فقابل رجلاً قال له: (من أنت؟ قال: بريدة)، فاستبشر صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أبي بكر وقال: (برد أمرنا) ثم قال: (ابن من؟ قال: ابن أسلم . قال: أبشر يا أبا بكر سلمنا) أخذها من الاسم، فهذا نوع من البشارة يحصل في الإنسان وهو قادم، أو رائح، ولما أقبل سهيل بن عمرو في معركة الحديبية والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف سهيلاً من قبل، وهو قادم للصلح، وكان النزاع قد اشتد، ودعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة لما أشيع أن عثمان قد قتل، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام وعرف أن قريشاً بعثت سهيلاً قال لأصحابه: (أبشروا؛ سهل أمركم)، أخذها من اسم سهيل ، فهذا نوع من البشرى الذي يعطاه المؤمن في الحياة الدنيا، فهذه أمور لا يمكن حصرها في شيء معين، لكنها أمور عديدة تحصل للمؤمن، وقد وعد الله جل وعلا المؤمنين بها بنص القرآن، قال سبحانه: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64].

    1.   

    البشرى للمؤمن في الدنيا والآخرة

    وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] أي: أن المؤمن لا يموت حتى يرى مقعده من الجنة، وكذلك يبشر في القبر، فيأتيه عمله الصالحة في صورة شاب حسن الوجه،ويقول له: (من أنت؟ فيقول:أنا عملك الصالح)، فهذه كلها من المبشرات، حتى يدخل المؤمن الجنة فيجد الراحة التامة الكبرى التي وعدها الله جل وعلا عباده، أدخلنا وإياكم الجنة.

    لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] وحتى لا ترتاب القلوب قال الله بعدها: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64] وهي هذه أوامر الله وقضاؤه وقدره، ولا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يبدلها، ولا أن يجري في الكون أمراً لم يكتب الله منذ الأجل أن يقع، لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64] لمن تمسك بالإيمان، والعمل الصالح، واجتهد في أن يقترب من الله، واجتهد في أن يبتعد عن السيئات، وصاحب عمله الاستغفار، والخوف من الله، والطمع في رحمته، ووصل إلى الجنة، فهذا إجمالاً وبلا شك: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64].

    ثم قال الله لنبيه: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس:65] ويجب وجوباً أن تقف؛ لأنه لا يستقيم المعنى أن تقرأ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65] بدون وقف، فهذا كفر.

    وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس:65] أي قول القرشيين: إنك كافر، وإنك ساحر وإنك كاهن، وإنك مجنون، فهذا لا يحزنك، ثم تقف؛ لأن الجملة تمت، ثم تقرأ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65] فليس قولهم: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس:65] يجب ألا يحزنك، فهذا يفرح فـ(لا) هنا ناهية، ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا، ثم تقف هنا، أي: قول ما سلف في القرآن من اتهام القرشيين لنبينا عليه الصلاة والسلام بعدة أمور، ثم تقول: لماذا لا يحزنك؟ إن العزة لله جميعاً، ولا يوجد عاقل لا يطلب العزة، لكن الله قال: إن العزة كلها أولها وآخرها، مبدأها ومنتهاها ملك لله، وقد مرت معنا هذه اللام، وهي لام الملك، في كلمة للفقراء، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60].

    لكن الفرق أن ملك بني آدم لما تحت يده ملك صوري، وملك الله جل وعلا ملك حقيقي، ولذلك قال الله جل وعلا: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26]، فيفنى الملك الصوري، ولا يبقى إلا الملك الحقيقي، ولذلك حصره الله جل وعلا في يوم القيامة، ومنه قول الله في آخر الانفطار: وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19]؛ لأن الأمر الصوري ينتفي فيبقى الأمر الحقيقي، والأمر الحقيقي ليس إلا لله جل وعلا وحده.

    وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يونس:65] أي: هو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم، وما دام جل وعلا يسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم، فهو جل وعلا القادر على جمعهم، والقادر على حسابهم، وكل هذا سيكون لا محالة كما أخبر الله ورسوله صلى الله وعليه وسلم عنه.

    ويفهم من الآية عموماً: أن المؤمن ينبغي عليه وهو يسير في طريقه إلى الله: ألا يصل به الحزن إلى اليأس، وإن كان الحزن لابد منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن) لكن لا يصل بك الحزن إلى اليأس الكامل والقنوط من رحمة الله تبارك وتعالى.

    وأما أن يعتريك حزن، وتعتريك دمعة، ويعتريك أسف، فهذا لا مفر منه، لكن لا يعني ذلك التشكيك في قدرة الله، أو الاعتراض على قدره، فقد بكى من هو خير منا، وحزن من هو خير منا، لكن الحزن والدمع والشكوى تبث إلى الله، كما قال الله عن الصديق يعقوب : قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي [يوسف:86].

    فأثبت له حزناً، لكن هذا الحزن أسنده إلى ربه جل وعلا، وشكاه وبثه إلى ربه جل وعلا، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86].

    وأما الحزن الذي نفاه الله جل وعلا عنه هنا فهو الحزن الذي يصيب الإنسان بالقعود، والشلل التام في حياته، فهذا منفي عن أهل ولاية الله؛ لأن ثقتهم في الرب تبارك وتعالى يعلمون بها أن الله سيجد لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كرب تنفيساً، وأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وثقتهم بربهم تبارك وتعالى تجعلهم مطمئني البال، وعلى يقين بأن الله سيجد لهم المنجى والمخرج، ولو زاد عليهم البلاء فإن هذا أكثر عظمة لأجورهم، وتكفيراً لخطاياهم، فهم يتقلبون ما بين أجر يعطونه، أو سيئة يكفر بها عنهم.

    ثم ذكر الله في هذه السورة ثلاثة من الأنبياء: ذكر نوحاً، وموسى، ويونس.

    وقد مر معنا تفصيل أكثر من هذا في الأعراف، وفي النساء، وفي غيرها مما ورد فيه ذكر الأنبياء، وقلت: إنني لا أكرر ما وقفت عنده، لكنني سأقف هنا عند قضية غرق فرعون في آخر أيام موسى في أرض مصر؛ حتى تعلم البلاغة العظيمة لكلام الرب جل وعلا.

    قال الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس:71] وذكر فيها فضل نبي الله نوح، وقد مر معنا ذكر نوح في أكثر من مرة، ثم ذكر الله جل وعلا أنه أرسل رسلاً ولم يسمهم في هذه السورة إجمالاً، ثم قال: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ [يونس:75]، فذكر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وقلنا: إن موسى أخ شقيق لهارون، وأن هارون أكبر من موسى، وأن هارون ولد في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى في العام الذي فيه قتل، لكن الله جل وعلا لحكمة أراد جعل موسى خيراً من هارون.

    وذكر الله جل وعلا قضية السحر، وهذه تكلمنا عنها تفصيلاً، ونصل إلى أنه بعد أن انتصر موسى على سحرة فرعون وآمن السحرة مكث موسى في مصر ولم يخرج منها؛ لأنك إذا أردت أن تفسر القرآن لابد أن تجمع بعضه إلى بعض، وفي هذه الفترة جاءت الآيات الباقية، قال الله في الأعراف: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، والآيات شيء خرج عن المألوف، والآن يوجد جراد، ويوجد قمل ويوجد ضفادع، ولا تسمى آيات؛ لأنها تعيش حياة طبيعية، لكن قول الله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ [الأعراف:133] يدل على أن الآيات شيء غير مألوف وغير معهود.

    وقول الله جل وعلا: مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] يدل على أنها لم تكن مجتمعة، ولم تكن جملة واحدة، فآية تنتهي وتأتي آية ثانية، وهذا يدل عموماً على أن موسى وقومه مكثوا فترة طويلة في أرض مصر قبل أن يخرجوا منها، قال الله في يونس: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87].

    1.   

    أنواع الوحي

    الوحي من الله يأتي على صور، فالوحي للأنبياء غير الوحي للصالحين، والوحي للصالحين غير الوحي للمخلوقات، فهذه الثلاثة كلها جاءت في القرآن، والوحي للمخلوقات كما في قوله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68].

    والوحي للصالحين غير الأنبياء كما في: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص:7].

    والوحي للأنبياء كثير وهذه منها: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا [يونس:87]، ومصر هو البلد المعروف، لكنها ليست القاهرة قطعاً؛ لأن القاهرة أسست بعد ذلك في عهد دولة بني عبيد، وإنما كانت أحداث موسى لما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وهي مدينة عين شمس وليست القاهرة، فالذي يعنينا هو كلمة مصر، وهي كلمة مؤنثة وعلم، والمؤنث العلم يمتنع من الصرف إلا إذا كان ساكن الوسط فإنه يجوز صرفه، كنوح وهند ومصر، ولذلك جاءت كلمة مصر في القرآن مرة موقوف بالراء، ومرة منونة، أي: مرة مصروفة ومرة غير مصروفة؛ لأنها ساكنة الوسط يجوز فيها الصرف ويجوز فيها عدمه؛ لأنها علم، ثلاثي ساكن الوسط ومؤنث.

    يقول الله لنبيه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا [يونس:87] أي: اتخذا، لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا [يونس:87].

    وقال الله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87]، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] فذهب الإمام الطبري رحمه الله -وهو شيخ المفسرين نبدأ به- وجمهور العلماء من المفسرين إلى أن المعنى: اتخذوا بيوتكم مساجد، أي: صلوا في بيوتكم، وهو عندهم أي: عند هؤلاء العلماء رحمهم الله: أن بني إسرائيل كانوا يصلون في الكنائس والبيع، فشد عليهم فرعون فأوحى الله إليهم أن انقلوا الصلاة إلى البيوت. هذا ما قاله جمهور المفسرين.

    وقال بعضهم -ويحكى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: إنها (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي: جهة الكعبة، أي جهة اجعلوها جهة الكعبة.

    ونحن نقول والله أعلم: إن المعطيات التاريخية والقرآنية لا تساعد على أي من القولين، أما الأول فإننا نقول: لا يعقل أن فرعون يسمح بمدة من الزمن لبني إسرائيل أن يصلوا في المساجد والبيع ظاهرين، فالذي ذكره الله في القرآن من سوم فرعون لبني إسرائيل بالعذاب يتنافى عقلياً مع القول إنه يمكن أن يكون بنو إسرائيل قد اتخذوا مساجد ظاهرة علانية كالبيع والكنائس يصلون فيها، إلا إذا وجد دليل صريح من القرآن أن هذا موجود قلنا به، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، لكن لا يوجد دليل صريح من القرآن أنهم كانوا يصلون في مساجد ظاهرة، وإنما هذا فهم للآية، ولابد أن تفرق بين كلام الله وبين فهم العلماء لكلام الله، فالمقدس هو كلام الله، وأما فهم العلماء فليس بمقدس، فالذي لا يدخله التبديل ولا التحريف ولا التكذيب هو النص، وأما فهم العلماء للنص فإنه يدخله الخطأ، فأي إنسان قابل قوله للصواب وللخطأ، هذا هو رد القول الأول، وأما رد القول الثاني فنقول: إنه لو قلنا كما قالوا إن: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] أي: متجهة إلى الكعبة، فهذا يعني: أن اليهود كانوا يتجهون إلى الكعبة؛ لأن الكعبة قبلتهم، وهذا ينافي ما ثبت في السيرة الصحيحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة يصلي إلى بيت المقدس، ومكث ستة عشر شهراً في المدينة يصلي إلى بيت المقدس، فلا يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم أن الكعبة أصلاً متخذة قبلة من قبل اليهود من قبل، فهذا يتنافى مع القرآن، والله يقول: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144].

    ثم ذكر أهل الكتاب فقال: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145]، وقال: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [البقرة:145]، وقال: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] أي: منذ أن كانوا كان لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة. هذا هو الرد على الثاني.

    وسبق أن قلنا: عندما ترد الأقوال لابد أن تأتي ببديل، فلا يصح أن تقول: هذه آية ليس لها معنى، ونقول كما قال بعض العلماء من قبل قالوا: وهذا أرجح الأقوال عندنا، وإن كان ضعيفاً في كتب التفسير، نقول: إن معنى قبلة أي: يقابل بعضها بعضاً، أي: مميزة بالمعنى العامي، حتى إذا جاء النفير أن يخرجوا من أرض مصر فإن البعض سيميز بيت الآخر، فيسهل أن ينادي بعضهم بعضاً، فيكون معنى قول الله جل وعلا: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] أي: متقابلة في مكان واحد، متجاورة لكم، وهو مصطلح يعرف فيها بعضكم بيوت بعض، هذا الذي ندين الله أنه نختاره من أقوال المفسرين، وإذا قلنا: نختاره فلسنا أول من قاله، فهذا كلام المفسرين في كتب التفسير، ونحن نرجحه؛ لأن معطياته العلمية أقوى.

    ومما يدل على صحة هذا القول: أن الله قال بعدها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]، فمعناه: أنه لم يكن يتكلم عن الصلاة من قبل، ففهموه أنها الصلاة في المساجد والبيوت، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، وهذه الأظهر أنها خاصة بقوم بني إسرائيل أنه سيأتيهم البشارة والنجاة.

    وأنت كطالب علم لست ملزماً بما يقوله الشيخ، فنحن نتكلم من باب الأمانة العلمية، وأما أنت فلك قدراتك وإمكانياتك فتختار من أقوال العلماء ما تراه صواباً.

    1.   

    حكم الصلوات في البيوت

    وإذا قلنا على قول العلماء إن: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] بمعنى: المساجد، فهذا ينقلنا إلى مسألة فقهية يبحثها العلماء، وهي: الصلاة في البيوت.

    فالصلاة إما أن تكون فرضاً، وإما أن تكون نفلاً.

    الصلاة في البيت الصلاة الفرض لابد أن تكون وين؟ في المساجد، وهذا أمر ينبغي أن يرفع الخلاف فيه، إلا بعذر.

    بقينا في النوافل، النوافل من حيث الجملة تنقسم إلى قسمين: نافلة يجمع لها، ونافلة لا يجمع لها، فالنوافل التي يجمع لها مثل التراويح، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، فهذه تصلى في المساجد أو في المصليات، ولا تصلى في البيوت، ويصح صلاتها في البيوت، لكن الأولى أن تصلى في المساجد.

    وأما النوافل التي لا يجمع لها مثل النوافل الرواتب، فهي تصلى في البيوت؛ لحديث البخاري العام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً) أي: البيوت.

    وأوكد ذلك ركعتا المغرب، فهي أوكد الصلوات أن تصلى في البيوت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجرة عند أبي داود بسند صحيح ذهب إلى بني عبد الأشهل، وهم فخذ من الأوس قوم سعد بن معاذ ، فصلى فيهم صلى الله وعليه وسلم المغرب، فلما صلى والتفت قام الناس يسبحون -أي: يصلون النافلة- أي: أن أهل بني عبد الأشهل قاموا يصلوا السنة، فتعجب صلى الله وعليه وسلم وقال: (هذه صلاة البيوت) .

    وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (ما أحصي كم سمعت من النبي صلى الله وعليه وسلم يقرأ في ركعتي المغرب وركعتي الفجر بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد).

    ولو جاء إنسان وقال: هذا حجة على أن ركعتي المغرب تصلى في المسجد، والجواب: أن ابن مسعود كان يدخل ويخرج على رسول الله كثيراً، وهو صاحب سواكه ووضوئه، فكان من الخدم الخاصين بالنبي صلى الله وعليه وسلم، ففقه معرفة أحوال الصحابة تساعد على فهم السيرة وعلى فهم القرآن، وهذا من معطيات التفسير: أن يكون للإنسان علم متنوع حتى يستطيع أن يفهم كلام الله.

    فالصلاة النوافل في البيوت أفضل منها في المساجد، لكن إذا كان الإنسان وراءه عمل، أو عنده موعد في زيارة مريض، أو يغادر إلى مكان ماء، ولم يكن بمقدوره أن يرجع إلى البيت، فليس بمعقول أن نقول له: اذهب إلى البيت واخرج صل في المسجد، كمن يجلس في الحرم النبوي بين المغرب والعشاء، لكن هنا نقول: إذا كنت إذا خرجت من المسجد وتعلم أنك ستعود إلى البيت فأد النافلة في البيت باتفاق الأئمة.

    ثم قال الله جل وعلا: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88].

    الداعي هو موسى، وقال الله بعده: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] فذكر شخصين وهما: موسى وهارون، والذي دعا هو موسى، فكيف عد هارون داعياً؟ لأنه كان يؤمن، فأصبح المأموم في تأمينه يأخذ حكم، وبتعبير أصح: المؤمن في تأمينه يأخذ حكم الداعي؛ لأن الله قال بنص القرآن: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88].

    ثم قال جل وعلا: وَلا تَتَّبِعَانِّ [يونس:89] لا هنا ناهية، فقد نهاهما أن يتبعا سبيل المفسدين، وبما أنها لا الناهية فكيف وجدت النون، أصل الفعل: تتبعانن، فهناك نونان: نون الأفعال الخمسة، ونون التوكيد، ولما دخلت لا الناهية فإنها تجزم بحذف النون؛ لأنه من فعل مضارع اتصل بألف الاثنين، وحذفت نون وبقيت نون، فالنون الباقية هنا ليست نون الأفعال الخمسة؛ لأنها حذفت، وإنما هي نون التوكيد، وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89].

    ثم قال الله جل وعلا: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].

    هذه هي الآيات الثلاث إلى قوله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس:91]، من أعظم بلاغة القرآن، وقول الله: وَجَاوَزْنَا [الأعراف:138] فالأمر بيد الله، فالذي نجا موسى هو الله، وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف:138]، والذي خافه فرعون من موسى أن يُذهب ملكه، ففرعون سمع من الكهنة أن هلاك ملك سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا الرجل الذي أنت تخاف منه والذي هو سيذهب ملكك، هو نفسه شرد وخرج ولم يجلس في مصر، إذاً: كان العقل المفروض أنه ما دام أن الذي أنا أخاف أن يُذهب ملكي هو باختياره خرج، وذهب عني، وهرب وترك مصر كلية، وترك البحر إذاً: فلا يوجد داعي لأن أتبعه، ولذلك قال الله: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [يونس:90]، البغي: هو تجاوز الحد، والعدو: الإصرار على الباطل، ففرعون كان المفروض أن يكون أعقل من هذا، لكن الشر والعدوانية موجودة في قلبه، فلم تطب نفسه حتى يريد أن يهلك موسى، لكن الإنسان إذا غلب عليه التفكير في قضية واحدة فإنه ينسى قضايا كثيرة، ولذلك أحياناً أعرض المشكلة على غيرك؛ لأنك أنت تعيش في شيء مقوقع مهما كان عقلك ورأيك وفضلك، فتنظر بعين واحدة:

    والعين ترى ما دنا منها ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة

    فهي ترى ما دنا منه ونأى، وترى البعيد والقريب، لكن العين لا ترى نفسها، ففرعون لما وصل جاوز الله جل وعلا ببني إسرائيل البحر، ومعلوم أن الله أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، فلما انفلق أصبح البحر اثني عشر فرقاً، فمر موسى والذين معه، وقلنا مراراً: إن فرعون لم يدخل البحر حتى خرج موسى، فرعون لا يعقل؛ لأنه لما رأى موسى نجا كان من المفروض أن يعلم بداهة أنه يستحيل أن يتحول البحر إلى يابس إلا بقدرة الله، وإن الذي نجا موسى من البحر من الغرق قادر على أن ينجيه منه، فالذي نجى موسى بهذه الطريقة وجعل له البحر يابساً فإنه قادر على أن ينجيه منه، فكان يرعوي ويرتفع، لكن ما زال الانفعال العدواني في قلبه، فنسي حتى هذه، لكنه كما قال الله: بغياً وعدواً.

    فلما خرج موسى من البحر كله وفرعون ينظر اطمئن فرعون إلى أن البحر لن يرجع، فأراد موسى -كما قلنا مراراً- أن يضرب البحر، فأمر الله موسى أن يترك البحر على حاله.

    قال الله في الدخان: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [الدخان:24] أي: ساكناً، فتركه موسى، فلما تركه موسى اطمئن فرعون على أن البحر سيبقى، فجاء بجيشه، فلما جاء بجيشه أمر الله البحر أن يعود إلى حاله، قال الله: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس:90]، والغرق غير عاقل، وهذا عند البلاغيين يسمى تشخيصاً، وهو أن يعطى غير العاقل حكم العاقل، فالغرق لا يعقل حتى يدرك موسى، وحتى يدرك فرعون بالغرق، لكن الله هنا يصور الموقف على أن هذا الغرق جند من جند الله، له حواس، وله قدرات، وله إمكانات، حتى أضحى يتبع فرعون حتى أدركه وأحاط به من كل جانب، وقلنا: هذا أسلوب عربي يسمى التشخيص.

    قال الله: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ [يونس:90] أي: فرعون، آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقد آمن، فالله ما أنكر إيمانه، ولكن أنكر وقت الإيمان، ولذلك قال الله بعدها: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ [يونس:91]، وقد جاء في الخبر الصحيح أن جبريل عليه السلام لما سقط فرعون في البحر يغرق جاء جبريل بوحل البحر وأخذ يضعه في فم فرعون، لأنه خشي أن فرعون يثني على الله فتدركه رحمته، وهذا فعله جبريل لسببين:

    السبب الأول: علم جبريل بعظيم رحمته.

    والسبب الثاني قاله جبريل: ففي الحديث الذي رواه الطبراني قال: (يا محمد! ما أبغضت أحداً من خلق الله كبغضي لفرعون عندما قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]) فلما قال فرعون لأهل مصر سابقاً: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أبغضه جبريل، فلما جاء فرعون في هذا الموقف بقي البغض في قلب جبريل، فأخذ يضع الطين في فم فرعون؛ خشية أن يثني على الله ثناءً يستدر به رحمة الله، قال: حتى لا يثني على الله ثناءً فيغفر الله له.

    قال الترمذي رحمه الله: والحديث صحيح بالجملة، وصححه كثير من العلماء كـالألباني والأشقر وغيرهما من علماء الملة.

    والذي يعنينا: أن فرعون لم يقبل الله إيمانه؛ لأنه كان إيمان اضطرار لا إيمان اختيار، وقلنا: إن هذه السنة: أن الله لا يقبل إيمان الاضطرار، ولا يقبل إلا إيمان الاختيار، مستثناة في قوم يونس، قال الله: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98].

    فنعود إلى الآية، قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92].

    وفي قراءة: ( ننحيك) بالحاء، والمعنيان واحد، وقد كان المصريون يعبدون فرعون على أنه إله، فلو غاب فرعون وضاع في البحر، وأغرق وأهلك، ولم تظهر لجثته لقال بعضهم: إنه اختفى ليعود، أو أنه غاب ليرجع، لكن الله أخرجه حتى يراه من كان يعبده فإذ رآه من كان يعبده وهو جثة هامدة علم أن الإله الذي كان يزعم أنه إله لا يملك أن يهب الحياة لنفسه، فكيف يهبها لغيره.

    ولذلك قال الله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:92] أي: بجسدك دون روحك، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92].

    والناس اليوم يدخلون إلى ما يسمى بقبور الفراعنة في الأهرامات في مصر ويرون ما يرون، فيخرجون يتعجبون من تلك الحضارات، وينسون أن هذه كلها آيات من رب الأرض والسموات.

    والعاقل إذا رأى بنور الإيمان -لا كمن ينظر بنور الثقافة أو بنور العلم المحض، أو بنور المعرفة- يرى سنن الله في الخلق: كيف يحي الله ويميت، ويبدي ويعيد، ويعطي ويمنع، ويهب ويقطع جل وعلا ويعرف ما لله جل وعلا من عظيم القدرة، وجليل المكانة.

    هذا ما أردنا التعليق عليه اليوم، وهو آخر دروسنا قبل رمضان.

    هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756177862