قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [المؤمنون:63-69].
في هذه الآيات من سورة المؤمنون يقول الله عز وجل عن الكفار المشركين الذين لم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما بين لهم من الآيات وما دعاهم إليه من الهدى:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63] أي: قلوبهم في غفلة وعماية وضلالة من هذا التذكير ومن هذا الدين الذي جئت به، ولهم أعمال قبيحة من دون ذلك، كطعنهم في القرآن وطعنهم في النبي صلوات الله وسلامه عليه، و(هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أي: قد عرفها الله عز وجل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا تيأس من هؤلاء وادعهم إلى الله عز وجل، ولا تحزن عليهم إذا أخذهم عذاب رب العالمين سبحانه، فهم على ما عملوا في كفرهم وإعراضهم سيعملون أعمالاً أخرى قبيحة.
ومعنى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: كلما يأتيهم العذاب من عند الله سبحانه في أي صورة من صوره كالقتل في يوم بدر وغيرها من أيام نصر المؤمنين عليهم فأخذهم الله عز وجل بهذا العذاب.
قال تعالى: إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ أي: كلما أتاهم شيء من عذاب الله عز وجل فإنهم يصرخون ويضجون ويستغيثون أن يكشف عنهم هذا العذاب مع أنهم في كفرهم وضلالهم.
ومعنى (ينكصون) أي: يرجعون ويتقهقرون إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله تعالى، فيبتعدون عنه صلى الله عليه وسلم، ويرجعون على ظهورهم.
وكانوا يقولون كما ذكر الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] أي: أنزل هذا القرآن على محمد من بني هاشم عليه الصلاة والسلام ولم ينزل على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أو على غني آخر من أغنياء قريش.
ومعنى ذلك: أنهم لم يتبعوه ولم ينظروا إلى الحق الذي جاء به وإنما نظروا إليه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل منهم فلم يدخلوا في الدين، فربنا سبحانه وتعالى أخبر عن حال هؤلاء أنهم نكصوا عن دين الله وتراجعوا القهقرى، ولم يدخلوا دين الله، مستكبرين بالمكان الذي هم فيه، فهم أهل الحرم، فإذا جاء وقت الحج خرج الناس إلى عرفة، وعرفة من الحل، أما هم فلا يصعدون جبل عرفة؛ لأنهم أهل الحرم فهم مميزون على غيرهم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفيض هو ومن معه من هؤلاء القرشيين من حيث أفاض الناس، فيخرجون من الحرم إلى الحل -وهو جبل عرفات- ثم يرجعون إلى مزدلفة ومنى فيجمعون في الحج بين الحل والحرم، فالكفار كانوا يعتقدون أنهم أعظم الناس حرمة، وأن لهم حقوقاً على الناس، وأن الناس أتباع لهم وليسوا أتباعاً لأحد، هذا مع بعدهم عن دين الله عز وجل وعبادتهم للأصنام من دون الله سبحانه، فهم يستكبرون عن آيات الله لأنهم أهل الحرم، والمفترض أن الذي يعيش في الحرم يتواضع لأنه في هذا المكان الأمين العظيم الذي فيه بيت الله عز وجل.
وقوله تعالى: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ) (سامر) تأتي مفرداً وجمعاً، وهي بمعنى: سمار، والسمر: هو حديث الليل في ضوء القمر، ويتسامرون أي: يجلسون ويتكلمون بالليل في أمور دنياهم، ومنه الأسمر، وهو لون بين الأسود والأبيض كلون القمح والحنطة، فالكفار يتسامرون في الليل ويطعنون ويسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فهم مستكبرون بالحرم وساهرون بالليل يهجرون.
وكان سليمان بن مهران الأعمش من علماء وفقهاء التابعين ومن المحدثين كان يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر، ومعنى كلامه: أنه لا يستحق الاحترام وإنما يستحق الضرب على قفاه؛ لأنه ضيع عمره وحياته في السهر بالليل للكلام والهذيان والتخريف حتى جاء في آخر حياته ولم يعرف شيئاً من سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان بعض العلماء يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون مع الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ، فيحسنون كل شيء إلا أمر دين الله تعالى.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي برزة الأسلمي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبله والحديث بعده)، ومعنى ثلث الليل: أن الليل من المغرب إلى الفجر يقسم أثلاثاً، فالثلث الأول كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فيه صلاة العشاء أحياناً وليس دائماً، وكان يخشى أن يشق على أصحابه صلى الله عليه وسلم من التأخير، وكان يحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبل صلاة العشاء لأنه سيضيع صلاة العشاء، ويكره الحديث بعدها وهو السمر والسهر، فمن صلى العشاء وأوتر ثم نام فقد غفر الله عز وجل له في نومه.
فالإنسان الذي يسهر بعد صلاة العشاء في غير عمل صالح فإنه يجلب على نفسه ذنوباً بالسمر واللهو، والطعن في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أنه يسمر إلا أن يكون في مدارسة العلم وفي طاعة الله عز وجل.
يقول العلماء: وأما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو عن أفضل وقتها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: فمن نام قبل العشاء فلا نامت عيناه، وهذا دعاء على الذي ينام قبل العشاء ويضيع صلاة العشاء.
والله عز وجل يمحو عن المحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها خطاياه، فقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها،...) يعني: الذنوب، ولا يزال الإنسان على ذلك حتى يصلي صلاة العشاء، والله عز وجل يذهب عنه من الخطايا ومن الذنوب، فالمفترض بعد ذلك إذا كان ربنا كفر عنك السيئات فلا تعمل سيئات جديدة باللهو وبالكلام الفارغ بعد العشاء.
كذلك السهر إلى ساعة متأخرة من الليل كما يحدث عند كثير من الناس أنهم يسهرون إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، ثم بعد ذلك ينامون فيضيعون صلاة الفجر ويستيقظون بعد شروق الشمس ثم يصلون صلاة الصبح، فيضيعون على أنفسهم الفضيلة ويكتسبون من الآثام، فكره النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بعدها لما يجر هذا الحديث إلى تضييع العبادة واكتساب المآثم.
فإذا ذهب إنسان إلى آخر بعد العشاء لحاجة من الحاجات فلا يطول عليه السهر فيضيع عليه وقته، فلا يستطيع أن يقوم من الليل، ولعله يضيع على نفسه صلاة الفجر، فاحرصوا على أوقاتكم، وكل إنسان مسلم يضن بوقته أن يضيعه في لهو ولعب ولغو، فإن الأوقات محسوبة عليك، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فإن لم تقطع وقتك بأخذ الثواب فاتك هذا الوقت ولن يرجع إليك مرة ثانية، فلذلك اجعل لنفسك في يومك وقتاً يكون لذكر الله عز وجل من نوافل وغيرها، واعمل لنفسك وقتاً لطلب العلم ولقيام الليل، ولا تضيع وقتك ووقت غيرك، فالوقت بعد العشاء إما أن يكون للنوم، أو لذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في ذلك فهذا خير، وإذا كنت في غير ذلك فلا.
والدليل على جواز السمر بعد العشاء لذكر الله عز وجل ونحوه: ما جاء من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي إليه بعض أصحابه أحياناً ويجلسون عنده جزءاً من الليل، كـأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد جاء حديث طويل في ذهاب أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودروسه معه بالليل ثم رجوعه إلى بيته.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر