مما يؤسف أننا في هذا الزمان ما زلنا نجد كثيراً من الناس حينما يجلس بعضهم إلى بعض فيرون علائم الجد على رجل من الرجال يقولون له: ساعة وساعة، أعط نفسك حضها، وإن لبدنك عليك حقاً، فيستدلون بشطر من الحديث ويدعون حقوقاً أخرى، وفي الحقيقة أن الناس في هذا الزمان لا يحتاجون إلى تذكيرهم بحقوق الدنيا، لأنه لا يوجد أحد منهم يقصر في أمر الدنيا، وكل الناس مشتغلون بعلم الدنيا وبمال الدنيا وبزخارف الدنيا، وقل من يشتغل بأمر الآخرة، فعند الناس فعلاً من الغفلة ما يكفيهم، والناس الآن في حاجة إلى من يزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في الآخرة، وهذا الكلام للإمام ابن الجوزي وكان في عصر كانت فتنة الدنيا فيه أخف بكثير مما نقاسيه الآن.
فإن اعترض معترض على هذا المعنى، فنأتيه بكلام الإمام الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: لا بد من سمة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، ولا تتمادى في الغفلة.
فالمراد تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم كل حسب صحته وظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية، لأن المسلمين فيما مضى كانوا يجدون على الخير أعواناً، وكانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل والمعاصي تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوف الأمراء.
أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً، جميع أنواع الكفر الآن تجوس خلال ديارنا، وتغزونا في عقر دارنا، كل أنواع الكفر، وكل أنواع الملاهي والفساد والفسق والفجور تغزونا في عقر دارنا، ولا يكاد يخلو منها شبر من الأرض، فسهلت هذه المدنية الحديثة وصول هذه الضلالات كلها عبر الإذاعات والتلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وصار سهل جداً أن يتبع الإنسان كل أنواع الضلال وكل أنواع التمويه والإفساد، فقلبه يسمم ما بين وقت وآخر، ويكفي ما يحصل بصورة أو بأخرى من الطعن في شرائع الإسلام، كأن توصف قوانين الشرائع الإسلامية بأنها قوانين قاسية أو صارمة أو وحشية والعياذ بالله، وما أكثر الملاحدة أصحاب دعوى حقوق الإنسان الذين يتكلمون بين وقت وآخر في الطعن في الإسلام من خلال استغلال الأحداث كما حصل بالأمس في إعدام أربعة من الأتراك هربوا المخدرات إلى السعودية، فاليوم يتصارخ أصحاب حقوق الإنسان، ويرون أن هذه قسوة، ومن خلال ذلك يطعنون في إقامة حدود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنها تنافي ما يزعمونه من مبادئ حقوق الإنسان التي ضيعت!
في هذا الزمان إذا هلك داعية من الدعاة الواقفين على أبواب النار يدعون الناس إليها يمتدحونه بأنه ثبت على مبدئه إلى النهاية، مثل تلك المرأة التي وقفت حياتها على حرب الدعوة، وشتم الحجاب، ووصفه بأنه كفن ككفن الموتى، وهي الآن -ولله الحمد- قد كفنت وتنقبت رغم أنفها بنقاب لا تخلعه إلى أن يأذن الله، فالعجب كيف يمتدحون الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها!
فيمتدحون هؤلاء وينفخون فيهم كأنهم الأبطال، وكأنهم المجددون الذين يريدون الخير لهذه الأمة، كل المعايير وكل القيم انقلبت بسبب الغزو الفكري، وسهولة التسرب إلى قلوب المؤمنين، فبلا شك أنه ينبغي علينا أن نكون أعين منتبهة ومبصرة لما يأتينا من سهام الفتن التي تكاثرت علينا.
تكاثرت الظباء على خراش فلا يدري خراش ما يصيد
فهذه الوسائل كلها جعلت إلقاءات جميع إخوان الشياطين بكل أنواعهم قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع أو المنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لقلبه أكثر مما كان يجب على السلف الصالح؛ لأن البيئة حول السلف الصالح كانت كلها تؤزهم على الخير أزاً، والباطل منقمع ومهزوم ومنكسر، أما الآن فالحال لا يخفى علينا.
وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله تعالى حين بسط هذه الحقيقة وجلاها قائلاً: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كقرية واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحاً ومساءً، غلظ بسببها وتكاثف بملاذها حجاب الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة. فالإنسان لا يستطيع أن يخرج من أسر هذا التأثير الإعلامي وتأثير السموم من كل مكان إلا بهمة عظيمة كالقوة التي يحتاج إليها الصاروخ كي يتحرر من جاذبية الأرض، فلا بد من قوة دافعة له أقوى من الجاذبية حتى يتحرر منها، ونحن كلما زاد الثقل علينا نحتاج إلى قوة دافعة أقوى كي نتحرر من هذه الضغوط، وليس ذلك إلا بقوة الإرادة أو الهمة كما بينا من قبل، يقول الشاعر:
وانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
دهش المؤرخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وانهارت بها أمامهم الامبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سر عظمة هذه الأمة الناشئة الذي يكمن في المدد الرباني لهؤلاء المجاهدين، والمدد الرباني لا يقتصر على المدد الإلهي بالملائكة فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، لكن أيضاً أتاهم إمداد الله سبحانه وتعالى بمفاهيم وقيم ومقومات أهلتهم لقيادة البشرية، فالمسلمون الأوائل لما قادوا البشرية ما تم هذا الأمر خبط عشواء أو فلتة، وإنما كان بمؤهلات وبمسوغات استحقوا بها إمامة البشرية، فمن هذه المقومات والمفاهيم والقيم والمؤهلات التي انتزعوا بها القيادة من قيم هابطة ومفاهيم متخلفة وعقائد فاسدة ومثل مهترئه، فقد كانت المواجهة صراعاً بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات وكان من الطبيعي أن تسري سنة الله عز وجل في خلقه ويمضي قانونه المحكم في أن البقاء للأصلح فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].
فلنطالع الآن صوراً من هذه المواجهة بين الحضارتين، والتي حسمت نتيجة الصراع قبل المواجهة المسلحة لصالح حزب الله المصلحين، فمن يقارن بين الحضارة الإسلامية والقيم الإسلامية والدعوة الإسلامية وبين ما كان عليه الفرس أو الروم في ذلك الوقت لوجد أن النتيجة محسومة مسبقاً، وأنها قطعاً في صالح المسلمين قبل أن يتم التصادم الحربي.
وهذه النماذج نحن نحتاج إليها جداً في هذا الزمان في مواجهة الغرب الذي يمثل العدو الأول للإسلام، والغرب يدرك هذه الحقائق جيداً، ولكن للأسف أن المسلمين لا يقرءون ولا يلتفتون إلى هذه الأشياء، وهم يعرفون جيداً أن هذه الأمة لو مكنت أو تمكنت من إعادة تحكيم الإسلام من جديد، ولو نفخ فيها روح الإسلام من جديد؛ لما وقفت أمامهم لا قنابل نووية ولا هيدروجينية ولا صواريخ ولا أي شيء، هم يعرفون ذلك جيداً؛ ولذلك لما حددوا أن عدوهم الأول هو الإسلام لم يكن ذلك اعتباطاً، بل هو عن دراسة، وهم يدرسون تاريخنا بمنتهى العمق، ويعرفون طبيعة هذا الدين، ويعرفون أنه الدين الوحيد القادر على أن يحيي هذا الموات وأن ينفخ الروح من جديد في هذه الأمة، وهذا مجرب من قبل وحتى الآن، فمثلاً: المجاهدون الأفغان انتصروا على الروس بأشياء بسيطة جداً، وحالهم معروف لا يخفى على أحد، ومع ذلك استطاعوا أن يكونوا مسماراً قوياً في نعش الدب الأحمق، ولا نقول الآن الدب الأحمر، فقد ذهبت الحمرة وبقي الحمق، فهذا الدب الأحمق ذل واستصغر وهان وانهار وتحطم وصار أضحوكة للعالم وعبرة من العبر ومزقهم الله سبحانه وتعالى شر ممزق على يد هؤلاء المجاهدين الضعاف، وما زالوا حتى اليوم أيضاً يمزقون على يد المسلمين في الشيشان رغم ضعفهم بالنسبة لهذا الدب الأحمق.
وهكذا أيضاً بالنسبة للغرب، فهو يعرف جيداً أن الإسلام هو عدوه الأول؛ لأنه هو الوحيد القادر على أن يتحداه حضارياً، فأنت إذا قارنت بين أحكام الإسلام وأهداف الإسلام وغايات الإسلام ووسائل الإسلام ورسالة الإسلام وبين ما عليه الغرب فالمعادلة محسومة قطعاً، فالغرب يقيم حضارته على القيم الكاذبة التي يسمونها زوراً حقوق الإنسان، ومن خلالها يستعبدون الأمم، فأمريكا الآن تعيث في الأرض فساداً بهذه الشعارات الكاذبة، وهي في الحقيقة عدوة الإنسان الأول، فالقيم التي عندهم هي تهديم الأسرة، وشيوع الفواحش، وتفسخ الروابط الاجتماعية، والظلم والقهر والاستعباد الموجود في العالم الغربي، وهذا يعرفه جيداً من يعيش بينهم ومن يخبر عن أحوالهم. فالبديل الوحيد الذي يمكن أن يحل محل الغرب في قيادة البشرية بجدارة وتأهل وبمقومات حقيقية لا وهمية هو الإسلام، وهم يعرفون ذلك جيداً، وهذا هو سر محاولتهم الآن تطبيق مبدأ: الوقاية خير من العلاج، فيحاولون تجفيف منابع الإسلام، ويحاولون غسيل مخ المسلمين، ويلهونهم حتى لا تبقى لهم قضية، وحتى لا يصلحوا لا للجهاد ولا للدفاع ولا أن يعيشوا لمبدأ، كل الذي عندهم الأفلام والفنانين والرياضة والدش والتلفزيون واللهو والغناء، وكل هذه السفاهات حتى لا يبقى هناك قضية، فالذي ينظر إلى أحوال المسلمين اليوم فهل هؤلاء هم الذين نزل فيهم القرآن؟ هل هؤلاء هم الذين بعث فيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
ما هذه الأحوال التي نرى عليها الشباب والبنات من الفسوق والعصيان، هل هؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟
هل هؤلاء أحفاد أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من المجاهدين والأبطال؟ هم يريدون أن يقطعوا صلتنا بهذا المدد؛ كي لا ندرك ذاتنا، وكي لا نعود نهددهم بالخطر من جديد.
وبالرغم مما نحن فيه من ضعف إلا أنك إذا قارنت بين الحضارتين فأي إنسان منصف سيحسم النتيجة قطعاً لصالح الإسلام قبل أن تحسم بأي وسيلة أخرى.
في العصر الأول حسمت النتيجة للمسلمين لما قورن بين الحضارة الإسلامية وبين حضارة الفرس والروم، لما غزا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بجيشه مصر وعليها المقوقس ، بعث إليه عمرو عشرة رجال وأحدهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان عبادة شديد السواد، وكان هذا هنا على حدود الإسكندرية، وقد تشرفت الإسكندرية بهؤلاء الصحابة الذين أخرجوا مصر من الظلمات إلى النور، فكم يفخر الإنسان ويفرح ويتهلل إذا استحضر أن عمرو بن العاص أتى إلى هذه المدينة التي هي الإسكندرية، وقد كانت العاصمة، وتعرفون سور عمرو بن العاص الذي في الشلالات، فهو السور الذي كان يحيط بمدينة الإسكندرية، فلعلهم مروا على نفس هذا المكان الذي نحن الآن فيه، فشرفت هذه البقعة من بلاد الله سبحانه وتعالى بهؤلاء الأطهار الأبرار الذين جاءوا ليخرجونا من الظلمات إلى النور، وكم نتحسر حينما نرى من يحملون أسماء المسلمين وكل همهم أن يمحو تماماً أثر ما فعله عمرو بن العاص وصحابته الأبرار، وأن يعيدونا إلى ما كنا قبل تشرف مصر بالفتح الإسلامي العظيم الذي يسمونه كذباً وزوراً وتزويراً وتضليلاً بالفتح العربي، وما كان فتحاً عربياً وإنما كان فتحاً إسلامياً خالصاً لنشر دين الله سبحانه وتعالى في الآفاق.
لما أتى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المقوقس ، وكان عبادة شديد السواد، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس وعلى رأسهم عبادة هابه المقوقس ، وخاف من منظره؛ لأن عبادة كان طويلاً قوياً شديد البأس، وكان شديد السواد، فصرخ المقوقس قائلاً: نحو عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا، انظر من البداية صراع بين حضارتين، بين قيم وقيم، بين مثل ومثل، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فاستعجب واستغرب المقوقس جداً مما قالوا، ثم قالوا له: إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحد أحداً إلا بفضله وعقله وليس بلونه، ولا شك أن المقوقس كان مستاءً من وجود عبادة بن الصامت رضي الله عنه للونه الأسود، وظن أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيراً لمقام المقوقس وتحقيراً لشأنه، لكن لا يمكن أن يخطر هذا ببال عمرو بن العاص ولا بأحد من المسلمين رضي الله تعالى عنهم.
فلما أجمع رسل المسلمين على أن المتحدث باسمهم جميعاً عبادة لم ير المقوقس بداً من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة لما رآه يخاف من منظره ومن شكله بهذه الصورة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، انظر إلى الحرب النفسية! وهذا كلام صدق وعن جدارة، وليست كالحرب النفسية الكاذبة في هذا الزمان، فهو أراد أن يقذف في قلبه الرعب عندما رآه مرتعباً فقال له هذه العبارات العظيمة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي؛ وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه بليله ونهاره، وشملة يلتحفها، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في طلب رضوانه وجهاد عدوه.
فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعاً شديداً، وقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض، ثم أقبل على عبادة وأراد أن يسلك معه طريقاً للإرهاب الملبس في قالب من النصح فقال له: أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشجاعة، لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به، فنظر إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه شامخاً، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلاً: يا هذا لا يغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري! ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وما من رجل منا إلا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.
وقد أراد المقوقس أن يجعله يقبل شيئاً مما عرض عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء، ووقف عبادة يرد عليه بعد أن نفذ صبره بقامته الشامخة، وأخذ يرفع يديه إلى السماء ويقول له: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم.
عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: أما الأمر الأول -وهو الدخول في الإسلام- فلا نجيب إليه أبداً، فلا تتركوا دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وبذلك رفضوا الإسلام فلم يبقى أمامهم إلا الجزية أو الحرب فقالوا: إنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعدو أن نكون عبيداً، وللموت خير من هذا، مع أنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وتحفظ لهم كنائسهم، ولا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم، فقال المقوقس لمن حوله: أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الخصال الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين.
هكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) يفتحون به مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تصحح.
صورة أخرى تجلت فيها أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس عندما كانت تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه أما الآخرة التي هي الهم الأكبر عندهم، فهي الغاية العظمى والحياة الحقيقية الخالدة.
جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حتى نزل القادسية والمسلمون الذين معه نحو سبعة آلاف، والفرس يبلغون ثلاثين ألفاً أو نحواً من ذلك، وكانت نبال المسلمين وعدتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل فيقولون: دوك دوك، وهي كلمة بالفارسية تعني المغزل، فكانوا يسخرون من الأقواس ويشبهونها بالمغزل الذي يغزل به القطن، وقالوا هذا تعبيراً عن ازدرائهم للمسلمين واحتقارهم إياهم وكأنهم يقولون لهم: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، فما جاء بكم؟! ارجعوا.
فلما أدخل رسل المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس وكان سيء الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان أن يسألهم عما يسمون تلك الأغطية التي يلبسونها، وهذا من سوء أدبه حيث ما بدأ في الحوار مع هؤلاء المرسلين في القضية التي أرسلوا من أجلها، ولكن أراد أن يسخر من رداءة ثيابهم، فهذه هي القيم الفارسية والموازين التي يزنون بها الناس، فكان الصحابة رضي الله عنهم كلما سأل واحداً منهم يجيبه جواباً يجعله يتطير من الجواب، وهذا أيضاً من الحرب النفسية، فلما عرض النعمان بن مقرن دعوة الإسلام على كسرى قال كسرى: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل عليكم القرى فيكفونناكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم زاد وكثر فلا تغتروا، وإن كان الجهد -أي: الفقر- دعاكم صرفنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
وتلاحظون الفرق في حقوق الإنسان في نظر كسرى وفي نظر كلينتون وأمثاله، فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي فقال: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل إنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا في الجاهلية أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليقتل ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً -صلى الله عليه وسلم- نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وكان خيرنا في الحال التي كنا فيها، وأصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، والإشارة هنا إلى الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، والترب قرينك في السن، قال: فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة بعده، فآمن وكفرنا، وقلنا وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك له، كنت ولم يكن شيء، فإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: أتستقبلني بمثل هذا ؟! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به، فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم، وقال: ائتوني بوقر من التراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، وارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفنكم في خندق القادسية وينكل بكم، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور فتقدم عاصم بن عمرو واحتمل وقر التراب واعتبره فألاً حسناً على الظفر بأرضهم، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يظفرهم بأرضهم، وقد تطير من ذلك رستم وجعله علامة على أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين، ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعددهم وعلى رأسهم رستم حتى إذا نزل رستم بالعقيق على منقطع معسكر المسلمين راسل رستم زهرة فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول: أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا، فقال له زهرة : صدقت قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم ويطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا يقرون به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز.
فقال له رستم : وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضاً ؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، قال: حسن، وأي شيء أيضاً ؟ قال: والناس بنو آدم وحواء أخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم : أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وعاهدتكم عليه ومعي قومي، كيف يكون أمركم أترجعون؟ يعني: لو دخلنا في الإسلام هل تتركوننا وتعودون؟ فقال: أي والله ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة، قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة وهم الأسافل كانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم، يعني: أن الطبقة السفلى من المجتمع لا يمكن أن يتساووا مع النبلاء والملوك والأمراء؛ لأنهم إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم، فكأنه يريد ميزة يمتاز بها على هؤلاء الضعفاء، فأجابه زهرة فقال: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، فنحن نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصا الله فينا، فانصرف عنه وطلب رستم مندوباً آخر ثم إن سعداً أرسل ربعي بن عامر رضي الله عنه، فدخل على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اللآلئ الثمينة العظيمة، وأراد أن يهزمه بهذه المظاهر، وعليه تاج وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مشققة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، فـربعي يريد أن يعلمه أن كل هذه المظاهر ما تساوي عندنا شيئاً، بل حقرها بالفعل فمزقها بالرمح من باب الحرب النفسية، فإنه نزل من فرسه وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم : ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فمزق عامتها بالرمح، فقال له: ما جاء بكم؟ فانظر إلى جواب رجل من جنود المسلمين، وانظر كيف فقهه لغايته من الحياة، وفهمه للرسالة التي يعيش من أجلها، وقارن بين شباب المسلمين اليوم ولماذا يعيشون؟ وما هدفهم وغايتهم؟ فقال له: ما جاء بكم فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ذلك قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى، فقال رستم لرؤساء أهل فارس: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟! فقالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكل، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، وأقبلوا يسخرون من سلاحه ومن ملابسه ومن هيئته، فأبى الفرس دعوة الحق، واختاروا المنازلة، فنصر الله المسلمين وهزموا فارس وسبوهم.
وكان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، ودعوتهم وما هم عليه، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشاً أوله في منابت الزيتون -يعني: في الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم وظل عدلهم.
هذه نماذج تدل على موقع الدنيا في قلوب الرعيل الأول، ولو استطردنا لوجدنا عشرات الصور في التاريخ الإسلامي تعكس هذا المعنى.
من خصائص عالي الهمة كونه عصامياً لا عظامياً، والعصامي: هو من ساد بشرف نفسه، وهو الذي يبني مجده بنفسه، وفي مقابله العظامي: وهو من ساد بشرف آبائه، فهو يفخر بعظام آبائه وأجداده، يفخر بآبائه الذين صاروا الآن عظاماً، فلذلك ينسب إليهم ويقال له: عظامي، أما العصامي فهو الذي يسود بنفسه، نسبة إلى عصام بن شهبر حاجب النعمان بن المنذر الذي قال له النابغة الذبياني حين حرمه من عيادة النعمان من قصيدة له:
فإني لا ألومك في دخولي ولكن ما وراءك يا عصام
و عصام هذا هو الذي قال فيه النابغة :
نفس عصام سودت عصامـاً وعلمته الكر والإقداما
فصيرته ملكاً هماماً
يعني: بعد ما كان عبداً صار ملكاً بجهده وكفاحه وجده، ولذلك صار يسمى الشخص الذي يسود بشرفه وبجهده عصامياً نسبة إلى عصام .
قوله: نفس عصام سودت عصاماً ، صارت مثلاً يضرب في نباهة الرجل من غير قديم، والعصامي تسميه العرب اسماً آخر، يسمونه الخارجي، وهو الذي خرج بنفسه من غير أولية كانت له، يعني: لم يسبقه أحد من آبائه وأجداده ومن سبقوه من قبيلته بهذه النباهة وهذا الذكر وهذا المجد، فهو خرج من قومه فذاً منفرداً لم يسبق وليس له أولية، فيسمى خارجياً؛ ولذلك يقول كثير :
أبا مروان لست بخارجي وليس قديم مجدك بانتحال
فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره ألا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفاً ونسباً.
قال عامر بن طفيل العامري :
وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بجد ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
فهو يعتز بأنه شرف بنفسه مع أن آباءه وأجداده عظام، لكنه لم يتكل على نسبه، وإنما شرف بنفسه وبذاته، فله قيمته وتأثيره.
وقال الأبيوردي مبيناً أنه لم يقنع بنسب آبائه وأجداده، وإنما جمع إلى مجدهم الموروث مجداً اكتسبه بعلو همته:
فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب
فجمع إلى المجد السابق مجداً أثبته بنفسه.
ويقول المتنبي :
ولست أبالي بعد إدراك العلى أكان صراخاً ما تناولت أم كسب
ويقول معن بن أوس : ورثنا المجد عن آباء صدق ذأسأنا في ديارهم الصنيع
إذا المجد القديم توارثته بناة السوء أوشك أن يضيع
ولا يعني ذلك أن الإنسان إذا كان ذا نسب شريف أنه لا قيمة له، بل بالعكس فإذا جمع الإنسان إلى النسب الشريف العمل الصالح فنعما هو، وآية ذلك أن من أعظم مناقب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كونه قرشياً، ومن وجوه تفضيل المذهب الشافعي على غيره أنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس إذا اجتمع الدين مع الحسب، وهذه أكمل الحالات كما افتخر الأبيوردي في قوله:
فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب
فأكمل ما يكون أن ينضم المجد المكتسب إلى المجد الموروث، وأن تنظم العصامية إلى العظامية.
وقف عند الحجاج رجل كانت له إليه حاجة، فقال في نفسه: لأختبرنه فإن الناس يصفونه بأنه جاهل، فقال له أول ما دخل عليه: أعصامي أنت أم عظامي؟ ويقصد الحجاج أشرفت بنفسك أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظاماً؟
فقال الرجل: أنا عصامي وعظامي، فقال الحجاج : هذا أفضل الناس، وقضى حاجته، وزاده، ومكث عنده، وبعد أن احتك به عن قرب وجده أجهل الناس، فقال له: تصدقني وإلا قتلتك، قال له: قل ما بدا لك وأصدقك، قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك أعصامي أنت أم عظامي؟ فإنه أتى بجواب في غاية البلاغة والفصاحة حيث قال: أنا عصامي وعظامي، فقال له الرجل: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما، فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر.
والحجاج ظن أنه يقول: أنا أفتخر بفضلي وبآبائي لشرفهم، فقال الحجاج عند ذلك عبارة صارت مثلاً يضرب: المقادير تجعل العيي خطيباً.
وقال عبد الله بن معاوية في هذا المعنى:
لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فكبير الهمة لا يضيره ألا يكون ذا نسب، بل لا يضيره أن يكون ذا نسب وضيع، وهذه من أعظم محاسن الإسلام، وإذا فتشت في أكابر علماء المسلمين تجدهم من العبيد والموالي والأعاجم، فأغلب الأئمة والمحدثين والمشاهير هم من الأعاجم الذين لم يكونوا عرباً.
فلا يضير كبير الهمة ألا يمت بآصرة اللحم والدم إلى قوم غير كرام، فإنه بعلو همته سوف ينتسب إلى الكرام، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم به أولى، وكل لؤم دونه كرم فالكرم به أولى، ومعنى هذا أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً وآباؤه لئاماً لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً وآباؤه كراماً لم ينفعه ذلك.
يقول الشاعر:
واه لحر واسع قدره وهمه ما سر أهل الصلاح
سوده إصلاحه سره وردعه أهواءه والطماح
من الطموح والارتفاع والتطلع.
وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك، قال: صدقت، فأخذ الشاعر بهذا المعنى فقال:
مالي عقلي وهمتي حسبي ما أنا مولى ولا أنا عربي
إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتم إلى أدبي
وكبير الهمة ليس عظامياً يفتخر بالآباء والأجداد الذين صاروا عظاماً ورفاتاً، وإنما يفخر بنفسه.
يقول آخر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي
ويقول المتنبي :
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي.
ويقول آخر:
كم سيد بطل آباؤه نجب كانوا رءوساً فأمسى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب نال المعالي والآداب والرتبا
المتنبي من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي همة، يقول المتنبي :
وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام
ولست بقانع من كل فضل بأن أعزى إلى جد همام
يعني: لا يكفيني أن أنتمي في باب المكارم إلى جد همام، ولكن أبني هذا المجد بنفسي.
تواردت نصوص الشريعة المطهرة على التنفير من التفاخر بالأحساب إذا كان على وجه الاستكبار والاستحقار، وبذلك نطقت الأخبار، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب، حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب، فشرف النسب لا يدخل في كسب الإنسان، يقول تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فالنسب ليس مكتسباً، ولا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، وآدم خلق من تراب كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلق منه، ولا من جهة الفاعل؛ لأن الفاعل الخالق هو الله تعالى وحده، فليس للنسب شرف يعول عليه، فالمدار عند الله عز وجل على التقوى، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى، قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وبالتقوى تكمل النفس، وتتفاضل الأعمال، وقد رتب تعالى الجزاء على الأعمال لا على الأنساب كما قال عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، معناه: أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً، ولم يقل: على قدر أنسابهم، وإنما قال: على قدر أعمالهم زمراً زمراً، أوائلهم كلمح البصر ثم كمر الريح ثم كمر السيل ثم كمر البهائم حتى يمر الرجل سعياً وحتى يمر الرجل مشياً حتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه، فيقول: يا رب لما بطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطأ بك، إنما بطأ بك عملك.
وها هو صلى الله عليه وآله وسلم يحرض أهل بيته وعشيرته الأقربين على لزوم التقوى، ويحذرهم من الاتكال على نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أشرف أنساب العالمين، فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين كي يجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا
وفي حديث خارج الصحيحين: (إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد! فأقول: قد بلغت).
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين) يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب، فإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيماناً وعملاً فهو أعظم ولاية له سواء كان له منه نسب قريب أو لم يكن، ولذلك الصحيح في تعريف آل محمد عليه الصلاة والسلام أنهم أتباعه على الراجح.
فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا قوله تعالى لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في شأن ابنه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وقد كان من صلبه قطعاً، ومعنى قوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] أي: ليس من المؤمنين.
كان إيمان سلمان الفارسي له نسباً، حتى روي في حقه حديث: (
عليك بتقوى الله في كل حالة ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر النسيب أبا لهب
قيل لـشريح : من أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعدادي في كندة.
وقال ثابت البناني : قال أبو عبيدة : يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه، يعني: أن أكون داخل جلده ما دام تقياً.
وروي أنه قيل لـسلمان الفارسي : انتسب يا سلمان ، فقال رضي الله عنه: ما أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام، ولله در القائل:
بعيد القوم ينصر مدعيه ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
بينما يقول خسيس الهمة المفتون بعشق امرأة: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي، رأينا كبير الهمة يتشرف بنسبته إلى الله عز وجل فيقول: فلا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي.
وما أحسن من قال شعراً:
ومما زادني تيهاً وشرفاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
ويقول آخر:
كفى بك عزاً أنك له عبد وكفى بك فخراً أنه لك رب
ويقول آخر: إذا عز لغير الله يوماً معشر هانوا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: تفاخرها بالآباء- الناس بنو آدم وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم) مثلما يفتخر الآن بأخبث خلق الله الفراعنة لعنهم الله، يفتخرون بهم في ماذا؟! في عبادة الأحجار والملوك والأصنام والشرك والسحر وهذه الضلالات! فبئس النسب، الله عز وجل شرفنا بالإسلام، فكيف نفتخر بانتمائنا إلى أخس خلق الله، وأذل خلق الله، الذين عبدوا ملوكهم، وأشركوا بربهم سبحانه وتعالى؟!
كيف نكفر بنعمة الله علينا بالإسلام ونفخر بالانتساب للفراعنة؟! بعضهم يقول: الجيل الجديد ما عنده انتماء، انتماء لمن؟ انتماء لـخوفو وخفرع ومنقرع ؟! انتماء إلى عبدة الملوك والمشركين والوثنيين؟! الله المستعان!
يقول عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) الجعلان جمع جعل، وهي دويبة أرضية مثل الخنافس تدفع النتن -وفي لفظ آخر: الخرءة- بأنفها، فالذين يفخرون بأي رابطة غير رابطة الإسلام ينطبق عليهم هذا الوعيد، وهو أن الله يجعلهم أحقر وأذل وأهون من الجعلان التي تدفع النتن والنجس بأنفها.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد التفت نحو المدينة: (إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا).
فالحزم اللائق بالنسب أن يتقي الله تعالى، ويتخذ من الخصال الحميدة ما لو كان في غير نسيب لكفته؛ ليكون قد زاد على الزبد شهداً، وعلق على جيد الحسناء عقداً، ولا يكتفي بمجرد الانتساب إلى جدود سلكوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا.
وقد ابتلي كثير من الناس بذلك، فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عار كالإبرة من كل كمال، ويقول: كان أبي كذا وكذا، وافتخاره بأبيه نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج الذي لا يوجد شعر على عارضيه، فهل يصح أن يفتخر بأن أخاه لحيته طويلة وكثة.
يقول شوقي :
فدعوا التفاخر بالتراب وإن علا فالمجد كسب والزمان عصام.
وقال الشاعر أيضاً:
وأعجب شيء إلى عاقل أناس عن الفضل مستأخرة
إذا سألوا من على أشاروا إلى عظام ناخرة
وقال بعضهم:
أقول لمن غدا في كل وقت يباهينا بأسلاف عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري بأن الكلب يقنع بالعظام
وما ألطف قول الشاعر:
لم يجزك الحسب العالي بغير تقى ما أولاك شيئاً فحاذر واتق الله
وابغ الكرامة في نيل الفخار به فأكرم الناس عند الله أتقاها
وما أكثر هذا الافتخار البارد بين خفيفي الهمة الذين ارتكبوا كل رذيلة، وتعروا عن كل فضيلة، ومع ذلك افتخروا بآبائهم على فضلاء البرية، واحتقروا أناساً فاقوهم حسباً ونسباً، وشرفوهم أماً وأباً، وهذا هو الضلال البعيد، والحمق الذي ليس له مثيل.
الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم شرف عظيم، لكن ينبغي ممن رزقه ألا يجعله عائقاً عن التقوى، ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي لبيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحيي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما ينكر نسبه، قيل لشريف سيئ الأفعال:
قال النبي مقال صدق يحلو لك الأسماع والأفواه
إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكموا عن أصله المتناهي
وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عزيمة الأشباه
وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله
ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره، وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل، كما يحكى أن بعض الشرفاء من آل البيت في بلاد خراسان، كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به يعني بمصاحبته وبعلمه، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله أذل وأنت تجل، وأهان وأنت تعان، فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا، هذا محتمل منه لجده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعفو عنه وإن خرج عن حده ولكن أيها الشريف! بيضت باطني وسودت باطنك، فغلب بياض قلبي سواد وجهي فحسنت، وغلب سواد قلبك بياض وجهك فقبحت، وأخذتُ سيرة أبيك، وأخذتَ سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك، ولهذا قيل:
ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة
يعني لا ينفع الاتكال على ذوي الخصال الثمينة إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية، ومن الكمالات عرية كما يقول البختري :
ولست أعتد للفتى حسباً حتى يرى في فعاله حسبه.
والباهلي نسبة إلى باهلة، وباهلة اسم امرأة من همدان، نسب ولدها إليها فقيل لهم باهلة، وكانت قبيلة باهلة مشهورين بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية، يعني: فضلات الطعام يعيدون أكلها مرة ثانية، وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها، ويأخذون شحم الميتة ويطبخون به؛ فاستنقصتهم العرب جداً، حتى قيل لأعرابي: أيسرك أن تكون من أهل الجنة وأنت باهلي؟ قال: بشرط ألا يعلم أهل الجنة أني من باهلة!
وليس كل باهلي كذلك، بل فيهم الأجواد، فكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري ذلك في حق الكل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر