عباد الله! لقد تضمنت سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أسباب الفلاح، وطرق الخير والبركات، لقد تضمنت أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وفي خطبتنا هذه سنتعرض لشيء من أسباب السعادة وأبواب الفلاح التي حث عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو حجة عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
هذا الحديث الشريف أيها الأحبة! سبب للفلاح والسعادة والنجاح لمن أخذ به وعض عليه وعمل به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً السبب الأول من أسباب السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة: (الطهور شطر الإيمان)، الطهارة في فضلها وأجرها عند الله عز وجل تعدل نصف الإيمان، ولنعلم أيها المسلمون! أن الطهارة طهارتان: طهارة معنوية، وطهارة حسية.
لا بد عباد الله! من تطهير القلب بهذه الطهارة المعنوية؛ بالتوحيد الخالص، والعقيدة الصافية، وبهذا نعلم أن أولئك الذين يدنسون عقائدهم، ويخلطون في توحيدهم أنهم لم يتطهروا هذه الطهارة المعنوية، أولئك الذين يذهبون إلى القبور والأضرحة ويستغيثون بها من دون الله عز وجل، أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه؛ كإحداث الأعياد المحدثة، أولئك الذين يأتون السحرة والكهنة، أولئك الذين يحلفون بغير الله عز وجل، كل هؤلاء لم يتطهروا الطهارة المعنوية.
كذلك أيضاً من الطهارة المعنوية عباد الله! أن نطهر قلوبنا من أراذل الأخلاق، وأن نحليها بمحاسن الأخلاق: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
علينا أن نطهر قلوبنا من الغل والحسد، والحقد والضغائن والتدابر والتباغض، ومن إخلاف المواعيد والعهود، وعدم توفية الناس حقوقهم، ومن الكذب وغير ذلك.
وعلينا أن نحلي ونطهر قلوبنا بالصدق والعفاف والأمانة والحلم والرفق والصلة وبر الوالدين وغير ذلك، (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم الذي لا يفتر، ودرجة الصائم الذي لا يفطر).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)، وفي الصحيحين: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، والغرة: هي البياض الذي يكون في وجه الفرس، والتحجيل: هو البياض الذي يكون في قوائمه، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون للمتوضئ يوم القيامة ببياض وجه الفرس وقوائمه.
حري بنا وجدير أن نفرح بهذا الوضوء الذي تحصل به الطهارتان؛ الطهارة المعنوية من الذنوب والآثام، والطهارة الحسية، ولا بد من إسباغ الوضوء بالمضمضة والاستنشاق، وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين.
إن هذا عباد اللهَ! أسلوب من أساليب تربية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أسلوب الترغيب، وذكر الفضل العظيم والأجر الكبير على العمل اليسير.
والذكر عباد الله! لا يحتاج إلى كلفة مادية ولا بدنية، لكن الموفق من وفقه الله عز وجل.
وإذا تأملنا حال الصحابة رضي الله تعالى عنهم نجد أنهم يتصدقون بكل أموالهم. روي بإسناد حسن أن أبا بكر تصدق بجميع ماله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة تصدق بأنفس أمواله، حديقته التي كانت مستقبلة المسجد، وأبو الدحداح رضي الله تعالى عنه تصدق بحديقته وفيها ستمائة نخلة.
هذا أيها الأحبة! غيض من فيض، والآثار في هذا كثيرة، فتصدقوا رحمكم الله بأموالكم على أقاربكم والمحاويج واليتامى والمساكين والوالدين، ولا يعش المسلم في دائرة نفسه، لا تحمله الأنانية وحب الذات والأثرة على أن يستأثر بما فضله الله عز وجل عليه.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
ثم بين نبينا عليه الصلاة والسلام السبب الخامس من أسباب الفلاح والسعادة وهو قوله: (والصبر ضياء)، الصبر من أعظم أسباب السعادة، الصبر على طاعة الله، وعن محارم الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، هو عنوان السعادة وترجمانها: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن الذي يدور حاله بين هذين الأمرين:
شكر عند النعم، ولا تحمله النعم على الأطر والبغي والظلم ومعصية الله عز وجل، بل يبادر بشكر الله عز وجل، يلهج لسانه بحمد الله، يبادر إلى تسخير جوارحه في طاعة الله عز وجل، يوقن بقلبه أن هذا من الله، وأنه ليس له حول في ذلك ولا قوة.
وإن أصابته ضراء، وإن أصابته مصيبة في ماله أو أهله أو أولاده صبر، واحتسب الأجر عند الله عز وجل، لم يجزع ولم يكره قضاء الله ولا قدره، ولم يسخط بجوارحه ولا بلسانه ولا بقلبه، هذا حقيقة الإيمان، وهذا هو عنوان السعادة؛ أن يدور حال المسلم بين الشكر عند السراء، وبين الصبر عند الضراء.
ولهذا ذكرت عائشة، وذكر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه؛ تتشقق من طول القيام، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن أقل الورد من كتاب الله جزء تقرأه كل يوم، بحيث تختم القرآن في كل شهر، وأكثره أن تختمه في كل سبعة أيام مرة، أخذاً من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، فإن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ كل ليلة فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، قال: ( يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اقرأ في كل عشرين، قال: يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اقرأ في كل عشر، قال: يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اقرأ في كل سبع، قال: يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أفضل من ذلك، فإن لأهلك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً).
فالبركة والشفاء والسعادة إنما هي بالمحافظة على كتاب الله عز وجل، استشفوا بكتاب الله عز وجل، إذا أصابتكم الأمراض فاقرءوا على أنفسكم وعلى أولادكم، كما هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، والرافضة المعتدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم واشف مرضى المسلمين، اللهم اغفر لموتاهم، وعاف مبتلاهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر