يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يا ناس يا ناس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام!
ما زلنا مع مهمات المسائل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في هذا الكتاب الجليل (كتاب إثبات صفات الرب جل في علاه) لإمام الأئمة: ابن خزيمة ، وهذا الحديث ضعفه المحدثون كما بينا في السابق، لكن الإمام ابن القيم يرى أنه تلوح من ألفاظه صفات النبوة، وأنه يصح معناه.
وقد تكلمنا عن أشرف المسائل في العقيدة: وهي رؤية الله جل في علاه، ثم بينا القواعد المستنبطة من ضحك الله جل في علاه.
وفي هذا الحديث: (قلت يا رسول الله! كيف وهو شخص واحد -أي: الله تعالى- ونحن ملئ الأرض ننظر إليه وينظر إلينا) إلى آخر الرواية.
فقوله: (هو شخص واحد) ليس فيه إثبات صفة الشخص لله جل في علاه، فالمعنى معروف عند العرب، وكما قال ابن القيم : إن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، ويتكلم بلغة يعلمها القوم، ويعرفون قوله، والمعنى: كيف أن الله جل وعلا يرانا وهو واحد ونحن جميع كما نراه في الإجابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن القمر واحد والجميع يرون القمر ولا يضر أحد من رؤية القمر.
فليس في ذلك إثبات صفة الشخصية لله جل في علاه وليست هذه صفة من الصفات، ثم بين بعدها فعلاً من أفعال الله جل وعلا فقال: (فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم منها قطرة)، فنسب لله جل وعلا النضح، وهذه من أفعال الله جل وعلا، فيأخذ بيده وينضح على عباده، وما من واحد من العباد إلا وقطر الماء يأتي عليه وما تخطئ واحداً منهم.
ثم يقول: (فتطلعون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذه المسألة أيضاً من أشرف المسائل، قال: (فتطلعون على حوض الرسول أظمأ ناهلة) ثم بعد ذلك أيضاً يسرد فيقول: (ولا يجني على المرء إلا نفسه)، ثم يقول: (وأهلك يا رسول الله! عندما قال: أبوك في النار، قال: وأهلي) يعني: أهلي في النار، وهذه المسألة دحض مزلة كما سنبين الآن.
فأول المسائل التي سنتكلم عنها هي مسألة شريفة جداً، فبعدما يأمر الله جل وعلا السماء فتمطر مطراً كالمني، وأجساد الناس في القبور قد بليت، ولم يبق من أجساد الناس إلا عجب الذنب، فتمطر السماء مطراً كالمني، ثم ينبتون كلهم فيخرجون من القبور عطشى، فكل واحد منهم يتمنى جرعة ماء، فيخرجون جميعاً فيضرب الصراط، وقبل الصراط حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ولك أخي الكريم! أن تتخيل أن الشمس على رءوس العباد قدر ميل أو شبر، فيغرقون في عرقهم، فمنهم من يصل العرق به إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فهذا وكل من كان مثله يحتاج إلى جرعة ماء، وهذه الجرعة لا يمكن أن يأخذها إلا من حوض كريم شريف، وهو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فتلتف الأمم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة نبينها الآن فنقول:
الحوض ثابت بالسنة المتواترة وبإجماع أهل السنة، فهو راسخ كرسوخ الجبال الرواسي، ولا بد أن نؤمن به، ومن أنكر هذا الحوض فهو مبتدع، فحوض النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالسنة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أنا فرطكم على الحوض)، يعني: أتقدمكم على الحوض، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأذودن الناس عن حوضي)، ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومنبري على حوضي)، وهذا من الغيبيات، فيمكن أن يكون منبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في المدينة الآن على حوضه، ويمكن أن يكون هذا المنبر على الحوض يوم القيامة، فلا يعلم ذلك إلا الله جل في علاه، والمقصود: أنه قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم له حوض يشرب منه المؤمنون، وهذا الحوض كما قلت ثبت بالسنة المتواترة، فقد روي إثباته عن أكثر من ثلاثين نفساً من الصحابة، وقد أجمعت الأمة على أن الناس يردون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل نبي حوض، وكل نبي آمن به قومه في وقته فإنهم يردون على حوضه، وأكثر الأحواض وروداً هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكثرهم تبعاً صلى الله عليه وسلم.
وآنية هذا الحوض كالنجوم عدداً وهيئة، فهذه الأواني تتلألأ لمعاناً، وهي كالنجوم عدداً فلا تحصى؛ حتى تشرب هذه الأمة، سقانا الله وإياكم من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وأما اللمعان فهذه الأواني تبرق وتتلألأ وكأنها تنادي على صاحبها ليشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما لون هذا الماء -رزقنا الله وإياكم شربه- فهو أبيض من اللبن كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما طعمه فأحلى من العسل، وأيضاً هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما رائحته فأطيب من ريح المسك، فهل رأيت ماءً بهذه الأوصاف؟!! فما بالنا لا نسارع في الخيرات؟! وما بالنا لا نشتاق إلى شربة من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبداً؟!
فهذه هي صفة حوض النبي صلى الله عليه وسلم طولاً وعرضاً، وآنية، ولوناً، وطعماً، ورائحة، فمن الذين سيتشرفون بالشرب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المبعدون الخاسرون؟ ومن الذين يخزيهم الله يوم القيامة فلا يشربون من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء الخاسرين.
فإن قيل: وكيف يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمم متشعبة والناس كثر من لدن آدم عليه السلام وإلى آخر الخليقة، خاصة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإني لأذود الناس عن حوضي ...) أي: يدفع الناس عن حوضه صلى الله عليه وسلم؟ فأقول: قد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال من أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فأجاب إجابة وافية فقال: (تبعثون يوم القيامة غراً محجلين)، والغرة: هي البياض في الجبهة، والتحجيل يكون في اليد وفي الرجل، وهذا يكون من الوضوء، فيستقبلهم في حوضه ويسقيهم، فكل واحد يشرب منه شربة هنيئة فإنه لا يظمأ بعدها أبداً.
وأما المبعدون والخاسرون والهالكون فيا حسرة عليهم، بل غير مأسوف عليهم، فإنهم سيردون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم المنافقون والمبتدعون والكافرون ومن ارتد عن دين الله جل وعلا، فقد حرِّم عليهم أن يشربوا من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحوج ما يكونوا إلى جرعة ماء، فجزاهم الله جزاءً وفاقاً وأجراً طباقاً، فمن ارتد ردة كلية، أو ابتدع في دين الله فهو مبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد صور لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد أيما تصوير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأذود الناس عن حوضي وليختلجن -أي: يخطف- أقوام من أمتي، فأقول يا رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقاً: (فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي، بُعداً بعداً لمن بدل بعدي).
فالمبتدع لا يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتشرف بمس يد النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ولا غرو ولا عجب أن يمنع هذا المبتدع من الشرب؛ إذ المبتدع أبى الله عليه أن يتوب، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل مبتدع) وجاء بسند صحيح عن الثوري أنه قال: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لماذا؟ لأن صاحب البدعة يقاتل عليها وينافح عنها كما سنبين.
وأما العاصي فحتى لو ارتكب الكبائر فإنه يعترف بأنه على خطأ ومعصية، فمثل هذا نرجو أن يقلع عن تلك المعاصي، وقد نقول: إن المبتدع تلحقه وتدركه لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعدها من لعنة! فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً)، وآوى محدثاً، أي: أن الذي يئوي المبتدع فقط ملعون، فما بالكم بالذي ابتدع في دين الله جل وعلا، ودافع عن هذه البدعة؟! فالمبتدع أول ما يصاب في عرصات يوم القيامة، فإن احتاج إلى الماء فلا يشرب شربة هنيئة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليختلجن أناس من أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً)، نسأل الله جل وعلا أن يسقينا جميعاً من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
والرد عليهم: بأن هذه الأحاديث ثابتة ثبوت الجبال الرواسي، فإنها سنة متواترة، فقد خالفوا صريح السنة، وخالفوا إجماع أهل السنة والجماعة، فلا يسمع لهم ولا كرامة. فهذه هي الفائدة الأولى: إثبات حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشرب منه ومن يرد عنه.
وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابتة وهم أفضل الخلق بعده: (إنكم لن تدخلوا الجنة بعملكم، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
هذا فيه دلالة واضحة على أن كل خير يصيب الإنسان فإنما هو بمحض فضل الله جل في علاه، وكل مصيبة تصيبه فإنما هي بما كسبت يداه، وقد جمع الله بينهما في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فجمع الله بينهما في هذه الآية بإيجاز عظيم.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فكل إنسان بصير بنفسه، فإذا رأى نفسه في زيغ وفي ضلال وفي معصية فلا يلومن إلا نفسه، ومن وجد نفسه في طاعة وقرب من الله جل وعلا فليحمد الله؛ فإن الفضل كله بيد الله سبحانه جل في علاه.
وبقيت هنا مسألة من المهمات وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المشركين الذين قتلوا في بدر وفي غيرها قال: (هم في النار)، بل أوصى وقال: (إذا مررت على قبورهم فقل: أرسلني إليكم محمد صلى الله عليه وسلم أن أبشركم بما يسوءكم: تجرون على بطونكم ووجوهكم في نار جهنم، فقال رجل من قريش يخشى على آبائه أو قال: وجدت الحر في صدري فقلت: وأهلك يا رسول الله؟! قال: وأهلي) يعني: وأهل النبي صلى الله عليه وسلم في النار.
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فـعبد المطلب في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، فلِم ذلك مع أنه لم يأت له رسول والله جل وعلا يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فهو من أهل الفترة؟ فنقول: ليس من أهل الفترة، بل عنده بقايا من رسالة إبراهيم عليه السلام، وأيضاً رسالة عيسى عليه السلام، والدليل على ذلك: أن عبد المطلب عندما جاء أبرهة الملعون -عليه من الله ما يستحق في قبره- حتى يهجم على الكعبة قال: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه، ولذلك قال له أبرهة : لقد كنت عزيزاً في عيني، فلما قلت هذا الكلام نزلت من نظري، قال: لا والله! إن البيت يحميه ربه، وأما الإبل فأنا ربها. فهو يعلم أن الرب جل وعلا الذي خلق هذا الكون قادر على كل شيء، ومع ذلك أشرك بالله معه غيره.
فلذلك نقول: لا خلاف في أن عبد المطلب خالد مخلد في نار جهنم، وهو من أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حكمة البارئ سبحانه جل في علاه.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بكفره.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه في النار خالداً مخلداً فيها، وهذه بعض الأدلة على ذلك:
الدليل الأول: جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمه أبا طالب فقال له: (يا عم! قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله)، يعني: كلمة لا إله إلا الله، فإن قلت ذلك كانت حجة لي أن أشفع لك عند ربك فتدخل الجنة، لكن قرناء السوء، والعصبية المنتنة للجاهلية جعلته يموت على ملة عبد المطلب ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال له: (قل: لا إله إلا الله فأبى) يقول: (لأستغفرن لك ما لم أنهَ عنك)، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار.
الدليل الثاني: ما ذكره أهل السير أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بعدما مات أبو طالب قال: (يا رسول الله! قد هلك عمك الكافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اذهب فواره)، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: قد هلك عمك الكافر، فقال: اذهب فواره.
الدليل الثالث: وهو فصل النزاع الذي لا يمكن لأحد أن يدخل عليه، فقد جاء في الصحيحين: (أن
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا) فيه شفاعة هنا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول لهذا: هل نبتر هذه الآية من أجل عاطفتك المزعومة المزيفة، وبعضهم يقول: كيف تقولون: إن أبا طالب مات كافراً؟! ومن باب أولى أن ينكروا أن عبد الله أبا النبي صلى الله عليه وسلم قد مات كافراً، وأنه خالد مخلد في نار جهنم، وسنثبت ذلك بالدليل.
وقد يقول بعضهم: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم قد مات قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تأته الرسل، والله جل وعلا يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فنقول: إن معنى (نبعث رسولاً) إما الرسول بذاته، أو رسالته بالبلاغ، (فبلغوا عني ولو آية)، وقد وصلت لهم رسالات إبراهيم وموسى وعيسى، والدليل على ذلك: أن ورقة بن نوفل قد تنصر، وكان يوحد ربه جل في علاه ويعبد الله بشريعة موسى، وهذه العبادة كانت في وقتها صحيحة؛ فيتعبد بأي شريعة من الشرائع، سواء شريعة موسى أم شريعة عيسى، فالغرض المقصود: أن يوحد ربه جل في علاه.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد تصاوير إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام -لتعلم أنهم كانوا يأخذون بدين إبراهيم- فقال: (والله لقد كذبوا عليهما، ما استقسما بالأزلام قط) .
وقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (يا رسول الله!
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل يقول: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فتمعر وجه الرجل أمام الصحابة الكرام، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أبي وأباك في النار) وهذا في الصحيح، فهذا تصريح بنص في محل النزاع.
إذاً: فأهل النبي صلى الله عليه وسلم في النار: عبد المطلب في النار، وأبو لهب في النار، وأبو طالب في النار، وعبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم في النار، وأم النبي صلى الله عليه وسلم آمنة في النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه هي حكمة البارئ.
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم (أبي وأبوك في النار)، هذا حديث صحيح ولا نستطيع أن نضعفه، لكن معناه: جدي وأبوك في النار، يعني: عبد المطلب ، ولا يقصد أباه عبد الله ، والدليل على ذلك: قول الله تعالى عن يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ [يوسف:38] الآية، وإبراهيم هو جد يوسف، إذاً يطلق الأب على الجد.
وقالوا أيضاً: آمنة في الجنة، والدليل على ذلك؟ ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله أحيا أباه وأحيا أمه، فدعاهما إلى الإسلام فدخلا الجنة بعدما قبلا الإسلام)، وهذا حديث مهلهل، وبه يحتج السيوطي ، وقد ضرب صفحاً عن الأحاديث التي في الصحيحين، والتي أسانيدها كالشمس الساطعة في وضح النهار.
وقالوا أيضاً: أبو طالب في الجنة، وكيف يفعلون بالحديث الذي في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليه فقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) ؟ فقالوا: لا، أبو طالب في الجنة بالأثر والنظر، قلنا: كيف بالأثر والنظر؟ قالوا: أما الأثر فحديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وهذا الحديث صحيح كالشمس، قالوا: وأعظم يتيم على الإطلاق في الدنيا كلها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً فأعظم كافل هو أبو طالب ؛ لأنه هو الذي كفل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما النظر: فنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدافعته عنه صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يرد هذا الفعل الخير.
أما الجواب عن شبههم هذه فكالآتي: فأما قولهم في حديث: (إن أبي وأباك في النار) وأن المقصود به عبد المطلب ، فالرد على ذلك من وجهين:
أولاً: أن الأصل الموضوع له لفظ (الأب) أنه هو الذي أنجب، فالأصل أن الأب هو الذي أنجب، فهذا هو الظاهر، ولا ننتقل إلى غيره إلا بدليل، ولا دليل هنا.
ثانياً: نتنزل معك أيها القائل: أن الأب يطلق على الأب الأصل الذي أنجب وعلى الجد أيضاً، فنقول: إذاً فالأب والجد في النار -تنزلاً- ولا يخرج واحد منهما إلا بدليل، وله أن يعارضني ويقول: أخرجتُ الأب بحديث: (أن الله أحيا أباه
ثالثاً: يلزمك أنك إذا قلت بأن لفظة (الأب) تطلق على الجد وجد الجد أن يتنزل ذلك على إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة الأب، وأيضاً إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة الأب، فإذا قلت: لا، إنما يتنزل ذلك على الجد الأقرب، فنقول لك: لم لا تقول: والجد الأبعد، فإذا قال: لأن الأدلة كلها متوافرة متظافرة على أن هؤلاء رسلاً وهم في الجنة، فنقول: وكذلك الأدلة متوافرة ومتظافرة على أن عبد الله في النار، فهذا الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبوه، ولا يدافع عن أبيه، وهو الذي قال: (أبي وأبوك في النار).
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة وهي: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) فنقول: نحن نوافق ونقر أن أعظم من كفل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب ، ونحن أيضاً نقر أن هذا الحديث صحيح كالشمس: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، والرد على هذه الشبهة من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الذين يثابون على الأعمال الصالحات هم المؤمنون خاصة لا الكافرون، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]، فقيد ذلك بالإيمان، ولم يقل: من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو كافر فإنها تكون له الحياة الطيبة في الدنيا وفي الآخرة، وعمه أبو طالب كان كافراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قل: لا إله إلا الله) فلم يقل: لا إله إلا الله، ومات على ملة عبد المطلب .
الوجه الثاني: أن أعظم الصالحات التي قدمها من النصرة والكفالة قد عجل ثوابها له في الدنيا وله أيضاً في الآخرة، فإذا عمل صالحاً فإنه لا يضيع هباءً منثوراً، بل إن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، فإنه يعجل للكافرين صالح أعمالهم في الدنيا دون الآخرة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد بن جدعان كان يفعل الخير، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا ولا شيء لهم في الآخرة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت)، وبين الله أن الكافر إذا عمل خيراً فإنه تعجل له طيباته في الدنيا إذا شاء الله، قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بأنه كان ينصره ويؤازره، ومع ذلك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذه المؤازرة أنه في ضحضاح من النار خالداً مخلداً فيها، أو هو يلبس نعلين من نار تغلي منهما دماغه.
أيضاً: قد نفعته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة بسبب الصالحات التي قدمها برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وكانت هذه الشفاعة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أن الكافرين لا شفاعة لهم، قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال تعال: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].
فهذا تصريح بأنهم وهم في النار يصرحون أنه لا شفيع يناصرهم أو يشفع لهم، وكانت هذه خاصة لـأبي طالب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم شفع له في الآخرة حتى يخرج من الدرك الأسفل من النار ويكون في ضحضاح من النار.
فهذه الشبهة الثالثة وقد أميتت بفضل الله سبحانه وتعالى، وهذه النار قد أخمدت، وأهل البدع هم الذين ينفخون في هذه النار ويقولون: تتجرءون على رسول الله، وأنتم لا تحبون رسول الله، ويبكون ويتباكون زيفاً وزوراً وبهتاناً، ويصادمون كتاب الله، ويصادمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نقر هنا أن عبد المطلب في النار، وأبا طالب في النار، وعبد الله في النار، وآمنة في النار، هذا بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا لا نؤمن بذلك وهي شريعة غراء، وما لنا لا نؤمن بذلك والله جل وعلا أرحم بالعباد من أمهاتهم وأنفسهم، وقد قضى كوناً أن هؤلاء من أهل النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر