إن الله تبارك وتعالى يري عباده في كثير من الأحيان آياته؛ لتكون دليلاً على قدرته، وليتعرف الناس على ربهم تبارك وتعالى، فالعباد في كثير من الأحيان يغفلون عن الله، فيذكرهم الله تبارك وتعالى به.
ومن الآيات المحزنة في هذا العصر أن المسلمين قد ذلوا وهانوا، حتى ظن الظانون أنها لن تقوم للمسلمين قائمة، فلقد لعب بهم أعداؤهم، واستطاعوا أن يدجنوهم ويركعوهم، ثم يأتي يوم يظن الأعداء -الذين يتمثلون اليوم في دول كبرى تحكم العالم، وتملك من القوى ما لم يملكه غيرها- أن المسلمين أصبحوا صيداً سهلاً، وأن ديارهم أصبحت حلالاً، فإذا بهم يغزون جزءاً من بلاد المسلمين يظنونها متعة، فتتم العملية في يوم، أو في أسبوع، أو في شهر، ثم يعودون غانمين إلى ديارهم من غير أن يخسروا شيئاً من جيوشهم أو من عتادهم، إذ يكفي في ظنهم أن اسمهم دولة كبرى ودولة عظمى، وأن هذا وحده كفيل بأن يجعل الرعب يملأ القلوب، فيستسلم الذين غزيت ديارهم، ويسجدوا مطأطئين هاماتهم لأعدائهم.
وكانت آية من آيات الله في هذا القرن، وهي أن قوماً ضعافاً لا يملكون من المال الكثير، ولا يملكون من القوة الكثير، ولكنهم أعلنوها مدوية أن حربهم إنما هي لله، وإنما هو جهاد في سبيل الله، غزت روسيا أفغانستان منذ سنوات، ومر على القضية زمن طويل فقام فئة من المسلمين ما كنا نسمع بهم، ولا نعيرهم التفاتاً قبل أن يقوموا، وما كنا نعرف مدنهم وقراهم وطبيعة بلادهم وحالهم، فقد كانوا نسياً منسياً من المسلمين، ثم تغزو روسيا هذا البلد، ويظنون أنهم سيضمونها إلى بلادهم، أو سيضمونها إلى ما ضموا من ديار المسلمين في الماضي، ففي روسيا عشرات الملايين من المسلمين يعيشون أذلاء لا يملكون من أمرهم شيئاً، بل إن تاريخ روسيا مع المسلمين تاريخ أسود.
في بعض الأحيان يكون الضحايا مائة ألف، أو نصف مليون، أو مليوناً، أو بضعة ملايين في شهور، في الوقت الذي حافظت فيه روسيا على أرواح اليهود، فقد كان كل يهودي في روسيا تحت الحماية الكاملة، إلى أن أقيمت دولة اليهود في ديارنا، فأخذت تورد لنا من اليهود الذين حافظت على دمائهم، وأموالهم ومعتقداتهم، من الأطباء والعلماء، ورجال الحرب؛ حتى يسفكوا دماءنا كما سفك الروس دماء المسلمين.
ولا يزال يتشدق الجهلاء من هذه الأمة بأن روسيا نصير لنا، وعون لنا، ومؤيدة لحقوق المسلمين، وتحافظ على حقوق الشعب الفلسطيني، وهي الدولة الثانية في العالم كله التي أعلنت اعترافها بإسرائيل يوم أن وجدت إسرائيل.
ثم بعد ذلك -وللأسف- يوجد بين أبناء المسلمين من لا تزال على عينيه غشاوة، فنجده إلى اليوم يسبح بحمد هذه الدولة الكافرة الشيوعية التي تنكر وجود الخالق.
إن أول مبدأ عندنا نحن المسلمين : لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأول مبدأ عندهم: لا إله والحياة مادة، ليس للكون خالق! والرسل دجالون كذابون! والكتب هذه مفتراة! والدين أفيون الشعوب! هذا دينها وتلك عقيدتها، ومن كان كذلك فلن تجد كعداوته عداوة، إلا أن يجتمع عداء اليهود مع عداء المشركين الملحدين، وقد يتساويان ولا ندري أيهما أشد، قد يكون مكر اليهود وعداء اليهود أشد، وقد يكون هؤلاء، ولكنهما كفرسي رهان في حربهم على الإسلام والتنكيل بأهله.
لقد بلغت أعداد المشردين الذين لجئوا إلى الدول المجاورة لبلادهم أربعة ملايين! والنساء اللواتي ليس لهن عائل فقدن الأب والأخ والزوج لسن بالألوف بل العشرات الألوف! والأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم عشرات الألوف إن الثمن ضخم هائل، لقد هدمت المدن! وهدمت القرى! الزرع الذي يأكله البشر والحيوان أحرق في تلك الديار! ولكن هكذا تكون ضريبة الجهاد، كما قال المولى سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11].
فإذا مات المسلم مقاتلاً في سبيل الله فهو لا يموت في الحقيقة، نحن نشاهده قد مات، ولكنّ هناك بعد الموت حياة أخرى: حياة كريمة، حياة عظيمة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في رياض الجنة، تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في سقف عرش الرحمن)، وعندما استشهد فوج من المجاهدين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الأخيار الأطهار اطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: عبادي! تريدون شيئاً أزيدكم؟ قالوا: وما نريد يا رب؟ حاورهم ربهم مرة بعد مرة، وفي المرة الأخيرة طلبوا أن يعيدهم الله إلى الحياة الدنيا مرة أخرى؛ ليقاتلوا أعداءه ويقتلوا في سبيله؛ لما شاهدوا بأعينهم في الجنة من عظيم الثواب للشهداء.
وطلبوا أن يبلغ ربنا قومهم من خلفهم -أي: المسلمين- بحالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:169-170] فكانت بحق رسالة خالدة جاءت من الأموات حملها الوحي من عند الله تبارك وتعالى، يبلغنا الله تبارك وتعالى فيها بما أعده للشهداء.
أليس خيراً لنا أن نقاتل، وأن نجاهد، وأن نكون أمة مقاتلة، وأن نكون رجالاً أعزاء بالجهاد في سبيل الله، لا نريد الرجال الأذلاء فقد سئمنا ذلاً وهواناً، تذهب أموالنا، وماذا نريد بالمال: نشبع به بطوننا ونكثر به شحومنا، وتكثر بيوتنا وسياراتنا، ونحن نعيش أذلة مهانين؟!
لقد عرف الأفغان أن السبيل إلى العزة هو ما أمر الله تبارك وتعالى به أن يكونوا مقاتلين، وأن يكونوا مجاهدين، قال الله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وإنما التهلكة في ترك الجهاد، إنما التهلكة في ألا تبذل في سبيل الله، تريد أن تحافظ على جسدك، وتريد أن تحافظ على مالك، فإذا بك تذل نفسك، وإذا بالعدو يقوى فيسيطر عليك، وإذا به يمتص خيراتك وأموالك غصباً عنك! منذ أن تحولت هذه الأمة إلى أمة مسالمة فقدت الكثير، لقد فقدت عزتها، وكرامتها، وطمأنينتها، وأصبحت لا تدري من أين تأتيها السهام، ومن أين يأتيها الموت، ومن أين يأتيها الهوان.
لقد فقدت الأمة في زماننا أعز ما تملك، وهي العزة التي قال الله تبارك وتعالى فيها : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] أين عزة المؤمنين بالله عليكم في زماننا؟ هل المؤمنون في هذه الديار أعزة؟ هل هم في بلاد العرب أعزة؟ هل هم في بلاد المسلمين اليوم أعزة؟ كلا والله، المسلمون اليوم يركلون ويهانون ويداسون، الحرمات تنتهك في ديار المسلمين ولا نكير، أين العزة؟
إِن العزة عندما تصبح هذه الأمة أمة مقاتلة، عندما تعرف لماذا تقاتل ومن تقاتل؟ لا يقاتل فيها المسلم المسلم ظلماً وعدواناً، وإنما يقاتل المسلم الكافر، وعندما يرتفع بأسها من بينها ليتحول إلى أعدائها -عند ذلك تغنم الأمة غنماً كبيراً، وتعرف طريقها.. عند ذلك يصبح المسلمون إخوة.. عند ذلك يزول هذا الخبث الذي يعشش في قلوب المسلمين، وفي بيوت المسلمين، وفي ديار المسلمين، يتلاشى بإذن الله بالجهاد الذي يطهر القلوب والنفوس.
إن ملوك المسلمين لم يجتمعوا، ولو اجتمعوا بملوكهم ما انتصروا، إنما اجتمعت الأمة تحت راية قائد يحارب لله تبارك وتعالى، ويريد ما عند الله عز وجل، فهزم ملوك أوروبا مجتمعين.
فقد اصطفت جيوش أوروبا كلها وأمامها ملوكها وقادتها وهزموا في حطين، وكان يوماً من أيام الله، وكان بداية النصر المؤزر الذي تلاحق بعد ذلك حتى طرد المسلمون آخر صليـبي، فعرف صلاح الدين كيف يعيد للمسلمين عزتهم، وكيف يرفع رءوسهم بالإسلام، فتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى خالق الوجود رب الكائنات الذي له ملك الأرض والسماوات، وله جنود السماوات والأرض، وعندما يتوجه المسلمون إليه مرة أخرى ويطلبون ما عنده فسنرى من هذه الأمة عجباً، ونصر الله لا محالة ملازم لأوليائه، وسنرى العزة والكرامة بعون الله تعالى.
والذين نفقدهم لن يكونوا جيفاً، ولن يكونوا نسياً، بل سيكونون شهداء يختارهم الله ويصطفيهم، أترانا أيها المسلم لن نموت؟! أيها المسلم إن لم نمت في ميدان القتال فسنموت في غيره، فكل حي مصيره إلى الزوال، وكل حي مصيره إلى الفناء، لكن الذين يموتون في ميدان القتال شهداء هم الذين يعيشون أعزة كرماء، فلن تذلنا يهود، ولن يذلنا عباد البقر ولا عباد الصليب، ولن يذلنا أعداء الإسلام الشيوعيون الذين ركبوا ظهور عشرات الملايين من المسلمين في ديار الشيوعيين الذين يكفرون بالله تبارك وتعالى ويذلون المسلمين صباح مساء، حتى غيرت أسماؤهم الإسلامية، وغيرت شعائرهم، وأجبروهم على أن يكونوا كفاراً، أننتظر مصيراً كمصيرهم؟ لن يكون هذا كله إن غرس في قلوبنا حب الشهادة في سبيل الله؟!
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً قالها للمسلمين إلى أن تقوم القيامة: إنه ربهم وسيدهم، فإن استنصروا به نصرهم، فليس كذباً، وليست أخباراً ملفقة: إن المجاهدين الأفغان يرون من الآيات ما يثبت الله به قلوبهم، ويعيد للنفوس الثقة بهذا الدين.
فترى أحياناً طلقات لا تؤثر في سيارة وفي أحيان أخرى تفجر دبابة، وترى مدفعية لا تكاد تسقط طائراً تسقط طائرات، ويأتي الرصاص على المجاهدين بل والأسلحة الفتاكة التي لم نسمع بها فيذهب الله أثرها عنهم.
أترى الله تبارك وتعالى خاذلهم؟! هؤلاء قوم فعلوا ما يستطيعونه، ألا يستطيع رب العزة أن يرد عنهم كيد أعدائهم؟! بلى والله!
إن الأسرى من الروس في بعض الأحيان يقولون لهم: أين الخيل التي كنتم تركبونها؟ فقد كانت تقاتلنا! إن الله ينزل ملائكة يقاتلون، ولم يقل الله: إن الملائكة نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمجاهدين معه فقط، بل ينزل الله جنده على المسلمين أينما كانوا بشرط أن يصدقوا الله تبارك وتعالى، ولا أقول: إنهم قد انتصروا، فالنصر بيد الله، لكن ثباتهم هذه المدة الطويلة لا شك أنه نوع من أنواع النصر، وآية من آيات الله تبارك وتعالى، فعلى المسلمين أن يفكروا فيها، وعلى الذين يريدون تحرير فلسطين أن يفكروا فيها، وعلى الذين يريدون أن يحرروا ديار الإسلام أن يفكروا بأن هناك طريقاً آخر لاسترجاع العزة والكرامة، وهو غير طريق التوجه إلى الشرق والغرب، وغير طريق المناداة بمبادئ غير مبدأ الإسلام، فهناك طريق الإسلام، طريق الله، وطريق الجنة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب.
فأذكر منذ سنوات أنه مر أحد قادة المجاهدين إلى الكويت وكنت أخطب في بعض المساجد، فظننت أنه يريد أن يجمع شيئاً من المال يعين به المجاهدين، فتكلمت في هذا المعنى، فقال -وهو يحسن العربية-: أنا لم آتِكم لأتسول منكم، ولا أريد أن أجمع مالاً، ومن كان منكم يريد أن يدفع شيئاً من المال للمجاهدين فهناك لجان كثيرة تجمع للمجاهدين، ولكن الذي أريد أن أقوله لكم: إن ما تدفعونه فإنما تدفعونه لأنفسكم، وأنتم محتاجون إلى المال الذي تدفعونه، ولسنا نحن الذين نحتاجه.
ومعنى كلامه صحيح؛ لقوله تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6] فالله غني عنا، وغني عن جهادنا، وغني عن أموالنا، فينبغي للإخوة الذين يعينون إخوانهم أن يستشعروا هذا المعنى، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261].
فأنت إنما تزرع لتحصد، فأنت بحاجة إلى ما تزرعه، وعندما تعطي لتستثمر أموالك عند الله تبارك وتعالى فأنت بحاجة إلى ذلك، وأنت بحاجة إلى أن تنفقها في سبيل الله؛ ليكون لك ذلك ذخراً عند الله تبارك وتعالى.
وبعض اللجان يقوم عليها رجال أخيار، وهي تجمع للمجاهدين لتؤوي نساءهم وأطفالهم ومرضاهم، والذين أصيبوا في المعارك مع أعداء الإسلام يحتاجون إلى عناية وأدوية، ويحتاجون إلى أطباء، فهم يحتاجون إلى شيء تقدمه في هذا المجال، سواء كان ما تقدمه لنفسك قليلاً أم كثيراً، ودرهم سبق ألف درهم، ودينار سبق ألف دينار، وقد يعطي الإنسان ديناراً فينال من الأجر ما لا يناله من ينفق ألفاً، فقد يكون هناك غني عنده ملايين، وأنت ليس عندك مئات، أو ليس عندك ألوف، فهذه القلة إذا قارنها الإخلاص عظم الثواب والأجر عند الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى يجزي على الذرة.
إن هذا الإنفاق في سبيل الله جهاد، فالجهاد عندنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا لم يقدر الله لك أن تكون مجاهداً بنفسك فلا أقل من أن تجاهد بشيء من مالك، وستجده عند الله تبارك وتعالى عندما يبعث العباد ويقفون لرب العالمين، فتجد ما قدمت بين يديك يقيك لفح النار، وغضب الجبار، وقد يستنزل رحمة الله تبارك وتعالى عليك، وقد يقيك من أهوال يوم القيامة.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريبٌ مجيبٌ سميع الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر