اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فعنوان حديثنا هذا المساء المبارك هو الإسراء والمعراج.
نحن نعلم ما لنبينا صلى الله عليه وسلم من مقام جليل ومنزلة عظيمة عند ربه، وهو صلى الله عليه وسلم أرفع الأنبياء ذكراً، وإن كان آخرهم ظهوراً صلوات الله وسلامه عليه، هذا النبي الكريم خصه الله بخصائص، ومنحه -جل وعلا- عطايا لم تعط لأحد قبله عليه الصلاة والسلام، ولن تعط لأحد من الناس بعده، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام.
ومما أكرم الله به نبيه رحلة الإسراء والمعراج، ورحلة الإسراء والمعراج قد مرت على كثير من الناس مراراً، لكن يحسن التنوع في قراءة حادثة الإسراء والمعراج، وأظن أن أخذها عن طريق المقارنة يورث رقة في القلب، وزيادة في المعرفة.
فنقول: قبل رحلة الإسراء والمعراج ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، والطائف بلدة مرتفعة عالية عن مكة، وكان معه زيد بن حارثة ، في حين أن رحلة الإسراء والمعراج -بدلاً من الطائف وهي مرتفعة- عُرج به صلى الله عليه وسلم في السماوات السبع، وعوضاً عن زيد أعطي أو كان معه صلى الله عليه وسلم جبريل، وأهل مكة عندما عاد عليه الصلاة والسلام إليهم سبوه، وأهل الطائف من قبل رموه، ففتح الله جل وعلا لنبيه أبواب السماوات السبع كلها.
سريت من حرم ليلاً إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظلم
صلوات الله وسلامه عليه، هيأه الله جل وعلا فشق صدره، وأُخرج قلبه وغُسل بماء زمزم، وملئ إيماناً وحكمة، ثم أعيد القلب مكانه، ولا يقدر على هذا إلا الله؛ ثم قدمت له دابة يقال لها: البراق، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أي: أسري به كما قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]؛ لأن هناك خطباً عظيماً سيقع، فقدمها الله بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] والسرى لا يكون إلا ليلاً؛ فلماذا قال الله كلمة ليلاً؟ الظاهر: أنه لا حاجة لها، لكن الحاجة العظيمة لها هنا أنها بينت؛ لأنها نكرة فبينت أن هذا الأمر كله حدث في برهة من الليل، والأمر كما قال بعضهم:
مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم
وآخرون من أهل الصناعة البلاغية يقولون: التنكير في (ليلاً) هنا للتعظيم والتهويل، أي: ليل وأي ليل، ليل التقى به محمد صلى الله عليه وسلم بجبرائيل، وعُرج به إلى السماوات السبع، وكلمه ربه وناجاه وقربه وأدناه، وصلى عليه الصلاة والسلام بالنبيين إماماً؛ ليقول الله للأنبياء: هذا سيدكم وإمامكم، وإن كان مبعثه آخر المبعث، وأمته آخر الأمم.
ثم عُرج به إلى السماء الثالثة فرأى أخاه يوسف، وإذا بيوسف قد أعطي شطر الحسن، وعندما نقول: شطر الحسن، أي: نفس الحسن، فالله جل وعلا خلق آدم بيده فلا أحد أبهى منظراً من آدم؛ لأن الله خلقه بيده، فيوسف عليه الصلاة والسلام على الشطر، أي: على النصف من جمال آدم، وهذا الذي نعتقده على التحقيق والعلم عند الله.
ثم عُرج به إلى السماء الرابعة فرأى أخاه إدريس، وكل من يوسف وإدريس قد رحبا به قائلين: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح).
ثم أتى السماء الخامسة فإذا أخاه هارون رحب به كإخوته.
ثم أتى السماء السادسة فإذا أخوه موسى فرحب به قائلاً: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح)، ثم لما جاوزه بكى موسى فقيل له: (ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي)، وقد قالها موسى غبطة؛ لأن التنافس في الخير محمود يقول الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
ثم أتى السماء السابعة فوجد رجلاً قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل! قال: هذا أبوك إبراهيم) فسلّم عليه، لكن قال إبراهيم كما قال آدم: (مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم، وهو أبو الأنبياء عليهم السلام جميعاً.
قال الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] فأراد الله جل وعلا أن يُري نبيه صلى الله عليه وسلم كثيراً من الآيات الدالة على عظمته سبحانه، والتي تزيد نبينا صلى الله عليه وسلم يقيناً بربه، حتى يبلغ الرسالة على أكمل وجه وأتمه، فقال سبحانه: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
وقال في النجم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:1-11] إلى أن ذكر الله جل وعلا كيف أنه صلى الله عليه وسلم بلغ سدرة المنتهى، وأنه تأدب هنالك، ووصف الله أدبه بقوله: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فهو صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق مقاماً وأكرمهم أدباً، وبعض العلماء يقارن هنا ما بين مقام التكليم الذي أُعطيه موسى ومقام المعراج الذي أُعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما أُعطي مقام التكليم طمع في مقام الرؤيا فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه لم يطلب من الله شيئاً، قالوا: وهذا معنى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فهو أكمل أدباً؛ وممن نص على هذا من العلماء ابن القيم رحمة الله تعالى عليه، والذي يعنينا أن الأنبياء عليهم الصلاة جميعاً في الذروة من الأدب الجم والخلق العظيم، وليس هذا محل اختلاف بين المسلمين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا إجماع من الأمة- أفضل أولئك النبيين أدباً، وأعظمهم تقوى، وأجلهم شرفاً، وأكرمهم مقاماً، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد مر معنا أن الإسراء والمعراج حدث عظيم، استشعره شعراء الإسلام، وذكروه كثيراً في شعرهم، ومما قالوه في ذلك:
يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده.. حول الحديث عن الإسراء والمعراج، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر