إسلام ويب

ألوان من الجودللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن بعض أنواع الجود وهي: الشجاعة والكرم والجاه، فتحدث في البداية عن الشجاعة وضرب أمثلة لشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة عن شجاعة علي، ومن علماء السلف عن شجاعة ابن حزم، ثم بعض أثرياء المسلمين رغم ما يمر بالمسلمين من مآسٍ، ثم تكلم عن الجود بالجاه وهو الشفاعة، فذكر مثلاً لها من أحواله عليه الصلاة والسلام، رغم انشغاله العظيم بأمور الأمة، والذي لم يمنعه من الشفاعة والاهتمام بأي فرد من أفراد الأمة، وقبل الختام تكلم الشيخ عن اقتداء الشيخ عبد العزيز بن باز بالنبي صلى الله عليه وسلم في شفاعته وخلقه.

    1.   

    الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم

    الحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وكشف الله تعالى به الغمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

    يحسب كثير من الناس أن القدوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تكون في جزئيات وتفاصيل الأعمال الظاهرة، ويغفلون عن أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال الباطنة، التي هي أعمال القلوب أعظم وأولى، فإن ربه جل وعلا وصفه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فأولى بالمسلم أن يقتبس من نور هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الخلق العظيم، ما يكون زاداً له في هذه الدنيا وسعادةً له في الآخرة.

    ومن الأخلاق التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام خلق الكرم والجود؛ حتى إنه لا يدخل الجنة بخيل، والسخي الكريم قريب من الله تعالى، وقريب من الناس والجنة، والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الجنة.

    وهكذا المسلم في قلبه إعراض عن هذه الدنيا، وإقبال على الآخرة، يتمثل في كرمه وجوده وسخائه، فلننظر كيف يكون الكرم، وكيف يكون البذل والجود، وكيف يكون العطاء.

    1.   

    جوده بنفسه عليه الصلاة والسلام

    بلا شك أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كريماً في بذل نفسه ومهجته وروحه في ذات الله عز وجل، حتى إنه أُوذي في الله ما لم يؤذَ أحد، حتى إن زعماء قريش أتوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجدٌ أمام الكعبة -في هذا المكان الطاهر المقدس، الذي تأمن فيه حتى الحيوانات- فذهبوا إلى جزور قد ذبحت بالأمس، فأخذوا سلاها ووضعوه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، فلم يرفع رأسه، حتى ذهب أحدهم إلى بنته فاطمة وأخبرها الخبر، فجاءت وأزالت السلا عن ظهر أبيها عليه الصلاة والسلام، وهي تسبهم وتبكي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: {اصبري يا بنية فإن الله مانع أباك} ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم واستقبل الكعبة وقال: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـعتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد، وفلان وفلان} وذكر سبعة، قال الراوي: فلقد رأيتهم والله صرعى في القليب -قليب بدر- ذبحوا في معركة بدر كما تذبح الشياه، ثم جروا بعدما انتفخت جثثهم إلى القليب وألقوا فيه، وأتبعوا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

    وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول:{كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنـزل الله تعالى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]].

    وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة فزع وسمعوا أصواتاً فتوقعوا أن هناك هجوماً مباغتاً مفاجئاً على المدينة، فخرج الناس الشجعان والأبطال الأشاوس، خرجوا بعدما استعدوا بلأمتهم وركبوا خيولهم، فلما خرجوا خارج المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقيهم راجعاً، وقد أتى على فرسٍ جوادٍ قد رجع واطمأن من الأمر، وقال: { ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً } هذا الفرس الذي عليه الصلاة والسلام كالبحر يهتز ويسرع ويعدو براكبه: {وما هناك من فزع فلن تراعوا فعودوا إلى بيوتكم} فعادوا فسبقهم صلى الله عليه وسلم إلى الاطمئنان على وضع المدينة.

    لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة حنين فقد ذهب المسلمون وعددهم اثنا عشر ألفاً، في عماية الصبح والليل والظلام، وقد لقيتهم قبيلة بني نصر وهوازن وهم من العرب الذين يملكون قوة وقدرة في الرماية عجيبة، وقد استعدوا للمسلمين، فلما نـزل المسلمون في الوادي، لقيتهم هوازن بسيل من السهام، فضربت المسلمين ضربة مباغتة ومفاجئة، ففروا كلهم - الإثنا عشر ألفاً- انهزموا وهربوا، أما محمد عليه الصلاة والسلام فظل ثابتاً في موقعه كأنه جبل لا يتزحزح، ولم يثبت معه إلا أربعة فقط هم العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا عباس ناد أصحاب الشجرة، فناداهم العباس فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظلوا يقاتلون دونه، فثبت صلى الله عليه وآله وسلم يوم فر الأبطال الشجعان، وكان لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يتأخر إلى الوراء أبداً، بل يهجم على الموت فيفر منه، وما ذلك إلا لإيمانه المطلق بأن الأعمار والآجال بيد الله: {وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ولهذا ربى وعلم وأعدَّ أصحابه على الشجاعة.

    فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول:

    قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب

    أطعن أحياناً وحيناً أضرب     إن حماي لحمي لا يقرب

    فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول:

    أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره

    نكيلكم بالصاع كيل السندره

    (والحيدرة هو الأسد)فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه:

    أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا قُدِّر أم يوم قدر

    يوم لا قُدِّر لا أرهبه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

    انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر:

    يجود بالنفس إن ضن البخيل بها     والجود بالنفس أقصى غاية الجود

    واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نـزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر:

    يقرب حب الموت آجالنا     لنا وتكرهه آجالهم فتطول

    أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق:

    قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت     أقوالهم وأقاويل الورى محن

    فقلت هل عيبهم لي غير أني لا     أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن

    وأنني مولع بالحق لست إلى     سواه أنحو ولا في نصره أهن

    دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً     من مات من غيظه منهم له كفن

    1.   

    جوده عليه الصلاة والسلام بالمال

    وهناك لون آخر من ألوان شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم، أو من ألوان كرمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو: كرمه بالمال، وكرمه بالمال لون آخر لا يكاد يأتي عليه الكلام، حتى إنه ليصدق عليه قول القائل:

    هو البحر من أي النواحي أتيته     فلجته المعروف والجود ساحله

    تراه إذا ما جئته متهللاً     كأنك تعطيه الذي أنت سائله

    وقد خرج عليه الصلاة والسلام في يوم عليه بُرد لا يملك غيره، بُرد جميل أهداه إليه رجل فلبسه عليه الصلاة والسلام، فلما خرج به على أصحابه فرحوا بذلك وسرّوا؛ لأنه يسرهم أن يلبس مثل هذا عليه الصلاة والسلام، فجاء رجل فقال: { يا رسول الله: اكسني هذا -أعطني إياه- فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم ودخل بيته فخلعه، ثم خرج وأعطاه هذا الرجل فأقبل الناس عليه يلومونه ويعاتبونه ويقولون له: تعلم أننا فرحنا بهذا، وأنه لا يملك صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وتعلم أنه لا يرد أحداً سأله ثم تطلبه منه، قال: إنني ما طلبته منه حتى ألبسه إنما طلبته منه عليه الصلاة والسلام حتى يكون كفني (أي حتى أكفن فيه إذا مت) قالوا: فكفن فيه رضي الله عنه وأرضاه }.

    فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وربما استدان فأعطى، وربما اشترى شيئاً فدفع أضعاف ثمنه، وربما اشترى شيئاً فرد الثمن ورد المشترى نفسه، كما فعل مع جابر رضي الله عنه: {حينما اشترى منه جمله ثم أعطاه القيمة، وقال: خذ جملك ودراهمك فهو لك} فأعطاه الجمل والدراهم صلى الله عليه وآله وسلم.

    جوده في زكاة البحرين

    في يوم من الأيام جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أموالٌ كثيرة من الذهب والفضة، من البحرين، فجاءه الأنصار وصلوا معه صلاة الفجر ينتظرون منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآهم تبسم وقال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم } ثم أعطاهم صلى الله عليه وآله وسلم.

    وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.

    جوده في غنائم معركة حنين

    وفي معركة حنين آل الأمر إلى انتصار المسلمين فغنموا أموالاً كثيرةً جداً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقوام من الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فهم مسلمون يحتاجون إلى تأليف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة من الإبل، أعطى عيينة بن الحصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة أخرى، وأعطى العباس بن مرداس خمسين، فجاء العباس بن مرداس وهو شاعر فحل؛ وقال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً له لماذا تعطيني خمسين وتعطي هؤلاء مائة فقال: يا رسول الله!

    أتجعـل نهـبي ونهب العبيد     بين عيينة والأقرع

    أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا:

    فما كان حصن ولا حابس      يفوقان مرداس في مجمـع

    يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي:

    وما كنتُ دون امرئ منهما     ومن يخفض اليوم لا يرفع

    آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام.

    وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم:

    ما قال "لا" قط إلا في تشهده     لولا التشهد كانت لاؤه نعم

    حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.

    بخل بعض الناس في الإنفاق

    قارن جود النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال كثير من الأثرياء والموسرين من المسلمين اليوم، الذين مد الله تعالى لهم في الأجل، ووسع لهم في الرزق، وأعطاهم وأكثر جل وعلا.

    ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء.

    ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً.

    فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

    إخلاف الله للمنفقين

    فيا أيها الأخ الكريم الذي أعطاك الله من الرزق وألوانه ما أعطاك! حتى لو لم تكن من الأثرياء الكبار، لو كنت من أصحاب الدخل المتوسط، ضع بين عينيك أن المعطي الكريم في السماء، وأن موزع الأرزاق في السماء، وأنه إذا علم من قلبك أنك كريم جواد سوف يوسع لك في الرزق، وكلمة الله تعالى لا تخلف أبداً.

    وفي صحيح مسلم -رحمه الله- ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة: {رجل من بني إسرائيل، كان يمشي فرأى سحابة في السماء، فسمع صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان -ينص على شخص معين- فمشى هذا الرجل حتى رأى السحابة توسطت المزرعة فأفرغت كل ما فيها في تلك المزرعة، فدخل المزرعة فإذا رجل داخل المزرعة يسوي الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه هذا الرجل في السحابة، فقال: بالله عليك ماذا تصنع؟ قال: ماذا تريد بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السماء يقول: اسق حديقة فلان، فأحببت أن أعرف ماذا تصنع؟ قال: لا شيء، أنا عندي هذا البستان إذا خرجت غلته قسمتها ثلاثة أثلاث: ثلث آكله أنا وأولادي، وثلث أرده فيها، وثلث للفقير وابن السبيل والمسكين}.

    فلا توجد معجزة، والأمر واضح، فعرف أن الله تعالى سخر السحاب بل أرسل ملكاً مخصصاً يسوق السحاب إلى حديقة فلان بن فلان، لماذا؟ لأن هذا برنامجه، لماذا لا تجعل أيها المسلم برنامجك مثل برنامج صاحب الحديقة، ثلث ما يعطيك الله من المرتب إذا لم يكن عليك ديون تستغرق المرتب أو غيره، تصرفه في سبيل الله تعالى للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمجاهدين، وأعمال الخير من طباعة الكتب وطباعة الأشرطة والقيام بشئون الدعوة إلى الله، ومساعدة المسلمين المحتاجين من الفقراء والمستضعفين والمنكوبين والمهاجرين وغيرهم، ممن يعانون اليوم ألواناً من الفقر لا يعلمها إلا الله.

    وضع فقراء المسلمين

    ألا يسوؤك أن تعلم أن أفقر الشعوب على الإطلاق هي الشعوب الإسلامية، حتى إنني سمعت بنفسي تقريراً عن بعض الأماكن التي يوجد فيها مسلمون، يهربون من جحيم الحروب فيقام لهم ملاجئ، يقول: إن هذه الملاجئ فيها من البؤس والمرض والجوع والعطش ما الله به عليم، حتى إنهم يقفون طوابير لا يرى الإنسان نهايتها، ويجلس الواحد منهم في الطابور اثنتي عشرة ساعة، لا ينتظر ملابساً ولا خبزاً له ولأولده ولا علاجاً بل ينتظر جرة من الماء لا تكفيه ولا بعض اليوم، ثم يضطر من الغد ليقف في الطابور نفسه من أجل أن يحصل على حصة الغد من الماء، من هؤلاء؟ هؤلاء المسلمون، وأقسم بالله لو كانت هذه الشعوب التي تعاني هذا البؤس والفقر، من شعوب الصليب أو من شعوب اليهود، لوجدت المؤسسات الضخمة والدول والأعمال والأثرياء يقومون بجهود كبيرة، ويجمعون الأموال، ويخصصون العمارات، وقد رأينا النصارى يفعلون ذلك، وآلاف المؤسسات التنصيرية لا هم لها إلا إغاثتهم، بل إن النصارى يغيثون حتى هؤلاء المسلمين ولكن يعطونهم العلاج في يد، ويعطونهم الإنجيل في اليد الأخرى.

    فأين أنتم يا أثرياء المسلمين؟! وأين أنتم يا أنصاف الأثرياء؟! وأين أنتم يا أرباع الأثرياء؟! إنكم مسئولون، ما لكم لا تنصرون إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما يوجد في جيرانكم اليوم في هذه البلاد ولا أقول في غيرها، ربما يوجد الجياع كثيراً، وقد وقفنا على أحوال كثيرة من أحوال الجياع وقد يوجد في البيت عشرات من الرجال والنساء والأطفال ولا يوجد من يقوم عليهم أبداً، ولهم أحوال إذا سمعها الأثرياء قالوا: ما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا؛ لأن كل إنسان يقيس على نفسه، يرى أنه يعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة ونِعَم، وبيت واسع، فيظن أن الناس مثله، ولا يتحسس آلام ومصائب هؤلاء المسلمين المحتاجين هنا وهناك.

    1.   

    جوده وكرمه بجاهه صلى الله عليه وسلم

    لون ثالث من ألوان الكرم الذي يجب أن نقتدي فيه بسيد الكرماء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: كرمه صلى الله عليه وسلم بالجاه، حيث كان يبذل جاهه فيما ينفع الناس، فيشفع حتى إنه يشفع صلى الله عليه وسلم أحياناً في أمور قد يظن الإنسان العادي أنها لا تحتاج مثل هذا، خذ مثالاً:

    يوماً من الأيام كانت هناك جارية اسمها بريرة -أمة- وهذه الجارية لها زوج اسمه مغيث، فعتقت بريرة فلما عتقت رفضت زوجها هذا؛ لأنه عبد وهي حرة، فرفضته، وقالت: لا أريده. وكان شيخاً كبير السن، على حين أنه كان متعلقاً بها قد علقها فؤاده وأحبها، كأشد ما يكون الحب فلا يصبر بدونها أبداً، فلما رفضته أصابه من الهم والغم ما أصابه، حتى إنه يركض وراءها -كما في الصحيح- في شوارع المدينة ودموعه تنحدر على لحيته يريدها، فهذه الزوجة قد أحبها ولا يصبر بدونها، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: هذا حال مغيث. فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـبريرة فجيئ بها إليه، فشفع لـمغيث وقال: {لماذا لا تعودين إلى مغيث؟ فإن شأنه وحاله كذا وكذا وكذا، ارحميه وعودي إليه، قالت: يا رسول الله هل تأمرني -أي: هل هو أمر إلزام؟- قال: لا. -ليس أمر إلزام- إنما أنا شافع قالت: لا حاجة لي به}. فهي لا تحبه، فهذا من شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم ببذل جاهه فيما ينفع الناس. وطالما بذل جاهه صلى الله عليه وآله وسلم في أشياء كثيرة مما يحتاج إليها المسلمون خاصة من الضعفاء.

    الجود بالجاه في هذه الأيام

    وما أكثر ذوي الجاه اليوم في مجتمعاتنا، ممن لهم جاه قد يكون جاهه بسمعة، وقد يكون بمكانة اجتماعية، أو بوظيفة، وقد يكون بمال وغنى وثراء، فهذا الجاه هل تعلم أن له زكاة مثلما للمال زكاة، وزكاة هذا الجاه أن تشفع شفاعة حسنة، فيكون لك كفل منها، فتشفع لمن ليس له جاه، فتشفع لهذا فيتوظف، ولهذا فيساعد، ولهذا فيرفع عنه ضُراً أصابه، بل تشفع لهذا لإزالة الظلم الذي لحق به، وفي أحيان كثيرة يقع على الناس ألوانٌ من المظالم لا يمكن أن ترفع عنهم إلا بشفاعة الشافعين، فماذا يضيرك أن تكون شافعاً في رفع ظلم عن مظلوم، أو إزالة ضر عن مضطر، أو إيصال حق إلى صاحبه، ويكون لك كفل من هذه الشفاعة، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    1.   

    جوده بالوقت عليه الصلاة والسلام

    ومن ألوان جوده وكرمه صلى الله عليه وآله وسلم، جوده وكرمه بوقته، فالوقت الذي كان يستغرقه عليه الصلاة والسلام في جلائل الأعمال، راكعاً ساجداً أو قائماً أو عابداً أو ذاكراً لله تعالى، كان يبذل هذا الوقت فيما يحتاجه المسلمون، حتى إنك تتعجب! الآن الواحد منا ربما لا يكون عنده عمل أصلاً، إنما يتعلق ببيته ووظيفته، ومع ذلك لو طلب منه أحد ساعة أو نصف ساعة؛ قال: والله يا أخي أنا مشغول جداً، وليس عندي وقت. ماذا عندك؟! هل أنت تدير امبراطورية من الامبراطوريات؟! وهل عندك شركات عالمية؟! الأمر أهون من ذلك، ولكن مع هذا تجد وقت الإنسان منا مبرمجاً إلى حدٍ بعيد، بحيث تجده يعتذر عن أقل الأمور.

    أما محمد صلى الله عليه وسلم النبي المختار الذي عنده من الأعمال الشيء العظيم حتى إن عائشة رضي الله عنها تقول: [[ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان أكثر صلاته وهو جالس، بعدما حَطَمَهُ الناس]] لاحظ كلمة "حطمه"، من كثرة مجيئهم له دائماً وأبداً، هذا وفد يأتي وهذا وفد يخرج، وهؤلاء يسلمون، وهؤلاء يتحدثون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء يحاورونه على أمر من الأمور، وهذا جيش يذهب، وهذه سرية تأتي، وهذه أمور وجلائل من الأعمال كان يتولاها بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم.

    ومع ذلك كانت الجارية السوداء تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتأخذ به إلى أي سكك المدينة شاءت فتحدثه بأمورها، ماذا تتصور أنها ستقول للرسول عليه الصلاة والسلام؟! خادمة في أحد البيوت سوف تتكلم عن همومها الشخصية وأن أهل البيت يضايقونها، وأن فلانة قالت لها كذا، وفلان قال لها كذا، وهذا آذاها، ومرة عندما أتت بالطعام عاتبوها، وقالوا: لم تصنعي الطعام صناعة جيدة، وأشياء وتفاصيل لا تعني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، ولكنه كان حليماً واسع الصدر كريماً في وقته، فيضع أذنه لها صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستمع إلى كل ما تقول، فإذا فرغت حاول أن يعالج همومها وآلامها ومشاكلها بما يستطيع.

    جود الشيخ ابن باز بوقته

    وقد رأينا نماذج من ذلك لأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من بينهم إمام من أئمة أهل السنة والجماعة في هذا العصر، وهو سماحة الشيخ الوالد الكبير عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فإنني قد رأيت عليه أثراً من أثر الاقتداء بالنبوة كبير، في كل مجال خاصة في هذا الجانب، فعلى الرغم أن الرجل مشغول بجلائل الأعمال، تأتيه مشاكل المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، ووفود من أنحاء الدنيا، ومراسلات لا تنتهي، واتصالات عجيبة، ويتصل به الناس على كافة مستوياتهم، وكل إنسان قد يكون عنده قضية جزئية يتصل بالشيخ، هذا توقف عنه -مثلاً- الكهرباء، اتصل بالشيخ عبد العزيز وهذا عنده مسجد اتصل بالشيخ عبد العزيز، وهذا عنده مشكلة اتصل، والنساء بل كبيرات السن في بيوتهن تتصل بالشيخ، وبعضهم لا يثق إلا بالشيخ نفسه، حتى لو كان عندها استفتاء في قضية معروفة يعرفها صغار طلبة العلم، قالت: لا يمكن إلا الشيخ، وتأتيه قضايا ومشاكل اجتماعية، كقضايا الطلاق، وأمور وأعاجيب، ووالله الذي لا إله غيره، إننا أحياناً نجلس عنده فيأتيه الناس وتأتيه الاتصالات، فتستغرب من طول نفسه وطول باله، ويبدأ الناس يتكلمون بتفاصيل، ويطيلون ويعرضون ويعيدون الكلام ومرة ومرتين وثلاث، حتى إنك أنت وأنت أجنبي لا علاقة لك بالأمر ينفد صبرك وتحترق أعصابك، ما هؤلاء الناس؟!

    لكن الشيخ لا يخرج عن طوره أبداً، بل يتحلى بالحلم وبالصبر، وقد يأتيه أناس سيئوا الأخلاق، حتى إنه ربما أتاه إنسان فأمسك به، وقال له يا شيخ: اتق الله، فبدل أن الشيخ ينتفض ويضطرب ويغضب عليه، ويقول: ماذا رأيتني أفعل؟ أو ابتعد عني يا سيئ الخلق، تجد الشيخ يطأطئ رأسه ثم تنهمل دموعه على وجنتيه، هذه والله العظيم أخلاق أنبياء، وهي شهادة لله.

    ولا يعرف ذلك إلا من عاشر الشيخ وعرفه عن كثب وعن قرب، فأسأل الله في هذه الساعة المباركة أن يطيل في عمره في مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يختم لنا وله بخير، وأسأله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

    اللهم اجمعنا في جناتك جنات النعيم، مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    النظر إلى الحرام

    السؤال يقول: إنه مبتلى بالنظر الحرام -ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ونسأل الله تعالى العافية- وقد عالجت نفسي كثيراً، لكنني اتركه يسيراً ثم يسول لي الشيطان فأرجع، فأرجو أن تبينوا لي الأسباب التي أترك بها النظر ومن ثم أغض بصري، وأنا -بحمد لله- ملتزم وأحفظ القرآن -ولله الحمد والمنة- لكن تساهلي بالنظر أقلق راحتي لا سيما في هذا الشهر الكريم والله المستعان، وأرجو أن تدعو لي في هذا المكان المبارك، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أما بالنسبة للدعاء فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك غض البصر عن الحرام، وأن نستخدم كل أعضائنا وجوارحنا فيما يرضيه ويقربنا إليه إنه على كل شيء قدير، وغض البصر هو من الأمور التي في البداية تكون سهلة هينة، فإن العبد ما دام غاضاً بصره لا ينظر إلى ما حرم الله فإن الأمر عليه يسير، لكن إذا أطلق بصره في ذلك وبدأ ينظر في وجوه النساء والمردان، وإلى الصور، واسترسل فإنه لا يزيده ذلك إلا شدة وولعاً وتحرقاً وتحركاً في شهوته كما قال الشاعر:

    والمرء ما دام ذا عين يقلبها     في أعين العِين موقوف على الخطر

    يضر مهجته ما سر مقلته     لا مرحباً بسرور جاء بالضرر

    كل الحوادث مبداها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

    كم نظرة فتكت في قلب صاحبها     فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    فعلى الإنسان الذي لم يبتلَ بهذا الأمر أن يعتني عناية تامة بغض بصره؛ لأنه ربما نظرة واحدة تهلك صاحبها، وعندي في ذلك من الرسائل من بعض من ابتلوا بهذا؛ شيء يدمي له القلب، وتتقطع له نياطه، وتدمع له العين، فمن عوفي من هذا؛ فليحمد الله، وليعتني عناية تامة بغض بصره، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يسارع بالعلاج، مع معرفته بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا شفاء إلا من عند الله، وأن نواصي العباد كلها بيد الله تعالى.

    فليلجأ إلى الله تعالى في أوقات الدعاء وأوقات الإجابة كالأسحار، وعقب صلوات الفريضة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام، وفي سجوده وغير ذلك، وليضرع إلى الله تعالى بعين باكية، وكلمة صادقة أن ينقذه الله تعالى من هذا الأمر، ثم عليه أن يتخذ الأسباب المعينة على ذلك، ومن أهمها:

    تجنب مجالسة الأشرار الذين قد يزينون له هذا الأمر، فإن صحبة الأشرار شر تورد صاحبها الموارد، وعليه أن يصحب الأخيار الذين يعينونه على الطاعة وغض البصر كما قال الشاعر:

    إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم     ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

    كما أن عليه أن يدمن النظر ويمعنه في كتاب الله تعالى، ويتملاه ويقرؤه، فإن فيه غناء وشفاء وعافية، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وليقف عند قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] زكاة الباطن هي التي بها النجاة والفلاح قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].

    وأنت إذ تصلي أو تصوم أو تزكي، فإنما تطلب زكاة نفسك، فكيف تهدم هذا كله بنظرة حرام، قد توردك إلى تحريك شهوة، ثم إلى الوقوع في فاحشة؟ وأنصح الأخ -أيضاً- بتجنب المواقع والأماكن التي يوجد فيها ما يدعو إلى النظر، كالخروج إلى الأسواق مثلاً، خاصة أماكن تجمعات النساء، ومثله اقتناء المجلات الخليعة، أو الأشرطة والأفلام التي تعرض المسلسلات الهابطة، أو تعرض الحفلات الماجنة والرقصات الخليعة، أو العروض السينمائية الضارة، التي هي مما يضر ولا ينفع.

    وعليه أن يتقي الله تعالى فيما علَّمه من كتابه؛ لأن الإنسان إن لم ينصاع لأوامر القرآن، فجزاؤه أن يسلبه الله تعالى حفظه، فليتق الله هذا الإنسان فيما أعطاه الله تعالى وعلمه.

    أسهم الشركات المساهمة

    السؤال: أسهم الشركات هل يجوز شراؤها وما حكم أرباحها، نرجو الإفادة عن ذلك؟

    الجواب: الشركات -خاصة الشركات الكبرى المساهمة المعروفة- غالبها يدخل عليها الربا، من جهة أنها تودع أموالها في البنوك مقابل فوائد بنكية، وتوزع هذه الفوائد على المساهمين، حتى إن بعض الشركات الكبرى الاستثمارية قد وزعت على المساهمين أرباحاً قبل أن تعمل، وإنما هذه الأرباح التي وزعتها هي نتيجة الفوائد الربوية، التي أخذتها من البنوك، والله تعالى قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] ودرهم تدخله جيبك من الربا، من الممكن أن يمحق الله تعالى به بركة مالك كله كما قال تعالى: مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].

    فيا أيها الذين آمنوا اسمعوا إلى ما قال ربكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

    لكن بعض الشركات الكبيرة أيضاً ليس فيها حكم صريح بأن نقول: إن المشاركة أو المساهمة فيها محرمة، ولكننا ننصح الإنسان بأن يتجنبها لما فيها من الشبهة، فإن كان ولا بد، فننصحه -أيضاً- بأن يخرج جزءاً من أرباحه يتخلص منها، نصف الأرباح أو نحو ذلك، يتخلص منه استبراءً لدينه وعرضه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه}.

    ترك صلاة الفجر مع الجماعة

    السؤال: زوجي رجل صالح؛ إلا أنه في بعض الأحيان لا يصلي في المسجد، وأيضاً ينام عن صلاة الفجر، وضقت ذرعاً في نصحه ولا يفيق، فما حكم حياتي معه؟

    الجواب: ما دام أنه رجل صالح، معناه أنه محافظ على الصلوات مع الجماعة إلا ما ذكرت، فهذا البقاء معه لا مانع منه ولا بأس به، خاصة إذا كنت أم أولاد، ولكنني أنصحك:

    أولاً: بالبقاء معه.

    ثانياً: بأن تستمري ولا تيئسي من النصح أو تضيقي ذرعاً، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما ضاق ذرعاً بهم، حتى أعلمه الله تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] فحينئذٍ دعا عليهم كما هو معروف.

    فلا ينبغي للإنسان أن يضيق ذرعاً من النصيحة سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فربما أن الكلمة التي كتب الله هدايته بسببها لم يسمعها حتى الآن، فاستمري معه بالنصيحة، والكلمة الطيبة، ولا تيئسي ولا تفتر همتك في ذلك، واحرصي على إيقاظه لصلاة الفجر ما استطعت؛ ليصلي مع الجماعة، وذكريه بما ذكر الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] وذكريه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً}[متفق عليه] وذكريه ما قاله أنس وغيره رضي الله عنه: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] وذكريه بما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن صلاة الجماعة: [[و لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]].

    فإن لم يفلح نصحك معه للصلاة مع الجماعة فلا أقل من أن توقظيه ليصلي في الوقت ولو في بيته، أي قبل طلوع الشمس، فإن أخر الصلاة إلى بعد وقتها، فإن ذلك كبيرة من كبائر الذنوب يخشى أن توبقه وتحبط عمله.

    ولا تيئسي من نصحه ما استطعتِ، وأيضاً لا تبخلي عليه بالدعاء في سجودك أن يهديه الله تعالى ويصلحه وقولي: اللهم اصلح لي زوجي.

    حكم إخراج الزكاة للأخت

    السؤال: هل تحق الزكاة لأختي حيث إن زوجها عاطل مع أنه قادر على العمل، وما الحكم في حالة أنه يعمل لكن دخله محدود جداً؟

    الجواب: إذا كان زوجها فقيراً وكانت هي أيضاً فقيرة ومحتاجة، فإنه يجوز لك -إن شاء الله- أن تعطيها زكاة مالك.

    خروج سائل مع البول في رمضان

    السؤال يقول: شاب تأتيه دواعي الشهوة وإذا جاء الإنـزال لا ينـزل، وإذا أراد قضاء الحاجة نـزل مع البول شيء من المني، فالسؤال: هل عليه غسل الجنابة؟ وهل عليه قضاء الصوم؟ وهل عليه إعادة الصلاة؟ مع أنه لا يذكر وقتاً صلى وهو على هذه الحالة؟

    الجواب: أولاً: لا بد من التثبت أن الذي ينـزل مع البول هو المني؛ لأن نـزول المني ليس بالخفي، فهو شيء ثقيل غليظ شديد البياض، وكذلك يخرج بقوة دفق وبشهوة، ويعقبه فتور في بدن الإنسان فإذا تحققت هذه الشروط في الإنسان فإن عليه أن يغتسل غسل الجنابة، وعليه قضاء الصوم -أيضاً- إذا حدث هذا في نهار رمضان، وإذا صلى دون أن يغتسل فعليه القضاء.

    أما إذا كان يخرج مع البول شيء آخر غير هذا، مثل المذي وهو سائل أبيض رقيق، وهذا يخرج عند بداية تحرك الشهوة، فلا يوجب الغسل، وإنما ينبغي على الإنسان أن يغسل ذكره وأنثييه -أي يغسل فرجه- وكذلك يتوضأ وضوءه للصلاة.

    كتابة القدر

    السؤال: ما هي قضية الكتابة؟

    الجواب: الكتابة يعني القدر، الله عز وجل كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، ثم أيضاً كل إنسان إذا كان في بطن أمه فإن الله سبحانه وتعالى، يبعث الملك فيأمره بأربع، بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، كل هذا ثبتت به الأحاديث.

    تدريس الكفيف للنساء

    السؤال: ما حكم تدريس الرجال المكفوفين لطالبات كلية التربية، مع العلم أنهم يجلسون مع الطالبات لإلقاء المحاضرات في القاعة نفسها دون حجاب أو ستار، وما حكم تكلم الطالبة معه والنظر إليه بغرض السؤال والانتباه للشرح؟

    الجواب: على كل حال الأصل أن يدرس المرأة امرأة مثلها؛ لأن هذا أبعد عن الفتنة وأضمن ليكون الجو التعليمي جواً محفوظاً وبعيداً عن الإثارة، وبعيداً عن التحفظ الذي قد يعوق الطالبة بسبب الحياء عن التعلم الصحيح، وهناك جهود بحمد الله قام بها مجموعة من العلماء من هذا البلد وغيره؛ لمخاطبة المسئولين في اقتصار التعليم للطالبات على المدرسات، وهذا أمر بحمد الله تعالى ميسور، ونسأل الله تعالى أن يتمم ذلك بخير.

    فتوى ابن باز في حكم التلفاز

    ملاحظة: هناك فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم التلفاز واقتنائه، وهي فتوى موجودة في مجموعة فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (3/227) طبع رئاسة الإفتاء بتاريخ 21/4/1410هـ، من شاء أن يراجعها بالإمكان أن يراجعها في موضعها.

    غش الواجب المدرسي

    السؤال: هل يجوز للطالبات أن يتناقلن الواجب المنـزلي فيما بينهن دون علم المعلمة؟

    الجواب: لا. ينبغي على كل طالبة أن تؤدي الواجب بنفسها، أما نقل الواجب من طالبة أخرى فهذا نوع من الغش، الذي يدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام: {من غشنا فليس منا} رواه مسلم).

    أسأل الله تعالى أن يجعل هذا من العلم النافع المقرب إليه، وأصلي على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    والحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718653

    عدد مرات الحفظ

    754711960