إن أول مصدر من مصادر التربية الإسلامية، وإن معين التربية الأول الذي لا يجف، هو القرآن الكريم، فإن القرآن هو معين التربية الأول، وهو مصدر الهدى والنور الذي أشرقت له الظلمات، وهو الرحمة الكبرى التي بها صلاح جميع المخلوقات، وهو نور الأبصار من عماها، وشفاء الصدور من أذاها، كلما ازدادت فيه الأبصار تدبراً وتفهماً وتفكيراً زادها القرآن هداية واستقامة وتبصيراً.
القرآن أسمع -والله- لو صادف آذاناً واعية، وبصر -والله- لو صادف قلوباً خالية من الفساد.
القرآن الكريم هو النعمة الباقية، والعصمة الواقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، كيف لا وهو كلام الحق جل وعلا؟!
إننا أمام القرآن، ومع القرآن، وهو خطاب مباشر من الرحيم الرحمن جل وتعالى.
القرآن الكريم معين التربية الإسلامية الأول، وبأسلوبه الفذ الفريد استطاع أن يربي الرعيل الأول تربية متكاملة، وهم الذين حولوا بدورهم هذا القرآن إلى منهج حياة، وواقع متحرك، ومجتمع منظور؛ لأن الرعيل الأول كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم ينتقلوا عنها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلموا القرآن والعمل جميعاً، وبأسلوب التربية الرائع الخلاب للقرآن الكريم تربى ذلك الرعيل الأول تربية سامقة، وجعلهم على القمة التي تشرف على جميع بني الإنسان، واستحقوا -بعدما اكتمل منهج التربية لهم- الخطاب من علام الغيوب في قوله جل وعلا:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أسس التربية في القرآن الكريم
اهتمام القرآن بالتربية على العقيدة الصحيحة في الله تعالى
تربية القرآن للناس على الإيمان باليوم الآخر
تعريف القرآن للناس بأنفسهم وحقيقتها
وبعدما رباهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان باليوم الآخر عرفهم بأنفسهم، من أنت أيها الإنسان؟! وأجاب القرآن على كل تساؤلات الفطرة: من أنت؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وما هو المصير؟
والتربية الإسلامية الصحيحة التي تقوم على إجابات واضحة في النفس والقلب والعقل والضمير لكل هذه التساؤلات هي وحدها الضمان الوحيد والأكيد الذي يمنح الإنسان السعادة والطمأنينة، ويحميه من الوقوع في القلق والشك والحيرة والاضطراب الذي وقع فيه كثير من الناس بعد الابتعاد عن هذا المنهج الرباني الكريم.
وعبر عن هذه الحيرة وعن هذا الشك وعن هذا القلق أحدهم فقال بلسان المقال:
جئت ولكني لا أعلم من أين أتيت!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
!
وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت!؟
كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟!
لست أدري؟!
ويمضي في هذا الشك وهذه الحيرة وهذا القلق، يمضي يقطع الطريق كالبهيمة السائمة! لا يعرف لحياته معنى، ولا يعرف لوجوده هدفاً، ولا يعرف لوجوده غاية، وصدق ربي إذ يقول:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] إنه وصف الله جل وعلا لهذا الإنسان الذي لا يدري! لكن المسلم المؤمن يعلم من الذي خلقه، ويعلم لماذا خلقه، ويعلم أن المصير: إما نعيم وإما جحيم، إما إلى جنة وإما إلى نار، ووالله أيها الخيار الكرام! لا يحس بهذه السعادة ولا بهذه الطمأنينة إلا من فقدها، نسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمة الإيمان.
الإيمان بالله جل وعلا، ذلكم هو منهج القرآن الكريم الفذ الفريد، ولا أستطيع أن أتوقف عند كل توجيهاته، فإن القرآن الكريم وجه الجماعة الأولى بجميع التوجيهات في جميع مناحي الحياة: السياسية والتعليمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والمعاملات والسلوك ... إلخ، وبهذا الأسلوب التربوي الفذ الفريد المتكامل استطاع القرآن أن يربي الرعيل الأول هذه التربية السامقة، وأن يستحقوا الخطاب من الله جل وعلا:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
هذا هو مصدر التربية الأول الذي ما فرط الله جل وعلا فيه من شيء، وواجب على جميع مخططي وواضعي المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا أن يعودوا إلى هذا النبع الكريم الصافي، وإلى معين التربية الأول، إلى القرآن الكريم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الأحبة الكرام! بإيجاز شديد يبقى الحديث في دقائق معدودات عن المصدر الثالث من مصادر التربية بعد القرآن والسنة، ألا وهو منهج سلف الأمة الصالح باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
والسلف مصطلح يطلق على ما كان عليه
أبو بكر و
عمر و
عثمان و
علي ، وبقية الصحب الكرام، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين، هذا معنى السلف، وأخطأ والله من جعل السلفية جماعة حزبية ضيقة مغلقة، أخطأ خطأً ذريعاً، ليس هؤلاء هم السلف، وليست هذه هي السلفية، إن السلفية ليست جماعة حزبية ضيقة مغلقة، ولكن السلفية نسبة إلى سلف الأمة الصالح، إلى
أبي بكر و
عمر و
عثمان و
علي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
ابن مسعود ، قال: (
خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
ومن ثم فكل من جاء ليسير على هذا المنهج الرباني: على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، فهو ينسب إلى السلف، هو سلفي يستحق هذا التشريف وهو النسبة إلى سلف الأمة الصالح، إن اعتنق عقيدتهم وسار على طريقهم ودربهم فهو سلفي، ينسب إلى سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم، وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، ومن عاش بين أظهرهم، وخالف عقيدتهم، وتنحى عن طريقهم، فليس منهم، حتى وإن عاش معهم، وقرب وجمع بينه وبينهم الزمان والمكان، هذا هو التعريف الصحيح للسلفية، ولمنهج السلف، ورضي الله عن
ابن مسعود إذ يقول: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
أيها الأحبة! نتوقف عند هذا المنهج الكبير العظيم الشامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرد الأمة إلى هذه المنابع الصافية رداً جميلاً، ووالله لن تعود للأمة كرامتها ولا هويتها ولا سيادتها إلا إذا عادت من جديد إلى هذا النبع الكريم، وإلى هذا المصدر الشريف.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم جميعاً لنعمل بكل ما سمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.