أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:133-138].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:133]، لوط هذا ابن أخي إبراهيم، وأبوه يقال له: هاران ، وولده لوط. ولما حكم على إبراهيم بالإعدام وأججوا تلك النيران وألقوه فيها وحفظه الله، وأصبحت برداً بدل ما كانت حراً، وخرج منها إبراهيم وجبينه تتفصد عرقاً، ولم تأت النار على شيء منه إلا على وثاقه والكتاف الذي في يديه وفي رجليه، وأما جسمه وثيابه فبقيت كما هي.
ولما انتهت دعوته في تلك البلاد بعد عشرات السنين وكانت النهاية هذا الحكم القاسي بإحراقه هاجر، ولما خرج مهاجراً خرجت معه امرأته سارة ، وهي بنت أخيه أو بنت عمه، وخرج معه ابن أخيه لوط متجهين غرباً نحو أرض القدس والشام.
ولما وصل إبراهيم إلى تلك الديار ومعه ابن أخيه نبأ الله تعالى لوطاً، وأرسله إلى المؤتفكات، وهي مدن وقرى سدوم وعمورة. فنبأه وهو مع إبراهيم، ثم أرسله إلى هذه المدن التي فيها أخبث الخبث، وهو اللواط، فعاش معهم لوط سنتين أو ثلاثاً يدعوهم إلى الله. وهنا بإيجاز يقول تعالى: وَإِنَّ لُوطًا [الصافات:133] عليه السلام لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:133]، أي: من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى الأمم والشعوب. وقد علمنا أن عدد الرسل كان ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت، وعلى عدة أهل بدر.
وقوله: إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ [الصافات:134]، أي: من المؤمنين أَجْمَعِينَ [الصافات:134] نجيناهم.
وتلك الديار خسفت في الأرض، وتحولت إلى بحيرة منتنة، وهي البحر المنتن الموجود الآن، والذين كانوا خارج المدن أصابتهم حجارة من السماء، كما في آية سورة هود، فقد أرسل عليهم حجار منضودة ومسومة، فأهلكهم الله.
قال تعالى: ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ [الصافات:136]، أي: غير قوم لوط من كل الكفار والمشركين.
فقال تعالى في سورة هود: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ [هود:74]. والروع الذي أصاب إبراهيم هو أنه لما جاء هذا الوفد العظيم استضافهم وذبح لهم عجلاً؛ ليأكلوا منه، وبعد ذلك أعلموه أنهم ملائكة الله، وليسوا من البشر.
وقوله: وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى [هود:74] بأن يولد له ولد، وهو إسحاق. يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود:74]، لأنهم قالوا: نحن جئنا في طريقنا إلى قوم لوط؛ لإبادتهم وإهلاكهم. فإبراهيم ما استساغ أن يهلكوا المؤمنين هناك، ومنهم لوط، ولذلك كان منه ما حكاه تعالى عنه بقوله: يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:74-75]. وهذا هو السبب الذي جعله يتأسف على أن يدمروا تلك البلاد بما فيها، وفيها مؤمنون وفيها صالحون. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]. فقالوا له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:76]. فاترك هذا الموضوع وتخل عنه، فنحن بعثنا لهذه المهمة.
ثم قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ [هود:77] وتألم أيضاً، فقد خاف أن يأتي المجرمون يطالبونهم باللواط؛ لأنهم في صورة رجال كرام حسان، فخاف لوط أن يأتي المجرمون ويأخذوهم من بين يديه ويفجروا بهم ولذلك سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]. إذ كيف ننجي هؤلاء الضيوف؟ وهو يعرف قومه وإجرامهم وفسادهم، فهم ما يتركون ذكراً إلا ويفعلون الفاحشة به.
قال تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود:78]، أي: مسرعين، فقد بلغهم أن هناك رجالاً ضيوفاً عند لوط. وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود:78]، وهي الشرك واللواط. قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78]. والمراد من بناته بنات الأمة؛ لأنه هو النبي والرسول، وكل أولادهم أبناء له. فقال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78]، أي: أطهر من الذكور. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود:78-79]. وقال العلماء: قالوا هذه الكلمة؛ لأنهم كانوا إذا خطبوا امرأة للزواج وما تزوجتهم يحرمونها على أنفسهم، فلهذا قالوا: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود:79]. لأنهم تركوا التزوج بالنساء، وانشغلوا بنكاح الرجال الذكور، والعياذ بالله.
ثم قالوا له: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79]. فهو معروف، فهم يريدون أن يلوطوا بهؤلاء الضيوف، وهم ملائكة. قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، أي: لو عندي قوة الآن لضربتكم على وجوهكم، أو لو كان عندي قبيلة أو أشراف أو أقارب لآويتهم، ولكن ما عندي، فأنا غريب في هذه البلاد. وكان حقيقة ليس عنده إلا الله. حينئذ أجابه الملائكة قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81]. والقائل لهذا هم الملائكة الأربعة، فقالوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81]. فإذا خرجت معكم المرأة والتفتت فدعها تلتفت؛ لأن المؤمنين لو التفتوا ينزل بهم العذاب، إلا هذه العجوز دعها تلتفت، ولكنها ما خرجت معهم، بل هلكت. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]؟ وبلى إنه قريب فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود:82]. فانقلبت البلاد، فالأعلى أصبح أسفل، والأسفل أصبح أعلى. وهذا هو الخسف. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود:82] من جهنم مَنْضُودٍ [هود:82]، أي: منتظمة. مُسَوَّمَةً [هود:83] عليها علامات بمن تهلكهم، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ [هود:83] اليوم وقبل اليوم بِبَعِيدٍ [هود:83].
وقد حصل هذا أيضاً للذين أرادوا هدم الكعبة من الأحباش، فقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5].
فينبغي لأهل مكة أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله، وقد تاب أكثرهم، ورجع أكثرهم إلى الله عز وجل.
قال تعالى في هذه الآيات المباركة التي سمعناها: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [الصافات:133-137]، وفي المساء أيضاً، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:138]؟ فترجعون إلى الله وتوحدونه، وتؤمنون برسوله وكتابه، وتدخلون في الإسلام؛ إذ هذه الآيات نزلت لهداية العرب في مكة وخارجها، واستجاب من استجاب.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً ] من هداية هذه الآيات القصيرة: [ تقرير نبوة لوط ورسالته ] فلوط والله لرسول من رسل الله، ونبي من أنبيائه. وهذه الآية قررت هذا.
[ ثانياً: بيان العبرة في إنجاء ] الله لعبده ورسوله [ لوط والمؤمنين معه، و] في [ إهلاك الكافرين المكذبين به ] عن آخرهم، حتى امرأة لوط العجوز هذه، فالكل أهلكهم الله ودمرهم.
[ ثالثاً: بيان أن لا شفاعة تنفع، ولو كان الشافع أقرب قريب، إلا بعد أن يأذن الله للشافع، وبعد رضائه عن المشفوع له ] فلوط عليه السلام ما شفع أبداً في امرأته. وهذه حقيقة يجب ألا تغيب عن أذهاننا، وهي من معتقدنا أيها المسلمون! وهي أن الشفاعة لا تصح إلا من عبد مؤمن صالح أولاً، وأما الفاسق الفاجر الكافر فلا تصح شفاعته.
وثانياً: لا تقبل الشفاعة إلا إذا كان المشفوع له قد رضي الله به، بأن كان من المؤمنين. ولذلك لا يشفع إبراهيم في أبيه، ولا يشفع محمد صلى الله عليه وسلم في أبيه، ولا يشفع نوح في ولده.
فالشفاعة تكون بأن يأذن الله بها لعبد صالح من عباده، والمشفوع له ينبغي أن يكون ممن رضيه الله، وأراد ذلك منه. وهذا لوط ما شفع لامرأته؛ لأنها كانت كافرة مجرمة، تساعد على الباطل.
ومن هداية الآيات معشر المستمعين!: عظيم جرم اللواط، وهو من أقبح الذنوب وأسوأها، والفاعل والمفعول يقتلان حداً، كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( اقتلوا الفاعل والمفعول )، أي: اللائط والملوط به. ولا يسمح لهما بالبقاء أبداً، ولا يستتابان، بل ( اقتلوا الفاعل والمفعول ).
وهذه الجريمة من أعظم الجرائم، ويكفي في ذلك أن البحر الميت كانت فيه مدن عظيمة وأمم، ومسخهم الله وقلب بهم الأرض وخسفها بهم، وأرسل عليهم حجارة من جهنم. ولهذا بإجماع الأمة اللائط كالملوط يجب قتلهما، إلا أن يكون اللائط أو الملوط لم يبلغ سن التكليف. فإذا كان طفلاً فيؤدب ويعزر، وما يقتل، وأما البالغ فيجب أن يقتل.
وهناك بعض الجهلة أيضاً يأتون نساءهم ويطئونهن من أدبارهن، وهذا لا يحل ولا يجوز أبداً، وهو حرام. ولكن لا تحرم المرأة عليه بهذا. ومن فعل هذا فقد أجرم جريمة، فيجب أن يتوب إلى الله عز وجل ويستغفره، ولا يعود لذلك.
[ رابعاً ] وأخيراً: من هداية هذه الآيات: [ وجوب التفكر والتعقل ] والتدبر [ في الأحداث الكونية ] في الحياة [ للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة ] لا أن نعيش كالبهائم بلا بصيرة ولا وعي ولا معرفة، فننظر في الحياة بما فيها؛ لنهتدي إلى أن نعرف الحق، ونعبد الله عز وجل وحده، ولا نشرك به. فننظر فقط في هذا الكون ونسأل عمن أوجده، فنعرف أن الذي أوجد هذا العالم هو الله، فنؤمن بالله عز وجل، ونعرف صفاته وأسماءه، وبذلك نحبه ونخافه ونعبده. وأما أن نعيش كالبهائم بلا تفكير ولا تعقل ولا تدبر فهذه والعياذ بالله هلكة من الهلكات، والله يقول: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:138]؟ ففكروا يا أهل مكة، وتدبروا لم أهلك الله تلك الأمة؟ وأنتم تمرون عليهم صباح مساء في ذهابكم إلى مصر وإلى الشام وإلى الأردن للتجارة، فقد كانوا يذهبون ويمرون بتلك البلاد. وقد علموا أن الله مسخهم ودمرهم؛ لأنهم كفروا به، وكفروا برسوله، وأصروا على الشرك واللواط، والعياذ بالله تعالى. فهذه الآيات لهداية المؤمنين والمؤمنات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر