وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: قال الله عز وجل آمراً نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. فالله عز وجل يحذر النبي عليه الصلاة والسلام من صحبة من توافر فيه هذان الشرطان، وهما: أولاً: من كان من الغافلين وليس من الذاكرين، ثانياً: وهو متبع لهواه، مما نتج عنهما أن أمره كان فرطاً، أي: مفروطاً مضيعاً مسرفاً على نفسه، فإذا كان الله تعالى يحذر نبيه وينهاه عن صحبة هؤلاء فلا شك أن من دون النبي عليه الصلاة والسلام أولى بهذا التحذير، وكنا في القديم نوجه النصائح للصغار ونخاف عليهم من صحبة الأشرار، واليوم أصبحنا نخاف على الكبار والصغار، وعلى طلبة العلم، بل وعلى العلماء العاملين؛ لأن الفتنة كادت أن تعصف بالجميع؛ بسبب انتشار المعاصي والرذائل، ولم يكد يسلم منها أحد، لا ناصح ولا منصوح.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له -أي: توجع له- سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
فالمرء على منهاج صاحبه في الخلق والسلوك، بل وفي الاعتقاد كذلك، وقديماً قالوا: الطيور على أشكالها تقع، فلا تجد صحبة قط بين مؤمن موحد مستقيم وبين فاجر فاسق لئيم، إذ كيف يجتمعان وهما مختلفان من كل وجه، اللهم إلا أصل الإسلام؟ وكيف يطيق المؤمن صحبة الفاسق؟ وكيف يصبر الفاسق على صحبة المؤمن؟ فالإيمان أمر يقض مضجعه؛ لأن قومته ونومته وسلوكه وأخلاقه تخالف الهدي النبوي، والمؤمن قائم عليه بالنصيحة، والفاسق لا يحتمل أن ينصح في كل كلمة وقومة وحركة وسكنة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حدد في غير ما حديث آداب الصحبة، وأصولها، ومن نصاحب، ولماذا نصاحب، وفيم نصاحب، وبين آداب وأحكام كل ذلك.
ومن أهل العلم من كتب رسائل في ذلك، وهي في غاية الأهمية، ولكن قل من المسلمين من ينتبه لمثل ذلك، بل منهم من يعد أن هذه الآداب يمكن للمرء أن يدركها دون أن يتعلمها، ولا شك أن الشرع قد مدح الخلق الحسن وإن لم يكن منصوصاً عليه في الكتاب ولا في السنة؛ لأن الخلق الحسن ممدوح شرعاً وعقلاً وعرفاً، وإن لم يرد على هذا الخلق نص في كتاب الله ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن الكتاب والسنة قد نبها وحضا وحثا على حسن الخلق، وحسن الصحبة والعشرة، وجاء الكتاب والسنة باعتبار أعراف الناس، فهي معتبرة ما لم تخالف كتاب الله ولا سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
صنف الإمام الكبير أبو البركات الغزي كتاباً في حسن العشرة وآدابها، وذكر الصحبة والأخوة، وهو كتاب عظيم جداً في بابه، فقد ذكر الأصول التي ينبغي أن يتحلى بها الأخلاء والأصحاب، وذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان). وهذا حديث عظيم جداً، ولا يشعر بعظمة النصوص إلا من عاشها، فإن المؤمن لو وقع في بلية من البلايا ونزلت به آفة من الآفات واجتمع حوله المؤمنون في بليته هذه، وأخذوا بيده وواسوه فيها وأعانوه على أن يخرج منها بسلام فإنه يشعر بأهمية الأخوة الإيمانية، ويشعر بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان، تماماً بتمام؛ لأن البنيان لا يقوم ولا يتماسك إلا إذا رصت أحجاره واتصل ببعض، وكذلك المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
ومن علامات سعادة المرء أن يصاحب مؤمناً، ولا يصاحب شقياً خبيثاً، ومن سعادته كذلك أن يوفق إلى مسجد بجوار داره قائم على السنة، وأن يوفق لشيخ يعلمه العقيدة الصحيحة وأصول دينه، ومن تعاسة المرء وسوء قدره وقلة نصيبه وحظه أن يتعرف على رجل من أهل البدع فيعتقد أنه أعلم الناس وأتقاهم، فيشرب بدعته، ويكون بئس الخلف لبئس السلف، بخلاف من وفق لأهل الصلاح والدين لأجل الاستقامة كذلك.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه
وللشيء على الشيء مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
والخلق الرديء المذموم تنفر منه الطباع، حتى البهائم والحيوانات والحشرات تنفر من الخلق السيئ، فتجد الحيوانات تنفر من أصحابها إذا كانوا يكثرون ضربها، ولا يؤدون لها حقها من الطعام والشراب والمبيت وغير ذلك، وأنتم تعلمون قصة الجمل الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتكلم بين يديه، وشكا صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه سيء الخلق.
وحسن المعاشرة تكون مع الأكابر بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم، وتكون مع الأقران ومن كان في عمرك وسنك بالنصيحة، وبذل الموجود الممكن لهم، ما لم يكن إثماً، وللصغار والأتباع بالإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه العلم، وآداب السنة، وأحكام البواطن، والهداية، والتقويم بحسن الأدب.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحاسدوا). والنهي هنا للتحريم.
وبشاشة الوجه ولطف اللسان وطلاقته وسعة القلب وبسط اليد وكظم الغيظ وترك الكبر وملازمة الحرمة وإظهار الفرح بما زرق من عشرتهم وأخوتهم أمر ممدوح في كل شريعة نزلت من عند الله عز وجل.
قال ذو النون رحمة الله عليه: ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل، ولا قلده أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك كله تقوى الله.
وقال السقطي رحمة الله عليه: من أجل أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان والنصيحة لهم. وكل حرف من هذا يحتاج إلى ضبط، إلا أننا نجمل المعاني اتكالاً على أن معاني هذا الكلام معلومة لدى السامع.
فمن أجل أخلاق الأبرار والصالحين سلامة الصدر والنصيحة للإخوان، وإن رأى الناصح في أخيه منقصة نصحه بلطف.
واليوم أصبحت النصيحة آخر العهد بين الصاحبين، فما دام أنه نصح فقد وقف على فضيحة ومنقصة فيه، فيسد هذا الباب تماماً؛ لأنه كل قليل سيرى أنه أرفع منه، وأصبح من يقبل النصيحة الآن قلة جداً، بل إن الواحد يطلب النصيحة فإذا نصح وقيل له: إن فيك كيت وكيت قال: وأنت أيضاً فيك كيت، ويرد النصيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يرى أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه). والمؤمن مرآة أخيه، فهو يرى أدق العيوب التي عند صاحبه وأصغرها وأحقرها، وهذا الصاحب عنده عيوب كبائر وعظائم، ولكنه لا يراها، وهو غافل عنها، فإذا ذكر بها قال له: وأنت عندك مصائب، فإذا قلت: إن هذه التي تذكرني بها قد تبت منها إلى الله عز وجل، قال: وأنا لن أنساها لك، فلن أنسى أنك في يوم كذا زنيت، وفي يوم كذا سرقت، وفي يوم كذا قطعت الطريق، وفي يوم كذا غششت، وفي يوم كذا خنت، ولو تبت من هذا كله فلن أنساه، فما دام أنك تكشف ستري فأنا أيضاً سأكشف سترك. وهو الذي قال له أولاً: انصحني. فلا أحد يقبل اليوم النصيحة بصدق وإخلاص لله عز وجل، فإذا نصحك ناصح وأغلظ لك في النصيحة فاقبلها منه واشكره عليها، وقد كان عمر بن الخطاب -الذي هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الذين شهدوا بدراً والعقبة، وهو من خيار الصحابة- يقول: ما أبقت لي النصيحة صاحباً.
إن سلامة القلب وإسداء النصيحة من ألزم حقوق الأخوة، ولكن وسع صدرك من أجل أن يصلح حالك، واطلب النصيحة من أجل الاستقامة، والنصيحة ثقيلة على القلب، فعلى من يطلبها أن يوسع قلبه وصدره لقبولها وليجاهد نفسه على ذلك.
وقال الثوري رحمه الله: لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضاً.
وقد أنشدوا فيمن اعتاد خلف الوعد:
يا واعداً أخلف في وعده ما الخلف من سيرة أهل الوفا
ما كان ما أظهرت من ودنا إلا سراجاً لاح ثم انطفا
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه، أي: من لا أستحي منه، وهذا مثل الشخص إذا خلا بنفسه واستشعر أن الله تعالى مطلع عليه ويراه فإنه لا ينتهك محارم الله قط.
وقد سألني سائل أنه لا يقوى على ترك الاستمناء، فقلت: أتستمني أمام أبيك؟ قال: لا، قلت: وأمام أمك؟ قال: لا، أمام أحد من الناس؟ قال: أحياناً أستمني مع أصحابي، أراهم ويرونني، فقلت له: إذا كنت لا تستمني وتستحي من والديك ومن أصحاب الوقار وأهل العلم والصالحين فكيف لا تستحي من الله عز وجل إذا خلوت؟! فأقسم بالله ألا يعود إليها قط مهما بلغت به الشهوة، فقلت له كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن تصدق الله يصدقك). فلو كنت صادقاً في هذا العهد مع الله عز وجل فلابد وأنه سيصرف عنك هذا الشر.
وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله: اطلب الفضل بالإفضال منك، فإن الصنيعة إليك كالصنيعة منك. يعني: لابد أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وهذا الذي عبر الله تبارك وتعالى عنه بالإيثار في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
ولو أن رجلاً يقدم إخوانه على نفسه في ماله فهذا إخلاص في الصحبة، وأعظم ما تجد الإيثار في النوازل والملمات وأوقات الضيق، مثل السجون، فتجد الواحد يأتي لزيارة السجون ومعه الملابس والطعام والأموال والأدوية، فيتصدق به المسجون على بقية إخوانه ويؤثرهم؛ لأنه في خلوة بين هذه الجدران الأربعة مع الله عز وجل، فهو يرجع ويتوب ويراجع نفسه في كل قولة وحركة وسكنة فهو قريب من ربه، والعبد غالباً ما يقترب من ربه ويستشعر قرب ربه منه إذا نزلت به بلية، فإذا انغمس في مجتمع الشهوات والحيوانات تناسى ما كان عليه من إخلاص وقرب وإيثار لإخوانه.
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من غم العداوات
فأول نتيجة للعفو والصفح أنه يريح النفس من الرد على هذا.
إني أحيي عدوي حين رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه كأنه قد حشا قلبي مسرات
وأنشد أحمد بن عبيد عن المدائني :
ومن لم يغمِّض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
يعني: لن يسلم لك صاحب ليس عليه عتاب ولا عيوب، فهو بشر جبل على النقص والعيب، ولو أنك التمست صديقاً لا عيب فيه فلن تجد، وستكره حتى نفسك بعد هذا؛ لأن فيك عيوباً.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان حسن الخلق جداً حتى مع عبدة الأصنام والأوثان، بل ومع المنافقين الذين أطلعه الله عز وجل على ذواتهم، وأسمائهم، وقد (استأذن رجل على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: من؟ فقال: فلان، فقال: ادخل بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش في وجهه، فلما خرج قالت
وقال محمد بن واسع : وليس لملول صديق ولا لحاسد غنى.
قال الشاعر:
صبرت على بعض الأذى خوف كله ودافعت عن نفسي بنفسي فعزت
أي فأصابها العزة.
فيا رب عز ساق للنفس ذلها ويا رب نفس بالتذلل عزت
وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من خيار التابعين، وكان في خلقه حدة، وقد كان تلميذاً لـابن عباس ولكنه كان يغلظ له، فلما مات ابن عباس وبرز سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وغيرهما من تلاميذ ابن عباس الذين عرضوا القرآن عليه مرات ورأى ذلك أبو سلمة قال: سبحانك ربي! لو أني رفقت بـابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً. ولكن حدته وسوء خلقه ضيعته عن شيخه، فخزن عنه العلم، ولذلك ورد عن كثير من السلف التحذير من ذلك، وذكر ذلك ابن عبد البر والخطيب البغدادي في كتبهم التي تكلمت عن أحكام الرواية وآدابها، كجامع بيان العلم، والفقيه والمتفقه، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وذكروا أبواباً كثيرة في الآداب التي يتحلى بها الطالب مع شيخه، وكيف يستخرج ما عند شيخه من علم بحسن الأدب والسمت والهدي والذل والأخلاق، أبو سلمة ندم ندماً شديداً على أنه لم يتأدب مع ابن عباس .
يقول مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، كل منهما يقول: وإني كنت أحصل على المسألة من ابن عباس ولو أذن لي أن أقبل قدمه لفعلت. فانظروا وقارنوا بين موقف هذين وبين موقف أبي سلمة .
ولذلك كان كثير من السلف إذا دخل في المجلس من يكرهه يقول: إما أن تنصرف، وإما ألا أحدثكم اليوم ولا غداً.
وكان إسماعيل بن أبي عياش والفضيل ورجاء بن حيوة وابن عون ومالك والشافعي وابن عيينة والثوري يهابون في مجالس العلم أعظم من هيبة الأمير، حتى كان لا يبرى قلم، ولا تقلب ورقة، ولا يضحك ولا يبتسم في مجالسهم، ولذلك ورد عن الأعمش أنه كان يملي في مجلس فإذا قال: حدثنا فلان سمع همهمة فقال: السماء تمطر؟ قالوا: لا، فيسكت ثم يقول: حدثنا فلان، فيسمع همهمة، فالكل يحدث بعضهم بعضاً: حدثنا فلان ويسكت، فيسمع من مجموع الأصوات كأن السماء تمطر فيقول: السماء تمطر؟ فيقولون: لا، فيقول: بل تمطر. فينظر كل واحد منهم إلى سقف المسجد فيقولون: لا تمطر يا شيخ! فيقول: إذا سمعت مطر السماء قمت عنكم لا أرجع إليكم إلا بعد شهر.
ورجاء بن حيوة لما ضحك أحد في مجلسه قال: أتطلب العلم وأنت تضحك؟! فقال: يا إمام! أليس الله تبارك وتعالى قال: أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]؟ يعني: يريد أن يقول له: الضحك هذا بقدر الله عز وجل، فهو الذي أضحكني، فيقول له: إذاً: ابك، فقد قال الله: أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]. ثم انطلق رجاء ولم يعد إليهم إلا بعد شهر بشفاعة الشافعين. فهناك آداب ينبغي أن يتحلى بها الطالب؛ حتى يحصل على العلم.
لا تمدحن امرأً حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب
فإن حمدك من لم تبله سرف.
يعني: مدحك لمن لم تخبره وتعرف أخلاقه من الإسراف.
وإن ذمك بعد الحمد تكذيب.
وهذا كما فعل اليهود مع عبد الله بن سلام ، فقد كان عبد الله بن سلام حبراً من أحبار اليهود، ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وسمع بمقدمه أتاه فقال: يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي، فسأله ثلاثة أسئلة فلما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام قال: أشهد أنك نبي ودخل في الإسلام، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه فرحاً شديداً جداً؛ لأنه حبر كبير من أحبار اليهود، وقد كان يمثل المرجعية لليهود، كالبابا شنودة اليوم يمثل المرجعية للنصارى، فتصور شنودة أسلم -وذلك ليس ببعيد على الله عز وجل- فما موقف النصارى في مصر؟ ولو أن بابا الفاتيكان أسلم فما موقف أمة النصارى؟ والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجه الرسالة لـهرقل قال له: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين). مرة على الإسلام، ومرة على الأريسيين -أي: على الفلاحين- الذين معه، فلو أسلم لأسلم من معه، ولو بقي على الكفر لأعطى لهم مصداقية ومشروعية لما هم عليه من كفر. فأهل العلم يستفاد منهم في كل قولة وحركة وسكنة، ولو أخطئوا فهم بشر، ولابد من احتمال الخطأ منهم، وقد كان السلف قبل أن يذهبوا إلى المجلس يتصدقون عن شيوخهم وعلمائهم، ويقولون عند الصدقة: اللهم استر عيوب شيوخنا، ونحن في هذا الوقت نذهب نتلمس عورة الشيوخ وأهل العلم وتصبح فضيحة، وهذا ليس من خلق الإسلام أبداً.
ولما سرق رجل مصري في الأردن سنة خمس وثمانين سرقة عظيمة يقام عليها الحد اجتمع هناك الإخوة والمشايخ والعلماء وفضحوه فضيحة عظيمة، وهذا الذي سرق ولد صالح، ولكن وقع في السرقة، هذه مثلما وقع ماعز الأسلمي في الزنا ووقعت المرأة الغامدية في الزنا، فلا حرج عليه إن تاب، وأرسل أحد الشيوخ هناك لوالد الولد هنا رسالة طويلة عريضة جداً يبين له أن ولده سرق وقد انتشر الخبر في كل بقاع الأردن بل وغير الأردن من البلاد المجاورة كالسعودية وغيرها، فرد والد الولد على ذلك الشيخ برسالة لطيفة جداً كلها تنضح أدباً، فقال: أيها الشيخ الفاضل! إذا كان ولدي سرق فهو بين أمرين، إما أن تقيموا عليه الحد إن وسعكم، وإما أن تستروا عليه وهذا يسعكم، ولا يوجد غير هذا، فإما أن يؤدب بأدب الشرع، وإما أن يستر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـهزال الذي كان ماعز في حجره: (ويحك يا
وإذا صفا لك من الدنيا صديق واحد فقد رضي الله عنك، وقد كتب عالم إلى عالم مثله أن: اكتب لي بشيء ينفعني في عمري، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، استوحش من لا إخوان له -يعني: من ليس له أصدقاء فإنه في وحشة وضيق- وقد فرط المقصر في طلبهم، وأشد منه تفريطاً من ظفر بواحد منهم فضيعه، فوجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه. أي: أن وجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدان الصديق المخلص، أي: أن وجدان الصديق المخلص أشد عزة وندرة من وجدان الكبريت الأحمر، والناس ثلاثة: معرفة، وأصدقاء، وإخوان، فالمعرفة بين الناس كثيرة، فأنا أعرف فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولكن ليس بيني وبينهم صداقة، والصداقة عزيزة، والأخ قلما يوجد، يعني: الصديق عزيز جداً ومناسب جداً، وأندر منه الأخ الذي أنت وهو سواء.
وأنت إذا نظرت إلى الصحبة مع الله عز وجل تجد الكثير جداً من الأمة لا يحسنون صحبة الله عز وجل؛ لأن الكل يسخر بالله وبأسمائه وصفاته وكتابه وأنبيائه ورسله، ويكتبون سخريتهم على صفحات الجرائد والمجلات، ويسخرون أيضاً بأهل العلم والفضل، وحسبنا أن الكلمة النافعة تمكث في الأرض وتبقى ويكون لها الجذور، وينتفع بها من وفقه الله عز وجل للخير، ولذلك قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، وقد ضرب الله عز وجل للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة مثلاً بالشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة، فهذه تثمر وتورق، ويعم خيرها بخلاف الأخرى، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للمسلم بالشجرة الطيبة، فقال: إن مثل المسلم مثل شجرة، فضرب الناس في أشجار البوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما هي؟ قال عبد الله بن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة -لأنها تثمر رطباً وبلحاً، وتغذي أصحابها وطالبيها-، ولكن منعه أن يتكلم صغر سنه، فلما أخبر بذلك أباه، قال: لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من الدنيا وما فيها. فالمرء يحب لولده الخير أكثر مما يحبه لنفسه.
ولو نظرنا إلى التأدب مع الله عز وجل في هذا الزمان لوجدنا أمراً عجباً جداً، والأعجب منه أنه يسب الله تعالى، ويسب كلامه ويعترض على الله عز وجل في كل آية، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل حديث، ويدعي من يفعل ذلك أنه مسلم، وهذا أمر محير؛ إذ كيف يكون مسلماً وهو يرد على الله عز وجل معظم كلامه، ولا يتعامل مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا من منطلق ضحالة عقله، فما وافق العقل أخذه وما خالفه رده؟ فهو ينسب العيب لدين الله عز وجل ولشرعه ولا ينسبه لنفسه أبداً، فكيف يكون هذا إيمان ودين؟! فالأدب مع الله في هذا الزمان قليل، بل هو أقل من القليل، فكل يوم يظهر شخص يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ويسب الله عز وجل ويسب الدين، وفي هذا الوقت أصبح سب الإله بين أطفال المسلمين مثل مضغ اللبانة، وحتى في مجتمعات الكفر لا تجد سب الدين إلا من المسلمين أيضاً، وحتى الكفار أنفسهم لا يسبون الدين، ولم يعهد ذلك إلا في بلاد المسلمين وخاصة في مصر.
فحسن الصحبة مع الله عز وجل هي بالتأدب معه عز وجل، والتأدب مع كلامه، ومع أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى.
والتأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام بملازمة العلم واتباع السنة، والخطاب بالسنة إذا كنت طالب علم.
ومع الأولياء بالاحترام والخدمة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، يعني: من آذى ولياً من أولياء الله عز وجل فبدلاً من أن تكون الحرب بينه وبين ذلك الولي تنتقل مباشرة إلى حرب بين الله تعالى وبين هذا الذي آذى عباد الله وأولياءه، ومن يطيق محاربة الله له؟ فالخلق بأسرهم أضعف من أن يدخلوا مع الله عز وجل في كيد أو في حرب.
وكذلك مع الإخوان بالبشر والانبساط وترك وجوه الإنكار عليهم، أي: ترك الإنكار عليهم في كل صغيرة وكبيرة، إنما تنكر عليهم ما لا يسعك السكوت عنه، ولم يكن فيه خرق شريعة أو هتك حرمة، كما قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199].
والصحبة مع الجهال بالنظر إليهم بعين الرحمة، فالجاهل إذا وقع في معصية بجهله فإنه يحتاج إلى صبر، والكلام هذا يلزمنا نحن أكثر مما يلزم العوام؛ لأننا نقابل هؤلاء الجهال، وهم لا علم لهم، بل ولا خلاق لهم، فمثلاً الرجل الذي دخل المسجد فبال فيه، لو تصورنا أن شخصاً جاء الآن وبال على جدار المسجد من الخارج من جهة الشارع فإننا سنقوم عليه قومة رجل واحد، فإما أن ينجو إن قدر على الهرب وإما أن يهلك، وكل واحد سيجد لفعله مسوغاً بأنه بال على بيت من بيوت الله، وهناك من سيقول له: يا كافر! وآخر سيقول له: يا فاسق! وثالث سيقول له: يا جاهل!
فالرجل دخل المسجد فبال فيه قائماً، والصحابة فعلوا مثل ما كنا سنفعل نحن بالضبط، فقد قاموا عليه قومة رجل واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، أي: لا أحد يفزعه، والرجل واقف يبول ولم يمنعه حتى الحياء، وبعد أن فرغ من بوله أتى وسأل: أين محمد؟ وهذه جلافة وسقطة ثانية، قال: ها أناذا، قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً. وهذه سقطة ثالثة، والنبي صلى الله عليه وسلم رد على هذه فقط، فقال: (لقد حجرت واسعاً). فرحمة ربنا وسعت كل شيء، فالناس الذين آمنوا أين ستأتي بهم؟
يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: والحكمة النبوية اقتضت هذا؛ فلو أنهم قاموا وأزرموه وفجعوه فربما جرى في السجد كله فنجسه جميعاً، وربما نجس ثوبه وبدنه، والخطورة هنا أعظم، ولكنه لو بال في مكان واحد لسهل تطهير هذا المكان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (اهرقوا عليه دلواً أو سجلاً أو ذنوباً من ماء). ولم يقل له: عقوبة لك على بولك في المسجد أن تنظفه، بل قال لأصحابه: نظفوا المسجد بذنوب ماء، وانتهت المسألة.
وانظر إلى مسألة العطف على الجاهل والتلطف معه والرحمة به، فقد جعلته يتمنى ألا يرحم الله أحداً إلا هو ومن رحمه، هو لأنه يحب نفسه، ومن رحمه لأنه رحمه، وهكذا ينبغي على أهل العلم والدعاة وطلاب العلم أن يتعاملوا مع المدعوين من باب التلطف والرحمة بهم، واللطف والرحمة يجدان طريقهما إلى القلوب مباشرة، والله تبارك وتعالى أمرنا بهذا الأسلوب في الدعوة إليه، فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
ما ذاقت النفس على شهوة ألذ من حب صديق أمين
من فاته ود أخ صالح فذلك المغبون حق اليقين
وأن تنصفه ولا تطلب الإنصاف منه، يعني: أن تنصفه من نفسك ولا تقل له: أنا أنصفتك من نفسي، فأنصفني أنت أيضاً، واترك هذه له هو، فطالما أنك أديت له حقه فلابد وأنه سيعطيك حقك.
واستكثر قليل بره، يعني: إذا أعطاك هدية صغيرة فقل: لقد كلفت نفسك، وما كان لك أن تفعل هذا قط، وهذا أمر فوق الطاقة، ونحن لا نستحقه، وقد أتيت لنا بالدنيا بأسرها، وتشعره بأنه أعطاك جبلاً من الخير، ولا تستكثر ما أعطيته له، بل استكثر ما قد أتاك منه ولو كان هيناً ولا قيمة له.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر