الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد..
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! قد يكون من اليسير جداً أن تنجذب إلى زهرة وحيدة فريدة وسط صحراء مقفرة، لكن ماذا أنت صانع لو وقفت في بستان ماتعٍ مليءٍ بالزهور والرياحين التي تعددت ألوانها، وتنوعت أشكالها، وشدك عبيرها، فأنت تنتقل من زهرة إلى زهرة؛ لتقف في غاية المتعة واللذة والسعادة والسرور؟!
ذلكم البستان الماتع هو بستان أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم، فها نحن ننتقل من خلق إلى خلق، وتتصور وأنت تتحدث عن خلق واحدٍ من أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم أن هذا الخلق هو الأبرز.
فإذا ما أنهيت الحديث على قدر ما منّ الله به عليك من علم وفضل، وانتقلت من هذا الخلق للحديث عن خلق آخر؛ وجدت نفسك في بستان ماتع آخر، وهكذا.
الرسول صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله جل وعلا، وعجيبة من عجائب الكون، ولا ينبغي على الإطلاق أن نجهل أو نتجاهل هذا التاريخ المشرق المضيء؛ لأننا نعيش الآن زماناً قد انحرفت فيه الموازين، وتغيرت فيه الحقائق وتبدلت.
فنسمع الآن من يزعم أن الغرب هو أول من أصَّل وأسس جمعيات الرفق بالحيوان، ونحن لا ننكر أن الغرب يفعل ذلك الآن، لكن لا يجوز البتة أن يدعي أحد أن الغرب أسبق منا في هذا الأمر، فإن أول من أصَّل وأسس الرفق بالحيوان هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد صلى الله عليه وسلم.
تدبروا جميعاً هذه الكلمات النبوية الرقراقة، روى
مسلم من حديث
شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته).
إلى هذا الحد! (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ليس من الرحمة أبداً أن تأتي بشاةٍ لتذبحها على مرأى ومسمع من مجموعةٍ أخرى من الأغنام، فهذا ليس من الرحمة، ونرى هذا المشهد في كل عيد من أعياد الأضحى في الشوارع والطرقات.
ترى الرجل من إخواننا يقدم الشاة ليذبحها على مرأى ومسمعٍ من بقية الأغنام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وأود أن أنبه بأنكم إذا وجدتم مخالفةً؛ فلا ينبغي أن ننسب المخالفة لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا لدينه، وإنما المخالفة تنسب لنا؛ لأننا نحن الذين انحرفنا عن منهج رسول الله وعن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بغي تدخل الجنة في كلب سقته
الحبيب صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن بغياً -زانية من زواني بني إسرائيل- دخلت الجنة في كلب، وأن امرأة دخلت النار في هرة والحديثان في الصحيحين من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
بينما بغي من بغايا بني إسرائيل تمشي، فمرت على بئر ماء فشربت، وبينما هي كذلك مر بها كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر الماء؛ فملأت موقها، -أي: خفها- ماءً، فسقت الكلب فغفر الله لها) كلب عطشان، وهي امرأة زانية، لكنها رحمته فغفر الله لها.
يقول المصطفى الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صاحب الخلق العظيم:
(فغفر الله لها) الله أكبر! ديننا هو دين الرحمة، والرحمة في ديننا ليست بالإنسان فحسب، بل حتى بالحيوان.. بالكلاب.. بالقطط.. بالعصافير؛ قارن هذه بالقسوة، والغلظة، والفظاظة التي نراها الآن في زماننا، وفي عالمنا المادي الوحشي القاسي، قارن بين هذه المعاني الرقراقة؛ تشعر أننا نعيش في زمانٍ آخر، وفي عالم آخر.
أنت ترى الآن عالماً دمغ بالقسوة، عالم قاسٍ، عالم منّ الله عز وجل عليه بهذه التكنولوجيا، وبهذا العلم، وبهذه المخترعات؛ ليحولها هذا العالم إلى وسائل إبادة للجنس البشري، فما من يوم يمر علينا إلا وترى الدماء تسفك، وترى الأشلاء تمزق في كل مكان على وجه الأرض، عالم مجنونٌ بالفعل؛ يصنع القنبلة، والصاروخ، والطائرة؛ ليدمر المصانع.. ليحرق المزارع.. ليهلك الحرث والنسل.
يبيد الجنس البشري، ثم بعد ذلك تراه يدعو أهل الفضل وأهل الخير هنا وهنالك لجمع التبرعات؛ لإعادة التشييد والتعمير، عالم غريب عجيب!!
النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن زانية من زواني بني إسرائيل دخلت الجنة لأنها رحمت كلباً؛ فغفر الله عز وجل لها بذلك.
أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ أعيدها مرة ثانية وثالثة: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟
كيف يكون فضل الله عليك أيها الطبيب إن رحمت مريضاً؟
كيف يكون فضل الله عليكِ أيتها الطبيبة والممرضة إن رحمت مريضاً أو مريضة؟
كيف يكون فضل الله عليك إن رحمت فقيراً، أو أرملةً، أو يتيماً، أو مسكيناً، أو طفلاً؟
هذه رحمة الله بالبغي التي رحمت كلباً، فكيف تكون رحمةُ الله جل وعلا لمن رحم مسلماً، مؤمناً، موحداً، فقيراً، مستضعفاً، يتيماً؟
انظر إلى فضل الله، حبذا لو أطلنا النفَس مع هذه المعاني الرقراقة؛ لتفيء أمتنا والعالم إلى هذه اللمحات واللمسات الرقيقة المحمدية النبوية.
امرأة دخلت النار في هرة
في الصحيحين من حديث
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
دخلت امرأة النار في هرة)، أي: في قطة.
انظر! بغي تدخل الجنة في كلب، وامرأة تدخل النار في قطة، لماذا؟
قال صلى الله عليه وسلم: (
حبستها -أي: حبست القطة- فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)، حبستها، فلم تقدم لها الطعام والشراب، ولم تطلقها لتأكل من رزق الله في أرض الله جل وعلا؛ فدخلت النار.
فالأمر في غاية الخطورة.
فو الله ما صلى المصلون، وما وحد الموحدون، وما زكى المزكون، وما حج الحاجُّون، وما خاف الخائفون، وما قام القائمون، وما ابتعد عن الحرام المبتعدون؛ إلا من أجل أن يفوزوا بالجنة، ومن أجل أن ينجيهم الله من النار، فتختزل هذه القضية العظيمة بهذه البساطة والسهولة في الرحمة.
بغيٌ ترحم كلباً؛ فيدخلها الله الجنة، ويغفر لها الذنب، وامرأة تقسو على قطة وتعذبها حتى الموت، وتحرمها من الطعام والشراب، فتدخل النار، ثم بعد ذلك يدعي من يدعي أنه أول من أصَّل وأسس قضية الرفق بالحيوان! كلا، كلا، نحن لا ننكر أنهم يفعلون ذلك، لكن ينبغي أن تعلم أمتنا، وينبغي أن يعلم العالم كله أن محمداً صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن بغياً دخلت الجنة في كلبٍ، وأن امرأةً دخلت النار في هرة.
مداخلة: ذكرت أن هذا العالم عالم مجنون، تسفك فيه الدماء، وغرور القوة مسيطر تماماً على العالم كله، والأعداء يحاربون بكل ما هو محرم في كل مجال، يقتلون الأطفال، والنساء، والشيوخ، ويهدمون البيوت، ويحرقون الأشجار، فنريد أن نعرف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟!
الشيخ: ما شاء الله، هذه لمحةٌ جميلة، وأتمنى أن العالم كله يقرأ التاريخ من جديد؛ فما زالت صفحات التاريخ مفتوحة، واسمح لي أن أستهل الجواب على سؤالك الجميل بقولةٍ لهذا المفكر الشهير
بستاف لفن حينما قال: ما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث ديناً سمحاً كالإسلام، وما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث فاتحين متسامحين كالمسلمين، هذه حقيقة.
مع أن رؤية الدم تثير الدم، وتحرك الشهوة للانتقام، لكن مع كل ذلك انظر إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق الدين حتى مع الأعداء.
وأنا أود أن أقول: حينما نتحدث الآن عن خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم مع أعدائه؛ فنحن لا نريد بذلك أن نتحدث حديثاً ذهنياً بارداً باهتاً، وإنما نود أن نذكر العالم بصفةٍ عامة، وأمتنا المسلمة بصفةٍ خاصة، بأنه لا قيمة لهذه الأخلاق إلا إذا تحولت في حياتنا من جديد إلى واقع عملي، ومنهج حياة، وإلا فسيظل هذا المنهج المشرق حبراً على الورق.
النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يقيم للإسلام دولة، واستطاع أن يربي جيلاً قرآنياً فريداً لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، وذلك يوم أن نجح بطبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي الخلقي، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من التقى والهدى والنور؛ فحولوا هذه الأخلاق النبوية العظيمة في حياتهم إلى واقع عملي ومنهج حياة.
حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية قومه
نبي الرحمة يطلق ثمامة
من أجمل ما ثبت في هذا الباب: ما رواه
البخاري و
مسلم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث خيلاً قبل نجد -بعث سرية من أصحابه- فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له:
ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وكان من أعدى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتفنن في إيذائه، ويتفنن في تأليب القوم على النبي وعلى الإسلام، فلما أسره أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام انطلقوا به إلى المسجد النبوي، فربطوه في سارية من سواري المسجد حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام المسجد، فوجد
ثمامة بن أثال مربوطاً في عمود من أعمدة المسجد النبوي؛ فاقترب الحبيب المصطفى من عدوه برحمة وود، وقال: (
ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال: عندي خير يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت)، وهذا رد فيه قوة.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (ماذا عندك يا
ثمامة؟) قال: عندي خير: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني اعلم بأنك ستقتل رجلاً له قوة وقبيلة وعشيرة، ولن تدع دمه يضيع هدراً على الإطلاق، (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: إن أحسنت إليّ وأنعمت علي، وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل أبداً ما حييت. (سل تعطَ من المال ما شئت) أي: إن كنت تريد مالاً فسل تعط، فتركه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بقتله، وهو عدوه!.
وفي غير رواية الصحيحين: (
أمر النبي الصحابة أن يحسنوا إليه) ؛ لكن لحكمة نبوية أبقى النبي
ثمامة في المسجد؛ ليطلع بنفسه على حال النبي مع أصحابه، وليسمع القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعايش الإسلام؛ لأن المسجد كان بيئةً حيةً للدين كله: (
فدخل عليه في اليوم الثاني فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالاً؛ فسل تعطَ من المال ما شئت.
فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث وقال: ماذا عندك يا
ثمامة ؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت؛ فقال صاحب الخلق الكريم: أطلقوا
ثمامة).
أطلقوه، لا نريد مالاً ولا شكوراً ولا ثناءً.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا
ثمامة سيد أهل اليمامة، سيد قومه، رجل عربي أصيل، لما أطلق النبي سراحه؛ انطلق إلى بستان نخل قريب من المسجد النبوي فيه بئر، فاغتسل ثم عاد مرة أخرى إلى المسجد النبوي، فوقف بين يدي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
اسمع وأصغ للحوار الجميل الذي دار بين
ثمامة وبين النبي عليه الصلاة والسلام، نظر
ثمامة إلى النبي فقال له: (
والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك -مصارحة شديدة- فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي -صلى الله عليه وسلم- ، والله ما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك الآن أحب الدين كله إلي، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إليّ.
يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة..).
ذهب يعتمر على شركه، وكانوا يلبون، ويحجون، ويعتمرون، ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، سبحان الله قال له: (لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فبماذا تأمرني؟) فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ
ابن حجر : (فبشره) أي: بالجنة، أو بمحو السيئات؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ولأن التوبة تجب ما قبلها؛ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
وفي رواية
مسلم: (أنه أول ما وصل إلى مكة لبى، وجهر بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
ففزع القوم! من هذا الذي يتحدانا ويعلن التوحيد بهذه الصورة؟! أول من جهر بالتلبية في مكة هو
ثمامة بن أثال.
فتساءلوا: من الذي لبى بمكة معلناً للتوحيد برغم
أبي سفيان في الأشهر الحرم؟
اقترب منه المشركون وقالوا: أصبأت -يعني: أكفرت؟- قال: لا، بل تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه، ثم قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة -يعني: حبة قمح- إلا أن يأذن فيها رسول الله.
وانظر إلى هذا الرجل حين أسلم؛ بدأ يُسخِّر كل طاقاته، وقدراته، وإمكاناته لدين ربه جل وعلا، يوم أن خلع على عتبة الإيمان رداء الشرك والكفر؛ وظَّف كل ما يملك لدين الله سبحانه وتعالى، ففرض حصاراً اقتصادياً -على سبيل التحقيق لا على سبيل المجاز- على مكة وأهلها.
وفي رواية
ابن إسحاق: (حتى اشتدت المجاعة بهم بالفعل)؛ لأن القمح كان يصل إليهم من اليمامة، وهو سيد أهل اليمامة؛ فمنع كل حبة قمح تصل إلى مكة وأهلها، إلا بعد أن يأذن رسول الله.
يقول
ابن هشام في روايته: (حتى أكل أهل مكة العلهز) ما هو العلهز؟ العلهز صوف يشوى، ويضاف إليه بعض الأشياء، يؤكل في وقت المجاعات حين لا يوجد شيء، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنك تدعو إلى صلة الرحم، وتأمر بصلة الرحم، وأنت قد قطعت أرحامنا حينما أمرت
ثمامة بن أثال ؛ فاؤمر
ثمامة بن أثال ألا يحول بيننا وبين الميرة؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى
ثمامة بن أثال وقال: خلِّ بينهم وبين الميرة.
انظر كيف حول إحسان النبي صلى الله عليه وسلم البغض الكامن الدفين في قلب
ثمامة إلى حب مشرق، فبالإحسان تأسر القلوب، وبالرفق وباللين تحول البغض إلى حب، وتحول الكراهية إلى قرب.
فالعنف يهدم ولا يبني، والشدة إذا استخدمت في غير موضعها تفسد ولا تصلح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (
ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه).
انظر إلى إحسانه وأخلاقه الكريمة مع
ثمامة ، ما قال: اذبحوه، اقتلوه، اصلبوه، عذبوه، فهو هو، وإنما أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يحسنوا إليه؛ وتأثر هذا الرجل بالإحسان، وهذا هو شأن أهل الكرم في كل زمان.
نبي الرحمة مع وهب بن عمير
روى
ابن إسحاق بسند جيد -وإن كان بعض أهل العلم قد ضعف السند من باب الأمانة العلمية- (
أن عمير بن وهب جلس مع
صفوان بن أمية بعد غزوة بدر في حجر إسماعيل في بيت الله الحرام، فتذاكرا ما كان في بدر، وتذكرا هزيمتهم المنكرة في بدر، فقال
عمير لـ
صفوان: والله لولا دين علي، وعيال عندي أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله؛ وكان ابن
وهب بن عمير أسيراً في المدينة بعد غزوة بدر، فالتقطها
صفوان وقال: دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد فاقتله، فقال له: فاكتم هذا الخبر، ولا تخبر به أحداً، وتعاهدا على ذلك، وعاد
عمير بن وهب إلى بيته؛ فشحذ سيفه، وأغرقه في السم، وانطلق إلى المدينة ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وصل إلى باب المسجد النبوي أناخ راحلته، وشد سيفه، وانطلق، فرآه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو صاحب الفراسة وصاحب الفطنة والذكاء، فقال
عمر رضي الله عنه: هذا عدو الله
عمير بن وهب ، والله ما جاء إلا لشر؛ فلببه
عمر بثيابه -خنقه-، وجره بثيابه حتى أوقفه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وظل
عمر ممسكاً بمجامع ثوبه حتى قال النبي لـ
عمر: أرسله يا
عمر -اتركه- فوقف
عمير بن وهب بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي: ما الذي جاء بك يا
عمير ؟ قال: ولدي أسير عندكم، وجئت إليكم لتحسنوا إلي في فدائه، فقال له النبي: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف؛ وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني يا
عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لهذا، فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: بل جلست مع
صفوان في حجر إسماعيل ، وذكرتما بدراً، وقلت لـ
صفوان: لولا دين علي، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله. فقال لك
صفوان : دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمدٍ فاقتله، وتعاهدتما على الكتمان، فشحذت سيفك، وأغرقته في السم، وأتيت إلى هنا لتقتلني، لكن الله حائل بينك وبين ذلك، فقال: أشهد أنك رسول الله، والله لا يعلم بهذا الخبر أحد إلا أنا و
صفوان ؛ فأحمد الله الذي ساقني هذا المساق، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا أخاكم وعلموه القرآن.).
زيد بن سعنة كان حبراً مثل
عبد الله بن سلام، عرف أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (
والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد رأيته في محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنني لم أعرف من العلامات علامتين:
الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً) يعني: حلمه أسبق، ولو جهل عليه ازداد بهذه الجهالة حلماً.
قال: (
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب ، فاستوقفه رجل، فقال: يا رسول الله! إن قومي من بني فلان في قرية كذا قد دخلوا الإسلام، وقد وقع بهم شدة، وكنت قد وعدتهم إن دخلوا في الإسلام أن يأتيهم رزقهم رغداً، وأخشى اليوم أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً، فإن رأيت أن تغيثهم بشيء من المال فعلت، وجزاك الله خيراً، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى
علي وكأنه يريد أن يسأله عن مال، فقال
علي: والله ما بقي منه شيء يا رسول الله.
قال
زيد بن سعنة : فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا محمد! بعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجلٍ معلوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسم حائط بني فلان، قال: قبلت، قال: فأعطيت النبي ثمانين مثقالاً من ذهب، فدفعها كلها إلى هذا الرجل، وقال: أغث به قومك، وانطلق.
قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي على جنازة، ومعه
أبو بكر و
عمر و
عثمان ، فجلس إلى جوار جدار في المدينة من شدة الحر، قال
زيد بن سعنة: فانطلقت إليه وأنا مغضب، وأخذت النبي من مجامع ثوبه، وقلت له: أدِ ما عليك من حق يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مطلاً يعني: في سداد الحق، تصور هذا المشهد وسط الصحابة! فانقض
عمر رضوان الله عليه، وقال: يا عدو الله! تقول هذا لرسول الله، وتفعل به ما أرى؟! والله لولا أني أخشى غضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، فماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: يا
عمر ! والله لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بأداء الحق، وأن تأمره بحسن الطلب، خذه يا
عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ جزاء ما روعته، فأخذه
عمر رضوان الله عليه فأعطاه حقه وزاده عشرين صاعاً من تمر؛ فقال له
زيد بن سعنة: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أدفعها لك جزاء ما روعتك، قال له: ألا تعرفني يا
عمر؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا
زيد بن سعنة ، قال: حبر اليهود؟ قال: نعم، قال: وما الذي حملك أن تفعل برسول الله ما فعلت، وأن تقول له ما قلت؟ قال: يا
عمر لقد نظرت في علامات النبوة؛ فوجدت كل العلامات فيه، لكنني أردت أن أختبر فيه هاتين العلامتين: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهالة عليه إلا حلماً، وهأنذا قد جربتهما اليوم فيه؛ فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدق بشطر ماله للفقراء والمساكين، وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه معظم الغزوات، وقتل شهيداً مقبلاً غير مدبر في غزوة تبوك).
مداخلة: في هذا الوقت نرى صراع الإسلام والغرب، وعرفنا أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ما أكثر الذين هجروا خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجروا الغاية التي من أجلها بعث، فيجب علينا إذا كنا نريد أن نقول للعالم شيئاً، وننشر الإسلام، ونظهر صورة الإسلام على حقيقتها؛ أن نتمثل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ننشرها.
الشيخ: أنا دائماً أقول لإخواني: إن أعظم خدمةٍ نقدمها اليوم للإسلام؛ هي أن نشهد للإسلام على أرض الواقع شهادة عمليةً بأخلاقنا وسلوكنا، بعدما شهدنا له جميعاً بألسنتنا شهادة قولية، فيجب علينا -أيها الأفاضل- أن نرجع إلى خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لنحوله في حياتنا إلى واقع عملي، ومنهج حياة.
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والحمد لله رب العالمين.