أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن الله رفع في العلم قدر العلماء وفضلهم وشرفهم وزكاهم، فكانوا من الأتقياء السعداء.
فضل الله هذا العلم فجعله ميراث الأنبياء، فضل الله العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وفضل الله العلم: (فما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم فيمن عنده) العلم رحِمٌ بين أهله، فيه اجتمعوا، ومن أجله تآلفوا وتناصحوا، ولقد وجبت محبة ربنا للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتآخين فيه.
فضل الله العلم فرفع أهله الدرجات في الحياة والممات، مات الناس ومات العلماء فما ماتت مآثرهم:
مات العلماء فما ماتت مآثرهم وذهبوا فما ذهبت فضائلهم
نقشت على صفحات الصدور باقية في صحائف أعمالهم
من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الحكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]
من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الخير والبر: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
من أراد أن يعرف فضل العلم: فليعلم أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع.
سلامٌ على قومٍ عرفوا حقوق العلم وأهله، سلامٌ على كل من علَّم وعمل وعلم المسلمين فنفعه الله بعلمه ونفع به الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
إنه العلم الذي لا يمكن أن يجد أحدٌ حلاوته إلا بالإخلاص: (ومن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) أهل العلم أغنى الناس بالله، وطالب العلم والعالم الذي ملأ الله قلبه بالآخرة تنصرف همته لله خالصة، أما طالب العلم الذي يريد وجه الله، مباركٌ له في علمه، وفيما يقوله ويسمعه ويكتبه، ومباركٌ له في كل خطوةٍ يخطوها، وفي كل كلمة يسمعها ويكتبها ويفهمها ويلقنها العباد، فالإخلاص مدار الأعمال كلها عليه، وما بقيت كتب السلف رحمهم الله، وكأنها كتبت بالأمس القريب إلا بالله جل جلاله ثم بإخلاصهم، نظر الله إلى قلوبهم فوجد فيها الإخلاص لوجهه وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فبارك فيما قالوا وما عملوا وما علموا رحمهم الله برحمته الواسعة.
أيها الأحبة! من أخلص لله جل جلاله جعل الله القناعة أمام عينيه، فاغتنى بالله، وافتقر إلى الله، وذاق حلاوة المعاملة مع الله، ولا يستطيع العالم ولا طالب العلم أن يُصلح الناس حتى يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص، ومن أصلح ما بينه وبين الله فنظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، وأراد ما عنده، فتح الله عليه أبواب الرحمة، وإذا فتحت أبواب الرحمة فلا يغلقها.
إذا أخلص العبد لله سبحانه سهل الله له طريق العلم، فجعله محبوباً عند العالم الذي يعلمه، موضوعاً له بالقبول حيثما كان وحيثما تكلم وحيثما سمع، ووضع الله له البركة في جميع ما يكون من أمره.
الله أكبر إذا أخلص طالب العلم فخرج من بيته وليس في قلبه إلا الله، فكتب الله له الخطوات والحركات والنفس وما يكون من جميع حاله وشأنه.
الله أكبر إذا خرج العالم من بيته، والداعية إلى الله والخطيب إلى مسجده، والواعظ إلى إخوانه وخلانه، يريد أن يعلمهم لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله، يتمنى من إخلاصه أن هذا العلم بينه وبين الله لا يطلع عليه أحدٌ سواه.
ولن يستطيع طالب العلم أن ينال العلم؛ من وجهه إلا إذا أدى حقوق العلم؛ ولن يستطيع العالم أن يجد لذة علمه فيكون علماً نافعاً مباركاً فيه إلا إذا أدى الحقوق التي عليه، فالحق الذي على العالم هو أن ينصح للأمة، وأن يكون صادقاً مع الله جل جلاله، مشفقاً على الخلق، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ الله قلبه بالرحمة فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، فإذا كان العالم قد سكنت الرحمة في قلبه، وعرف حقوق الناس عليه، بذل لهم هذا العلم، وضحى وقدم الغالي والرخيص، والمهجة والنفس والنفيس؛ من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى، إن العالم عليه حقٌ وهو أن يعلِّم الجاهل، وإذا وقف الجاهل على بابه وجب عليه أن يعلِّمه، وأن يرشده، وأن يدله، وأن يأخذ بمجامع قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن كان مذنباً رغبه في التوبة والإنابة إلى الله، وإن كان مسيئاً رغبه في الإحسان وعمل أهل الإيمان حتى يفوز بالرحمة والجنان، وإن كان مخطئاً سدده وأرشده، ودله على ما فيه مرضاة الله جل جلاله.
إن العالم عليه أمانة عظيمة ومسئولية جليلة كريمة، أن يبذل كل ما يستطيع لتعليم الناس وتوجيههم، والله معه يسدده ويعينه ويوفقه، إن أهل الدنيا يعينون من وقف معهم في تجاراتهم وبيعهم وشرائهم فكيف بمن يتاجر مع الله، وابتغاء مرضاة الله.
قد يخرج العالم إلى درسه وموعظته مشتت الفكر من هموم الدنيا وأحزانها، ولكن الله يحبه ويحب علمه فيجمع الله له الأمر في قلبه، فيزيح عنه همه وغمه فيوفقه ويسدده، ومن نظر إلى أحوال العلماء وجد أن معهم من الله عوناً وظهيراً، وأن هذه العلوم والكتب والدروس والمواعظ وهذا الخير الكثير، لن يكون بحول أحدٍ ولا قوته كائنٌ من كان؛ إلا بحول الله وقوته سبحانه وتعالى.
العالم عليه أمانة عظيمة في توجيه الناس ودلالتهم للخير، وإن في قصص العلماء عظة وعبرة، خرجت ذات يوم مع الوالد رحمه الله برحمته الواسعة، بعد درسه بعد صلاة الظهر، وكان يوماً شديد الحر في الصيف، فاستوقفه رجلٌ من العامة وهو منهكٌ بعد درسه ما يقرب من ساعة إلا ربعاً في عز الظهيرة والشمس على رأسه والرجل يسأل ويناشده ويكرر المسألة، وهو يراوح بين القدم والأخرى، والله ما كهره ولا شتمه ولا طرده ولا مله ولا أشعره بالسآمة حتى قضى له جميع أمره، فانطلق الرجل وهو يثني ويبتهل إلى الله جل جلاله بالدعوات فلما ولى وانصرف كنت حديث السن قلت: يا أبي! إن هذا قد شق عليك -فضغط على يدي- وقال: والله يا بني لا يحل لي أن تبرح قدمي عن قدمه حتى أجيبه على سؤاله، إذا علم العالم أن الأمانة عظيمة والمسئولية كبيرة، بذل نفسه ووقته وعمره بالتجارة مع الله، فيسهر ليله وهو يعلم أن هذا السهر يخط في صحيفة عمله، ويضني جسده ويتعب فكره وهو يبحث عن المسائل، ويحل بإذن الله المعضلات والنوازل، والله يكتب أجرها لكي يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
الرحمة: هي التي يقف فيها العالم للفقير، الرحمة: هي التي لا يمكن للعالم أن يميز فيها بين الناس فيرى الناس، في عينه سواسية لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى، إنها الرحمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، بل وعاتبه من فوق سبع سماوات حينما جاءه الأعمى وهو يخشى يريد أن يتزكى، فكان ما كان من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم اجتهاداً في الخير فقال الله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4] فالرحمة لا بد منها، وبها يستطيع العالم بإذن الله عز وجل أن يسع الناس بحلمه وعطفه وإحسانه وبره.
كذلك عليه حقٌ عظيم وهو: أن يبين للناس الأحكام، والمسائل العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، فيبين هدي رسول صلى الله عليه وسلم في عبادته، في طهوره وصلاته، وكيفية أدائه للحقوق التي أوجبها الله عز وجل وفرضها، فيصف للناس صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنهم ينظرون إلى نبي الأمة صلى الله عليه وسلم في خشوعه وتذلـله وخضوعه، وموقفه بين يدي ربه، كيف كان يركع، ويسجد، ويقف مع كل صغيرة وكبيرة من هديه صلوات الله وسلامه عليه، إذا فعل ذلك نصح للأمة، وبين لها دينها وأقامها على الهدى من سبيلها، فأصبحت على خيرٍ ورحمة وفضلٍ كثير.
كذلك على العالم أن ينصح للأمة فيجمع القلوب على دين الله جل جلاله، فالنصيحة واجبة على العلماء فعليهم أن يجمعوا الناس ولا يفرقوهم، وأن يحببوا بعضهم إلى بعض ويؤلفوا بينهم ولا يشتتوهم، فإن الله جمعنا بالإسلام، وألف بين أرواحنا بالقرآن، الله ربنا والإسلام ديننا، وخير خلق الله صلى الله عليه وسلم نبينا ورسولنا فلماذا نختلف، ونفترق فيدعوهم إلى الأصل الأصيل من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين للناس هذا الأمر الذي عليه صلاح العباد، من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، فيكون حريصاً على ذلك أيما حرص؛ لأن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم باجتماع الكلمة، وتآلف الأرواح، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم، مبيناً حقيقة الإسلام والإيمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) لا يمكن للمسلمين أن يكونوا كمثل الجسد الواحد، إلا إذا كان العلماء والدعاة والهداة إلى الله على قلب رجلٍ واحد يقولون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون بذلك ويحتكمون إليه، هذا من أعظم الواجبات وآكد الحقوق والأمانات على العلماء ؛ لأن الأمة إذا تشتت وتفرق جمعها؛ فإن القلوب تمتلئ بالضغائن فيتشتت الخلق ويصبح علم الإنسان في بعض الأحيان وبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية- ينصح المسلم لإخوانه المسلمين ويجمع كلمتهم على الخير والبر.
انظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب السوادين والنعلين كان رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الوحيد الذي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون استئذان، يقول له: (أذنت لك أن تسمع سوادي حتى أنهاك وأن ترفع الحجاب) فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه، هذا الصحابي الجليل مع علمه وفضله يقول فيه حذيفة : [ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، أن ابن أم عبد أعلمهم وأقربهم هدياً وسمتاً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] كان أعلم الصحابة بالسنة وأعلمهم بهديه، ومع ذلك لما صلى عثمان رضي الله تعالى عنه بالمسلمين وذلك في حجته الأخيرة وأتم الصلاة، أتم الصلاة عبد الله بن مسعود وراءه فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: [الخلاف شر] فآثر أن تجتمع الكلمة على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وهذا من علمه وفقهه.
وكذلك عمر بن الخطاب يراجع أبا بكر رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فهو يراجعه في المسألة ويقول: (كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله).
فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وإنها لقرينتها في كتاب الله].
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر لذلك فعلمت أنه الحق] اجتماع قلوب العلماء وائتلافها على الكتاب والسنة وعلى الهدي الصالح لسلف الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحمهم الله برحمته الواسعة، أمرٌ مطلوب ومحببٌ ومرغوب، لن تجد الأمة في عز مكانتها ولا قوة شأنها إلا إذا اعتصمت بكتاب ربها وأتلفت أرواحها دفاعاً عن دينها، وأما الشتات والفرقة وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته فإنه ضياعٌ للكلمة، وذهابٌ للهيبة، وسببٌ للفشل، قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
إذا كمل العالم كملت أخلاقه وآدابه، وشمائله وفضائله، فقد أوصى العلماء وأهل العلم أن يكونوا كذلك، فإذا تواضع العلماء ملكوا قلوب الناس، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي تعين على حب الدين والقرب منه وإلف العلماء والقرب منهم يعين على خيرٍ كثير.
إن كريم الأصل كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى
وينبغي على العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، سواءً كان مع العدو أو الصديق، مع الصغير أو الكبير، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة أشفق على أمه فخفف في صلاته، ولما تكلم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة، قال معاوية: (فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقلت: أنا يا رسول الله قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ...) الحديث فكان صلى الله عليه وسلم يتعاطى أسباب التأثير في الناس، فالتواضع خلق لا بد للعالم أن يتخلق به، وإذا تواضع العالم استطاع المهموم والمغموم والمحزون والمكروب أن يبث حزنه، وأن يبدي ما عنده من الهم والغم، فإذا وجد العالم موطأ الكنف أحس أنه كوالده، وأنه سيشفق عليه ويرحمه أكثر من رحمة الأم بولدها؛ لأن رحمة العالم نابعةٌ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي نابعة من الدين، وأما حنان الأم وعطفها فنابعٌ من الدنيا، وشتان ما بينهما، ولذلك كان بعض أهل العلم يقول: أستحب للعالم ألا يبالغ في لباسه، فلا يبالغ في التجمل؛ لأنه إذا بالغ في التجمل والزينة ولبس غالي الثياب، احتقر الفقير نفسه إذا جلس بين يديه، وأستحب له أن لا يتبذل في ثيابه، فإذا جاء الغني ترفع عن سؤاله، ولكن يكون بينهما واسطة، حتى إذا رآه الفقير ألفه، وإذا رآه الغني ألفه فالوسط خيرٌ ومحمودٌ في الأمور كلها.
أتى عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأرضاه، وهو على النصرانية، أتى يريد أن يرى حال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال هذا المعلم الفاضل الكامل صلى الله عليه وسلم وذلك بعد أن كتبت له أخته سفّانة تصف له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلما أتى عليه قال: [فمضيت معه، فاستوقفته امرأة وهو في الطريق] استوقفت المعلم المربي وهادي الأمة ودالها على الخير، قال: [فوقف لها حتى قضى حاجتها، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء؛ قال: ثم انطلق فاستوقفه صبي فوقف معه، والله ما نزع يده من يده حتى قضى له حاجته، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، قال: فلما دخلت البيت رمى لي بعرض الوسادة إكراماً لـعدي؛ لأن الضيف يكرم ضيفه وهذه من شيم المسلم، فقلت والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله] فأسلم رضي الله عنه وأرضاه.
وأسر ثمامة بن أثال وربطه في المسجد ثلاثة أيام؛ لكي يرى النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ويرى مدرسة الإسلام الأولى، ورسول صلى الله عليه وسلم يوجه ويعلم ويسدد ويدل على الخير، فلما مضت الثلاثة الأيام وفي كل يوم يقول : (ما وراءك يا
إن القلوب تُملك بالأخلاق وبالآداب، فإذا تحلى العالم بالخلق الكريم أحبته القلوب وألفته واقتربت منه وأحست أنه خليقٌ بالحب والود والإجلال والإكرام.
إن العالم إذا سعى فإن للناس عليه حقوقاً فيجعل من يجلس معه أنه يحبه ويريد له خيراً فيتواضع له، وكأنه يشعر أن الفضل للناس وليس له، فإذا شعر بذلك تواضع للناس، وكان حليفاً قريباً من الناس، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من أهله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم على طالب العلم أن يعلم أن أول ما ينبغي عليه أن يقذف حب هذا العلم في قلبه، فإذا أحببت العلم أحببت أهله، وأحببت من حمل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت محبتك لله، فأظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أحب لله فإن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فتحب العلماء، فإذا أحببت قوماً حشرت معهم، قال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء فإنه سيبحث عن علمهم، ومن أحب العلم طلبه وجدَّ واجتهد حتى يحصله، لقد ملك الدينار والدرهم قلوب أناس فسهرت عيونهم، وتعبت أجسادهم، وذلوا وأهانوا كرامتهم ومع ذلك لم يشعروا بتعبٍ ولا نصب، الله أكبر! ترى التاجر في موسمه الذي يبيع فيه التجارة الغالية، تراه يسهر ويتعب ويأتيه أرذال الناس، فيقف معهم ويتحمل ما يكون منهم من زلة وخللٍ وخطأ لعلمه بشرف الدرهم في نفسه، فمات قلبه وتعلق بالدينار والدرهم، فبذل كل ما يجده من أجل الوصول إلى ما يحب، ولله المثل الأعلى.
كذلك إذا أحببت العلم أحببت أهله، ومن أحب العلماء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء تأثر بأقوالهم وأفعالهم وما يكون من مواعظهم، ومن أحب العلماء انتفع بعلمهم.
ومن عجائب ما ذكروا أنه نزل بـدمشق عالم من علماء الحديث، فجاءه طالب علم، فرأى كثرة الناس حوله فلم يستطع الوصول إليه، فاختار ساعة السحَر وهي في جوف الليل قبل الفجر بما يقرب من ساعة، فجاءه فقرع الباب على العالم فلما خرج ذلك العالم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تعلمني مما علمك الله يرحمك الله، فما كان من ذلك العالم إلا أن أخذ الباب وصكه في وجهه بقوة، فما كان من هذا الطالب الموفق إلا أن فرش عمامته، وتلحف رداءه في شدة البرد، وانتظر خروج العالم لصلاة الفجر، فلما خرج العالم ورآه أخذه وضمه إلى صدره وقال: لقد أردت أن أختبر صدق رغبتك في العلم.
كانوا يؤذون الطلاب قبل الطلب حتى يعلموا هل هم صادقون، وأذكر بعض المشايخ الكبار رحمة الله عليهم، أنه كان إذا جاءه الطالب في أول مجلسه أغلظ عليه قليلاً، حتى ينظر هل هو صادق في إرادة العلم؟ وهل هو من أولي القوة والعزم؟ لأن العلم ثقيل والله يقول: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] والثقيل لا يحمله إلا أولي العزم وأهل القوة الذين لهم صبرٌ وجلد على طاعة الله ومرضاته، فقد كانوا يختبرونهم بالقرع والتوبيخ لينظروا مدى تحملهم؛ لأنهم غداً سوف يأتيهم السفهاء والجهلاء، فإذا رأوا أمامهم من هو قوي الشكيمة صادق العزيمة، علَّموه وأعطوه من العلم مما علمهم الله، فينبغي لطالب العلم أن يظهر للعالم هاتين الخصلتين، وأفضلهما وأكرمهما: حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فضل حسن الخلق وقال: (خيركم خيركم لأهله) وقال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق) نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التقوى، وأن يرزقنا كمال الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا، وأن يرزقنا الإخلاص، ويتقبل منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
ففي الحقيقة دائماً إذا سئلت عن منهج عالم أو شيخ فالأفضل أن تصرف الهمة لمن هو أكمل وأفضل وهو: نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ينبغي دائماً لطلاب العلم وأهل العلم أن يتذكروا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما وجدت من العلماء فإنك سترى البون شاسعاً بينهم وبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهم على خير وعلى مكانة، لكن ينبغي دائماً أن يكون حديثنا عن هذا الهدي الكامل والداعية إلى الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات صلى الله عليه وسلم تسليماً، ولكن قد يكون ذكر بعض المعاصرين أو بعض من هم قريبون في هذا الزمان فيه عظة وعبرة خاصةً أن بعض طلاب العلم إذا ذكر له العلماء الأوائل يقول: تلك أمة قد خلت وكان الزمان فيه خير، وكان الناس فيهم الخير والبركة، ولكن في زماننا هذا قد يستبعد ذلك، فإذا ذكرت لهم نماذج قريبة فهذا له وقعٌ كبير، لكن مما أتذكر والسؤال مفاجئ، وكثيراً ما أحرج إذا فوجئت بالسؤال عن الوالد رحمه الله، لكن أشهد لله عز وجل أنني رأيت ما أقول، وسمعت ما أقول، والله شهيدٌ عما أحدث به، فأشهد لله أنه ما كانت الدنيا تزن عنده شيئاً، ومن أعظم ما وجدت فيه أنه لما انصرف قلبه عن الدنيا، بارك الله له في علمه، والعالم إذا وجدته قد صرف قلبه عن الدنيا فأخذ منها حاجته وانصرف إلى نفع الناس ونفع المسلمين فنعم والله العالم، فكان رحمه الله لا يبالي بقليل المال أو كثيره، ويأتيه الراتب، والله لا يمضي نصف الشهر -وهذا يسأله الله عنه ويحاسبه- بل ثلث الشهر إلا وهو يقترض رحمة الله عليه، هذه المائة لفلان، وهذه لفلان وهذه لفلان فيفرق ماله رحمة الله عليه، وكنت أتولى له الصدقات وهذا شيء رأيته بنفسي حيث أنه لا يبقي من راتبه شيئاً.
كانت الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، حتى أنه ذات مرة من عجائب ما رأيت فيه: أنه كانت له مزرعة فحفر فيها بئراً بأكثر من مائة ألف، فلما حفر البئر وانتهى منه الحافر، جاء يقول له: إن البئر ليس فيها ماء، وهذه مصيبة عظيمة وليس بالشيء الهين، مائة ألف ولا يجد الإنسان فيها ماء فقال: هذا الرجل -يريد أن يهون على الوالد رحمة الله عليه- يقول: إن شاء الله مستقبلاً الماء سيكثر، وكان يريد أن يمهد، فقال له الوالد: حسبك يا بني -يخاطب هذا الرجل- والله لو ذهبت هذه المزرعة كلها فإني راضٍ عن الله، يعني لا تظن أن الأمر، أو الخطب كبير، إن جاء شيء فالحمد لله، ونريدها من مرضاة الله، وإن لم يأت شيء فما عند الله أعظم مما عندنا.
الشيء الثالث أنا أذكر نماذج دنيوية وقعت له، تترجم عما قلته.
أولاً: أن الدنيا لا تسوى عنده شيء، كان رحمه الله كثيراً ما يوصيني في المزرعة بأن أتصدق بثمر البستان، وأذكر أنه لا يأخذ من هذه المزرعة إلا قدر ما يحتاج لإصلاح المزرعة، فكنت استعين بعد الله عز وجل برجل، كان من حفظة كتاب الله عز وجل، ومن خيار من عرفتهم من الجماعة ديناً وخلقاً واستقامة، وكان زميلاً للوالد في طلب العلم، فكان يعرف الأيتام والأرامل، فهذا الرجل رحمة الله عليه كان يتولى الصدقات، فلما تولى صدقات الوالد رحمه الله توفي الوالد قبله، فأكثر من مرة يراه في بستانٍ عظيم وثمار وجنات ويقول: هذا كله لي، فكان من عاجل البشرى له رحمه الله بعد الموت، الرجل الذي كان يتصدق بدنيا الوالد، ويقيمها للفقراء والضعفاء إذا به يبشر بعد موته من عاجل البشرى بالرؤية الصالحة، كان يبشر ويقول: رأيته وهو في جنة، وتارةً يقول: أراه في بساتين خضراء، وفيها ثمار عجيبة فأقول: ما هذا؟ فيقول: هذا كله لي رحمه الله رحمةً واسعة.
ومما رأيته في العلم أنه كان رحمه الله لا يمكن أن يتكلم في مسألة إلا وهو يعلمها، أما الشيء الذي لا يعلمه لو يأتي الخلق على أن يدفعوه للتكلم فيه، لا يمكن أن يتكلم فيه بحرفٍ واحد، وما أعلمه تكلم فيه، رحمه الله برحمةٍ واسعة، يقول: هذا شيء لا أعلمه فلا يستحي أمام الناس والجمهور في الملأ والخاصة أن يقول لك: لا أدري لا أدري، وهذا لا شك أنه نعمة من الله على العالم أن يكون عفيفاً صادقاً ينبئ عن علمٍ صادق، وهذا هو العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتكلم الإنسان عن علمٍ ومعرفة.
أما الأمر الثاني: فكان لا يضيع وقته، ولا يرضى لأحد أن يضيع وقته في القيل والقال، وهذا مشهود له رحمه الله حتى بين الجماعة لو خرجوا في نزهة أو طلعة، فإذا وجدهم في علم ومذاكرة جلس معهم، وإذا لم يجدهم في علمٍ انتحى جانباً وقل أن يخرج لنزهة أو مع الجماعة إلا ومعه الكتاب، فإذا رآهم على ذكر الله عز وجل جلس معهم، وإن رأى غيبةً أو نميمة نصح، فإن لم يُنتصح انسحب وجلس تحت شجرة حتى يطيب خواطرهم فيتربع ثم ينصرف رحمه الله وهو راشد.
أما الأمر الثالث: فكان شديداً في علمه، لا يسمح لجاهل أن يستطيل على العلم، كان متواضعاً وقريباً من الناس، لكن أن يأتي الجاهل لكي يستطيل على دين الله وشرع الله فلا، فكان إذا جاء العقلاني يدخل عقله في النصوص السمعية إذا بذلك الوالد الأليف القريب من الناس ينقلب كالأسد ولا يجامل الكبير ولا الصغير ، ويقول له: اسكت هذا شيءٌ لا علم لك به، ولا تخض فيما لا علم لك به، ولو كان من أعلم الناس يتكلم في الدين أو الشرع بدون بينة ولا علم يرد عليه في وجهه، ولا يسمح لأحدٍ أن يتكلم بحضرته بعلمٍ لا يحسنه، فإذا جاء أحد يخوض بالعقلانيات في وسائل السمعيات كهره، وهكذا لو جاء الطالب يبحث ويتكلف في العلم ويتنطع في السؤال عن الأمور الغيبية وكيف يحدث هذا وكيف يقع كان رحمه الله يتغير ومن عجائب ما كان يفعله! كان في تفسيره رحمه الله إذا فسر، وقيل له: لِمَ ختمت بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]؟ ولماذا ختمت وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240]؟ كان يمنع من هذا، ويقول: لا يُسأل عما يفعل، ولا يمكن للناقص أن يدرك الحكمة التي ختم الله عز وجل بها الآية على هذا الوجه، فكان يمنع أن يقال: ما هي الحكمة في ورود هذه الآية على كذا؟ يقول: هذا شيء لا تدركه العقول، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة معرفة هذه الأمور، وإنما يقول: من الفوائد المستفادة كذا، نعم من يجزم أنها حكمة، أو أنها هي التي من أجلها ورد النص؟
كذلك أيضاً مما كان رحمه الله يتحلى به في تعليمه للناس، أنه كان يحب طالب العلم الصادق، ويفتخر به، ويعطيه من وقته وجهده، وكان رحمه الله إذا رأى الصدق في الطلب أقبل عليك، وهذا يشجع كثيراً من طلاب العلم الصادقين في الطلب، ولا يحب من طالب العلم الكسل ولا الخمول، ولا يحب منه التعب ولا السآمة ولا الملل، رحمه الله.
كان له درس بعد صلاة الفجر في التفسير، ودرس بعد الظهر في صحيح البخاري ، ودرس بعد المغرب في السنن الصحاح ، وختمها رحمه الله بـسنن الترمذي وسنن أبي داود وابن ماجة ، وكذلك أيضاً موطأ مالك ختمه، ثم بعد العشاء كان له درسه في الصحيحين وفي السنن ، فكان رحمه الله طيلة هذه الأوقات يضحي ويبذل في العلم، لكن أن تأتي وتشتكي له الضعف والخور في طلب العلم فإنك تنزل من عينه، فلا يحب طالب العلم ولا يجله إلا إذا رآه صادقاً قوي العزيمة، فربما طرأت مسألة فآتيه بعد العشاء وهو مجهد -منهك والله يشهد على ما أقول هذه أشياء عايشتها بنفسي- فآتيه بالمسألة فأسأله، وكان منهجه معي في آخر حياته رحمه الله أنه ما كان يفتيني، ويقول لي: اذهب وأت بكتاب كذا ثم اقرأ من صفحة كذا، أو اقرأ من باب كذا، فإذا قرأت يقول: ماذا تفهم كأنه يدربني على الاستفادة من الكتب مباشرة، فكان رحمه الله آتيه بالكتاب والكتابين والثلاثة والأربعة، وهو منهك مجهد وآتيه بالكتاب فيقول لي: هذا ما يكفي اذهب إلى كتاب كذا، وأتِ بشرح كذا، ورد هذا وأتِ بكذا، أنا بنفسي أمل وأتعب وأجد نوعاً من الثقل ومع ذلك الرجل لا يسأم ولا يمل، وأقول له: انتهيت؟ يقول: لا حتى تنتهي، رحمه الله رحمة واسعة.
إذا أتقن العالم علمه فإنه يجد لذة العلم وفضله وبركته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا من فضله، فضل الله عز وجل لا يتوقف على عصر من العصور كما قال ابن المنير: وفضل الله واسع، فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجَّر واسعاً والليالي حبالى، يلدن كل غريبٍ، وكم ترك الأول للآخر. إذا ذكرنا تراجم العلماء أو تراجم الفضلاء، أو قرأت سير أعلام النبلاء ورأيت هذه النماذج الكريمة، فاعلم أن الكل بفضل الله جل جلاله، وأن الأمر كله يعود على الإخلاص، وأن الله قد يعطيك مثلهم ويزيدك من فضله، متى؟ إذا أخلصت لوجهه وأحسنت الظن معه، قال صلى الله عليه وسلم: (من يصدق الله يصدقه) كان ابن عباس رضي الله عنهما قليلاً في العلم، ولكن لما صدق مع الله في طلب العلم وجدَّ واجتهد فعندما دفن أبو هريرة زيد بن ثابت رضي الله عنه بكى أبو هريرة وقال: [لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً] كان في البداية لا شيء، لكن لما جد واجتهد أعطاه الله، فأنت إذا صدقت مع الله، وأخلصت لوجه الله فإن الله يرزقك، نسأل الله العظيم أن يبلغنا ذلك الفضل بفضله وهو أرحم الرحمين، والله تعالى أعلم.
الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد:
فأشهد الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أما الطريقة المثلى في طلب العلم فأول ما ينبغي على طالب العلم كما ذكرنا: أن يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص.
ثانياً: أن يحرص على وجود عالم صادقٍ قد ورث العلم عن أهل العلم، فإذا وجدت العالم العامل الذي هو على منهج الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح لهذه الأمة فإنه يدلك على ما فيه صلاح دينك ودنياك وآخرتك، فإذاً لا بد من الكتاب والسنة وطبيب هو العالم الرباني، والتوفيق في الطريقة المثلى، والطريقة التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم تختلف من شخصٍ إلى آخر، أي: لا أستطيع أن أحدد لك طريقاً سرت أنا عليها مثلاً؛ لأنها قد تنفعني ولا تنفع لك، وقد يكون الإنسان مشغولاً فللمشغول طريقة تتلاءم مع شغله، وللفارغ له طريقة تتلاءم مع فراغه ووقته الواسع، فلا يستطيع الإنسان أن يرسم للناس منهجاً معيناً في الطلب.
لكن هناك قواعد عامة وهي: أولها أن تهيئ من نفسك ما يعينك على ضبط العلم، من صدق الرغبة -كما ذكرنا- وقوة العزيمة في طلب هذا العلم والتضحية من أجله.
ثانياً: أن تبحث عن عالمٍ صادق وتجلس بين يديه، فينظر إليك، وينظر ما هي حدود إمكانياتك ووقتك وجهدك، وما الذي ترغبه من العلوم، وما الذي هو حريٌ أن يعلمك إياه، فهذا هو الذي يمكن أن يحدد من خلال المنهج والطريقة، هذا بالنسبة للأشخاص وطريقة تناولهم للعلم.
أما بالنسبة للعلوم فإن أهم العلوم وأعظمها والأساس التي ينبغي العناية به علم التوحيد والعقيدة؛ لأن ضبط هذا الثغر بلاؤه عظيم وأجره كبيرٌ عند الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان الإنسان في بيئته وقومه وجماعته وهم يحتاجون إلى هذا العلم؛ لأنه يتأكد عليه أكثر، أما إذا كانت عقائد الناس الذين يعيش بينهم على صلاحٍ واستقامة لكنهم يخلطون في معاملاتهم يتبايعون في الحرام، ويشترون الحرام ويقعون في الآثام فحينئذٍ تركز على المعاملات مع العناية بالأصل، لأن العناية بالأصل سواءً وجد من يحتاجه أو لا يوجد في بيئة الإنسان، لكن يعتني الإنسان بحاجة الناس في أحكامهم أيضاً إذا كانوا على استقامة في عقيدتهم وأصول دينهم، فيقرأ فقه العبادات: من صلاة وزكاة وصيام وحج، وما يتبع ذلك من سائر العبادات، ثم بعد ذلك يقرأ فقه المعاملات المالية: من بيعٍ وشراء وإجارة ورهن وشركات وغير ذلك من المعاملات التي تعم بها البلوى، ثم يدرس المعاملات التي يعيشها قومه، ويتعاملون بها، فيسأل أصحاب السوق عن معاملاتهم وتجارتهم فيكون على خلفية وإلمامٍ وضبط وإتقان حتى يسد هذه الثغرة من الناس.
كذلك أيضاً: ينظر الإنسان إلى العلوم المساعدة التي يتمكن بها من ضبط هذا العلم كعلم الأصول، وكذلك علم قواعد العربية التي يضبط بها دلالات الكتاب ودلالات السنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل القرآن عربياً وبلسانٍ عربيٍ مبين، وبين أن ذلك لكي يعقل ويفهم الناس ما في هذه اللغة من أسرار وحكمٍ عظيمة فعلم اللغة وضبطها والإلمام بها إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] فهذا علمٌ عزيز، وعلمٌ له مكانته فإنه يساعد على فهم الكتاب وفهم السنة.
كذلك أيضاً: يلم بالأمور التي تساعد على ضبط العلوم المتفرقة التي يمكن أن يستعان بها على ضبط الأصول وجماع الخير كله تقوى الله، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرا، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة للكتب فالكتب قد رتبها العلماء، فإنه إذا جاء إلى أي فن يجد هناك كتباً مبسطة يبدأ بها، فالعلم المنضبط أن تبدأ بصغائر العلم قبل كباره، قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] قيل في تفسير هذه الآية: أن يتعلم صغير العلم قبل كبيره فتأخذ الكتب المطولة بعد إتقانك للكتب المختصرة، وفي كل فن مطولات، وفي كل فن مختصرات، فيبدأ بالكتب المختصرة ويتدرج فيها حتى يلم ويصل إلى معالي الأمور في طلب العلم، والله تعالى أعلم.
الجواب: الله المستعان، ما أنا إلا طالب من طلاب العلم، وأسأل الله العظيم ألا يغرني بما تقول، وأن يجعلنا خيراً مما تظنون بنا، وأما ما ذكرته من الرحلة في طلب العلم، فإن الرحلة في طلب العلم لا تكون إلا من عبدٍ يريد الله والدار الآخرة، فمن خرج من بيته لله وفي الله وابتغاء مرضاة الله، وهو يحس أن عليه مسئولية أن يبقى مع هذا العلم، وأن يلم به فقد طاب وطاب ممشاه، وتبوأ من الجنة منزلاً، ومن خرج من بيته يريد هذا العلم، ويريد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يجلس بين يدي العالم فقد تشبه بـالسلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اغبرت أقدامهم مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة الأخيرة وهي هجرة الوفود؛ لأن الهجرة تنقسم إلى أنواع ومنها هجرة الوفود، فهجرة الوفود: هي التي جاء الناس فيها أفواجاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:2-3] فهاجروا إلى رسول الله ليتعلموا، فإذا وفق الله طالب العلم للهجرة فقد تشبه بالصحابة رضوان الله عليهم، وأرى أن على طالب العلم أن يضحي من أجل هذه الهجرة، إذا كنت لا تستطيع أن تمضي أشهراً فهاجر أسابيع مثلاً في الإجازة، بدلاً من أن يذهب الوقت سدى فسافر إلى المدن التي فيها علماء أجلاء، وتأخذ عنهم العلم، وتضبط على أيديهم العلم، وتحتسب عند الله غربتك، فإن الغربة إذا كانت لله عظم أجرها، وثقل في الميزان ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
لا إله إلا الله! والله إني لأعجب أن أرى بعض السائقين يسافرون بعض الأحيان مرتين ينتقلون من موضع إلى آخر ويرجعون خلال اليوم، ويقطعون المسافات الشاسعة لأمرٍ: وهو أن يطلبوا الكسب الحلال الطيب في سفرهم بهذا الكد والتعب، ويريدون به المال الحلال عسى الله أن يبارك لهم مما يكون من رزقٍ حلال، فتعجب ألا ترى من سفرهم وغربتهم لا يسأمون ولا يملون ويحسون بالنزهة والراحة فكيف بطلاب العلم، كيف بمن يتاجر مع الله وفي الله، نسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم وقد غبرت قدمك مهاجراً وطالباً للعلم.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم من أوله إلى آخره وأنت غريب عن أهلك وولدك لطلب العلم، يكتب لك ذلك اليوم كاملاً في صحيفة عملك، وأنت مغترب لله وفي الله، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا صدق العزيمة، وأن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وعلى طالب العلم إذا تغرب ألا يشكو السآمة والملل، فإن مما يذهب الأجر في الطاعة الشكوى، لا تشتك أبداً، وإن لم تكن ذا همة صادقة، كان الوالد إذا جئت وأنا أشتكي من شيء، يقول: هذا عيبٌ عليك، فأنت في خيرٌ كثير، مثلك يتحدث عن نعمة الله ولا يشتكي، لأن هذا من الضعف والخور، وإذا كان الإنسان في طلب العلم فينبغي أن يكون قوياً جلداً صابراً حتى يكون ذلك أكمل في ميزانه قال موسى بن عمران: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60] ما معناها؟ معناها إلى الأبد لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23] أبد الأبد، فقال: لا أبرح لا أستقر ولا يمكن أن يهنأ لي عيش حتى أدرك هذا العالم الذي أوحى الله إليه أنه بمجمع البحرين من هو أعلم منك، فعظمت همة موسى بن عمران إلى لقاء الخضر وسؤاله والاستفادة من علمه فقال: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60] هذه هي الهمة الصادقة في أن يغبر الإنسان قدمه في طلب العلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.
الجواب: الله المستعان! قال: أتسألوني وفيكم صاحب السوادين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ما شاء الله أنتم عندكم الشيخ عبد العزيز إمام العلماء، وقدوتهم نسأل الله أن يحفظه، وأدام عليه العفو والعافية، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وإخوانه من العلماء الأجلاء الذين أتمنى أنني والله عند قدم أحدهم أطلب عنده علماً من الكتاب والسنة، والله أقولها من قلبي، والله لا نفاقاً ولا رياءً، وأقولها وإذ أقولها وهو حقٌ من حقوقي، عندكم النعمة العظيمة أنتم تغبطون عليها، وينبغي عليكم أن تحرصوا على هذا الخير والله سبحانه وتعالى يسألكم عن هذا خاصة طلاب العلم، عليهم أن يحرصوا على دروس الشيخ حتى ولو كان الشيخ في بعض الأحيان يراعي مستويات الناس، قد يكون هذا العلم الذي تريد أن تتوسع فيه أكثر قد يضع الله لك البركة في هذه الكلمة التي خرجت من هذا العالم الرباني العامل، تنتفع بها وتنفع بها أمماً، العلم مداره على النشر، وقد تأخذ من عالمٍ صادق قليلاً فيضع الله منه من الخير ما لا يحصى، يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن الصحابي كان يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة والساعتين، فيخرج بعلمٍ كثير من هذا الحديث أو الحديثين لو سمعهم ووعاهم لوضع الله بهم البركة فتنتفع بها أمم، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، ويوجد الأفراد والأحاديث القليلة لبعض الصحابة، ولكن اشتهروا بها، لأنها جمعت مسألة ملازمة، أو حكماً مهماً، فإذا بالله عز وجل يضع البركة فيها، فأقول: أهم شيء يُبنى عليه من هو أحق وأولى.
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحارُ من الركايا
فأنتم على خير كثير، وأحبب دائماً أن يكون بيننا وفي قلوبنا الإشادة بمثل هؤلاء، لا نشيد بفضلهم وندعو دائماً إلى مجالسهم والتأكيد على الاستفادة منهم ونحن نمنُّ بذلك لا والله، إنما هو قليل من حقوقهم علينا، إن حقهم علينا أكبر، نسأل الله العظيم أن يجزيهم عنا خير الجزاء، اللهم بارك في أعمالهم، وأعمارهم، وانفع بهم الإسلام والمسلمين، وافتح عليهم فتوح العارفين بك، وأحسن لنا الختام، وأدخلنا وإياهم دار السلام إنك أنت الله ذو الجلال والإكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر