لما كان الحب هو أصل الدين الإسلامي، ويجب على العبد أن يخلصه لله جل وعلا، نبه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على وجوب إخلاص الحب لله وحده، وأن الحب لله جل وعلا يكمل بتوابعه التي تتبعه، كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة أهل الطاعة الذين يطيعون الله جل وعلا، ويكون حبهم لله فقط؛ لأن الذي يحب لذاته هو الله وحده جلا وعلا، أما غيره من سائر الخلق فهم يحبون بما يقع على أيديهم من الطاعات والإحسان أو غير ذلك.
ثم المحبة قد تختلط على كثير من الناس، فلا يميز بين الواجب الذي يتعين أن يكون لله وحده وبين ما يكون للعباد أو يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يجعل كثير من الناس المحبة الواجبة لله مشتركة بين الله وبين خلقه فيقع في الشرك.
والاشتراك في المحبة يكون من الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين الإسلامي، وذلك أن الباعث على العمل هو الحب، بل الباعث على كل شيء والمحرك للبدن وللجوارح هو الحب والإرادة، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يجب أن يحب وحده، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: (أحبوا الله من كل قلوبكم) يعني: تكون المحبة خالصة لله جل وعلا.
القسم الأول: محبة الشفقة والحنو والرحمة، كمحبة الولد الصغير، ومحبة الضعفاء وما أشبه ذلك، فهذه ليس فيها ضير على المحب، بل يثاب على ذلك.
القسم الثاني: محبة تقدير وإجلال، كمحبة الوالد، ومحبة من يقدره.
القسم الثالث: محبة الاشتراك، كمحبة الزمالة أو المصاحبة في عمل، أو في سفر، أو في مسكن، أو ما أشبه ذلك، وهذه تقع حتى للحيوانات بعضها مع بعض، وهذه الأمور الثلاثة لا تستلزم الذل والخضوع والتعظيم، يعني: أنها ليست محبة عبودية، بل هي محبة لهذه الأمور المذكورة، هذا القسم من أقسام المحبة وهذه التي تكون في الخلق.
أما محبة العبودية -وتسمى المحبة الخاصة- فهذه يجب أن تكون لله جل وعلا، وهي التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فلا يجوز أن يقع لمخلوق من المخلوقات محبة من هذا النوع، هذه المحبة تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فإنها إذا وقعت لمخلوق فتكون محبة عبادة، ويكون من وقعت منه مشركاً بالله جل وعلا.
وهذا الذي أنكره الله جل وعلا على المشركين في الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] إلى آخر الآية، وكذلك الآيات التي بعدها.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم ].
هذا قول مرجوح، الراجح القول الثاني، وهو أن الذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين لله، هذا هو القول الصحيح وهذا مبني على قولين في أول الآية، لأن قوله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، (يحبونهم كحب الله) يعني: أن المشركين يحبون الأنداد كمحبتهم لله، فصارت المحبة مقسمة قسمين: قسم منها لله، وقسم منها للأنداد، وهذا هو الشرك الأكبر، فهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا، وهذه المحبة محبة عبادة، وهذا الذي جعلهم خالدين في النار، وهذه المحبة هي التي يلوم المشركون عليها أنفسهم، ويلوم بعضهم بعضاً إذا كانوا في النار، ويقولون كما أخبر الله عنهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98]، يخاطبون أندادهم وآلهتهم بهذا الخطاب يقولون: (تالله إن كنا في ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) يعني: سووهم في المحبة، (برب العالمين) يعني: نحبكم كما نحب رب العالمين، فالآية تدل على أنهم يحبون الله، ولكنهم شركوا في محبة الله الأنداد؛ فصاروا بذلك مشركين، وليس معنى ذلك أن المشركين يحبون الأنداد كمحبة المؤمنين لله، هذا قول باطل، وقد قيل هذا في الآية، ولكنه في الواقع قول ضعيف.
ثم ركب على هذا ما في آخر الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، يعني: الذين أمنوا حبهم أشد من حب أصحاب الأنداد لله، وليس من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، وهذا قول ذكر في تفسير الآية، ولكنه قول ضعيف.
والقول بأن محبة المؤمنين لله أشد من محبة الكافرين لله يدل على أن المشركين يحبون الله حباً كثيراً، ولكنه حب صار فيه شركة، وهو الشرك الذي جعلهم كفاراً، وجعلهم في النار.
فدلت الآية على وجوب إخلاص المحبة لله، وأنه يجب أن تكون المحبة لله وحده، ولا يكون معه مشارك فيها مهما كان، وسيأتي أنه فرض على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لولده ووالده وماله، ومن نفسه أيضاً، ومن الناس أجمعين.
نقول: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرع عن محبة الله، يعني: يحبه لله ومن أجل الله، يحبه لأن الله يحبه، يحب في الله ولا يحب مع الله، وإنما يحبه لأن الله أمر بحبه؛ ولأنه قام بما يجب عليه لله جل وعلا، فمن لازم محبة الحبيب أن تحب ما يحبه.
وكذلك محبة عباد الله المؤمنين وأوليائه وأتقيائه، يحبون لله وفي الله، ومن أجل الله جل وعلا، وليست محبة مع الله، أما المحبة مع الله فتكون محبة فيها التعظيم والذل والخضوع والعبودية، وهذه لا تجوز أن تكون إلا لله وحده كما سبق.
قال الشارح رحمه الله: [ ثم روى عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم آلهتهم. انتهى ].
قلنا: هذا قول ضعيف.
قال الشارح: [ والثاني: والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله ].
قلنا: هذا هو القول الصحيح، وهو الصواب، أما الأول فضعيف.
قال الشارح: [ فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة، والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، فإن فيها قولين أيضاً.
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ].
القول الثاني باطل؛ لأنه ليست محبة المشركين لأندادهم كمحبة المؤمنين لله، هذا شيء معروف، وإن كانت محبتهم فيها ذل وخضوع وتعظيم، ولذلك صارت عبادة، ولكنها ليست كمحبة المؤمنين لربهم تعالى وتقدس.
قال الشارح: [ ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم ].
هذا فيه تناقض، كيف تقول مثلاً: إنهم يحبون أندادهم كمحبة المؤمنين لله، ثم تقول: إن محبة المؤمنين أشد وأعظم؟! يصير الكلام متناقضاً أوله مع آخره، وهذا يدل على ضعفه.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وهذه تسمى آية المحنة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] ].
يعني: أنهم امتحنهم الله بهذه الآية، وجازوا الامتحان حين امتحنهم بذلك، فدليل المحبة الاتباع، فمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فعلامة ذلك أنه يتبع سنته، ويقتفي أثره، ويحرص على ذلك أشد الحرص.
أما إذا كان يدعي أنه يحبه وهو مخالف لسنته، فهذه دعوى، وكذلك من يزعم أنه يحب الله فعلامة ذلك أنه يطيع أمره ويجتنب نهيه، فهذه علامته.
فليست الدعوى مقبولة إلا بدليل، ودليل محبة الله الطاعة والاتباع، وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فالدعاوى لا تفيد، فاليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، هكذا يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، ولكنها دعوى غير مقبولة، لأن الواقع ينافيها، لأنهم عصاة كفرة.
وكذلك الذين يزعمون من هذه الأمة أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم، يقول: لابد أن يبرهن المحب للرسول صلى الله عليه وسلم محبته، وبرهان ذلك اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وطاعة أمره، والابتعاد عما نهى عنه، هذا هو الدليل على المحبة، أما إذا كانت المحبة مجرد تقليد أو مجرد دعوى أو على شيء من أمور الهوى أو من الأمور التي تشتهيها الأنفس؛ فهذا ما يجدي شيئاً ولا ينفع.
وهذه الآية التي في سورة آل عمران: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] تسمى آية المحنة؛ لأن سبب نزولها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية لتكون علامة للمحب: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] يعني: إن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو العلامة التي تصحح دعوى المحبة.
قال الشارح: [ فأنزل الله تعالى آية المحنة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم].
ومحبة المرسل تكون تابعة لها.
إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين، قيل: معناه: أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة (على)، قال عطاء رحمه الله: للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] ].
قوله: (أشداء على الكافرين) ما ذكرها الشارح لظهورها ووضوحها، وتكلم على كونهم (أذلة على المؤمنين) يعني: يرحمونهم ويوالونهم ويحبونهم، (وأعزة على الكافرين) يعني: أنهم أشداء عليهم، وغلظاء عليهم، يبغضونهم ويكرهونهم لأنهم كفروا بالله جل وعلا، ويعادونهم أشد المعاداة ولو كانوا من أقربائهم في النسب، كما قال الله جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
قالوا: إن هذه الآية نزلت في بعض الصحابة مثل أبي عبيدة بن الجراح وغيره الذين قتلوا بعض أقربائهم يوم بدر، ومنهم من تبع أباه ليقتله لأنه كان مع الكافرين، فنزلت هذه الآية؛ ولهذا قال: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] يعني: أن الذي دعاهم إلى مقاتلة أقربائهم أنهم آمنوا بالله جل وعلا، وعادوا الكفار في الله جل وعلا.
قال الشارح: [ العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان؛ وذلك تحقيق دعوى المحبة ].
العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، فذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب ].
يعني: عمل عملاً زائداً وهو طلب المرضاة باتباع الأمر واجتناب النهي.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإن تكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها ].
المحبة قسمت أقساماً كما هو معروف في لغة العرب، فلها أول، ولها وسط، ولها آخر، فأولها: الإرادة، وهي الميل إلى المحبوب بإرادته، وهي دون العلاقة التي تغني أن يتعلق قلبه به، ثم الصبابة وهي: أن ينصب القلب إلى المحبوب مثل انصباب الماء في منحدره، ثم المودة وهي: خالص الحب، ثم الشغف وهي: أن تصل المحبة إلى شغاف القلب وتتغلغل فيه، ثم بعد الشغف العشق وهو: الحب الذي فيه خطر على الإنسان، ولكن مثل هذا ما يوصف الله جل وعلا به، ولا يجوز أن يقول العبد: أنا عاشق لله؛ لأن العشق محبة فيها شهوة، وهذه لا يجوز أن يوصف بها الله جل وعلا أو تكون للعبد في الله تعالى.
ثم بعد ذلك التتيم وهو التعبد، ثم الخلة، وهي نهاية المحبة، ومعناها أن الحب تخلل جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه مكان؛ ولهذا الله جل وعلا ما اتخذ خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما؛ لأنهما اللذان كملا المحبة لله جل وعلا، وغيرهما لا يقدر على ذلك.
ولا يجوز أن يوصف الله جل وعلا بأقسام هذه المحبة كلها، وإنما يوصف بما ورد به النص، فالذي ورد به النص يوصف به جل وعلا وتقدس؛ لأن صفاته تتوقف على النص، فما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أثبت ووصف به وسمي به وإلا لا يجوز.
قال الشارح رحمه الله: [ وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد ، قال أبو بكر : جرت مسألة في المحبة بمكة ـأعزها الله بأيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله ].
أحدهما: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدته وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها ].
هذه التي ذكر من أسباب تنمية المحبة لله وإيجادها في القلب، وهي:
ثم إن المحبة هي أصل الدين الإسلامي؛ لأن محبة الله هي: أن يألّه ربه، ولا يكون في قلبه آلهة يألهها غير الله جل وعلا، والتألّه قد يتفاوت، ولكن محبة الله التي تتضمن الذل يجب أن تكون خالصة، لأن العبادة هي امتثال الأمر مع غاية الذل وغاية التعظيم، هذه هي العبادة، فمحبة الله عبادة، ولابد أن يكون الإنسان عارفاً لذلك وممتثلاً له، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا كان في القلب محبوب يزاحم محبة الله جل وعلا أو يقدم عليها فمعنى ذلك أن الإنسان لم يخلص.
وأهل المحبة الخالصة هم الذين لا تمسهم النار ولا يعرضون عليها، بخلاف الذي فيهم شائبة فلابد من تطهيرهم أو أن يبقوا في النار؛ لأن الذين أشركوا بهذه المحبة هم المشركون كما سبق في الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] يعني: أنهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا.
والند: هو كل ما كان مقصوداً بشيء من التعظيم أو الذل أو الحب الذي يكون فيه الخضوع، ولا يلزم أن يكون الند صنماً أو يكون رجلاً، فالند قد يكون مالاً يقدمه على محبة الله، وقد يكون شهوات، وقد يكون رئاسة، وقد يكون معنى معلوماً.
فالمقصود: أن يكون العبد خالصاً لله جل وعلا، ولا تكن عبوديته موزعة، أما إذا كانت موزعة بين الله جل وعلا وبين المظاهر أو الأغراض الأخرى فإنه لا يكون مخلصاً، وأهل الإخلاص هم أهل النجاة الذين ينجيهم الله جل وعلا من عذابه.
يجب مشاهدة النعم، وهي تزيد في الطاعة، ومعنى مشاهدتها: إشعار القلب بها، والنعم لا حصر لها، فالبصر الذي يبصر به نعمة كبيرة من الله، والسمع الذي يسمع به نعمة عظيمة يجب أن يشكر الله جل وعلا على ذلك، ويعبده بذلك، فيستعمل السمع والبصر في عبادة الله جل وعلا، والعقل نعمة عظيمة على الإنسان؛ ولهذا يقول جل وعلا: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] يعني: هذه نعم يسأل عنها الإنسان، هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أم أنه استعملها في المعاصي واتباع الشيطان؟
ومن النعم العظيمة: صحة البدن، فكون الله جل وعلا وهبك صحة في بدنك هذه نعمة يجب أن تعبد الله جل وعلا بهذه الصحة، وتنتهز الفرصة قبل أن يأتي المرض. ومن النعم عدم الشغل، كونك ما عندك شيء يشغلك ويمنعك من التعبد والذكر والتلاوة وغير ذلك، وهذا شيء قد يغفل عنه الإنسان، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)؛ لأن الإنسان ما يدوم صحيحاً، لابد أن يمرض، ولا يبقى أيضاً فارغاً، لابد أن يشغله شيء، وفي النهاية يموت وينتهي.
كذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله جل وعلا بها على عباده كونه سخر لهم ما في السماء وما في الأرض، كل شيء مسخر للإنسان، السحاب والمطر والأرض والنبات وغيرها، قال الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فهي كثيرة جداً، فيجب على الإنسان أن يستشعر نعم الله جل وعلا عليه في كل صغيرة وكبيرة، ويستعين بالنعمة على عبادته، وهذا إذا فعله الإنسان كان سبباً لمحبة الله له، فيحبه الله جل وعلا ويزيده طاعة؛ لأن شكر النعمة وعد الله جل وعلا عليه بالزيادة.
وأعظم النعم على الإطلاق أن الله جل وعلا هداك للإسلام، وجعلك مسلماً، وإذا نظر الإنسان إلى الناس الذين في الأرض اليوم يرى أن أكثرهم كفاراً، فما الذي خصك من بين هؤلاء الخلق؟ ما هو إلا فضل من الله، ونعمة تفضل بها عليك، فعليك أن تعترف بهذا، وتشكر الله جل وعلا؛ لأن ثمرة الإنسان هي حياته هذه، إذا اكتسب فيها العمل الصالح وكان مؤمناً بالله، فبعد الموت تكون الحياة الحقيقة الأبدية الدائمة، أما إذا كان بالعكس فقد اكتسب بهذه الحياة الشقاء السرمدي الذي لا نهاية له، والمقصود أن نعم الله كثيرة جداً، ولكن أعظمها وأكبرها أن يكون الإنسان مسلماً، ويموت على الإسلام.
انكسار القلب يعني: خشوعه، وخضوعه، وذله لله جل وعلا، والقلب ما ينكسر حتى يعرف ربه، ويستشعر نعمه وعذابه، وعظمته جل وعلا، والإنسان ضعيف في الحقيقة، ولكن الله جل وعلا لا ينسى شيئاً ولا يفوته شيء من خلقه، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:1] قال أبي : وسماني الله لك، قال: نعم)، فصار يبكي فرحاً لأن الله سماه، ولأن الله ذكره.
ما حقيقة الإنسان؟ حقيقته أنه إذا نظر في عظمة الله ومخلوقاته تبين له أنه مخلوق حقير صغير من مخلوقات الله، فإذا أنعم الله جل وعلا عليه، وجعله عبداً له، وأعطاه من العقل والسمع والبصر ما ازداد به هدى إلى الله جل وعلا؛ فهذه ليست من قوة الإنسان، وليست من عقليته، وإنما هي نعم، كل الناس لهم عقول، وعندهم أسماع وأبصار، ولكن ما استطاعوا أن يهتدوا بعقولهم وأسماعهم إلى الحياة الحقيقية.
فإذا لم يكن للإنسان هادٍ من الله فلا هادي له، كما قال الله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] مهما كان عند الإنسان من العقل والنظر والفكر والقوة والمادة لا يستطيع أن يهتدي، والله جل وعلا يخاطب أفضل الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] يعني: هدايته بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وأكثر الناس معرضون عن هذه الهداية، لا يهتم بها، ولا يلتفت إليها، وبعضهم يحاربها أشد المحاربة، ويبذل قوته وجهده وماله في المحاربة!
فإذا نظر الإنسان في الناس، وجد منهم الذي يحارب الإسلام، ومنهم الذي يعبد غير الله، واختلفت معبوداتهم حتى أن منهم من يعبد الحيوانات، ومنهم من يعبد الفئران والبقر والقرود والحيات وغيرها، وكلهم عندهم عقول وأسماع وأبصار، فإذا نظر الإنسان إلى هؤلاء حمد الله حيث هداه، وحيث منّ عليه بأن جعله مسلماً متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة الإنسان قصيرة جداً، وهذه الحياة القصيرة ينبغي أن يكتسب بها القرب إلى الله والسعادة الأبدية في الجنان، وليست الجنة مثل ملك ملك من الملوك؛ لأن نعيم الجنة وملكها ما يتصوره الإنسان، لأنه لا يشاهده ولا يعرف جنسه، وقد ذكر الله جل وعلا منها صفات كثيرة.
وملائكة الرحمن يدخلون عليهم من كل باب، يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم مذ خلقوا يكونون شبه الخدم لهم، ولهم كل ما تشتهي نفوسهم من المشتهيات والمناظر التي تلذ أبصارهم، ولا يذوقون فيها الموت، ولا يخافون الخروج، ولا يعتريهم مرض، ولاذل أو خوف، يحيون في أمن ونعيم، وفيما تشتهيه أنفسهم، خالدين فيها أبداً، وفوق هذا كله أن الله يرضى عنهم، فرضوان الله أكبر من الجنة.
وقد يكتسب الإنسان في هذه الحياة القصيرة سخط الله وعذابه السرمدي، وليس عذاب الآخرة مثل العذاب الذي يعهده الإنسان في هذه الدنيا، بل من شدته أن الله قال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، الجلود تنضج ولكن تبدل، نفس الجلد الذي نضج يعاد مرة أخرى، وليس معناه أنه يذهب ويأتي غيره، لا، جلد الإنسان هو جلده، هذا الجلد الذي عصى، وهذه الأعضاء التي عصت، هي التي تتبدل، كلما احترقت عادت دائماً، ويأتيه أسباب الموت من كل مكان، ووَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17]، ما يموت، لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36].
فالإنسان إما أن يكون في هذه أو يكون في هذه، إما أن يكون في الشقاء الذي يتمنى أن يكون عدماً ولكن هيهات لا يفيد التمني، أو يكون في كرامة الله جل وعلا التي ما خطرت على قلب بشر، ولا رآها أحد من الناس.
فلهذا يقال: إن الخطر على الإنسان عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما نبه على هذه الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار) يعني: اذكروهما دائماً، وليكن بين أعينكم الجنة والنار؛ لأن المآل إليهما، والإنسان لابد أن يستقر في واحدة منهما: في الجنة أو النار.
يعني: في آخر الليل يتعرض الإنسان لفضل الله جل وعلا في ذلك الوقت، والوقت قصير، وكل عمر الإنسان قصير، وإذا كان له همة يعلو بها فسوف يقوم، فإذا كان آخر الليل ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟)، هكذا يخاطب خلقه، وأكثرهم إما نائم، أو غافل، أو لا يهمه ذلك، قليل جداً من عباد الله الذين يهتمون بهذا الأمر، فيقومون ليتعرضوا لنفحات الكريم المنان، فيسألونه ويدعونه، ويتلون كتابه، ثم بعد ذلك إذا فرغوا قبيل طلوع الفجر يستغفرون ربهم، قال الله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].
فمن كان بهذه الحالة يزيده الله جل وعلا قرباً ويحبه، ويزيده حباً، ويكون ذلك من أسباب محبته، وإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه ينادي جبريل فيقول له: (إني أحب فلاناً فأحبه)، ثم ينادي جبريل في السماء ويقول: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) والمحبة عند الناس تكون ولو لم يقدم لهم شيئاً من المنافع، فإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه يكون محبوباً، بحيث إنه إذا رآه الإنسان ذكر الله، وتذكر الطاعة والعبادة، وقيام الليل، وغير ذلك من الأسباب التي تجلب للإنسان محبة الله جل وعلا.
المقصود من هذا زيادة الخير، فهو في مجالسة الخير يزداد خيراً؛ لأن أهل الخير يعينونه ويحضونه على الخير، ويجعلونه نشيطاً بما يتكلمون به، ويحرصون عليه، ويقولون: إن الحياة قليلة شهر ويوم وساعة وإذا الأمر قد انتهى وقيل: مات فلان!
فاصبر وصابر حتى تلقى ما تحب، هذا هو المقصود بالمجالسة، وليست المجالسة للمصافحة أو للتفرج أو للكلام في فلان وفلان، فإن هذا مرض، إذا كان من تجالسه كلامه وحديثه في فلان وفلان، فهذا هو المرض الذي يعمي القلب ويميته، فيجب أن يبتعد الإنسان عمن هذه صفته، ويجب على الإنسان أن يعرف مصلحته، فيجالس من يزداد في مجالسته خيراً، وقديماً قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
لابد أن يؤثر الجليس بجليسه، فليتق الله الإنسانُ في نفسه، فلا يكون مجالساً لمن يغريه بالشر، أو يزيده فساداً، أو يزين له الفساد، فيكون الإنسان لا يتجنب الشر، ويعمى عن الخير، ومثل هذا يحتاج إلى معالجة حتى يعرف الفرق بين الخير والشر.
خلاصة هذا كله: الحرص على طاعة الله جل وعلا، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب ].
قوله: (ودخلوا على الحبيب) معناه أنهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، يعني: يصبح الإنسان يأتي بكل ما يستطيع من إحسان العمل، لأن قلبه يشاهد ربه، وإن كان ربه جل وعلا على العرش مستوياً، فهو يعلم أن الله ينظر إليه، ويعلم ما في قلبه، ويعلم ما تنطوي عليه نيته، وما يقصد من ذلك، فيزيد في حسن العمل ما استطاع، هذا معنى أنه يدخل على ربه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر