إسلام ويب

تفسير سورة الطور [1-34]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    بين يدي سورة الطور

    قال المهايمي : سميت هذه السورة بالطور لما تضمن من تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم. والطور هو مكان مهبط الوحي على موسى عليه السلام، فإذا بلغ من شرف هذا الجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى أن أقسم الله به، وسميت السورة به تعظيماً لمهبط الوحي، فكيف بالوحي نفسه؟! لا شك أنه أولى بالتعظيم. فيعظم الاهتمام بالعمل، لاسيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهذه السورة مكية، وآيها تسع وأربعون، وترتيبها في المصحف الثانية والخمسون. روى الشيخان ومالك عن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه)، وعلى هذا فهذه السورة من السور التي تتلى في صلاة المغرب؛ لهذا الحديث. وروى البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي -يعني: أنها مريضة- فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور )

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:1-6]. قوله: ((وَالطُّورِ)) قيل: إن المقصود به: طور سينين، وطور سينين أقسم الله عز وجل به في سورة أخرى من القرآن الكريم. فقوله: ((وَالطُّورِ)) أي: وطور سينين. وهو جبل بمدين سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تبارك وتعالى. وكتب التفسير تذكر أن هذا الجبل جبل بمدين، وقيل: إن اسمه الزَّبير، قال الجوهري : والزَّبير: الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور. وأما مدين فهي مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القُلزم، يعني: على البحر الأحمر، وبتعبير أدق على خليج العقبة، وبين تبوك ومدين ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب. فعلى هذا فالظاهر أن الجبل هو جبل طور سينين أو جبل الطور الذي في مدين الذي كلم الله عليه موسى. ويتضح من سياق هذا الكلام أن هذا الجبل يقع في الحد الشمالي الغربي من جزيرة العرب، فما أدري ما هو التحقيق في ذلك، خاصة وأنه يشيع عندنا: أن هذا الجبل في سيناء! وحتى الآن ما وقفت على كلام قاطع يوضح هذه المسألة، هل هو الجبل الذي في سيناء أم أنه الجبل الذي في مدين؟ ولكن الظاهر أنه الذي في مدين، والله تبارك وتعالى أعلم.

    كلام الشنقيطي في أول سورة الطور

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها. أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع. يقول الشنقيطي : والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2]. والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2]، وقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]. وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد. وقيل غير ذلك. وقوله: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7]، وقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]. و(الرَّق) في قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه. وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52]. وقوله: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل. وأما قوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور. وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72]. الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً. وقول النمر بن تولب العكلي : إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً. هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً. فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38-39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.

    كلام القاسمي في أول سورة الطور

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وَالطُّورِ [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى. وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور. إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه. وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق. يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق. أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [الأعراف:150]، ولم تكن في رق. فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة. ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30]. والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام. كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل ، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام. كذلك قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] إلى قوله تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]. فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة. وقد ذكرت الملائكة لـهاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك). يعني: مثل موسى عليه السلام. فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء. فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون. وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام. وقوله: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.

    معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور)

    قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4] أي: الذي هو معمور بكثرة من يغشاه، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين، وهذا هو الذي اعتمده القاسمي، فقد رجح أن البيت المعمور هو البيت الحرام بمكة المكرمة، والذي لا يوجد على سطح الأرض بيت يعبد الله سبحانه وتعالى ويوحد كما ينبغي له عز وجل إلا في هذا المكان وحده والعاكفين والمجاورين وغير ذلك. وهناك قول آخر وهو: أن البيت المعمور هو بيت في السماء بحيال الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه أبداً. قال القاسمي : والأول أظهر، أي: أن البيت المعمور المقصود به الحرم الشريف؛ لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف البلد الأمين على طور سينين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً؛ لتشابه آياته كثيراً، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب. أما القول: بأن البيت المعمور هو البيت الذي في السماء، فدليله ما ثبت في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإسراء: (ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). ويمكن أن تقرأ (آخرُ ما عليهم)، إن قلنا: (آخرَ ما عليهم) فالنصب على الظرفية، وإن قلنا: (آخرُ ما عليهم) فالرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم، وهذا أولى. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). قال المهايمي : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، يعني: بعدما أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب بقوله: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وهو الوحي، أورد بعد ذلك البيت المعمور، فربط بين الوحي وبين البيت المعمور، وعلى القول بأن البيت المعمور هو الكعبة، فكأن الربط هنا بين الوحي نفسه وبين مكان الوحي الذي هو البيت المعمور في مكة المكرمة. يقول: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه؛ ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين؛ ولأنه من أجل الآيات وأكبرها، كما دل عليه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وآيات أخر.

    معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور)

    قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]. وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة. وقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]. قال ابن جرير : والأول أولى. فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء. يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء. والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً. وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع )

    ما مضى هو القسم، أما المقسم عليه فهو قوله تبارك وتعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8] يعني: ما له من دافع يدفعه عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع. ومثل هذا آيات أخر تثبت نفس هذه الحقيقة، كقول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]. وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، وقوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134]، وقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2]. وقوله: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]. قال جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه: (قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، -يعني: كان مشركاً في ذلك الوقت، وأتى لفداء أسرى بدر- فوافيته، -يعني: وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب: وَالطُّورِ [الطور:1]، إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور:7-8]، -فكأنما صدع قلبي)، يعني: كأنما تشقق قلبه إشفاقاً وخوفاً من هذه الآية الكريمة ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))، يقول جبير رضي الله تعالى عنه: (فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب). وعن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده رجل يقرأ: ((وَالطُّورِ))، حتى بلغ: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]، فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. فهذه الآية من أخوف الآيات في كتاب الله تبارك وتعالى؛ ولذلك جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأها في الصلاة فغشي عليه خوفاً وشفقةً من هذا الوعيد الشديد، ولما سقط حمل إلى بيته وظل يعاد أياماً، يزوره الناس يحسبونه مريضاً، وما به مرض، وإنما به الخوف من مما دلت عليه هذه الآية الكريمة! ولما ولي بكار القضاء، جاء إليه رجلان يختصمان، فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، يعني: أن القاضي رغب الشخص الذي حق عليه أن يحلف بالصلح؛ لأن الآخر ليس عنده بينه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فحاول القاضي أن يحرض هذين الخصمين على الصلح، وحرض الذي قبل أن يحلف أنه يعطي خصمه من عنده عوضاً عن يمينه! يضحي بشيء من ماله عوضاً عن أن يحلف، فأبى إلا أن يحلف أنه ليس عنده شيء، فأحلفه بأول ((وَالطُّورِ))، إلى أن قال له: قل: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ))[الطور:7] إن كنت كاذباً. وفي بعض الروايات: قل: إن عذاب الله بي لواقع إن كنت كاذباً، فقالها، وحلف هذا اليمين، فخرج فكسر من حينه، ولم يفصل، يعني: لم يبين الراوي هل انكسرت رقبته مثلاً فمات أم انكسر منه شيء آخر، على أي الأحوال هذا مما يدل على عظم هذه اليمين. فقوله تعالى: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]، يعني: لا يدفعه دافع عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً )

    قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9-10]. العامل في ((يوم)) قوله: ((واقع)) يعني: واقع يوم. وقوله: ((تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا)) أي: تضطرب. وقوله: ((وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)) أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباءً منثوراً، واستدل على هذا التفسير بقوله تبارك وتعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فويل يومئذٍ للمكذبين ... )

    قال تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور:11] أي: المكذبين بالحق الجاحدين له. وقوله: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور:12] يعني: في خوض من التكذيب والاستهزاء، يلعبون بآيات الله ودلائله. وقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13] أي: يدفعون إليها بعنف، يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته في قفاه بإزعاج وشدة، كما يفعل الشرطي بالمجرم الذي يقبض عليه، فإنه يدفعه من الظهر أو من قفاه بشدة إلى الأمام. وقوله تعالى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14] يعني: يقال لهم: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] يعني: الذي وردتموه الآن، أهذا سحر؟ والفاء هنا للسببية؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي؛ لأنهم لما وصفوا الوحي بأنه سحر وردوا العذاب نتيجة هذا القول؛ تسبب لهم فيما هم فيه من الدع ومن العذاب. فقوله: (( أَفَسِحْرٌ هَذَا )) أي: أم هذا الذي تردونه الآن من النكال والعذاب، هل هذا سحر؟ وقوله: (( أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ )) أي: أم كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، لا تبصرون في الآخرة أيضاً؟ قال الزمخشري: يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. ثم قال تعالى لهم: اصْلَوْهَا [الطور:16] أي: ذوقوا حر هذه النار. وقوله تعالى: فَاصْبِرُوا ، يعني: على ألمها. أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ يعني: سواء عليكم الأمران ((سواء)) مبتدأ، والخبر ((عليكم))، أي: الصبر والجزع كلاهما عليكم سواء، كما قال الله تبارك وتعالى: قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]. فقوله: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور:16] أي: الأمران: الصبر وعدمه سواء عليكم. وقوله: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، أي: لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم وكفركم به. والإتيان بهذه الصيغة هنا المقصود بها التعليل، يعني: علة هذا التعذيب ما عملتموه من قبل. قال الزمخشري : فإن قلت: لمَ علل استواء الصبر وعدمه بقوله: (( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع؛ لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب -الذي هو الجزاء- ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. يعني: أنه علل قوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور:16]، بأن المقصود: اصبروا على ألمها أو لا تصبروا، فالصبر والجزع كلاهما سواء، وذكر العلة بقوله: (( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))، إشارة إلى أن الصبر والجزع لا يستويان في دار الدنيا، التي هي دار العمل والكسب والسعي، فالإنسان يصبر ولا يجزع، فإذا صبر فإنه يثاب على هذا الصبر، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فالصبر يكون مراً، لكن عاقبته عاقبة طيبة. والإنسان عليه أن يصبر على مرارة الصبر؛ لأنه يرى ببصيرته حلاوة العاقبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فالصبر له ثمرة وعاقبة حسنة في الدنيا وفي الآخرة. أما الجزع في الدنيا فلا شك أن الصبر أفضل منه؛ لأن الصبر يرجى من ورائه عاقبة حلوة، أما في دار الجزاء بعدما انتهت الدنيا، فليس فيها أي كسب جديد، فقد انتهى العمل، وانقطعت الأسباب وانقطع العمل. فحينما ينتقل الإنسان إلى دار الجزاء، فيدخل النار ويعذب، فيصبر أو لا يصبر، لا فرق بين الاثنتين؛ لأن الصبر هنا في هذه الحالة لا يرجى من ورائه فائدة؛ لأنه في دار الجزاء، ودار الثواب أو العقاب، وليس في دار العمل.

    1.   

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13]: الدع في لغة العرب: الدفع بقوة وعنف، ومنه قوله تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:2] أي: يدفعه عن حقه بقوة وعنف. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين: أحدهما: أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة. الثاني: أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخاً وتقريعاً: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14]، كقوله تبارك وتعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:22]. وقال تعالى في سورة سبأ: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42]. وقال تعالى في سورة المرسلات: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:29-32]. وقوله عز وجل: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا))، يبينه قوله عز وجل في سورة الدخان: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] يعني: جروه بقوة وعنف إلى وسط النار. والعتل في لغة العرب: الجر بعنف وقوة. ومنه قول الفرزدق : ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل وقال عز وجل: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41]، وهذه الصورة من صور العتل أو الدفع بعنف والدع الشديد وبقوة تكون داخل النار. وقوله عز وجل: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41]، هذا فيه تفصيل أكثر وتوضيح أكثر لكيفية الدع بعنف، يعني: أن الزبانية تجمع بين ناصية الواحد منهم وبين قدمه، والناصية هي: مقدم شعر الرأس، فتمسك الملائكة بمقدم شعر رأسه وتجمعه مع قدمه. فيا له من منظر فظيع: أن يأتي الملك ويقبض على قدم الإنسان مع ناصيته، ثم يدفعه في النار بقوة وشدة. وبين الله سبحانه وتعالى أيضاً: أن من صور هذا الدع أو العتل الشديد: أنهم يسحبون في النار على وجوههم، كما قال تبارك وتعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]. وقال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:70-72]. وقوله هنا في هذه الآية: (( يَوْمَ يُدَعُّونَ )) بدل من قوله تعالى: (( يَوْمَئِذٍ ))، فإنه تعالى قال: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور:11]، ثم قال: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ... )

    قال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18] يعني: متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة. وقوله تعالى: (( فَاكِهِينَ )) مفردها: فاكه، وفاكه معناها: ذو فاكهة، كتامر ذو تمر، ولابن ذو لبن، كذلك فاكه، يقال: رجل فاكه: يعني: ذو فاكهة. ويقول الشاعر: وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر يعني: أنك ذو لبن وذو تمر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة ... )

    قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الطور:19-20]. قوله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ))، زوجناهم هنا بمعنى قرناهم بالحور العين، فهي مثل قول الله تبارك وتعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] يعني: قرناءهم أو أشكالهم، وليس من كلام العرب: تزوجت بامرأة، ولا زوجته بامرأة. إذاً: قوله تعالى هنا: (( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ )) الفعل هنا تعدى بالباء، وليس في كلام العرب (زوّج بـ). ولذلك في التفسير نقول: إن قوله تعالى: (( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ )) أي: قرناهم بحور عين، وهذا كقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] يعني: قرناءهم، وقال بعضهم: إن (زوجت بـ) لغة أزد شنوءة أو قبيلة معينة من العرب، والله تعالى أعلم. وقوله: (( بِحُورٍ عِينٍ )) عين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في حسن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ... )

    قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]. قوله: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ )) يعني: أنهم آمنوا، ثم إن ذريتهم من بعدهم اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح. وقوله: (( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )) يعني: في الجنات والنعيم. والخطاب لما كان مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم واثقون بوعد الله، تمت لهم البشارة بالموعود به بأنه سوف ينال ذريتهم أيضاً، ولكن هذا بشرط أن يتبعوا آباءهم بإحسان، فإذا جاءت الذرية واتبعت الآباء بإحسان، فيكافئ الله سبحانه وتعالى هؤلاء الآباء بأن يضم إليهم ذريتهم في الجنات والنعيم، هذا هو المراد من الآية، والقاسمي رحمه الله تعالى يرجح هذا التفسير. فقوله: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ )) يعني: بشرط أن تتبعهم (( بِإِيمَانٍ )) والجزاء هو: (( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )). فشرط استحقاق أن يلحق بالآباء الأبناء والذرية أن يتبعوا آباءهم بإحسان على نفس الطريقة، هذا هو المراد من الآية، وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً، وهذا شائع في كتب التفسير، حيث يذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية: إن الذرية تلحق بالآباء ولو كانت الذرية دون الآباء في العمل، فإن من النعيم الذي ينعم الله به على الآباء أن يرفع الذرية وإن كانوا دون آبائهم في العمل إلى مقامهم؛ لأنهم يقولون: إنما كنا نعمل لأولادنا، يعني: نعمل العمل الصالح حتى تكون عاقبته في أولادنا، ويوردون في ذلك كثيراً من الآثار، وهذا المعنى إذا صح في الحديث فعلى العين والرأس، أما إن لم يصح في الحديث فلا يصح أن نفسر به هذه الآية؛ لأن الآية لا تدل على هذا المعنى الذي يذكرونه، وإنما تدل على ما ذكره القاسمي هنا: أن ذلك إنما هو بشرط أن يتبع الأبناء آباءهم بإحسان، ويتبعوهم بإحسان. فأما قول من قال: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل! فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً. وقوله: (( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )) يعني: وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً. وقوله: (( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )) أي: بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، و(كل) تفيد العموم، فكل إنسان حبيس أو رهين بما عمل من خير أو شر، ولا يؤاخذ إلا بعمله، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، وهذا مبدأ المسئولية الفردية، وهو من أحد الخصائص الواضحة جداً في دين الإسلام، كما قال عز وجل: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:13-15]. وقول الله تبارك وتعالى هنا: (( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )) يؤكد هذا المعنى، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء)

    يقول العلامة الشنقيطي في تفسيرها: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس، وقد بين الله تعالى في آيات أخرى، أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم، وذلك في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] وهذا على تفسير قوله: (( رَهِينَةٌ )) بمعنى حبيسة بما كسبت. وعلى هذا المعنى فالذي حبس هم كل المجرمين أو الكفار؛ ولذلك استثنى فقال: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ [المدثر:39-41]، ومن المعلوم أن التخصيص بيان كما تقرر في الأصول. وهذا كما قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:32-33]، وقال أيضاً: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15]، وقال: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ [الصافات:41-42]. أما اللحم المذكور: فوصف بأنه من الطير، قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21]، والإنسان روح وجسد، فكما تتنعم الروح كذلك يتنعم الجسد. فلا يوجد أي إشكال في هذا، بل بالعكس هذا من أساليب الترغيب التي تتوافق مع الفطرة السليمة، فالإنسان روح وجسد، وكما أن الجسد يتنعم كذلك الروح تتنعم. ثم قد دلت الأدلة على أن المتاع الروحي لأهل الجنة أعلى بكثير من المتاع الحسي، بدليل قوله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، وبدليل أنهم إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى وكشف لهم وجهه الكريم في الجنة، فإنهم يتلهون وينسون كل ما هم فيه من النعيم. واليهود والنصارى في موضوع الجنة أو النار ليس عندهم أي نوع من التفصيل، فمن منة الله سبحانه وتعالى ونعمته علينا أن جعلنا من هذه الأمة التي جاء فيها هذا العلم الوافر من القرآن ومن السنة، وأعلمنا بكثير من الغيبيات التي امتازت الأمة الإسلامية بها على من عداها من الأمم، فجاء التوضيح الشافي لأمور كثيرة من المغيبات بفضل الوحي، فعرفنا تفاصيل ما يحصل في الغيب، وبالذات ما نحن بصدده من الكلام في تفاصيل نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً ... )

    قال تعالى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور:22] قوله: ((وأمددناهم)) في هذا أن المدد مستمر، يعني: زدناهم وقتاً بعد وقت، فهو مدد متجدد ومستمر. قوله تعالى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا [الطور:23] يعني: يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها، ويتناول بعضهم من بعض كأساً، والمقصود بالكأس ما فيه من خمر الجنة، وخمر الجنة يشربها من امتنع من خمر الدنيا، وخمر الدنيا بالعكس تماماً في كل صفاتها بالنسبة لخمر الجنة، فخمر الجنة قال الله عز وجل فيها: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] وخمر الجنة لا تذهب العقل، وليست خبيثة في الرائحة كخمر الدنيا، وهي طاهرة وليست نجسة كخمر الدنيا، وهكذا كل صفات خمر الدنيا تنافي الصفات الثابتة لخمر الجنة، فمن شرب الخمر ولبس الحرير في الدنيا، فإنه يحرم من ذلك في الآخرة، ولا يشرب من خمر الجنة، ومن امتنع من خمر الدنيا ابتغاء رضوان الله فإنه يكافئ بأن يشربها في الجنة. قوله: (( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا ))، كأن المؤمنين ومن ألحق بهم من ذريتهم، أو أهل الإيمان مع بعضهم البعض يتعاطون في الجنة كأس الشراب ويتجاذبونها ويتناول بعضهم من بعض. وقوله: (( كَأْسًا )) المقصود بالكأس: الخمر؛ لأن الإناء الفارغ لا يطلق عليه كأس في لغة العرب، فلا تكاد العرب تستعمل كلمة كأس إلا فيما هو مملوء، فكأس هنا المقصود به كأس خمر. والتنازع لغة: يطلق على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضاً شيئاً ويناوله أياه، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه في الشراب قول الأخطل : وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري قوله: (وشارب مربح) المربح هو: الذي ينحر لضيفانه الربح وهي الفصلان. وقوله: (بالكأس نادمني لا بالحصور) يعني: ليس بخيلاً ضيقاً كالحصير. وقوله: (ولا فيها بسوار) السوار هو: المعربد الوثاب، يعني: أنهم يعيبونه بأنه إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء. وقوله: (نازعته طيب الراح الشمول وقد) نازعته يعني: ناولته، وهذا هو الشاهد، فالمناولة يطلق عليها المنازعة، ونحن دائماً نظن أن المنازعة هي العراك على شيء معين، ولكن المنازعة قد تطلق على المناولة بين القوم، فهذه تسمى منازعة، وهذا هو الشاهد من البيت. وقوله: (طيب الراح الشمول) يقصد بذلك الخمر. وقوله: (وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري) يعني: صاح الدجاج وقت السحر، والمقصود بالدجاج هنا الديكة، لكن إذا قيل: هذه دجاجة، فالمقصود الأنثى. وقوله: (وحانت وقعة الساري) أي: وقعة الإبل إذا بركت، والساري: هو السائر بالليل. إذاً: قوله: (نازعته طيب الراح الشمول) يعني: ناولته كئوس الخمر وناولنيها، فإذا كان كل واحد يناول الآخر، فهذا يطلق عليه منازعة. ومنه المنازعة في الكلام، وذلك بأن يتكلم رجل والآخر يرد عليه، ومنه قول امرئ القيس : ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، فلا يقال: هذا كأس، ولكن يقال: هذه كأس. وقوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23]، نلاحظ في القرآن الكريم أنه حيثما ذكر خمر الجنة تجدها دائماً توصف بصفات تتناقض تماماً مع خمر الدنيا، وليس بينهما تشابه إلا في الاسم فقط، وأما الحقيقة فيا بعد ما بينهما! فخمر الجنة التي يتعاطها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو هو: كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان؛ لأنها لا تؤثر في عقولهم، بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن شربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو. والتأثيم هو: ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها؛ لأنها مباحة له، فيتنعم بلذتها، كما قال الله تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثماً، بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها، ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:45-47]. فقوله: (( لا فِيهَا غَوْلٌ )) يعني: ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا. وقوله: (( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ )) يعني: لا يسكرون. وكقوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:17-19]. وقوله: (( لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا )) يعني: لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها. فخلاصة الكلام: أننا ننتبه لهذا دائماً في القرآن، وهو أنه متى ذكرت خمر الجنة نجدها توصف بصفات مناقضة تماماً لصفات خمر الدنيا. ومن وصف خمر الدنيا قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ولذلك فسر بعض العلماء الرجس بأنه النجس، وذهبوا إلى أن الخمر نجسة؛ لمفهوم قوله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فقالوا: هذا الشراب الطهور هو الخمر، فخمر الجنة طهور، والقاعدة: أن صفات خمر الجنة بالعكس من صفات خمر الدنيا، فإذا وصف الله ذلك الشراب بأنه طهور فيفهم منه أن خمر الدنيا ليست بطهور، يعني: أنها نجسة؛ ولذلك عامة أهل المذاهب يفتون في الخمر بأنها نجسة، ويعتبرون الخمر نجسة نجاسة حسية، وفي المسألة نزاع مشهور، وعلى الأقل فالأحوط للإنسان أن يجتنب استعمال الكحول، فما الذي يلجئك أن تتعاطى الكولونيا مثلاً أو العطور التي فيها الكحول، وقد وسع الله عليك بوجود الزيوت العطرية التي تغني عن هذه الخمر المختلف في نجاستها؟ فهل تريد تطييب نفسك أم توسيخها بما هو نجس في رأي المذاهب الأربعة؟! فالاحتياط على الأقل أن الإنسان يتجنب العطور التي فيها هذه الكحول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون )

    قال الله تبارك وتعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24] أي: مصون في كن، وهذا أنقى له وأصفى لبياضه. يقول الشنقيطي : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل الجنة يطوف عليهم غلمان، جمع غلام، والمقصود: خدم لهم، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]. وقوله: ((وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) لم يبين هنا ما يطوفون عليهم به، وذكر هنا حسنهم، فقال: ((غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)) أي: مكنون في أصدافه؛ لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه، وقيل: ((مكنون)) أي: مخزون لنفاسته؛ لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن. وبين تعالى في سورة الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله: بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:18]، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين. وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71]، وقال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان:15-16]. وبعض هذه الآيات نلاحظ أن الفعل فيها مبني للمجهول، يعني: حذف فاعله، فالظاهر أن الفاعل المقصود به هؤلاء الغلمان، كما قال الله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ... )

    قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، يعني: أن كلامهم ذكر وشكر لله سبحانه وتعالى، ومن تمام النعيم حصول المواجهة كما قال تعالى: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، والتقابل هو: أن يكون الإنسان وجهه في وجه محدثه، وهذا أتم للنعيم وللسرور، فيجلسون يتحادثون، ويسترجعون ذكريات ما كانوا يعانونه في الدنيا، وكيف أنهم صبروا ابتغاء وجه الله، ويسترجعون ما رأوا في الدنيا من البلاء، وحسن صبرهم على هذا البلاء. فقوله: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)) يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث التي تفضي في النهاية إلى شكر المنعم والتحدث بنعمة الله، وذلك فيه مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا، أو مساءلة بعضهم بعضاً: ما الذي أبلغك هذه المنزلة من الأعمال؟ وهكذا. ومن نماذج هذا الحديث الذي يدور بين أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- ما ذكره الله عز وجل في قوله: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، قوله: (( قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ )) أي: في الدنيا، (( فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ )) أي: خائفين من عذاب الله؛ فإن الخوف من عذاب الله هو الذي أوصلهم إلى الأمن من هذا العذاب، وإلى هذا النعيم المقيم. وقوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] أي: فلم ينج أحد إلا بمنة الله عز وجل، وقوله: (( وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ )) يعني: عذاب النار. وأصل السموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، سميت بها نار جهنم لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنهم لريح السموم أعرف؛ لمشاهدتهم لها في الدنيا، فهذا هو سر تسمية نار جهنم بريح السموم؛ لأن الناس في الدنيا يعرفون ريح السموم ويحسون بها. وقوله: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ [الطور:28] أي: نعبده مخلصين له الدين، وقد سبق مراراً وتكراراً لفظ الدعاء يأتي كثيراً جداً مرادفاً للفظ العبادة، كقوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وكقوله سبحانه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] يعني: وما تعبدون، فكثيراً جداً ما يتناوب هذان اللفظان، فيعبر عن العبادة بالدعاء، وعن الدعاء بالعبادة، وقد صح في الحديث: (الدعاء هو العبادة) وأما حديث: (الدعاء مخ العبادة) فحديث ضعيف. وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28] البر: المحسن لمن دعاه، وقيل: البر هو: الصادق فيما وعد، أي: لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)

    يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27]: ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، وأن المسئول عنهم يقول للسائل: (( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ )) يعني: في دار الدنيا، (( فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ )) أي: خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء، (( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا )) أي: أكرمنا وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة من عذاب السموم، والسموم: النار ولفحهها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه السمائم وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، فهو من الأضداد، ومنه قول الراجز : اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه فهذه الفاء في قوله تعالى: (( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا )) تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، يعني: كنا نخاف الله ونشفق ونحن في أهلنا من عذاب الله، ((فمن الله علينا)) يعني: أن سبب النجاة من العذاب هو هذه الخشية التي كانت في الدنيا. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة في الآخرة، يفهم من دليل خطابه -يعني: من مفهوم المخالفة- أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة. فقوله: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27]، هذا هو المنطوق، ومفهوم المخالفة: أن من لم يكن مشفقاً في الدنيا من عذاب الله، فإنه لا ينجو من هذا العذاب في الآخرة، ويوضحه قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:10-14]. يعني: أننا وصلنا إلى هذا المعنى عن طريق الاستنتاج من طريق مفهوم المخالفة في الآية هنا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27]، فأخذنا من منطوق الآية: أن من خاف عذاب الله في الدنيا فإن عاقبته النجاة منه في الآخرة، هذا هو المنطوق، وأما المفهوم فهو: أن من لم يخف ولم يبال بعذاب الله في الدنيا، فإنه لن ينجو منه في الآخرة، وهذا المفهوم يدل عليه المنطوق صراحةً في قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:10-12]. وقوله: (وراء ظهره) لا تتعارض مع أنه يأخذ كتابه بشماله؛ فإنه يأخذه بشماله من وراء ظهره، فتمد يده إلى وراء ظهره، ويأخذ كتابه بشماله التي تمتد إلى وراء ظهره. وقوله: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)) يعني: يقول: واثبوراه! واهلاكاه! وقوله: ((وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ)) هذا مسلك من مسالك التعليل، ومعروف في بحث الإيماء والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى هنا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) علة لقول الله تبارك وتعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا))، وكأن سائلاً بعدما سمع قوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)) يسأل ويقول: لماذا يدعو ثبوراً؟ ولماذا يصلى سعيراً؟ فالجواب والعلة والسبب: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) بخلاف حال المؤمنين: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ))، أما هذا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا))، والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف. ويؤيد ذلك قوله سبحانه بعد هذه الآية: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:14]؛ لأن معناه: أنه ظن ألن يرجع إلى الله حياً يوم القيامة، وهذا بخلاف المؤمن الذي يذكر نفسه دائماً: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، وهذا من شؤم الكفر باليوم الآخر، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، فالكذب لا يصدر إلا عمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وكذلك السرور والبطر والفرح في الدنيا، والاطمئنان والأمان في الدنيا وعدم الخوف من عذاب الله في الدنيا؛ كل هذا ثمرة من ثمار عدم الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك قال هنا: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)) أي: أنه لن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن من ظن أنه لن يبعث بعد الموت لا يكون مشفقاً في أهله خوفاً من العذاب؛ لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء. وقوله: ((لن يحور)) بمعنى: لن يرجع، وهذا معروف في لغة العرب، ومنه قول المهلهل بن ربيعة التغلبي : أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري يعني: لا ترجعي، أي: أنها كانت ليلة شقاء وبؤس وضنك، فهو يخاطب هذه الليلة الطويلة المؤلمة بقوله: لا تعودي علينا، أي: كما كنت في الأيام التي لا تدور، كما تقول: هذه أيام كذا الله لا يرجعها، فكذلك هنا يقول: إذا أنت انقضيت فلا تحوري. يعني: فلا ترجعي. وكذلك منه قول لبيد بن ربيعة العامري : وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع أي: أنه كالنار التي تشتعل ثم تخمد. فقوله: (يحور) بمعنى يرجع، وقيل: بمعنى يصير، والمعنى واحد. وقال تبارك وتعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:41-44]، لماذا؟ إِنَّهُمْ [الواقعة:45] انظر إلى (إنَّ) التي تأتي للتعليل، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة:45-47]. وتنعمهم في الدنيا المذكور في قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)) هو في نفس معنى قوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)). وإنكارهم للبعث المذكور في قوله تعالى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، دليل على أنهم لم يكونوا مشفقين في الدنيا من عذاب الآخرة؛ لأنهم ما كانوا أصلاً يؤمنون بالآخرة ولا بالبعث ولا بالنشور، فهذا هو علة كونهم في سموم وحموم، فقوله تعالى: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة:42-43] السبب: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))[الواقعة:45-47]. وقد قدمنا قريباً أن: (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ))، علة لقوله: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ)). وقد ذكر جل وعلا: أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في سورة المعارج: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28]، إلى قوله: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]، فمن خاف الله في الدنيا أمن من عذابه يوم القيامة. ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة. وذكر الله سبحانه وتعالى أن ذلك من صفات أهل الجنة في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، إلى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]. وقد قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:11-12]. وقوله تعالى في الآية السابقة في سورة الواقعة: ((وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ)) يعني: يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل: المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة التي كانوا يحلفونها، كما في قوله تعالى حاكياً عنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38]. وثبت في الحديث أن أحد الصحابة أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تصلي وتقرأ هذه الآية: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ))، فانصرف لما سمعها تردد هذه الآية، وذهب إلى السوق، وقضى حاجته، وغاب مدة طويلة ثم رجع، وهي قائمة تصلي بنفس الآية، ترددها وتتدبر

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر ... )

    قال تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:29]. قوله: (( فَذَكِّرْ )) أي: من أرسلت إليهم وعظهم. وقوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ )) يعني: تتكهن فيما تدعو إليه، والتكهن هو: أن يخبر الإنسان بما في غد من غير وحي. وقوله: (( وَلا مَجْنُونٍ )) يعني: ما لك رئي من الجن يخبر قومه كما يعتقد العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقاً. يقول الشنقيطي : نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، فقال: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:29-30]. أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون فقد نفاهما صريحاً بحرف النفي، الذي هو (ما) في قوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ))، وأكد النفي بالباء في قوله: (( بِكَاهِنٍ )). وأما كونه شاعراً فقد نفاه ضمناً بـ(أم) المنقطعة في قوله: (( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ))؛ لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن النفي؛ لأن (أم) المنقطعة تقدر ببل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون: شاعر؟ فـ(بل): للإضراب، و(أيقولون) هذه همزة الاستفهام التي فيها معنى الإنكار. وقد جاءت آيات بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول سورة القلم: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2]، وقال في التكوير: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين -أعني: الكهانة والشعر-: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41-42]. وقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، يعني: حوادث الدهر أو الموت؛ لأن المنون قد يراد به الدهر، وريبه: صروفه، وقد يراد به الموت، وريبه: نزوله. ثم قال تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:31] أي: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد. فقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، أي: ننتظر به حوادث الدهر حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه، التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي : أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع لأن الضمير في قوله: (وريبه)، يدل على أن المنون هو الدهر. ومن ذلك أيضاً قول آخر: تربص بها ريب المنون لعلهـا تطلق يوماً أو يموت حليلها وقال بعض العلماء: المنون في الآية: الموت. إذاً: القول الأول: المنون في الآية هو الدهر. وريبه: هي حوادث الدهر. القول الآخر: المنون: الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب. ومنه قول أبي الغول الطهوي: هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى، فالمنون هنا بمعنى: الموت. والوقبى اسم مكان من بلاد بني مالك تجمعوا فيه، ثم جاءت ضربة الموت وأخذتهم كلهم ضربة واحدة، فجمعت هذه الضربة بينهم في مكان واحد، ولو كان كل واحد منهم مات في بلده، لماتوا أماكن شتى، لكن الموت هنا جمعهم. قوله تعالى: ((قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) يعني: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد. وقوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ )) يعني: فما أنت وقد أنعم الله عليك بالإسلام وبالنبوة وبالوحي: (( بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ )). وهناك قول آخر: أن قوله: (( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ )) هنا قسم، لكن الأظهر هو القول الأول، والله أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون )

    قال تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الطور:32] أي: هل هذا التناقض في كلامهم أمرتهم به أحلامهم وعقولهم أم هم قوم طاغون؟ ونلاحظ هنا: نسبة الأحلام -أي: العقول- إلى هؤلاء الكفار، وقد ورد في بعض الآثار -ومنها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح- أن الكافر لا يوصف بالعقل، فلا يقال للكافر: عاقل، فهل معنى ذلك أن الكافر مجنون؟ الجواب: لا، بل الكافر ميزه الله بالعقل؛ لأن كل إنسان عاقل مميز عن البهائم والجمادات بالعقل والحياة، فالكافر أعطي العقل، لكنه استعمل العقل في غير ما خلق من أجله، استعمله في محاربة الله، وفي الصد عن سبيل الله، وفي الكيد للمسلمين، ونحو ذلك، أو في خدمة الدنيا كما يفعل الكفار الذين يتقلبون في البلاد، ويسخرون عقولهم في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا من أجله! فالعقول يستعملونها في كل ضرب ونوع من أنواع خدمة الدنيا والتبتل في عبادتها وعبادة الشهوات، وهم لهم أحلام ولهم عقول، بدليل قوله تعالى هنا: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، لكنهم لما لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، صح نفيها عنهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعقلون، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ويوضح هذا قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ [الأعراف:179] يعني: عقول، لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فصح نفي العقل عنهم؛ لأنهم وإن أوتوا عقولاً، لكنهم عطلوها عن الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي التدبر في آيات الله وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يصلوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الآيات الكونية أو الآيات التنزيلية. قيل لـعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟! يعني: في مثل هذه الآية: (( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا ))، فقال: تلك عقول كادها الله يعني: لم يصحبها التوفيق، فخذلت، فالله سبحانه وتعالى وهبهم العقول، لكنه حرمهم نعمة التوفيق، وهي إرادة الحق وحب الحق والانقياد له في القلب. فالإنسان يرى الحق واضحاً ويعلم تماماً أنه حق من عند الله، لكن لا يوفقه الله للانقياد لهذا الحق، والتوفيق لا يكون إلا من عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88]. فانظر إلى تعبير عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعمرو بن العاص من أعقل عقلاء العرب، فيقول هذا الكلام الرائع؛ فإنه لما قيل له: ما بال قومك لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله بالعقل؟ رد قائلاً: تلك عقول كادها الله. يعني: لم يوفقها، فإذا وكل الإنسان إلى عقله وإلى نفسه، فأول ما يجني عليه هو هذا العقل إذا حرم من توفيق الله؛ ولذلك كان من دعاء الصديق اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه. فالخطوة الأولى: أن يرى الإنسان الشيء على حقيقته؛ لأن أكثر الناس يرون الحق باطلاً، ومنهم من يرى اتباع السنة تطرفاً، ومنهم من يرى التزام شرائع الإسلام تعصباً ورجعية وهمجية وهوس وأصولية وتطرف.. إلى آخر هذه الشتائم، هكذا زين لهم سوء أعمالهم! فرأوا الحق باطلاً، فحرموا من البداية من منبع التوفيق. فحتى هذه المرحلة حرموا منها، ولم يوفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يروا الحق حقاً، وإنما رأوا الحق تطرفاً وتعصباً ورجعيةً وتخلفاً وأصولية وإرهاباً.. إلى آخره. وممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن يستكبر عن أن يتبع هذا الحق، كحال اليهود الذين عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا القرآن كما يعرفون أبناءهم. وهل يضل الرجل عن ابنه؟! الجواب: لا يضل أبداً، فكذلك كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأن الرسول مرسل من عند الله، ومع ذلك كفروا جحوداً وحسداً واستكباراً! فليس معنى أن الإنسان يعرف الحق يصير مؤمناً، بل لابد أن ينقاد لهذا الحق، كما هو معروف في الشروط السبعة لشهادة (لا إله إلا الله). فالعقل الذي يضل عن توفيق الله لا يأخذ صاحبه إلا إلى الضياع والدمار. فقوله: (( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا )) يعني: بهذا التناقض، وهل يقوله عاقل؟ أو هل يأمر به عقل؟ وقوله: (( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) (أم) هنا بمعنى بل، والمعنى: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون)

    قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطور:33] أي: اختلق هذا القرآن من عند نفسه. قال تعالى: بَل لا يُؤْمِنُونَ [الطور:33] أي: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً؛ فلذلك يرمونه بتلك الفرى. وقوله سبحانه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:33] أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، وهذا كقوله: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، فليأتوا بحديث مثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34]: قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة، في قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، وفي سورة يونس في قوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38]. وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه، في قوله: ُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود:13]. وتحداهم هنا في سورة الطور بأن يأتوا بمثله كله، في قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34]. وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. وقد أطلق جل وعلا اسم الحديث على القرآن في قوله هنا: (( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ))، كما أطلق عليه ذلك في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]، وقال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [يوسف:111]. وقد وصف القرآن بأنه محدث، كما في قوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، وقال تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء:5]. وليس في هذا دليل للمعتزلة على ما زعموه من كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يستدلون على ذلك بكونه وصف بأنه محدث، والجواب: أن الحدوث هنا حدوث نسبي، يعني: أن القرآن في حد ذاته ليس حادثاً؛ لأنه صفة الله وكلام الله، ولا يمكن أن يكونه مخلوقاً، وإنما الحدوث بالنسبة إلى المخلوقين، بمعنى: أنه من الحدوث، وهو كون الشيء بعد أن لم يكن. فالقرآن العظيم حينما كان ينزل كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس، ولم يكونوا علموه من قبل، فهو محدث بالنسبة إلى الناس، ألا تراه قال: (( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ))، فقوله: (( مَا يَأْتِيهِمْ )) إشارة إلى هذا التجدد الذي هو بالنسبة إلينا نحن المخلوقين، فهو محدث إليهم حين يأتيهم. وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحدث لنبيه ما شاء، وإن مما أحدث لنبيه ألا تكلموا في الصلاة). قال أبو عبيد إمام اللغة: (محدث) أي: حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما علم الله ما لم يكن يُعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755980899