هذا الباب من تمام الطهارة، يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه، ولو كان شيئاً طبيعياً عادياً، ولو كان شيئاً مما يستحيا من ذكره، ولكن لا حياء في الدين، والله عز وجل لا يستحي من الحق، وهذا الباب يتعلق به أحكام وأدعية لابد من معرفتها؛ فلأجل ذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك.
وثبت في صحيح مسلم : أن اليهود قالوا لـسلمان الفارسي : (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة -يعني: حتى ما تفعلونه عند التخلي- فقال: نعم، والله لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، ونهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستجمر بها، وأن نمس عوراتنا باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار)، فبين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علماً وفائدة.
فالأحكام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كلها ذات أهمية، وكذلك الأدعية التي يدعى بها.
كذلك أيضاً نقول: إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم ونبيه علم أمته، وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها.
فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان من الشرور.
ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ للإنسان من النجاسة.
ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل.
فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية.
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الحشوش محتضرة)، (محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين، فأمر بأن يتحصن الإنسان من الشياطين بذكر الله، ومعلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة، وتألف الأماكن النجسة، فإذا لم يتحفظ الإنسان من الشياطين عبثت به، وورد أيضاً في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم، فإذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت به فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي، والحسي يتمثل بأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي، وأما معنوي فبأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه، فلأجل ذلك أمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى.
ثم يقول: (أعوذ بالله من الخُبْث -أو من الخُبُثْ- والخبائث).
والخُبُث: الذكور، والخبائث: الإناث.
أو الخُبْث يعني: الشر، والخبائث: الأشرار.
فيستعيذ من ذكران الشياطين وإناثهم، أو من الشر وأهل الشر. هذا هو المعنى في هذه الجملة، فكأنه يقول: أعوذ بك يا ربي! وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك من الشرور ومن أهل الشرور، فإذا قال ذلك وهو صادق حماه الله وحفظه من شر هذه الشياطين.
وقد ورد زيادة في بعض الروايات أنه يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) فيخصص بعدما يعمم، فنقول: (من الرجس النجس)، الرجس والنجس معناها واحد، ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم، فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث من الشياطين، سواء من شياطين الجن أو مردتهم أو من شياطين الإنس، فيكون قد استعاذ من الشر وأهله.
فيكون الذكر المشروع عند دخول الخلاء:
أولاً: التسمية.
ثانياً: الاستعاذة من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.
وقد ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)، وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه كان يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته وأذهب عني أذاه) وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته.
فيكون الدعاء عند الدخول بالاستعاذة من الشيطان، وعند الخروج بحمد الله تعالى وشكره على ما أنعم به على عبده، وهذا ما يتعلق بما يأتي به في هذا المكان من الأدعية.
فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط، فيقول أبو أيوب : لما قدمنا الشام وجدنا المراحيض، أي المقاعد وجدناها مهيأة ومركبة باتجاه القبلة، فلم نتجرأ أن نجلس فيها، فصار أحدنا إذا جلس انحرف عن يمينه أو عن يساره واستغفر الله عما يقع فيه من الخطأ ونحو ذلك، وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت كالحمامات، وفي خارجها كالصحاري ونحوها، فالحكم فيها على عمومه ليس له مخصص، هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه.
وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في داخل المباني أو نحوها، واستدلوا بحديث ابن عمر الذي ذكر بعد هذا الحديث، ولكن الصحيح أن الحكم عام، وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومون المشهورون، وقد اعتذروا عن الأحاديث التي فيها شيء من الرخصة بأنها محمولة على وجود عذر، أو لأنها من الخصائص أو نحو ذلك، فعلى الإنسان أن ينتبه إذا دخل الخلاء، فمتى كان موجهاً للقبلة فإن عليه أن ينحرف ويميل عنها قليلاً حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، وكذلك أيضاً يُنتبه عند تأسيس الدورات ألا تكون مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد من يدخلها أن ذلك جائز؛ لأن الأحاديث عامة، كما فهم ذلك أبو أيوب من هذا الحديث، وكما هو ظاهر في عمومات النصوص التي فيها النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، وكذلك حديث سلمان : (نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها).
وهذا لأجل احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها، هذا هو الاحتياط في هذا الباب، وإن كان قد رخص أكثر العلماء في استقبال القبلة واستدبارها إذا كانت المراحيض في داخل البناء، ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم.
وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء)].
هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة، وقد عرفنا أن الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة، ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة، ولا شك أن الأقذار من البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها، وكيف يتطهر منها، وعلمه أيضاً كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك، مما يدل على كمال هذه الشريعة وتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة، وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لـسلمان : (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار).
وتقدم لنا في حديث أبي أيوب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال
فجاء عن بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط أخذاً بهذا الحديث، وبعضهم قال: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار، وحملوا هذا الحديث على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: يحمل هذا على البنيان، ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء، فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك، جمعاً بين الأدلة، ولكن الراجح من حيث الدليل عموم النهي في الأدلة الموجهة إلى الأمة، وأن هذا الحديث يعتبر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يكون هناك عذر، حيث إنه لو شرق أو غرب لكان مقابلاً للمارة أو الناس، ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدباراً كلياً بل يكون مائلاً عنها يمنة أو يسرة.
فالحاصل: أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة، فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت، وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلاً، حتى لا يصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار، ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة، والتي هي جهة بيت الله الحرام، فيشرف وينزه عن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة، وهذا هو الراجح من حيث الدليل.
والإداوة: قدح يتخذ للشرب يصنع من حجارة أو يصنع من خشب أو من صفر أو نحاس.
والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة، وهي الحربة الصغيرة، والفائدة من العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب إذا وقع البول عليه حتى يأمن رشاشه، أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستتر به، أو نحو ذلك.
والاستجمار: هو مسح أثر الغائط بالحجارة ونحوها ليزول جرم النجاسة، والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان، فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء، وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح.
والاستجمار أكثر ما يستعمل فيه الحجارة، ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة، ومما يستعمل لذلك في هذه الأزمنة المناديل الورقية ونحوها، فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة وتنقية المكان، فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل، وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية.
وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك. والغسل: هو أن يصب الماء ويدلك باليد اليسرى إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها.. ونحو ذلك، والاستنجاء يكون بالماء والاستجمار بالأحجار.
وقد ورد الجمع بينهما في قصة أهل قباء الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فسُئلوا: ما هذه الطهارة؟ فأخبروا بأنهم يتبعون الحجارة الماء، أي: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها، فمدحوا بذلك، وجعلت هذه هي الطهارة: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وحيث ثبت الاستنجاء في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه، وأكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل، ولكن قد يبالغ كثير من الناس في الغسل بالماء، ويوسوس إليه الشيطان أنه لم ينظف المحل، فيمضي عليه زمن طويل وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف.
وقد ذكر بعض العلماء أن الغسل لا يكون بأكثر من سبع غسلات، ولكن الأولى أن يقال: إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه، هذا هو الأصل، ولا حاجة إلى عدد، فقد ينظف بأقل من سبع، وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر، ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام.
الأمر الأول: أنه كان يحفر بها الأرض، وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة، فإذا وقع البول عليها تطاير رشاشة على الثوب أو على الجسد فيتنجس منه؛ فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر، فيحفر الأرض الصلبة، أو يختار أرضاً رطبة لينة رخوة، وإذا كان في أرض مبلطة كما هو الحال اليوم في أكثر المراحيض فإنه يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش، وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول، وعلى كل حال فعليه أن يحتاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)، والتنزه هو التحفظ من النجاسة وهو واجب حتى تقبل الصلاة، وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته.
وأما القول الثاني: فهو أنه كان يتخذها سترة، واستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس على حاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين، هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء.
فكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أولاً: أنه يذهب بعيداً حتى يختفي عن أعين الناس، وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط أو شيء شاخص، أو ينزل في مكان منخفض من الأرض ليخفي شخصه؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه، وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوباً حتى يستره عن أعين الناظرين، فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس.
وفي هذا تكريم لليد اليمنى، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة، ويجعل شماله للأشياء المستقذرة، فيأكل بيمينه ويشرب بها، ويأخذ بها ويعطي بها، ويقدمها في الأشياء الفاضلة؛ فيقدمها في دخول المسجد، وفي لبس النعل، وثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع)، وهذا مما يدل على تفضيل اليمين، فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها، والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8]، فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:90-91].
فكثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين، واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة، فلذلك ميزت اليمين وفضلت، فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره في حالة البول بيمينه تنزيهاً لها.
ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليسرى؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول، فإذاً يمسكه إذا كان ولابد باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى.
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليسرى؛ وذلك لأنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم، مما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك، كذلك إذا خلل ما بين أسنانه فإنه يتخلل باليد اليسرى؛ لأن ذلك كله من باب تكريم اليمنى، حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة ومستكرهة أو نحو ذلك.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: (يا رسول الله! إنا لا نروى بنفس واحد)، أي أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: (فأبعد القدح عن فمك)، يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعبه عباً؛ فإنه من الكباد)، يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه، وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية.
فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلاً وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئاً، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب. وقد ذكروا أيضاً أن في هذا تشبهاً بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعاً التشبه به، فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات.
والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر.
هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة.
وفي الحديث دلالة على وجوب البعد عن النجاسة، وعلى أن البول من جملة النجاسات، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين -كأنهما جديدان- فأوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان، أو أسمعه شيئاً من عذابهما، فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان، وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً، أي: أنه ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل، أو أنه يسير في أعين الناس.
أحدهما: كان لا يستنز أو لا يستبرئ من البول، أي: لا يبالي بما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه.
والثاني: كان يمشي بالنميمة.
ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين وغرزهما في كلا القبرين، من أجل التخفيف عنهما ما لم ييبسا، وهذا يدل على أمرين:
أولاً: أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لأحد غيره، والاطلاع لابد أن يكون بوحي.
ثانياً: نعرف أنه لم يفعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين، وهما: التهاون بالبول، والسعي بالنميمة، وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما، وأن العبد يعذب بتهاونه فيهما في قبره.
قال بعض العلماء: معناه أن تداركه والإقلاع عنه ليس شيئاً صعباً، أو ليس كبيراً في أعين الناس؛ بل إن الناس يتساهلون به، ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها، وأنه من صغائر الذنوب، ولكنه وصل إلى أن يعذب عليه في القبر.
فالشيء الذي يعذب عليه في القبر لا يكون من الصغائر، ولهذا ورد في رواية أنه قال: (وما يعذبان في كبير)، ثم قال: (بلى إنه لكبير)، فدل على أنه ليس بكبير عند الناس، ولكنه كبير عند الله، فلا يحتج بهذا على أنه ليس من الكبائر، بل هو من كبائر الذنوب.
فعلم بذلك أن سبب العذاب في القبر هو عدم التنزه من البول وعدم الاستبراء منه، وقد ورد حديث آخر بلفظ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)، كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه؛ لأنه مما يتساهل أو يتهاون كثير من الناس به، مع كونه يفسد العبادة، ويفسد الصلاة، ويفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج، وما أشبه ذلك، ولذلك صار من كبائر الذنوب.
هذا الحديث يحث على التنزه من البول.
فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء، فإذا استنجى بغسل ذكره أمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية.
وأما ما ورد في الحديث: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) فهو ضعيف لا يثبت، والصحيح: أنه لا حاجة إلى النتر، ولا إلى أن يسلته مثلاً، ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول، ولا إلى القفز كما يفعله البعض، ولا إلى أن ينزل في منحدر، ولا إلى أن يتعلق ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى من البول في المجرى؛ فإن كل ذلك إنما يفعله الموسوسون، وهو مما لا حاجة إليه.
ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع، إن حُلب در وإن ترك قر، فإذا أراد الإنسان إخراجه فإنه يخرج، وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى، وذلك من تيسير الله على الإنسان، فلو كان البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان؛ لأنه دائماً يمشي ويتحرك، ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد الإنسان إخراجه.
فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات، وثقوا بأن هذا ليس بشيء، ولكن إذا أحس الإنسان بشيء متحقق، كخروج قطرات من ذكره؛ فإن ذلك يعتبر ناقضاً، فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء، وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله.
وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما هي توهمات، فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه، وكثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات، ويقول: إني أحس بخروج البول، ثم إذا فتش ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها.
أما إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه؛ فإنه يعتبر معذوراً، ولكن لا يتوضأ إلا بعد أن يدخل الوقت، وعليه أن يتحفظ بأن يجعل على فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة؛ كالقطن أو الشاش أو نحو ذلك، إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه، ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.
وورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسده الساحر في السنة، وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين، زيادةً على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك، ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس)، فشبهه بالعضة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر، فجعله شبيهاً به لهذا السبب الذي هو النميمة.
فالنميمة على هذا من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر، وتتفاوت النميمة بحسب المفسدة التي تترتب عليها، فالنمام الذي هذا ديدنه دائماً لا شك أن ذنبه كبير، وقد يكون ذنبه صغيراً إذا لم يحصل بسببه مفسدة، وعلى كل حال فهذان الأمران من كبائر الذنوب.
والعبادات مبناها على التوقيف، فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت؛ دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين القبرين.
فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب عذاب القبر؛ وذلك لأن القبر أول منازل الآخرة، وإذا خرجت روح الإنسان فقد قامت قيامته، فإما أن يلقى عذاباً وإما أن يلقى نعيماً.
وأهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره، أو ينعم هذا في قبره، كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة، ولكن الكيفية محجوبة عنا، حتى ولو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء، كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث، ولو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا ننفي أنه يعذب أو ينعم، أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة، وأهل الدنيا ليسوا مطلعين على أمور الآخرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر